|
كتاب فن الحبّ لإيريك فروم
يرى إيريك فروم، في كتابه فن الحب، ترجمة سعيد الباكير، الصادر عن دار علاء الدين في دمشق، أن جوهر الحب يتلخص في سعي الإنسان إلى نيل القوة والاتحاد. ويميز في هذا السعي البشري المستمر، أن الإنسان الأناني لا يحب ذاته بشكل مفرط القوة، بل بشكل مفرط الضعف، بل في حقيقة الأمر هو يكره ذاته. إن الشخص الأناني حزين وكئيب، ويبذل جهودًا مرهقة، ذات طبيعة قلقة، ليختطف من الحياة المسرات التي هو نفسه يعيق حصوله عليها. يبدو أنه يسرف في الاهتمام بنفسه، وفي واقع الأمر يقوم بمحاولات غير مجدية لإخفاء فشله في نيل الحب. ذلك أن الحب أبدًا لم يأتِ من الأخذ أو تحصيل المنفعة على حساب الآخرين، أو على رغبة التملك الشخصي الضيق، قدر ما يصدر عن رحابة عطاء أصيل وقوة روح صبورة ومتشبثة بالحب كأرفع شعور إنساني. ينبغي التفريق بين حب الذات والأنانية، فحب الذات لا يبنى على النقيض من حب الآخرين، وأحدهما لا يلغي الآخر. الحب الحقيقي يتجلى في المقدرة البناءة، في بذل الجهد، وهو بذلك يفترض الاحترام والاهتمام والمسؤولية والمعرفة. يحتاج الحب إلى بذل جهود واكتساب معرفة. ليس الحب نوبة طارئة أو شعورًا مفاجئًا كما يحلو لبعض الأفلام والأغنيات تجسيده. إن حبنا لشخص ما تركيز على مدى توفر موهبة الحب لدينا. وهذا يفترض حب الإنسان كإنسان لا كشيء يمكننا إخضاعه لنا أو مادة نملكها لنتصرف بها على الوجه الذي نشاء. ليس الحب شيئًا، وهو لا يتوجه إلى شيء، ولا يصدر عن شيء. إنه علاقة مستمرة شديدة الحيوية، وليس نتيجة منتهية داخل مجال عاطفي ضيق وحسب. لا يمكن للحب أن يبحث عن الرضا والطمأنينية فقط، رغم إنه ضمنًا يبحث عنهما عندما يسعى إلى الحصول على القوة والاتحاد. *** ويبرز إيريك فروم فروقًا قلما ننتبه إليها بين أنواع من الحب، كالحب الأخوي والأمومي والجسدي. كلاهما، الحب الأمومي والأخوي، لا يقتصر على شخص واحد. يتجه حب الأم نحو طفلها الذي يشكل حالة من العجز دون اهتمام ورعاية الأم، فيما يفترض الحب الأخوي علاقة بين شخصين متساويين في القدرة عمومًا. النقيض لهذين النموذجين من الحب هو الحب الجسدي. إنه شكل متفرد من العاطفة المتقدة، شوق متوهج يتوق للذوبان الكامل، للتوحد مع شخص بعينه. إن الحب الجسدي بطبيعته استثنائي وليس شاملاً، إضافة إلى ذلك يحتمل أن يكون هذا النوع من الحب أكثر أنواعه خداعًا. بالنسبة لمعظم الناس تتم معرفة الحبيب المختار، بسبب خلط الحب بالشعور الجنسي القوي والمفاجئ، عبر القرب الجسدي المباشر، لأنهم يحسون بغربة الشخص الآخر قبل كل شيء كغربة جسدية، فإذا تخطوا حاجز الجسد ظنوا أنهم قد "نالوا عسل الغرام الذي سقطوا فيه". يعتقد الناس أنهم يكونون أكثر قربًا من بعضهم البعض عندما يكونون في الفراش سوية، ولكن في كل تلك الحالات يسير القرب