|
أوهام العلم وأوهام الدين
قبل أربعة قرون، حَذَّر المفكر البريطاني فرنسيس بيكون (1561 – 1626)، أحد آباء الفلسفة الحديثة، من أوهام أو أصنام يمكن أن يُبتلى بها العلماء والعارفون، فتحرفهم عن الفهم الصحيح أو الحكم الصائب، وتوقعهم في أخطاء ومغالطات لا حصر لها، وتقف عائقًا في طريق التقدم على مختلف الصعد الفردية والاجتماعية والعالمية[1]. هذه الأوثان، كما سمَّاها بيكون ووصفها[2]، أربعة: 1. وثن القبيلة، وهو نزعة متأصلة في النفس البشرية تكبِّلها بالمحسوسات الظاهرة في العالم وتمنعها من التوصل إلى القوانين العامة التي لا يقوم أي علم أو معرفة بدونها. 2. وثن الكَهْف، الذي يشير إلى الأخطاء الفردية الخاصة بهذا أو ذاك من العارفين. وهي ناشئة عن عوامل، مثل المزاج والتربية والقراءات والتأثيرات الشخصية، تَحمل صاحبها إلى تفسير الظواهر بناءً على محدودياته الخاصة. 3. وثن السوق، وهو يأتي من طرائق استعمال اللغة، كما في قولنا: "طلعت الشمس" أو "غابت الشمس". وهذا وصف يفتقر إلى الصحة العلمية والدقَّة اللغوية، لأن الشمس لا تَطلع ولا تنزل إلا ظاهريًا. لكنه كلام من شأنه أن يوقِع كثيرين في أخطاء. 4. وثن المسرح، الآتي من مذاهب فلسفية أو علمية أو معرفية سابقة قد يتبنَّاها المرء على نحو غير نقدي، ويبني عليها نظراته وأحكامه. لذلك كان التعويل السطحي على أفلاطون أو أرسطو أو توما الأكويني أو ابن رشد أو داروين أو فرويد أو سواهم، أي القبول غير المفسَّر وغير المبرَّر لهذا الرأي أو ذاك لا لشيء إلا لصدوره عن واحد منهم، مرادفًا لإقالة العقل والاحتكام الأعمى إلى سلطان الأسماء الكبيرة. من هنا أستهلُّ كلامي على ما سَمَّيتُه "أوهام العلم" و"أوهام الدين". وتَجنُّبًا للسقوط شخصيًا في أيٍّ من أوثان بيكون، أُبادر إلى القول بأنَّ أوهام العلم هذه لا تأتي من شخص خفيٍّ اسمُه "العلم"، كما لا تأتي أوهام الدين هذه من شبح مخبوء في آلة يُدْعى "الدين"، رغم لجوء العديد من المثقفين وطلاب الثقافة، وكذلك من ذوي اختصاص على جانب الفكر العلمي والفكر الديني كليهما، إلى عباراتٍ من نوع: "يقول العلم" أو "يقول الدين". ولا يخفى، في ضوء ما مرَّ معنا، أنَّ هذا النمط من استعمال اللغة هو مثَل صارخ على ما سمَّاه بيكون "وهم السوق". فالعلم لا يقول شيئًا، وكذلك الدين. والأحرى أنَّ مَن يقول هو بعض الناطقين باسم العلم أو باسم الدين، وأنَّ أقوالهم بالتالي تُلزمهم وحدهم كأفراد من غير أن تنتقل تبعاتها إلى مجمَل ما يسمَّى علمًا أو دينًا[3]. لذلك لا تُرْعِبَنا أو تُرْهِبَنا عبارة من نوع: "يقول العلم"، لأنه، مهما عَلا شأن القائلين علميًا، فلا شكَّ أننا واجدون علماء رفيعي القدر أيضًا يذهبون مذاهب أُخرى، مختلفة أو حتى مضادَّة لزملائهم، خصوصًا عندما يتعلق الأمر لا بالمعارف العلمية بل بالآراء والمواقف والقيم التي يَعْزوها أصحابها إلى العلم. والملاحظة عينها تنطبق على الدين. يمكن تحديد الوهم بأنه معلومة أو فكرة مخطئة يعتنقها فرد أو مجموعة أفراد اقتناعًا بها أو بواحد أو آخر من معتنقيها، ويقيمون مواقفهم النظرية والعملية عليها. وإذا كان صاحب الوهم أصيلاً لا تابعًا، فأخطاؤه تأتي عمومًا من عوامل مثل عدم تحديد موضوعه أو نطاق عمله، واقتصاره على شواهد محدودة، وخلل في مرحلة أو أُخرى من عملية الاستنتاج. ومن أبرز الأمثلة على الأوهام ظاهرة واسعة الانتشار تحتلُّ حيِّزًا كبيرًا في علم النفس الاجتماعي، هي ظاهرة التحيُّز أو الانحياز[4] prejudice، التي لا ينجو العلماء أنفسهم منها، وبينهم علماء نفس وعلماء اجتماع يحاول كل نَفَر منهم نَفي الشرعية أو الاستقلالية عن منهجية الفريق الآخر وخَفْضها إلى منهجيته هو. وإذا كانت هذه حال الأصيلين من ذوي الأوهام، فكيف بالتابعين الذين لا يفكِّرون بل يلتقطون الفتات المتناثر من موائد المفكرين، ثم يَتَّخذون دَور الأنصار أو المحمِّسين أو المشجِّعين أو المحرِّضين، وهم، في أيِّ حال، أخصب الأرحام التي تتناسل فيها الأوهام. والحقّ أن صانعي الأوهام من صفوف أُولئك وهؤلاء، من معروفي الهويَّة ومجهولي الهويَّة على السواء، هم المسؤولون عن تحويل العلم – وهو، بطبيعته، ثائر على كل صنوف الأوثان – وثنًا معبودًا، وجَعْل الدين – وهو أرحب مجال للخيال الخلاَّق – أفيونًا للشعوب. كثيرةٌ هي أوهام العلم وأوهام الدين. لكنها، كما قلت، لا تُلزِم مجمل العلم ولا مجمل الدين. وسوف أَقصر كلامي على جملة مما أراه أبرزها، بدءًا بالعلم. أوهام العلم 1. العلم مصدر المعارف والمواقف الوحيد لعلَّ أخطر أوهام العلم ذلك الاعتقاد الواسع الانتشار القائل بأن العلوم هي المصدر الوحيد للمعارف والمواقف والقيم. وقد عَبَّر سيغموند فرويد (1856 – 1939) تعبيرًا بليغًا عن هذه النظرة بقوله: "العلم ليس وهمًا. لكن الوهم هو الاعتقاد أنَّ في إمكاننا الوصول إلى مكان عن غير طريق العلم"[5]. ووَجد برتراند رصل (1872 – 1970) أنَّ العلم قد لا يحقق المعجزات، لكنْ لا أساس للأمل إلا بما يعطينا إياه إذا نحن شئنا أن نحيا بدون السنَد الذي نستمدُّه من "الحكايات الوهمية المعزِّية"[6] الآتية من الدين. وإذْ رأى أنَّ كل ما يسمَّى معرفة ينتمي حصرًا إلى العلوم، أقام رصل الفلسفة على العلم، محدِّدًا وظيفتها في تعليمنا "كيف نحيا بلا يقين، لكنْ من غير أن يُقعِدنا التردد"[7]. الوهم الذي تقوم عليه هذه النظرة هو حَصْر المعرفة ضمن نطاق العلوم الطبيعية والاجتماعية، مع إضافة الرياضيات إليها كجزء منطقي أو منهجي لا يتجزأ منها. لكن ماذا عن المعارف الأُخرى، خصوصًا الإنسانيات، التي تَندرج تحتها قطاعات ثقافية أو حضارية واسعة، كالتاريخ والفلسفة والدين والأدب والشعر والفنِّ؟ وهل يمكن القول بأن النظرة إلى الإنسان، مثلاً، التي نقع عليها في هذه النشاطات هي خارج المعرفة، في حين أن المعرفة الوحيدة الممكنة عن الإنسان تأتي من العلوم فقط؟ هل صحيح أن الصورة الوحيدة عن حقيقة الإنسان هي تلك الآتية من العلوم؟ وماذا عن الصورة التي تأتي من الإنسانيات، بما فيها اللاهوت، ونقع عليها مع فلاسفة وأنبياء وشعراء وروائيين ومسرحيين؟ ألا تُعَدُّ معلومات أو معارف عن الحياة والكون والوجود تلك الكتابات الرائعة التي تغوص في أعماق الإنسان لتعود منها بِصُوَر غنية من يأسٍ ورجاء، من بؤس وهناء، من ظلمة وضياء، من انكسار ومَضاء؟ حقًّا إنَّ ما نتعلمه من ملحمة النفس البشرية، التي كشفها مبدعون راؤون مثل سوفوكليس وأفلاطون وداود وأيوب وبولس ومحمَّد وكبار الصوفيِّين والمعرِّي ودانتي وشكسبير ودوستويفسكي وتولستوي وكامو وإليوت، يتجاوز ما تعلِّمنا إياه العلوم عن الإنسان. ولئن سَلَّمنا بأنَّ العلوم هي المصدر الأول للمعارف، فإنَّ المواقف والقيم لا تأتي منها، بل تأتي من حقول كالدين والفلسفة. ذلك أنَّ المواقف والقيم تنتمي إلى الأخلاق. والأخلاق معنية بما يجب أن يكون، فيما العلم معنيٌّ بما هو كائن. ولا يمكن البتة إقامة الأخلاق على العلم، إذ لا يمكن استنتاج ما يجب أن يكون مما هو كائن. فالعلوم حيادية خُلقيًّا أو قيميًّا، وفي استطاعة الإنسان تسخير نتائجها للهدم كما للبناء. وإذا كانت السعادة هي الفكرة المحورية التي يدور عليها معظم الفكر الأخلاقي، فالسعادة، من حيث ماهيَّتها وضرورتها وتبريرها، ليست شأنًا علميًا. صحيحٌ أنَّ العلوم تعين الإنسان على تقرير الوسائل التي ينال بها السعادة، لكنها لا تزوِّده بأيِّ مناقشة، منطقية أو وجودية، للدفاع عن السعادة. لذلك كان موقف فردريك نيتشه (1844 – 1900) أصَحَّ من موقف رصل بالنسبة إلى هذه النقطة بالذات، إذْ وَجد بديلاً للدين الذي رفضه في الفلسفة لا في العلوم الطبيعية[8]. فالمطلوب هنا تقديم رؤيا وتبرير بما يخص الأهداف، وليس البحث عن وسائل. وبدون هذه الرؤيا النبيلة التي تأتي لا من العلم بل من الدين (أو الفلسفة)، يمكن أن يسيء الإنسان استخدام القوة التي يضعها العلم تحت تَصرُّفه، فيجعل منها وسيلة للدمار، أي لما هو نقيض السعادة، لا للبناء. 2. التفسير الآلي للوجود ينفي التفسيرات الغائيَّة الوهم الثاني الذي سأتكلم عنه من أوهام العلم يمكن النظر إليه كتفصيلٍ للوهم الذي عرضناه. هذا يذهب إلى أنَّ التفسير الآليَّ للوجود هو التفسير الوحيد الممكن عقليًّا، وأن كل نظرة غائيَّة إلى الوجود هي نظرة غير صحيحة لأن الطريقة العلمية لا تؤدي إليها. للنظر إلى هذا الوهم ضمن إطاره، لا بدَّ من استذكار الثورات العلمية المتتالية منذ القرن السادس عشر[9]، بدءًا بالفلكي البولوني كوبرنيكوس (1473 – 1543) الذي برهن بالدليل الاختباري أنَّ الأرض تدور حول الشمس، بعدما كان الاعتقاد المؤيَّد من الدوائر الدينية أن الشمس تدور لأنها تبدو هكذا للعيان، وأن الأرض قائمة في وسط الكون. وتلاه الفلكي الايطالي كبلر (1571 – 1630) ليؤيِّد استنتاجه لجهة دَوَران الأرض حول الشمس وليثبِت، بواسطة التلسكوب الذي ابتكره، أن القمر ليس جسمًا كرويًا تامًا، لكنه مليء بالجبال والأودية. وفي حين ساد الأوساطَ العلمية طويلاً الاعتقادُ القائل بأن الأجرام السماوية محمولة على أجنحة ملائكة، رفض الفيزيائي الإنكليزي إسحق نيوتن (1642 – 1727) تلك الفكرة وأَحدثَ نظرية الجاذبية. لكنه كان يأتي بالله إلى المشهد كلما لاحظ شذوذًا في حركة الأجرام عن قانون الجاذبية – لا ليبرهن وجود الله، إذْ كان مؤمنًا به، لكن ليفسر ذلك الشذوذ. وما لبث الفلكي الفرنسي لابلاس (1749 – 1827) أن بَيَّن شمول قانون الجاذبية بإظهاره أن تلك الحركات ليست شاذة حقًا، لا بل هي ضرورية لحسْن سَير ذلك القانون. ويُروى أن الامبراطور نابوليون سأل لابلاس عن سبب إبقاء الله خارج نظامه العلمي، فأجاب – وهو مؤمن أيضًا – أنه لا يحتاج إلى تلك الفرضية لرفْضه إدخال الله إلى نظرته العلمية كإله ثغرات أو إله فجوات، حتى إذا سُدَّت هذه الثغرات انتفت الحاجة إليه. هذه الثورة العلمية جَعلت بعض العلماء والفلاسفة يستنتجون أن الطبيعة نظام قائم في ذاته، يعمل وفق سببيَّة آليَّة لا مكان للغايات فيها. وصارت اللاغائيَّة من مرادفات الطريقة العلمية، وامتَدَّت من العلوم الطبيعية إلى العلوم السلوكية لتَكتسب اسم "الحتميَّة" determinism. لكن إذا كانت الغائيَّة مسألة خارج حدود الطريقة العلمية، فهذا لا يعني أنها يجب أن تكون خارج حدود العقل. تفسيرنا لكسوف الشمس، مثلاً، لا يتمُّ بقولنا إن الشمس شاءت هذا. لكن تفسيرنا لفعل إنساني لا يحصل إلا على هذا الأساس. حتى على صعيد الأحداث غير العاقلة، حيث يمكن النظر إلى الطبيعة كآلة ضخمة تؤلِّفها مجموعة من الآلات الصغيرة، ما الذي يمنع أن يكون هذا النظام الآلي البديع كلُّه خَلْقَ الله، وكله مخلوقًا لهدف؟ ليس من الضروري أن يكون أي شيء في فيزياء نيوتن أدَّى إلى انهيار الإيمان الديني. لكن العقل الحديث افترض ذلك. ولا شيء في فيزياء نيوتن يمنع الإيمان بهدف كوني. لكن العقل الحديث افترض أنه يفعل... وكل هذه الدلالات الضمنية المختلفة دليل على تشوش منطقي مخطئ[10]. صحيح أننا لا نستدعي الأهداف إذا أردنا العثور على الأسباب المباشرة على الصعيد الطبيعي. فتفسيرنا كسوف الشمس لا يحصل بقولنا إن الشمس شاءت أن تحتجب عنا، وهو تفسير غائي غير صحيح، ولا حتى بالتفسير الغائي الصحيح دينيًا والقائل بأن الله جعل الأشياء تتحرك على هذا النحو من ضمن النظام ككل. فهذا التفسير لا يتيح لنا الوصول إلى مجموعة العوامل أو العمليات التي أدَّت إلى هذا الحدث الطبيعي أو ذاك، ولا يتيح لنا بالتالي التحكم بِسَير الأشياء عندما يكون ذلك ممكنًا وواجبًا. إلا أن التفسيرين الآلي والغائي لا يتعارضان: أنْ تكون حركات الساعة قابلة للتفسير بوجود النابض فيها لا يبدِّل حقيقة صنع الساعة لغاية معرفة الوقت. هكذا قد يكون العالم آلة، لكنْ لا يتبع من هذا أنه يفتقر إلى غاية[11]. ولئن كانت العلوم تكتفي بالأسباب الآلية ولا تتطرق إلى الأسباب الغائية لأنها تقع خارج الطريقة العلمية وأهداف العلم، فهي تكتفي بدراسة جانب واحد من الوجود ومن التجربة البشرية، لعلَّه الجانب الأصغر. إنَّ جانبًا صغيرًا جدًا من تجربة الحب، مثلاً، يمكن تفسيره ببعض العوامل الكيميائية، كسرعة إفراز مادة الأدرينالين في الدم. ويبقى معنى التجربة شيئًا آخر. إلا أن الفلكي الذي يرفع عينيه عن التلسكوب ليقول إنه أنعم النظر في الفضاء من غير أن يجد الله، والعالِم الذي يرفع عينيه عن المجهر ليقول إنه فحص الدماغ جيدًا ولم يعثر على أثر للحب، مصيبان[12]. فهما ينظران إلى الموضوع من زاوية المراقبة المادية. لكن يبقى أن الله والحب عنصران أساسيان من عناصر التجربة البشرية، إضافةً إلى عناصر كثيرة مماثلة، كالرجاء والإيمان والخيبة والسعادة. فلا يجوز أن نحيل هذه العناصر على مرتبة "الحكايات الوهميَّة المعزِّية" (حسب وصف برتراند رصل) لأن بعضهم تبنَّى نظرية معرفة سابقة للتجربة، وإنْ عَمَّدَها باسم التجريبية، لا تُدخِل إلى نطاق التجربة إلا ما كان خاضعًا للمراقبة الحسية، علمًا أن الجزء الأكبر والأهم من تجربتنا الإنسانية لا يخضع لهذا النوع من المراقبة. وإذا كان "العلم لا يستطيع أن يجد استمتاعًا فرديًا في الطبيعة، لا يستطيع أن يجد هدفًا في الطبيعة، وكل ما يجده لا يتعدَّى قواعد التعاقب"، فهذا "لأن العلم يقتصر على نصف الشواهد التي تقدمها التجربة الإنسانية"[13]. 3. العلم يُبطِل الدين هذا يحيلنا على الوهم الثالث من أوهام العلم، وهو أن العلم يُبْطِل الدين. فالعلم والدين، في نظر عدد من العلماء والمفكرين الذين يحتكمون إلى العلم، يناقض أحدهما الآخر. ويتابع هؤلاء أن عصرنا اليوم هو عصر العلم، ولا مجال فيه للدين وللإيمان الديني. ويرسمون خطًا فاصلاً غير قابل للانكسار، يثبتون على جانب منه العلم وعلى الآخر الدين. وكل ما يصنفونه كصفة إيجابية للعلم يقابلونه بصفة سلبية للدين. هكذا يضعون تحت الدين صفات كالجهل والشك والخرافة والانغلاق والتعصب، وتحت العلم صفات كالمعرفة واليقين والعقل والانفتاح والتسامح. فالعلوم في نظرهم، سواء أكانت طبيعية كالفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وعلم الأحياء، أم سلوكية كعلم النفس وعلم الاجتماع، تقوم على دراسة العالم الذي نعيش فيه بهدف أن نعرفه ونسيطر على ما استطعنا من محدوديات وضعنا البشري ونوجِّه حياتنا نحو الأفضل. والتقدم الذي أحرزته العلوم منذ العصور القديمة حتى اليوم إنما تَحقق، حسب دعاة هذه النظرة، بهجر الدين وخرافاته وكشف المبادئ والقوانين التي تحصل بموجبها الأحداث. وتزخر المكتبة الفلسفية بمؤلفات حول التحديات التي يرفعها العلم في وجه الدين، وأبرزها التحدي المتعلق بوجود الله. وفي كتاب صدر حديثًا في بريطانيا بعنوان وهم الله، يضع المؤلف ريتشارد دوكينز، وهو أُستاذ بيولوجيا في جامعة أُكسفورد، مفهوم "الله" مع الفَرَضيات العلمية[14]، ويكرس كتابه للبرهان على أن العلم لا يؤيد صحة هذه الفرضية. ويستنتج أن الدين يرتكز إلى وهم. وكان، في التمهيد الذي وضعه لكتابه، عجب من تسمية الوهم الفردي "جنونًا" والوهم الجماعي "دينًا"، ملمحًا إلى أن الدين، أي الإيمان بالله، ضرب من الجنون الجماعي[15]. من أسباب الشقاق المفتعَل بين العلم والدين التفسير المرحلي للنشاطات الإنسانية، الذي اتخذ أوَّل شكل واضح مع المفكر الفرنسي أُوغست كونت (1795 – 1857). ففي كتاباته عن "الفلسفة الإيجابية"، شرح كونت ما سماه "قانون الحالات الثلاث"[16]، وهو أن الفكر البشري، على مستوى الفرد والحضارة، يمر في مراحل ثلاث: المرحلة اللاهوتية، المرحلة الميتافيزيقية، المرحلة الإيجابية. طريقة التفكير اللاهوتية تأتي في مرحلة بدائية. وهي طريقة "خيالية"، حسب وصف كونت، يحاول الإنسان بواسطتها أن يفسر كل ظواهر الطبيعة كما لو كانت النتيجة المباشرة لكائن فوق الطبيعة أو كائنات عدَّة من هذا النوع. في المرحلة الثانية تأتي طريقة