القصيدة الضوئية: من فيزياء المفهوم... إلى كيمياء الرؤيا
قراءة نقدية في "أدونيس... سياسة الضوء" لفداء الغضبان

 

كاظم خليل*

 

أولاً: القسم النظري

تمهيد:

مع تسارع المكتشفات الحديثة في القرن التاسع عشر، من اختراع آلة الفوتوغراف فالسينما توغراف وصولاً إلى السينما الحديثة (الصامتة، فالناطقة) ساهم ذلك ليس في إعادة الاعتبار للصورة داخل بنيان اللغة المكتوبة، بل حتى بتأثير ثقافة الصورة الحديثة بالفنون مجتمعة.

ولقد أدَّى اكتشاف آلة الفوتوغراف إلى تغيير المفاهيم الثابتة والمستقرة في فنون الرسم والنحت والفنون التشكيلية عمومًا، مما كان له الأثر الكبير في ظهور المدارس الفنية الحديثة في أوروبا، من الانطباعية إلى التكعيبية وصولاً إلى التجريد وفنون البوب آرت، وليس آخرًا الفيديوآرت.

وكذلك فعلت السينما على نحو أكثر تأثيرًا – ولعل السرياليين تعلموا الكثير من السينما ومن فنون المونتاج montage أو التلصيق، على نحو خاص.

وكذلك فقد ظهرت تبادلية العلاقة بين السينما والأدب عمومًا، والسينما والرواية بشكل واضح، ولقد كان للسينما أثرها في إيجاد جنس إبداعي جديد ومستقل هو: السيناريو.

1.    عن الشعر والسينما:

لم يكن الشعر الحديث بمنأى عن ذلك – من خلال تلك العلاقة المتأثرة والمؤثرة، وإذا كان ثمة اختلاف بين الشعر الحديث والسينما من حيث الظاهر فإن العلاقة بينهما على مستوى العمق تُصرِّحُ بغير ذلك، من خلال اتفاق كل من الفيلم والقصيدة على أنَّ النقطة الأساسية هي ليست بإخبار المشاهد أو القارئ بما تعنيه الأشياء، بل بما يجعل المتلقي يكتشف ويشعر ويدرك ويؤوِّل المعنى ويعيد إنتاجه بنفسه مرةً إثرَ أُخرى.

ولا يخفى بالآن نفسه اتفاقهما على مبدأ التجاوز الذي قام عليه (المونتاج السينمائي)، إلى جانب النزعة التصميمية العالية، التي نراها في الفيلم والقصيدة معًا، فيما يتعلق بكسر الأنظمة والأشكال المهيمنة وتجاوزها لبناء نظام مستند إلى تجربة المبدع الذاتية واعتبار هذا التجاوز شرطًا لتشكيل العمل الفني وتميزه.

ويظهرُ هنا تكنيك العمل والبناء الفيلمي لدى المخرج، كما يبرز تكنيك العمل والبناء الشعري لدى الشاعر – وإن اختلفت الأدوات. فيبرزُ دور "حجم اللقطة" في تفعيل درامية الحدث ووظائفه النفسية المهمة حيث يعدُّ أحد وسائل التعبير عن طريقة الطرح وتفعيل الإيحاء الدرامي وتصاعده، ومن المعلوم أن لكل طريقة معالجة فنية خاصة تتميز بحيِّز لقطاتها وخلاياها التشكيلية والبنائية والدلالية. وبلقطة ما، يصبح الزمان مكانًا والمكان زمانًا، حيث تقوم اللقطة حينذاك بوصفها "سلوكًا بنائيًا" على مدى قدرتها الإيحائية لتصبح "فعلاً أو رد فعل" من خلال اختيار حجمها، ويتوقف حجمها على نوع رد الفعل ودرجته وشدة توتره أو هدوئه وثباته... إلخ. وفي السياق نفسه، درجت العادة على أن يكون المتحدث دائمًا هو الفعل، ومساحة حجم الكادر "الحيِّز" للقطة يتوقف على أهمية مضمون حديثه. لكن الفعل قد يكون إشارة أو إيماءةً أو تعبير وجه أو حركة ممثل داخل الكادر بدون أي كلام بتاتًا. وتساهم حركة الكاميرا بتشكيل هذا الفعل وتأكيده أو نفيه أيضًا، وبالتالي يُصبح الفعل جزءًا من السياق البنائي وجزءًا من سياق أبعاد الشخصية وجزءًا من طبيعة الموقف الإخراجي والرؤية الإخراجية، بالتكامل مع السيناريو ككل.