المتوهم إلى التلاشي تدريجيًا، مما يدفعهم إلى البحث عن القرب مع شخص جديد، غريب جديد. مرة أخرى يتحول الغريب إلى قريب، ومرة أخرى تحل معاناة الألم بسبب توترات الإحساس بالغرام المستعجل والقلق. غير أن هذا الإحساس المجلوب عنوة للتخلص من الغربة عبر القرب الجسدي الجنسي، سرعان ما يفقد قوته. إن أوهامًا كهذه تستفحل وتنتشر لا بسبب الحرمان من الإشباع الجنسي كما قد يخيل إلينا، بل بسبب الطبيعة المخادعة للرغبة الجنسية التي تتطلب الذوبان والالتحام في الجسد الآخر. غير أن ميزة الشغف الجسدي طارئة ومؤقتة مثل كل شعور ساخن ومؤقت؛ فليس الحب وحده ما يوحي بالغربة الجنسية، بل القلق والعزلة والإحساس بالتهميش وانعدام تحقيق القيمة الذاتية للفرد بين المجموع. إن الرغبة الجنسية هنا تبرز كوعاء مادي يتم من خلاله طرد القلق، غير أن هذه المحاولة غالبًا ما تنتهي بالفشل، ذلك أن الاكتفاء الجنسي لا يترافق غالبًا مع الشعور بأمان نفسي، بل إن تحجيم الرغبة الأساسية في نيل رعاية واهتمام الطرف الآخر، وحصرها داخل الحب الجسدي، غالبًا ما يراكم القلق ويزيد النفس بلبلة وفقدان طمأنينة. *** يركز إيريك فروم على بديهة شائعة، تنم عن ضيق نظر وسوء فهم، حيث يتنافس معظم الناس في عرض مهارة تجذب الحب، ويرون ذلك في توافر عنصري اللطف مع الجاذبية الجنسية. وينظر هؤلاء إلى الحب كشيء لا يحتاج تعلمًا. إن السمة المعاصرة لثقافتنا الحديثة تتأسس على فكرة المنفعة المتبادلة، وهذه ناتجة بدورها عن طغيان الميل الاستهلاكي في العلاقات الناشئة تحت فكرة أن سعادة الإنسان المعاصر تكمن في هزة السرور التي يشعر بها وهو ينظر إلى واجهات المحلات التجارية. ومن يرغب في الحب ينظر من نفس الزاوية، حيث ينشأ العرض والطلب لا بين البشر والأشياء المستعملة، بل بينهم وبين رغباتهم الإنسانية، وعلى هذا النحو يتحول الإنسان المرغوب إلى مادة يمكن شراؤها أو صيدها. إنه لأمر سيء أنه في الثقافة الحديثة حيث تسود توجهات السوق، بشراسة قاسية، وحيث يتم تقييم النجاح المادي الصرف كقيمة متقدمة على سواها من سمات شخصية، تسير علاقات الحب على نفس سوية النماذج التي تتحكم بالسوق. وحيث أن الإنسان جوهر متفرد، ولا يمكن أبدًا أن يتلخص وجوده في أن يكون هدفًا لإنسان آخر، وهذا يتناقض مع الأنظمة التوحيدية ومعايير السوق الاستهلاكية، التي تدعو الناس إلى نوع من الحب غير المشخص، لأن إلغاء الطابع الشخصي للفرد يتوافق مع ميل هكذا أنظمة إلى السيطرة التي لا يمكن إدامتها وتحسين شروط استمرارها دون جعل البشر "ذرات إنسانية متشابهة". كتاب فن الحب كتاب في تعلم الحفاظ على جوهر فردي، وهو لا يتأتى دون بذل جهد، ذلك أن الحب قوة، وهذه القوة تتحصل عبر عمل دؤوب وشغف مستمر، غير مبال بما يمكن أن يطرأ كنموذج عام أو موضة دارجة. *** *** *** |
|
|