التفكير الميتافيزيقية، وهي الطريقة التي يحاول الإنسان بواسطتها تفسير مصادر الأشياء وطبائعها، مستعيضًا عن الكائنات المتعالية بمبادئ مجردة. هنا تحلُّ مثُل أفلاطون، مثَلاً، محل آلهة الاغريق القديمة. في المرحلة الثالثة والأخيرة، يكون الإنسان قد ترك البحث عن المفاهيم المجردة والمطلقات، ومنها أصل الكون ومصيره، لكي ينصرف إلى دراسة القوانين العلمية الصارمة، أي علاقات المشابهة والتتابع بين الأشياء. ما يميز هذه المرحلة عن سواها أن كل التفسيرات فيها قابلة للاختبار لأنها نتيجة مراقبة. ولا مكان في هذه الطريقة للتفسيرات السببية اللاهوتية والميتافيزيقية، لأنها سابقة للعلم. ودعا كونت إلى أن تصير الطريقة العلمية أو الإيجابية طريقة كل الدراسات، وإلى أن تحل "فيزياء المجتمع" محل الميتافيزيق، فتغدو الفلسفة دراسة علمية للمجتمع وأداة فاعلة للانسجام الاجتماعي والسعادة الإنسانية. هذه النظرة تذهب بعيدًا جدًا إذْ لا تكتفي بإبراز طبيعة العلوم ووظيفتها، لكنها تنادي بمبدأ "العلميَّة" أو "العلمَوِيَّة" الذي ينظر إلى النشاطات الإنسانية من منظار العلوم، وبالتالي يلغي خصائصها المميزة. وإذا راجعنا أوهام العلم الثلاثة كما وصفناها، لوجدنا هذا المبدأ في أساسها. إلا أن مرحلية كونت، ببساطة، خطأ، لأنها عكس الواقع. فالشعر والدين والأُسطورة والفلسفة – وتحت هذه يقع جزء كبير جدًا من كل الحضارات – لا يمكن خفضها إلى إجابات بدائية عن أسئلة هي من اختصاص العلم. فها نحن في عصر متقدم علميًا، لكن هذه النشاطات لم تَبْطل، لأن لها ما تقوله بانفصال عن العلم والطريقة العلمية. ونحن، منذ معرفتنا للحضارة الإنسانية حتى اليوم، نعرف فيها الدين والفلسفة والعلم والشعر والفن، مجتمعةً ودون مراحل. لو كانت نظرة كونت صحيحة، لكان الشعر اليوم فيزياء وكيمياء وعلومًا أُخرى منظومة. إلى هذا نسأل: بأي منطق يقتضي كونت من العلم أن يكون أداة للسعادة؟ كيف نجد للسعادة البشرية وسلامة المجتمع مكانًا في العلوم، وهي لا تعطي أجوبة ولا تَطرح أسئلة هنا؟ إن الأسئلة العلمية هي من طبيعة السؤال الآتي: "ممَّ يتكون الماء؟". أما الأسئلة الدينية فهي من طبيعة السؤال الآتي: "لماذا أُحبَّ الإنسان الآخر؟". الإجابة عن السؤال الأول أمر تجريبي، بمعنى أنه إذا وُجد في تكوين الماء مادة ثالثة بالإضافة إلى الهيدروجين والأُوكسيجين تَغيَّر الجواب. أما الإجابة عن السؤال الثاني فأمر مستقل عن التجربة، بمعنى أنه غير إحصائي. فالمحبة أفضل من الكراهية، حتى وإن كان معظم الناس الذين نعرفهم مبغضين. من هنا كانت آراء طاليس العلمية، ومنها أن الأرض دائرة مسطحة عائمة على المياه، مضحكة في يومنا. أما كتابات المسرحيين والشعراء والأنبياء والفلاسفة، أمثال سوفوكليس وهوميروس وداود وأفلاطون، فما تزال منطبقة على وضعنا الإنساني المعاصر. هذا لأنَّ وجودنا الإنساني الأساسي لم يتبدل. فما يجعلنا أُناسًا، أي كائنات تتحدد بعلاقتها مع الله ومع الآخرين، هو نفسه ما كان أيام قدامى المسرحيين والأنبياء والفلاسفة والشعراء. لذلك يستطيع أُولئك أن يخبرونا عن وجودنا الإنساني الأساسي ما يخبرنا إياه المحْدَثون، ولا فرق البتة، بالنسبة إلى هذا الغرض، سواء آمنوا بنظرية بطليموس أو كوبرنيكوس أو أينشتين الكوزمولوجية، أو بأن الأرض قائمة على ظهر فيل يقف فوق سلحفاة[17]. يضاف إلى هذا أن العلم، الذي يجيب عن أسئلة من نوع "ممَّ يتكون الماء؟"، لا يجيب ولا يَسأل عن العلة الأُولى التي كوَّنت عناصر الماء وكوَّنت كل شيء آخر. فقولنا إن الماء جاء من الهيدروجين والأُوكسيجين صحيح، وقولنا إنه جاء من الله، خالق الأُوكسيجين والهيدروجين وخالق الكل، صحيح أيضًا. لكن الأسئلة الجوهرية أو المطلقة، كالسؤال عن العلة الأُولى لكل شيء، تقع كليًا خارج العلم والطريقة العلمية. ما تَقدم عرضه كان ثلاثة أوهام رئيسية من أوهام العلم. ويمكن تعداد عشرات الأوهام العلمية الأُخرى التي تنشأ من هذه الأوهام أو تُجاوِرُها. إلا أننا نكتفي بهذا الحد، منبِّهين مرة أُخرى إلى أن هذه الأخطاء لا تُلزِم مجمل ما يسمَّى علمًا، ولا هي مستمَدَّة من منهج العلوم أو من الطريقة العلمية. لكنها مغالطات يقع فيها بعض العلماء والمفكرين عندما يتخذون خطوات ناقصة من مقدمات علمية إلى نتائج فلسفية لا يمكن أن توصِل إليها مقدماتهم بأي منطق سليم. إنَّ النظرة الآلية أو المادية إلى الوجود، التي تتحوَّل إلى حتمية عند الكلام عن السلوك البشري، ليست نظرية علمية، وإن أُعطيت باسم العلم وسُخِّرت لها شواهد علمية. فالعلماء، إلى حد اشتغالهم بالعلم، لا يستطيعون القول بالآليَّة ولا بالإلهيَّة ولا بالحتميَّة. هذه مقولات تنتمي لا إلى العلم بل الى الفلسفة. والمؤسف أن الفلاسفة المحتكمين إلى العلم وأتباعَهم يسوِّقون آراءهم ونظرياتهم كما لو كانت معصومة عن الخطأ، لمجرَّد إلصاق صفة العلم ومشتقَّاتها بها. وكان الطبيب وعالِم النفس والفيلسوف الأميركي وليم جيمس (1842 – 1910) تَنبَّه إلى هذا الأمر وكتب، في أواخر القرن التاسع عشر، أنَّ في العقل البشري نزعة طبيعية ومادية متأصلة، لا يمكنها التسليم إلا بالحقائق الملموسة فعلاً. وتجد هذه النزعة في ما يسمَّى علمًا وثنها المعبود. وإحدى العلامات لمعرفة العابد هي