وما نريد التأكيد عليه هنا هو إبراز العلاقة المهمة بين لغة الإخراج السينمائي ولغة الشعر، وإن اختلفت الأدوات، فالسينمائي يحتاج إلى وسائط خارجية وتجهيزات تتحكم حتى بالنتيجة الإبداعية الفيلمية، بينما لا يحتاجها الشاعر – وسنشيُر إلى ذلك تاليًا.

ولعل الجانب الأهم في العلاقة بين الشعر والسينما يتمثل في قانون الشعرية نفسه – على اختلاف تمظهرات وتشكلات هذه الشعرية، لكنها تبقى الخيط السحري الذي يَنظمُ الفنون، والسقف الذي تسعى كل أجناس الإبداع بما فيها السينما إلى بلوغه، ذلك أنه حتى السينما لا تستطيع الوصول إليه إلا من خلال لغتين: لغة القول، ولغة الصورة:

·        فمن حيث لغة القول: فإن الشعرية في السينما تعتمد بدورها صفات وقوانين، نجدها على نحو بارز في لغة القصيدة الشعرية بخاصة، ومنها: الاقتصاد – الكثافة – الإيحاء – الانزياح – المجاز – الشفافية... إلخ، وهذا ما يوحِّد أفق التفكير في السينما في علاقتها بالشعر والعكس وارد أيضًا.

·        ومن حيث لغة الصورة: فإن مفهوم الشعرية هنا يتحول إلى لحظة من لحظات تمفصل الفيلم واستعماله للصور السينمائية من خلال لقطة واحدة أو عدة لقطات متتالية استعمالاً مجازيًاعلى نحو غير مألوف بصريًا.

2.    مفاهيم جمالية حديثة:

مع البحث عن قيم جديدة في فنون ما بعد الحداثة انقلبت المفاهيم الجمالية، وكانت ثورة الميديا والثورة الرقمية الجديدة البوصلة الجمالية العالمية، التي أثرت حتى بنظرة الإنسان إلى نفسه، حيث شكَّلت الوسائط المتعددة، أي "تعدد المواد والخامات أو الأدوات أو الوسائل والتقنيات المستخدمة في الإبداع الفني"، وأيضًا "تداخل المجالات الفنية كالفنون التشكيلية والشعر والأدب والموسيقى والمسرح والسينما والفيديو والتلفزيون والكمبيوتر، من مجالات الفن المختلفة"، إحدى آليات إنتاج الفن، بل وقاسمًا مشتركًا في معظم فنون ما بعد الحداثة، التي ميزت عصر المعلومات منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن أي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث جاءت التغيرات سريعة ومتلاحقة لحركات واتجاهات الفن التي غيَّرت من الحدود والمعنى لمفهوم الفن، بل المسمى ذاته من فنون جميلة إلى فنون تشكيلية ثم إلى فنون مرئية، ليأخذ المنطق البصري تفاعلات متعددة الجوانب بحيث بات من الصعب إجراء تحليل تصنيفي وفق مجالات الفن القديمة من (عمارة – نحت – تصوير – رسم – مسرح – سينما)؛ فما تضمنته الممارسة الفنية (الفن المفاهيمى – أو فن المينمال – أو فن الأرض – أو الفن البيئي – أو فنون الغرافيك – أو فن الحدث أو فن الأداء – أو فن التجهيز – أو فن الفيديو... إلخ) تموج بالعديد من التداخلات بين الحدود والمعاني والتعريفات الثابتة لمفهوم الفن والجمال، وعكست التطور في تكنولوجيا استخدام الوسائط المتعددة التي تضمنتها معظم الأعمال الفنية بواقع لغوي وسمعي وبصري وأيضًا حركي.

فالوسائط المتعددة أصبحت في كثير من الأعمال عالمًا قائمًا بمفرده؛ في فنون الفيديو والكمبيوتر، وثمة من يطلق عليها مصطلح الفنون الإلكترونية. ولقد أصبح لهذه الفنون الجديدة (فن فيديو، صور متحركة، صورة رقمية، فن ويب، فن تركيب، فن أداء... إلخ) مهرجانات عالمية مستقلة في كبرى العواصم العالمية.

ولاشك أن ذلك فتح أمام الفنانين آفاقًا جديدة للإبداع بخلق فضاء وعوالم مليئة بالأحداث المتنوعة بين أدب وموسيقى وتشكيل وشعر في واقع سمعي بصري حركي عبر الزمن، ما يطرح آفاقًا أكثر رحابة في ممارسة التنظير والنقد ومناهج مغايرة في قراءة العمل الفني تقوم على مشاركة المتلقي في العمل الفني.

إنَّ الاستخدام التكنولوجي في تقديم أشكال الفن أسهم بشكل فعال في القراءة المفتوحة للعمل الفني، ما ساعد على التشتيت الذي لا نهاية له وعدم وضوح بؤرة التركيز التي يستند إليها المشاهد، كما أدى ذلك إلى تفكيك العناصر الفنية ذاتها. وعليه والحالة هذه، فإن على الباحث في الجماليات المعاصرة أن يواكب المنجز الفني المعاصر نقدًا واطلاعًا ومتابعة، وأن يَجدَّ السعي نحو اقتراح واستكشاف مناهج جديدة تنبثق من طبيعة الموضوع المطروح؛ فلا تتعالى عليه ولا تنقص من أهميته، وهذا يقوده منطقيًا إلى ألا يطمئن إلى مناهجه وعلومه السابقة نفسها، بحثًا عن علوم ومعارف عصرية جديدة، ولقد صدق القائل: "العلم المستقر جهل مستقر".

3.    فداء الغضبان وتجربته الجديدة:

لمناسبة احتفالية (مجلة دبي الثقافية) بعيدها السابع، وبالتعاون مع إدارة المجلة يطلعنا الفنان فداء الغضبان على مختارات من أحدث تجاربه الفنية التي أنجزها مع أشهر شعراء العربية في العصر الحديث أدونيس، وهي بعنوان أدونيس... سياسة الضوء أو الديوان الضوئي للشاعر أدونيس، والتي تشكل بمجموع نماذجها الجانب الميداني من بحث علمي يُعده عن شعر أدونيس.

لا تنتمي تجربة أدونيس... سياسة الضوء الفيلمية لفداء الغضبان إلى فئة الفيلم التسجيلي ولا الروائي، ولا تنتمي بشكل مباشر إلى تجارب الفيديو آرت السائدة، أو فن الحدث أو التحريك، ولا تنتمي حتى إلى فئة البرنامج الثقافي التلفزيوني ولا حتى الوثائقي الدرامي، فكيف نوصِّف التجربة إذن؟!

لقد أتيح لي مشاهدة التجربة كاملةً، في قسمها الأول 2007 والثاني 2009، وعلى أثر تلك المشاهدة كُتِبت هذه الدراسة النقدية.

4.    مفهوم "القصيدة الضوئية" و"الديوان الضوئي":

يطرح فداء الغضبان مفهوم "القصيدة الضوئية" كتوصيف فني لهذا الشكل الفيلمي المنجز "أدونيس... سياسة الضوء"، وهو شكل تلفزيوني وغير تلفزيوني بآن معًا، أي يمكن أن يعرض عبر محطة تلفزيونية أو بواسطة أقراص dvd عبر شاشة الكمبيوتر.