ولعه بكلمة "عالِم". وهناك طريقة قصيرة للقضاء على أي رأي لا تؤمن به هذه النزعة، هي وصفه باللاعلميَّة[18]. من هنا أنطلق إلى تعيين بعض أوهام الدين، علمًا أن رأي وليم جيمس هذا ورد في إطار الردِّ على زعم بعض العلماء والفلاسفة المحتكمين إلى العلم أن الظاهرة الدينية تدخل في عداد الظواهر المرَضية، وأن واجب العلم دراسة أعراضها وأسبابها ونتائجها تمهيدًا لإيجاد العلاج الملائم لها. أوهام الدين 1. العلم يبرهن عن وجود الله الوهم الأول في هذا النطاق هو اقتناع بعض ممثلي الفكر الديني – وبينهم عدد من العلماء – بأن العلم يبرهن عن وجود الله. فالعلماء، عبر مراقبتهم كل ما في الوجود ودراسته في مختبرات الكيمياء والفيزياء وعلوم الأحياء وطبقات الأرض والبحار والفلك وما إليها، لا بدَّ من أن يقفوا مندهشين أو منشدهين أمام أمرين: حقيقة وجود الأشياء وكيفية وجودها. عن الأمر الأوَّل عَبَّر لودفيغ فيتكنشتاين (1889 – 1951)، أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين غير المؤمنين، بقوله إنَّ "الملغِز ليس في كيفية وجود الأشياء، بل في وجودها المحض"[19]. ولبث فيتكنشتاين هناك من غير أن يجد حاجة إلى تَحرِّي الملغِز، بعدما كان ليبنتز (1646 – 1716) قد تَتبَّع هذا الملغز انطلاقًا من سؤاله: "لماذا هناك شيء وليس لا شيء؟"... "كيف يمكننا تفسير أنَّ هناك شيئًا على الاطلاق؟"[20]. عن هذا السؤال، يرى بعض أصحاب الفكر الديني، وبينهم علماء كما قلنا، أن الجواب، وهو الاقرار بوجود الله الذي خلق كل شيء، ينتمي إلى العلم والطريقة العلمية. فلا يكفي أن يجيب العالِم عن تكوين الماء، مثلاً، بِعُنصرَي الهيدروجين والأُوكسيجين، إذْ يبقى السؤال قائمًا عن مصدر هذين العنصرين، لا بل عن مصدر المادة الأصلية التي يتكون منها كل ما في الكون، سواءٌ أسَمَّيناها الذرَّة أم أي شيء آخر. وهذا، في رأيهم، هو البرهان العلمي الأكيد على وجود الله. وهم يحتكمون إلى علماء كبار، مثل الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858 – 1947)، صاحب "نظريَّة الكَمّ" Quantum theory، الذي قال إن "الدين والعلم يشنَّان معركة مشتركة ودائمة ضد التشكيكية والتزمُّتية وعدم الإيمان والنزعة الخرافية. وصرختهما الواحدة في هذه المعركة هي: إلى الله"[21]. ويؤيد الفيزيائي البريطاني جيمس جينز (1877 – 1946) هذه النظرة بقوله إن الكون، لمن يتبصَّر فيه، يبدو من طبيعة الفكر أو الروح، لا من طبيعة المادة أو الآلة[22]. قبل التصدي لهذا الوهم الديني، فَلْننتقل إلى الأمر الآخر المتعلق به، وهو كيفية وجود الأشياء وترتيبها في هذا الكون. لا شك أن هناك نظامًا بديعًا يتجلى في كل ظواهر الكون، ومنها الحياة البشرية وعقل الإنسان. وما العلوم المختلفة سوى مراقَبة للنظام الذي تسير بموجبه الأحداث واكتشاف للمبادئ والقواعد والقوانين العامة في هذا النظام. هذا الانتظام في أحداث الطبيعة وأفعال الإنسان جَعل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804) يعبِّر عن إجلاله لظاهرتَين: السماء المشعَّة بالنجوم فوقه والضمير الخُلقي داخله[23]. كما جعل عددًا من الفلاسفة والعلماء المؤمنين يستنتجون، انطلاقًا من هذا النظام، سواءٌ في حركة الأفلاك أو في تَعاقب الفصول أو في الحياة الزراعية أو في جسد الإنسان أو الجسم الحي عمومًا أو في أيِّ ظاهرة طبيعية، وانطلاقًا من أن كل نظام إنما يحتاج إلى منظِّم، أن هناك منظِّمًا يختلف نوعًا عن كل كيان آخر، ألا وهو الله. إذا نظرنا الآن إلى هذا الوهم الديني، في جانبيه المتعلقَين بالوجود المحض وكيفية هذا الوجود، لرأينا أن ما يجعله وهمًا ليس تفسيره لفعلَي الخَلق والنظام، بل محاولته إرساء هذا التفسير على العلم أو الطريقة العلمية. العالِم لا يحتاج، في حدود عمله، إلى أيِّ نجدة ميتافيزيقية، سواء على هيئة العلة الفاعلة أو العلة النظامية، من أجل قيام علمه واستمراره. فالعالَم هناك، وكفى. وهو يعمل بانتظام، والعلم يتحرَّى هذا النظام في إطاره الطبيعي. ورُبَّ عالِمٍ كان غير مؤمن، ولم يَعِب عدمُ إيمانه علمَه، وربَّ عالِمٍ كان مؤمنًا، من غير أن يسعف علمَه إيمانُه. وإننا لواجدون من العلماء، ضليعهم وضئيلهم، نَفَرًا كبيرًا على أحد جانبي الإيمان واللاإيمان، أو في مكان أو آخر بينهما. أمَّا طرح السؤال عن أصل العالَم ومصدر نظامه ومحاولة الإجابة عنه فلن يضيفا ذرَّة واحدة إلى النتائج التي يخرج بها العلماء. لا بل إنَّ إقحام الميتافيزيق أو اللاهوت في نطاق العلم من شأنه أن يعرقل العلم والدين كليهما. فهو يعرقل العلم بإدخاله التفسيرات الغائيَّة إلى غير نطاقها. ويعرقِل الدين بجعله الله فرضية علمية، الأمر الذي يَؤول، في التحليل الأخير، إلى إنكاره باسم العلم والطريقة العلمية. والأحرى أن يكفَّ ذَوو الفكر الديني عن الاستنجاد بالعلم، وينظروا إلى الله من حيث هو يقين ميتافيزيقي أو وجودي، لا من حيث هو فرَضية علمية. 2. الدين يكمل ما يعجز عنه العلم الوهم الثاني من أوهام الدين هو ذاك القائل بأن الدين يكمل ما يعجز عنه العلم. ويذهب أصحاب هذه النظرة أو ضحايا هذا الوهم إلى أن العقل يأخذنا بعيدًا جدًا على طريق المعرفة، وإلى أن العلوم الكثيرة التي ابتكرها الإنسان تزوِّده بالأجوبة الملائمة عن معظم الأسئلة التي يحتاج إلى طرحها في حياته. إلا أنه يصل إلى نقطة تعجز عندها هذه العلوم عن الإجابة. وهنا بالذات يأتي دَور الايمان الديني، الذي يتجاوز العقل كما يُقال. هذه النظرة غير مقبولة، وإنْ توصَّل دعاتها في النهاية إلى الإيمان. فللإيمان الديني عمله منذ البداية، وهو لا يأتي لإكمال ما يعجز عنه العلم في مرحلة معينة. لكن إذا استطعنا أن نبدأ بالعلم من غير إيمان، وأن نقطع معه شوطًا بعيدًا جدًا بانفصال عن الإيمان، فلا شيء يمنع أن نتابع مع العلم من غير حاجة إلى إدخال الإيمان لسَدِّ الثغرات. وكما تَطوَّرت العلوم في الماضي، فهي ما تزال تتطور وتكسب أرضًا جديدة يومًا بعد يوم. هذا يعني أنه، انطلاقًا من هذه النظرة، لا حاجة إلى الدين كي يكمل العلم، لأن العلم قادر على إكمال نفسه بنفسه كما بيَّن تاريخ العلوم حتى الآن. هكذا يبدو أن نظرة التكامل من شأنها أن تفضي بنا إلى الاستغناء عن الدين مع القفزات الهائلة التي تشهدها العلوم باطّراد. ويجدر التذكير هنا بموقفَي الفيزيائيَّين نيوتن ولابلاس في هذا المجال. فطالما عمد نيوتن، كما مرَّ معنا، إلى نظرية التدخل الإلهي كلما لاحظَ شذوذًا عن مبدأ الجاذبية. وسرعان ما أفضت هذه الطريقة إلى نتيجة مضحكة عندما استطاع لابلاس إعادة تلك الحركات الشاذة إلى حضن القانون، وهي أن الإله "العلمي" الذي لاذَ به نيوتن هو بمثابة إله ثغرات، ما إنْ تُملأُ بالمحتوى العلمي الصحيح حتى يُستغنى عنه. لذلك آثَر لابلاس إبقاء الله – وهو كان مؤمنًا به عن غير طريق العلم – خارج نظرته، خوفًا من ألا يكون مصيره خيرًا من مصير إله نيوتن. ما حاوله نيوتن يشبه ما يحاوله بعض مفسِّري الخوارق أو المعجزات بإدراجها في نطاق الأحداث المجهولة الأسباب. لكن ماذا يحصل بمفهوم المعجز لدى العثور على الأسباب؟ لقد رأينا أن تاريخ العلوم يزخر بتطوُّرات هائلة في التفسيرات السببية، يغدو معها المجهول معلومًا. وإذا استطعنا اليوم تفسير ما عجزنا عن تفسيره أمس، وفَسَّرنا غدًا ما نعجز عن تفسيره اليوم، فهذا يوصلنا إلى نتيجة مربكة، هي أنَّ إعجاز الأمس قانون اليوم وإعجاز اليوم قانون الغد. وفي هذا معنى ضعيفٌ جدًا، لا بل مرفوض، للمعجز. هذا الوهم القائل بأن الدين يتابع ما يعجز عنه العلم يفتح مسألة فلسفية كبيرة، هي مسألة تَجاوُز العقل المرتبطة بمفهومَي الموضوعية والذاتية. هنا تصنَّف الحقائق العلمية تحت الموضوعية العقلية، فيما تصنَّف الحقائق الدينية تحت الذاتية التي تتجاوز العقل، حيث الموضوعي يشير إلى الشامل واليقينيِّ، والذاتي إلى الفردي أو الأقل شمولاً ويقينيةً. هذا يعني أن تصنيف الحقائق الدينية في النطاق الذاتي هو تسليم بافتقارها إلى الشمول أو إلى الدرجة اللائقة من اليقين. فتصريحنا بأن الله موجود يغدو، في ضوء هذه النظرة، أقل يقينيةً من تصريحنا بأن هذه الصفحة موجودة. لكن ما من مؤمن جادٍّ يمكن أن يقبل بهذه النتيجة، لأن وجود الله، بالنسبة إليه، أمر لا يقل موضوعيةً ويقينيةً عن وجود هذه الصفحة. والأحرى إعادة النظر إلى الذاتية والموضوعية كمفهومَين نسبيَّين، بمعنى أنه ليس هناك ذاتية واحدة ولا موضوعية واحدة. فموضوع المراقبة العلمية مختلف عن موضوع التذوُّق الفني أو موضوع التأمل الديني، وموقف الذات يختلف بالتالي من موضوع إلى آخر. مما تستتبعه نظرتنا هذه إبطال القول بدرجات لليقين تبدأ، في أعلاها، بالرياضيات وتتحرك نزولاً على خط واحد إلى العلوم الطبيعية فالعلوم الاجتماعية، لتنتهي في أسفل الخط نفسه بالدين وبقيَّة الخبرات الشعورية. والأحرى أن يكون لكل موضوع أو نوع من الموضوعات خطَّه المعرفي المستقل، حيث تتدرج مراتب اليقين في خانة منطقية واحدة ضمن الموضوع الواحد. فَشُروط اليقين في الرياضيات غَيْرها في العلوم الطبيعية وغيرها في الدين. هذا يعني أنه لا يمكن القول بأن المعرفة الرياضية أكثر يقينيةً من المعرفة العلمية، وأن المعرفة في نطاق الدين أدنى يقينيةً من كل المعارف، أو أنها خارج حدود اليقين كليًا. والأحرى أن نتكلم عن مراتب لليقين والصحة والخطأ داخل العلم أو الحقل الواحد، فنقول إن هذه الطريقة العلمية أشد ملاءمةً من تلك الطريقة – العلمية أيضًا – للوصول إلى نتيجة ما، أو إن هذه الفرضية الرياضية أقوى احتمالاً مـن تلك الفرضية – الرياضية أيضًا – لحلِّ مسألة معينة. هذا يبيِّن لنا الموقع الخطر الذي يصل إليه أُولئك المدافعون الدينيون الذين يقبلون الهجوم المسلَّح بالموضوعية والطريقة العلمية، فيذعنون لحجب صفة الموضوعية عن الدين، ويحيلونه على مرتبة ذاتية ولكن لها مقدارها الخاص من اليقين في نظرهم. فالقول بأن الحقائق الدينية ذاتية يعني أنها نفسية محض، ولا وجود لها ككيانات في العالم الخارجي. أما التمييز الملازم للموضوعي والذاتي، أي التمييز بين العقل وما يتجاوز العقل، فيكشف عن استمرار الرضوخ لمبادئ الخصم، مع محاولة الذهاب أبعد منها. أن نَعقل شيئًا ما أو موضوعًا ما يعني أن نتنبَّه إلى وجوده، أن نحيط به، أن ندركه، أن نحلِّله، أن نعبِّر عنه... وبما أن الموضوعات التي نعرفها أو نقيم معها علاقة مختلفةٌ كثيرًا في ما بينها – فبعضها مادي وبعضها غير مادي، بعضها حسِّي وبعضها غير حسِّي – كان لا بد من اختلاف صيغة التنبُّه والإحاطة والادراك والتحليل والتعبير من موضوع إلى آخر. فإذا كانت حقيقة الله وحقيقة هذه الصفحة حقيقتين موضوعيتين، فإدراك وجود الحقيقة المادية التي هي الورقة مختلف عن إدراك وجود الحقيقة الروحية التي هي الله. وهكذا الإحاطة بكل من هاتين الحقيقتين ووصفها والتعبير عنها. هذا يعني أن العقل ليس مفهومًا واحدًا جامدًا، لكنه يختلف باختلاف المعقول. والقول بأن لكل موضوع أو نشاط عقله يعني أن له نطاقه ومنطقه. أما إخراج الدين من دائرة العقل فيؤدي إلى إخراجه من دائرة المعقول. هكذا يَظهر مفهوم تَجاوُز العقل في أكثر معانيه مباشَرةً، وهو "اللاعقل". وما من مؤمن يرتضي أن يضع حياته الدينية خارج العقل بهذا المعنى. لكن ما هو الإيمان؟ وهل هناك ملَكة لدى الإنسان اسمها الحسُّ، وأُخرى مختلفة عنها اسمها العقل، وثالثة مختلفة عن كلتيهما اسمها الإيمان؟ إنَّ علم النفس اليوم لا يتكلم عن قوى أو ملكات في الذهن، بل يتكلم عن الإنسان ككلٍّ. فالذي يحس ويَعقل ويؤمن إنسان واحد. وهو إنما يحس ويعقل ويؤمن بكيانه كله. أما أن نجعل من العقل قوة مستقلة عن الحس، ومن الإيمان قوة مستقلة عن العقل، فهذا يعني، بالنسبة إلى الدين، أمرين على الأقل، هما أنَّ نطاقَي المحسوسات والمعقولات منفصلان تمامًا عن نطاق الدين، وأنَّ الإيمان تسليم أعمى بسلطان خارجي. وهناك فعلاً مؤمنون من كل الأديان يتصرفون على هذا النحو، فينساقون إلى هذه السلطة الدينية أو تلك انسياقًا أعمى، ويتفاعلون مع أحداث الحياة كما لو كانت مقتصرة على المحسوس والمعقول، وكما لو كان النطاق الوحيد للإيمان قابعًا في عالم آخر وراء العالم وحياة ثانية تبدأ بعد هذه الحياة. 3. النزعة الإلغائيَّة هذا يقودنا إلى الوهم الثالث من أوهام الدين، الذي يمكن تسميته بِوَهم الإلغائيَّة[24]. وهو يختص بالدين في ذاته، لا بالعلاقة بين الدين والعلم أو بين الدين وأي نشاط إنساني آخر. إنه النزعة الإلغائية لدى بعض غلاة المتدينين تجاه ذوي الأديان الأُخرى أو المذاهب الأُخرى. هنا ينظر المؤمن إلى دينه كما لو كان وحده الدين الصحيح أو الأصح، الكامل أو الأكمل، وإلى الأديان الأُخرى كما لو كانت على جانب واحد من الحق، أو كما لو كانت تجافي الحق تمامًا. وهناك مَن يصنِّف الأديان إلى "سماوية" و"غير سماوية"، ناظرًا إلى دينه على أنه أرفع الأديان السماوية، وإلى المنظومة الأُخرى من الأديان على أنها، في أحسن حالاتها، رسالات في الأخلاق والاصلاح الاجتماعي جاءت على أيدي حكماء أو معلمين لا على أيدي أنبياء أو مرسَلين. هذه النظرة الإلغائية من شأنها أن تفضي، على الصعيد النظري، إلى فكر ديني سجالي، لعلَّه ذاك الفكر الذي ساد معظم الألفية الثانية. وهو، بانطلاقه من أنَّ ثمَّة دينًا واحدًا صحيحًا يُبْطِل ما عداه، ينتقل إلى كل مسائل الحياة الدينية ليمارس الطقوس أو الشعائر أشكالاً جامدة مفرغة من مغزاها، ويركز على اسم جماعته مستخدمًا كل الوسائل لطمس الأسماء الأُخرى، ويفهم بالتسامح نوعًا من العفو عند المقدرة، ويجعل هدف الحوار الديني تحويل الآخر عن دينه إلى الدين "الصحيح" عبر ما يعتبره جدالاً منطقيًا. أما على الصعيد العملي، فربما أسفرت هذه النظرة – وطالما فعلت – عن اختلال في موازين السلام الاجتماعي والعالمي، هذا الاختلال الذي يفضي، في أقصى حالاته، إلى الحروب الدينية الأهلية والقومية التي كانت من أقسى الحروب في التاريخ. ولا نَنْسَ الحركات الإرهابية الحاصلة اليوم باسم الدين. ولا تقتصر النزعة الإلغائية على العلاقات بين الأديان، بل نجدها على أشدِّها بين المذاهب داخل الدين الواحد. هنا تَعتقد فئة في دين معين أنها وحدها "الفرقة الناجية"[25]، مصنِّفةً ما عداها في عداد "الفرق الهَلْكى". وطالما أدَّى هذا التصنيف إلى حالات مثل التكفير والحَرْم وحتى التصفية الجسدية. لا عجب، إذًا، أن يكون وَهْم الإلغائية هذا من أقوى الدوافع التي جَعلت عددًا من علماء النفس والاجتماع، ولا سيما من أتباع الخط السلوكي الحديث، يربطون الدين بالعُصاب على الصعيد النفسي والتعصب على الصعيد الاجتماعي. ولا يجدي احتماءُ بعض أصحاب الحميَّة الدينية بزعمهم أن ما تَدْرسه العلوم السلوكية ليس هو الدين، لكنه انحرافات بشرية تنتحل صفة الدين. ففي كل دين جانب إلهي هو الرسالة السماوية، وجانب بشري هو تفسير هذه الرسالة والعمل بمقتضاها. لذلك لا يجوز اللجوء إلى ذاك النوع من الدفاع الذي يميِّز بين "حسْن استعمال" و"سوء استعمال". ولا بدَّ من التسليم بأن هناك "دينًا" و"دينًا"، لا على الصعيد الإلهي طبعًا بل على الصعيد البشري: واحدًا سليمًا والآخر سقيمًا. النوع الأول، الدين الخارجي – الشكلي، هو التربة التي ينمو فيها التعصب. والنوع الثاني، الدين الداخلي – الجوهري، هو المهد الذي يولد فيه التسامح. في كل الأديان نجد هذين "الدينَين"، على تفاوت في الدرجات. فالمتعصِّب مؤمن، لا بل هو حارٌّ في إيمانه. لكن هذا النوع من الحرارة حارق له وللآخرين. ولعلَّ من أشد مظاهر الإلغائية تطرفًا نظام الحكم الذي يسمِّي نفسه دينيًا، ويتولاَّه أُناس يتوهَّمون أنهم ينفِّذون مشيئة الله. إنَّ بناء الحكم على الدين يمنح الحاكم نوعًا من الاطلاقية يظن معه أنه ظلُّ الله على الأرض وأنه يفعل إرادة الله في كل ما يفعل. لكن إذا كان هذا صحيحًا، فكيف يمكن تفسير الانقلابات والاغتيالات التي ينفِّذها الحكَّام الدينيون بعضهم على بعض، باسم الدين والتصحيح الديني، ثم لا يلبث "المصحِّحون" أن يتعرضوا للمعاملة ذاتها في حركات تصحيح مضادة؟ إنَّ الحكام الدينيين ليسوا سوى بَشَر، يحمِّلون الله كل موبقاتهم. ولنتذكر قول المفكر الألماني لودفيغ فويرباخ (1804 – 1872): حيثما أُقيمَ الحق على السلطة الإلهيَّة، يمكن تبرير أشد الأُمور سوءًا وظلمًا[26]. خطَّة لِنَزْع الأوهام هذه هي أوهام العلم وأوهام الدين التي ارتأينا اختيارها ووصفها، بعدما حَدَّدنا بعض عواملها. ويبقى السؤال: ما العمل للخروج من هذه الأوهام؟ القصة اللاحقة تطول هي أيضًا، وتشكِّل موضوعًا قائمًا في ذاته. لكني سأختصرها في ثلاث خطوات. الخطوة الأُولى تقتضي تحديد المفاهيم على جانبَي العلم والدين. وهذا يتمُّ عبر طرح أسئلة عن ماهية العلم ونطاقه ومنطقه، كما عن ماهية الدين ونطاقه ومنطقه، لنحصل على فلسفة للعلم وفلسفة للدين نستطيع في ضوء كل منهما التمييز بين ما هو صحيح ومخطئ أو ملائم وغير ملائم في الفكر الذي يدَّعي الاحتكام إلى العلم أو إلى الدين في إرساء مناقشاته. الخطوة الثانية هي توزيع العمل أو اقتسامه بين الدين والعلم. فمتى نشأت فلسفة صحيحة للعلم وفلسفة صحيحة للدين، بات من الأسهل كشفُ الأوهام على كلا الطرفين، وهي كثيرة جدًا ولا تقتصر على تلك التي حدَّدناها، وابتكارُ طرق لإزالتها من العقول والنفوس. هكذا تترسخ في أذهان الناس، وفي الحضارة عمومًا، ماهية كل من النشاطَين الحيويَّين، مع الأنماط الممكنة لحسن استعماله وسوء استعماله. ولا بد من الاشارة إلى أنه، مهما بلغ التبايُن بين النطاقَين والمنطقَين، فالعلم والدين يتلاقَيان في حياة الإنسان الواحد، لأن الانسان واحد ذاك الذي يمارس الدين ويواجه العلم والفلسفة ويحاول أن يعرف كل شيء على نحو أفضل. ومن الطبيعي أن يبدو هذا التداخل المحتوم أحيانًا لمصلحة الدين وأحيانًا ضد هذه المصلحة. لكن الإنسان، الذي يحصل التداخل ضمن حياته، هو الذي يتولَّى المصالحة. ولئن كان الدين يقف اليوم على خط دفاع عسير، وسط الكثير من النظرات والأنظمة المادية والتشكيكية والإلحادية، فلأنَّ هذه المصالحة لم تحصل على نحوٍ مرْضٍ إجمالاً[27]. الخطوة الثالثة هي تطبيق الطرق التي أشرنا إليها. هنا يأتي دَور التربية والتعليم أولاً، بدءًا من المرحلة التأسيسية على وجه الخصوص، لأن العلم في الصغَر أساس كل علم. ولمبسِّطي العلم والدين والفلسفة، من مؤلِّفي كتب مدرسية ومعلمين وسواهم، عمل ضخم في هذا المجال. لكن يجدر بالإدارات التربوية اختيار المعلمين وإعدادهم، بحيث يكون معلِّمو العلوم عارفين بمنطق الدين ونطاقه ومعلِّمو الدين عارفين بمنطق العلوم ونطاقها، وبحيث يأتي عملهم داخل الصف منسجمًا، كأنما هم عازفون في أُوركسترا واحدة. ويأتي الإعلام رديفًا للتعليم. وهو نوع من التعليم المستمر الموجَّه إلى مختلف قطاعات المجتمع. وهناك مؤسسات أُخرى ذات دَور فعَّال في هذا المجال، أهمها مراكز البحث العلمي والجمعيات الدينية. أيَكون هذا البرنامج طَموحًا جدًا وغير واقعي؟ إنَّ الطموح سمة كل برنامج أو تَصوُّر أو تخطيط، وإلا فَقدَ صفة التطلع وراء ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون. أما أن يكون غير واقعي، فالأمر ليس هكذا حتمًا إذا نحن نَشَدْنا الأفضل على الدوام. بِغَير هذا الخيال الخلاَّق، الذي هو من مستلزمات العلم السليم والدين الصحيح، لن يحصل أي سعي أو تَقدم. ولئن كان من صرخة مشتركة بين العلم والدين فهي: إلى الإنسان، من أجل تألُّقه في أكمل بهاء يستطيع بلوغه. لكن مهما فعلنا لمحاربة الأوثان في نطاقَي العلم والدين، الممتدَّين على كامل مساحة حياتنا وعالمنا، فلسوف يشرئبُّ وثن من هنا ربما لم نلاحظه وآخر من هناك قد يكون متواريًا أو ملتبسًا، أو لعلَّه يكون مولودًا جديدًا لأحد العقول اليافعة أو اليائسة أو البائسة. أجَل، فلنعمل معًا للقضاء، ما استطعنا، على الأوثان. ولا نيأسنَّ من عدم زوالها كلِّيًا – لأنَّ وثن القبيلة، بالعودة إلى تصنيف فرنسيس بيكون الذي بدأنا به، باقٍ ما بقيت القبيلة، ووثن الكهف دائم ما دام الكهف، ووثن السوق هناك في أروِقة السوق، ووثن المسرح من طبيعة المسرح. لكن طوبى للعقل المتنوِّر، لأنه سراج يضيء وسط الظلام. ٭ د. أديب صعب فيلسوف لبناني. أُستاذ الفلسفة لثلاثة عقود في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، الذي انبثقت منه جامعة البلمند. له رباعية في فلسفة الدين (دار النهار، بيروت): الدين والمجتمع (1983)، الأديان الحيَّة (1993)، المقدِّمة في فلسفة الدين (1994)، وحدة في التنوُّع (2003)، إضافةً إلى كتاب في النقد الثقافي بعنوان هموم حضارية: في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة (2006). من مجموعاته الشعرية: أجراس اليوم الثالث ومملكتي ليست من هذا العالم.
[1]
تَعتمد هذه الدراسة بكثافة على رُباعية المؤلف في الفكر الديني. انظر: أديب
صعب: كما أقترح الكتب الآتية حول العلاقة بين العلم والدين، ومنها كتب تأسيسية تعود إلى الربع الثاني من القرن العشرين:
- Jacques Arnould, Dieu versus Darwin, Paris: Albin
Michel, 2007.
|
|
|