أدونيس يقف أمام بوستر العمل الذي يجمعه مع المخرج فداء الغضبان

إذن القصيدة الضوئية هو التعريف الإجرائي الذي يقدمه الغضبان كتوصيف فني نقدي لهذا الشكل الفيلمي – وللمناسبة فهو مصطلح جديد يطلق لأول مرة في الإعلام الثقافي العربي. على أن أهم صفات هذا الشكل الفيلمي هو "اللازمنية" أي عدم اقتران عرضه بمناسبة أو حدث، فهو ضد الزمن وهو قابل للتكرار؛ الآن كما في المستقبل، ويمكن عرضه تلفزيونيًا أو غير تلفزيوني في أي زمن وأي وقت، وبالتالي فهو عكس فن الحدث أو التجهيز والأداء، الذي ينتهي بانتهاء وتغير الزمان والمكان. لذلك وانطلاقًا من صفة اللازمنية فهو إنما يتطابق مع صفة القصيدة ومع روح الشعر، وروح الفن، وهو لذلك بمثابة كتاب رقمي جديد، أو على نحو أدق هو ديوان ضوئي.

5.    الحوار:

عن مفهوم "القصيدة الضوئية" سألنا فداء الغضبان فأجاب:

-       القصيدة الضوئية، كتعريف إجرائي، اقتراح بصري–سمعي لتلقي القصيدة مرئيًا بواسطة عين الكاميرا عبر البحث عن جماليات كامنة في النص الشعري، بالاعتماد على مجموعة قوانين لونية تستند إلى عدد من الاختبارات والروائز النفسية العالمية، بمشاركة الحضور الفيزيقي الواقعي والمجازي للشاعر بالآن نفسه، فلا يغيب النص وراء هذا الاقتراح ولا ينتقص حضور النص من أهمية المفردات الجمالية البصرية المتكاملة، بين الإيحاء الدرامي الإشاري المفترض، مع الصياغة التعبيرية للمادة الفيلمية. وكل ذلك من خلال اقتراح (معادل مرئي رمزي) يُعبِّر أو يُلمح أو يوحي أو يُشير لروح النص الشعري.

وحين سألنا الغضبان عن مدى مساحة الحرية المتروكة للمخرج: الباحث؛ المُؤَوِّل للنص الشعري. أجاب:

-       يجب على الباحث الالتزام بصيغة مرئية مقترحة تنبثق من محتوى النص الشعري وإشاراته الرمزية والمجازية، تقاطعًا أو توازيًا أو ربما تناقضًا، بشكل قصدي. فالنص الشعري هو المبتدأ وهو المنتهى، وهو الحاضر وهو الغائب؛ الحاضر بشكله الجمالي الجديد المُقترح، والغائب بشكل تلقيه القديم، مع المحافظة على روح النص وعدم إلغائه كليًا، والتأكيد على حضور الشاعر (الواقعي:المجازي) بآن، بالتكامل مع العناصر الجمالية البصرية الأخرى.

وسألنا الغضبان عن علاقة النص الشعري بالشكل الفيلمي المقترح؟! ألا تخشى أن يتحول هذا المنجز الفيلمي إلى شرح مباشر للنص؟!

-       يجب ألا يكون كذلك؟؟! ولكن إذا ما لوحظ أنَّ بعض التجارب تقترب من ذلك فهذا يعود أحيانًا إلى أنَّ الشاعر أيضًا قد يلجأ في بعض نصوصه الشعرية إلى كتابة القصيدة بتكنيك يقترب من (صيغة السيناريو) – بل تبدو القصيدة في أحيان أخرى بوصفها سيناريو قصيرًا قائمًا بذاته، وهذا ما يتصل بموضوع بحثي عن شعر أدونيس. ولكن ما يجب التأكيد عليه أن هذا الشكل الجمالي المُنجز ليس شرح مفردات بصرية للنص الشعري، وليس تابعًا له بمعنى ما، بل هو يتخلق منه كما يتخلق شكل الجنين باتحاد النطفة بالبويضة في رحم الأم، وبالأخص أن (اللوحة الفنية:الرُّقيمة) تتشارك مع النص الشعري في الصياغة البصرية حتى أن (الرُّقيمة) على مستوى الصياغة الإخراجية تبدو بوصفها (الرحم) الذي يتخلق منه وفيه وعليه الشكل الفيلمي المُنجز بدلالاته، وإشاراته، ورموزه، وإيحاءاته، عبر تناوب الظهور والخفاء.
وعلى مستوى آخر: فإن علاقة النص الشعري بالشكل الفيلمي المُقترح هو كعلاقة الضياء بقرص الشمس، فهي علاقة لا اتصال كلي، ولا انفصال كلي، فالمادة الفيلمية في النهاية بعد تكامل عناصرها المتعددة من: تشكيل كادر، حركة كاميرا، تنوع لقطات، إضاءة، الإيقاع الصوتي، الإيقاع اللوني-النفسي؛ المتوازي مع الإيقاع النفسي للقصيدة المقترحة... إلخ؛ هي شكل جمالي جديد للنص الشعري، اصطلحتُ على تسميته إجرائيًا بـالقصيدة الضوئية.

سألنا الغضبان: يبدو من كلامك، أنه يجب على المخرج أن يكون ناقدًا حتى يتسنى له فهم التجربة الشعرية للشاعر، لكي يستطيع العمل عليها والتفاعل معها بصريًا؟!

-       في السائد العام ليس الأمر كذلك؟! أما بشكل خاص، أعتقد أنه يجب على المخرج الفنان أن يكون ناقدًا، بل ويجب أن يمتلك منهجًا نقديًا، ورؤية نقدية علمية، وإلاَّ فلن يُعوَّل كثيرًا على نتاجه، وهو رأي شخصي لا أُلزم أحدًا به. أما وفيما يتصل بإنجاز القصيدة الضوئية أو الديوان الضوئي فحتمًا يجب أن يتعامل مع التجربة في العمق بوصفها (عملاً نقديًا)، وشاعرنا الكبير أدونيس يدرك تمامًا أنني أتعامل مع التجربة كذلك، وقد عبَّر عن رأيه الإيجابي بهذه التجربة الجديدة.
وبشكل صريح ، أنا انطلق أساسًا في إنجاز هذه التجربة من كونها تشكل (الجانب الميداني لبحث علمي عن شعر أدونيس)، ولكن – ولأول مرة فيما أعتقد – يُنجزُ البحث بعناصر تتصل بأدوات الإخراج – علمًا أنني لست مخرجًا، وليس لدي أي هاجس بهذا الشأن – بل دائمًا ما أنظر إلى نفسي كباحث مجرِّب في سيكولوجيا الفنون، وهو ميدان اختصاصي الأساسي.

ولكنَّ اسمك يقترن في شارة العمل بالسيناريو والإخراج والعمل مكتوب أساسًا بصيغة السيناريو؟!

-       نعم ، هذا صحيح ، ولكن ذلك كان بناءً على نصيحة بعض الأساتذة الأصدقاء الذين عرضتُ عليهم النماذج الأولى من العمل وهم يمتلكون خبرةً بقضايا التوزيع والإنتاج أكثر مني، ونصحوني بذلك حفاظًا على الحقوق المادية والمعنوية، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى خاصة، وشخصيًا كنت أفضل (رؤية إخراجية) كتوصيف لجهدي، على اعتبار أن الرؤية هي نظرة جمالية خاصة بمفهومي الشخصي، كما هي خاصة بمفهومك أنت على سبيل المثال، ثمَّ إنَّ الإخراج كلمة كبيرة، وهو يقترن نقديًا بعلم الجمال وبفلسفة الفن، فالإخراج، كما تعلم، يتضمن علمًا ومعرفةً وفهمًا بالتشكيل والموسيقا والآداب، ثمَّ بعد ذلك وفي النهاية تأتي الخبرات التقنية المتعددة المتعلقة بالتنفيذ الإخراجي... إلخ. والتشكيل مثلاً يقتضي علميًا فهمًا لعناصر التكوين والألوان والقيم الجمالية المختلفة حكمًا – باختلاف المادة والاتجاهات الفنية والتشكيلية لكل فنان أو لمجموعة فنانين، وكمثال أقول: كيف لي أن أدرك أو أحلل الكادر المتحرك إذا لم أكن قادرًا على فهم وتحليل الكادر الثابت، والكادر الثابت بشكل من الأشكال هو "كادر:لوحة تشكيلية"... إلخ، وهكذا فيما يتعلق بالموسيقا والأدب و...، وعمومًا هذا موضوع ذو شجون لا أريد الخوض فيه هنا.
وفي هذا السياق أورد الحادثة التالية باختصار: بُعيد تسليم شاعرنا الكبير أدونيس نسخة من النماذج الأولى من العمل عام 2007 لم يكن متشجعًا لمشاهدتها حينها، وسافر إلى باريس، فانزعجت وقتها كثيرًا، وبعد عشرة أيام اتصل بي هاتفيًا وسألني: في أي جامعة درستَ الإخراج؟! – كدلالة على تفاعله الإيجابي الكبير وإعجابه بالعمل – واستغربَ كثيرًا حين أجبته أنني لم أدرس الإخراج نهائيًا، واستغرب أكثر حين أعلمته أنني خريج جامعة دمشق باختصاص علم نفس، ثم أضفت، ولكنني أدَّعي أمام أدونيس أنني قرأتُ أدونيس بعمق، ولعلي أحد قرَّائه الجيدين من ضمن من قرأه في العالم.
لذا أعيد القول: أنا لست مخرجًا، ولكنني أنظر إلى نفسي كباحث في سيكولوجيا الفنون، ولي في نتاجي هذا، وفي اللاحق أيضًا، ما يؤكد ذلك بكل ود؟!

في النهاية، كيف تنظر إلى هذه التجربة...؟!

-       هذه التجربة، في النهاية، ما هي إلاَّ نماذج وتجليات أولى للشكل الفيلمي المتعلق بمفهوم القصيدة الضوئية الذي أطمح، شخصيًا، بالوصول إليه!! لأن ثمَّة أشياء أخرى كثيرة بداخلي عن هذا الشكل الجديد لم تخرج بعد!
وما أرجوه أن لا يكون التزامي العلمي بالخطوات المنهجية للبحث قد كبح جموح الخيال التصويري-البصري الذي أسعى إليه.
وعلى المستوى الشخصي: في هذا العصر الذي أصبحت فيه "الصورة" هي الأبجدية الجديدة للكائن الإنساني، أصبح هاجسي الرئيسي هو البحث في كيفية تلقي المادة الثقافية والإبداعية (مرئيًا)، وهذا أمر لم يُبحث فيه بشكل جدي وعلمي ومنهجي – فيما أعلم، طبعًا باستثناء الرواية والقصة ضمنًا – بحكم البنية الحَدَثية المباشرة الموجودة أصلاً فيهما، والتي عمومًا تتقاطع مع عوالم السيناريو. لذا، كثيرًا ما أطرحُ على نفسي أسئلة من هذا النوع مثلاً: ما هو الشكل الأنسب لتلقي اللوحة التشكيلية مرئيًا بواسطة عين الكاميرا، بشرط المحافظة على روح اللوحة ذات الحامل؟!! وكذلك، فيما يتعلق بالنص الشعري أو القصيدة المكتوبة؟!
ولأنَّ هذا الأمر لم يبحث فيه فيلميًا – بشكل منهجي كما قلت، لذا فمشروعي هو محاولة البحث عن ذلك بالاعتماد على المنهج العلمي.
وعمومًا في الحياة، كما في الفن، كما في البحث العلمي، "ليس من أراد الجمال فاخطأ كمن أراد القبح فأصاب". علمًا أنَّ مفاهيم الجمال والقبح هي نفسها خاضعة لفلسفة الثبات والتحول، في هذا العصر كما في كل العصور.

*** *** ***


 

horizontal rule

* ناقد وفنان تشكيلي، مقيم في باريس.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود