|
لا يمكن إزالة الشرِّ عن طريق القوة المادية للدولة٭
جئتُ لألقي نارًا على الأرض -قال المسيح- فماذا أريد لو اضطرمت؟
المسيحية، في معناها الحق، تقوِّض الدولة. هكذا فُهمت منذ البداية لذا صُلب المسيح، وفهمها دائمًا على هذا النحو الناس غير المقيَّدين إلى ضرورة تبرير الدولة المسيحية. فقط منذ اعتناق رؤساء الدول مسيحيةً اسميةً ظاهريةً بدأوا بابتكار كل تلك النظريات المعقدة المستحيلة التي يمكن بموجبها الجمع بين المسيحية والدولة. لكن بالنسبة لأيِّ شخصٍ صداقٍ وجادٍّ في زماننا لا يمكن ألا تكون جليةً استحالة الجمع بين المسيحية الحق – تعليم الوداعة وغفران الإساءة والمحبة – وبين الدولة بإكبارها العنف والإعدام والحروب. إنَّ المسيحية الحق لا تنفي فقط إمكانية الاعتراف بالدولة بل وتقوِّض أسسها. لكن حتى إذا كان الجمع بين المسيحية والدولة صائبًا فمن الطبيعي أن ينشأ السؤال التالي: ما الذي يلزم أكثر لخير الإنسانية، ما الذي يكفل خير الناس أكثر: شكل الحياة الدولتية أم تقويضه واستبدال المسيحية به؟ يقول بعضهم إنَّ الإنسانية بحاجة أكثر إلى الدولة، وإنَّ القضاء على صيغة الدولة سيجرُّ خلفه القضاء على كلِّ ما أبدعته البشرية، وإنه كيفما كانت الدولة فإنها تبقى الصيغة الوحيدة لتطور البشرية، وإنَّ كلَّ ذلك الشر الذي نراه لدى الشعوب، التي تعيش ضمن صيغة الدولة، لا يحدث بسبب هذه الصيغة بل من جراء سوء الاستخدام الذي يمكن إصلاحه دون القضاء على الدولة، وإنَّ البشرية قادرة، دون تقويض صيغة الدولة، على التطور وبلوغ أعلى درجات الرخاء. والناس الذين يفكرون على هذا النحو يوردون، لإثبات صواب رأيهم، حججًا فلسفيةً وسياسيةً وحتى دينيةً تبدو لهم دامغةً. لكن هناك أناسًا يعتقدون العكس، وبالتحديد، بما أنَّ البشرية كانت تعيش من دون صيغة الدولة في وقتٍ ما، فإنَّ هذه الصيغة مؤقتة، وسوف يأتي وقت يحتاج البشر فيه صيغةً جديدةً، وإنَّ هذا الوقت قد حلَّ الآن. وهؤلاء الناس كذلك، لتأكيد رأيهم، يوردون حججًا فلسفيةً وسياسيةً ودينيةً تبدو لهم دامغة. بالإمكان كتابة مجلدات دفاعًا عن الرأي الأول (وقد كُتبت منذ زمنٍ بعيد، وما زالت تكتب حتى الآن) لكن يمكن أيضًا كتابة (كذلك كُتب الكثير، وبصورة رائعة، وإن منذ فترة قريبة) الكثير ضدَّه. ويستحيل إثبات – كما يفعل المدافعون عن مفهوم الدولة – أنَّ القضاء على الدولة سيجرُّ خلفه فوضى اجتماعية، ونهبًا متبادلاً، وجرائم قتل، والقضاء على كافة المؤسسات الاجتماعية، وعودة البشرية إلى الهمجية؛ وكذلك يستحيل إثبات – كما يفعل معارضو مفهوم الدولة – أنَّ البشر قد أصبحوا عقلاء وأخيارًا إلى درجة أنهم لن ينهبوا ويقتلوا بعضهم بعضًا، وأنهم سيفضِّلون التعايش السلمي على العدوان، وسينشئون بأنفسهم، دون مساعدة الدولة، كلَّ ما يلزمهم، وأنَّ الدولة – لهذا السبب – ليست فقط لا تساعد على ذلك، بل على العكس، بحجَّة حماية الناس تؤثِّر فيهم تأثيرًا ضارًّا يجعلهم عنيفين. ليس بالإمكان إثبات ذلك من خلال التجربة إذ إنَّ السؤال هو هل ينبغي أم لا ينبغي تجربة ذلك. إنَّ مسألة هل آن أوان إلغاء الدولة أم لا لكانت غير قابلة للحلِّ لو لم تكن هناك طريقة أخرى للعيش تشكِّل حلاً لا جدال فيه للمسألة. بغضِّ النظر كليًّا عن الجدال حول ما إن كانت الأفراخ في العش قد كبرت لكي تنقر القشرة وتخرج من البيض أو أنها لم تكبر بعد، الأفراخ هي التي ستحلُّ المسألة بشكل حاسم حين تكبر ولا يعود البيض يتَّسع لها، حيث ستبدأ بنقرها بمناقيرها وستخرج منها من تلقاء ذاتها. الأمر ذاته مع السؤال: هل حان الوقت أم لا ليقوم البشر بالتخلص من صيغة الدولة واستبدال صيغة جديدة بها؟ إذا كان الإنسان، نتيجةً لنمو الوعي لديه، لم يعد قادرًا على تنفيذ متطلبات الدولة، ولم تعد الدولة تتّسع له، فضلاً عن أنه لم يعد بحاجة إلى حماية صيغة الدولة، فإنَّ السؤال ما إن كان البشر قد باتوا راشدين أم لا لتغيير صيغة الدولة يُحلُّ من منحى مختلف كليًّا، وكذلك بصورة حاسمة، كالفرخ الذي يفقس من البيضة التي لا يمكن لأيِّ قوَّة في العالم إعادته إليها، من قبل الناس أنفسهم الذين كبروا على الدولة، والذين لا تستطيع أيُّ قوَّة إعادتهم إليها. "محتملٌ جدًّا أنّ الدولة كانت لازمة، وما زالت لازمة، لتحقيق كلِّ الأهداف التي تنسبونها إليها – يقول الشخص الذي هضم فهم الحياة المسيحي – لكني أعرف فحسب أنني لم أعد بحاجة إلى الدولة، من جهة، ومن جهةٍ أخرى لم أعد قادرًا على القيام بالأعمال اللازمة لوجود الدولة. أنشئوا لأنفسكم ما تحتاجونه من أجل حياتكم، لا يمكنني إثبات الضرورة العامة للدولة، ولا ضررها، لكني أعلم فحسب ما أنا بحاجة إليه وما لستُ بحاجة إليه، وما هو مسموحٌ لي وما هو ممنوع. بالنسبة إليَّ أعلم أني لست بحاجةٍ إلى فصل نفسي عن الشعوب الأخرى لذا لا يمكنني الإقرار بانتمائي المتميِّز إلى أيِّ شعبٍ أو دولةٍ، ولا بولائي لأيِّ حكومة كانت؛ أعرف عن نفسي أنني لست بحاجة إلى جميع تلك المؤسسات الحكومية التي تُقام داخل الدولة لذا لا يمكنني حرمان الناس المحتاجين إلى نتاج عملي، وإعطاؤه، على شكل ضرائب، لأناسٍ لست بحاجةٍ إليهم، ولمؤسساتٍ ضارَّة على قدر علمي؛ أعرف عن نفسي أنني لست بحاجة إلى الإدارات والمحاكم التي هي نتاج العنف لذا لا يمكنني المشاركة لا في هذه ولا في تلك؛ أعرف أنني لست بحاجة إلى غزو الشعوب الأخرى وقتلها، ولا إلى حماية نفسي منها والسلاح بيدي، لذا لا يمكنني المشاركة في الحروب، ولا الإعداد لها. محتملٌ جدًا أنَّ هناك أناسًا لا يمكنهم ألا يعتبروا هذا كله لازمًا وضروريًا، لا يمكنني مجادلتهم، فأنا أعرف فقط فيما يخصُّني لذا أعرف يقينًا أنني لست بحاجةٍ إلى ذلك، وأنني لست قادرًا على القيام بذلك، ولست بحاجةٍ إليه، ولست قادرًا عليه، ليس لأنني، شخصيًا، أريد ذلك بل لأنَّ الذي أرسلني إلى الحياة، ومنحني قانونًا لا ريب فيه يقودني في هذه الحياة، لا يريد ذلك." أيًّا كانت الحجج التي يقدِّمها الناس لإثبات أنَّ إلغاء سلطة الدولة ضارٌّ، وأنَّ إلغاءها قد يتسبَّب بكوارث، فإنَّ الذين كبروا على سلطة الدولة لم يعد بإمكانهم حشر أنفسهم فيها. وأيًّا كانت، وكيفما كانت، الحجج التي تُقدَّم لإنسانٍ قد كبر على صيغة الدولة عن مدى ضرورتها، فإنه لم يعد قادرًا على العودة إليها، ولم يعد قادرًا على المشاركة في أعمالٍ منافيةٍ لإدراكه، كما لا يمكن للأفراخ التي كبرت العودة إلى البيوض التي فقست منها. "لكن إذا كان هذا صحيحًا – يقول المدافعون عن النظام القائم – فإنَّ إلغاء عنف الدولة ممكنٌ ومرغوبٌ فقط بعد أن يصبح البشر جميعًا مسيحيين. لكن، إلى أن يحدث ذلك، مادام هناك، وسط الذين يُسمَّون مسيحيين، أناسًا غير مسيحيين، أناسًا أشرارًا مستعدين للإضرار بالآخرين من أجل رغباتهم الخاصة، فإنَّ إلغاء سلطة الدولة ليس فقط لن يكون خيرًا بالنسبة للناس الآخرين بل سيجعل مصيبتهم أكبر فحسب. إلغاء صيغة الحياة الدولتية ليس مستحسنًا ليس فقط حين تكون هناك قلَّة قليلة من المسيحيين الحقيقيين بل كذلك حين يغدو الجميع مسيحيين مع بقاء أناسٍ غير مسيحيين بينهم أو من حولهم، بين الشعوب الأخرى، لأنَّ غير المسيحيين سوف ينهبون ويقهرون ويقتلون المسيحيين، ويجعلون عيشهم ضنكًا، دون أن يُعاقَبوا. سيحدث فقط أنَّ الأشرار سوف يتسلَّطون على الأخيار ويقهرونهم دون عقاب. لذا لا يجب إلغاء سلطة الدولة إلى أن يتمَّ القضاء على جميع الأشرار المتوحشين في الدنيا. وبما أنَّ هذا مستحيل، أو بعيد المنال على الأقل، ورغم محاولات بعض المسيحيين للتحرُّر من سلطة الدولة، فيجب الإبقاء على هذه السلطة من أجل معظم البشر". هذا ما يقوله المدافعون عن الدولة. يقولون: "من دون الدولة سوف يقهر الأشرارُ الأخيارَ ويتسلَّطون عليهم. سلطة الدولة تمنح الأخيار القدرة على قمع الأشرار." لكن المدافعين عن النظام القائم، بتأكيدهم ذلك، يقرِّرون مسبقًا صواب الوضع الذي يجب عليهم إثبات صوابه. بقولهم إنَّ الأشرار سيتسلَّطون على الأخيار من دون الدولة، يعتبرون أنَّ الأخيار هم الذين يحوزون السلطة في الوقت الراهن، وأنَّ الأشرار هم المخضوعون. لكن هذا بالتحديد هو ما يجب إثباته. لكان هذا صوابًا لو أنَّ في عالمنا حدث – رغم أنه لا يحدث في الصين لكن الصينيين يرون أنَّ هذا ما يجب أن يكون – أن يحكم دائمًا الأخيار، وأن يُطيح المواطنون برؤساء الحكومات إذا لم يكونوا أخيارًا بقدر الذين يحكمونهم. هذا هو الاعتقاد السائد في الصين، لكن، في الواقع، لا وجود لهذا، ولا يمكنه أن يحدث لأنه، من أجل تقويض سلطة حكومة قاهرة، لا يكفي امتلاك الحق في ذلك بل يجب امتلاك القدرة على ذلك. بالتالي، حتى في الصين هذا ما يُفترض فحسب. لكن في عالمنا المسيحي لم يُفترض هذا قط. في عالمنا ما من أساس حتى لافتراض وجوب أن يحكم الأخيار أو الناس الأفضل، وليس الذين استولوا على السلطة واستأثروا بها لأنفسهم ولورثتهم. وللاستحواذ على السلطة والاستئثار بها لا بدَّ من محبَّتها. وحبُّ السلطة لا يجتمع مع الطيبة بل يجتمع مع صفات مناقضة للطيبة: مع الغرور والخبث والقسوة. من دون تعظيم الذات والحطِّ من الآخرين، من دون نفاقٍ وكذب، من دون سجونٍ وقلاعٍ وإعدامٍ وقتل، لا يمكن لأيِّ سلطة أن تنشأ وتستمر. "إذا ما أُلغيت سلطة الدولة فسوف يتسلَّط الأكثر شرًّا على الأقلِّ شرًّا" – يقول المدافعون عن الدولة. لكن إذا كان المصريون القدماء قد أخضعوا اليهود، والفرس أخضعوا المصريين، والمقدونيون أخضعوا الفرس، والرومان أخضعوا اليونان، والبرابرة أخضعوا الرومان؛ فهل يُعقل أنَّ كلَّ الذين أُخضعوا كانوا أخيارًا أكثر من الذين أخضعوهم؟ والأمر ذاته فيما يتعلَّق بانتقال السلطة في دولة ما من أيدي أناسٍ إلى أيدي آخرين: هل انتقلت السلطة دائمًا إلى الأصلح؟ حين تمَّ إسقاط لويس السادس عشر وتسنَّم السلطة روبسبير ثمَّ نابليون، من الذي حكم: الأخيَر أم الأشرَّ؟ ومتى حكم الأخيَر: حين تسنَّم السلطة الفيرساليون أم الكومونيون؟ أو حين حكم شارل الأول أم كرومويل؟ أو حين كان بطرس الثالث قيصرًا أم حين قُتِل وحكمت كاترينا جزءًا من روسيا، وبوغاتشوف الجزء الآخر؟ من كان آنذاك الشرير، ومن كان الخيِّر؟ كلُّ الذين يكونون في السلطة يؤكِّدون أنَّ سلطتهم ضرورية لكي لا يقهر الأشرار الأخيار، قاصدين بهذا أنهم أخير الناس، وأنهم يحمون الأخيار من الأشرار. لكن التسلُّط يعني الإكراه، والإكراه يعني القيام بما لا يريده المُكرَه، والذي – ربما – لا يريده المُكرِه لنفسه؛ بالتالي التسلُّط يعني أن نفعل بالآخرين ما لا نريد أن يُفعَل بنا، أي عمل الشرِّ. الخضوع يعني تفضيل الصبر على العنف، وتفضيل الصبر على العنف يعني أن يكون المرء خيِّرًا أكثر أو، على الأقلِّ، أقلَّ شرًّا من الذين يفعلون بالآخرين ما لا يتمنونه لأنفسهم. ولهذا فالاحتمال الأكبر دائمًا هو أن يحكم، ويحكم الآن، ليس الأخيَر، بل على العكس، الأشرَّ من الذين يحكمونهم. قد يكون هناك أشرار بين المحكومين لكن لا يمكن أن يحكم الأخيارُ الأشرارَ. كان مستحيلاً التسليم بهذا في ظلِّ التحديد الوثني غير الدقيق للخير، أما في ظلِّ التحديد المسيحي الواضح والدقيق للخير والشرِّ بات مستحيلاً عدم الاعتقاد بذلك. إذا لم تكن هناك في العالم الوثني إمكانية لتمييز الأكثر أو الأقلِّ خيرًا من الأكثر أو الأقلِّ شرًّا، فإنَّ المفهوم المسيحي للخير والشرِّ قد حدَّد بمنتهى الوضوح صفات الأخيار والأشرار بحيث بات مستحيلاً الخلط بينهم. وفق تعليم المسيحي، الأخيار هم الودعاء الصابرون الذين لا يقاومون الشرَّ بالعنف، وينفرون من الإساءة، ويحبون أعداءهم؛ والأشرار هم المتكبِّرون الذين يتسلَّطون، ويقاتلون ويقهرون الناس، وبالتالي ما من شكٍّ – بموجب تعليم المسيح – في موضع الأخيار والأشرار بين الحاكمين والمحكومين. بل حتى من المضحك الحديث عن حكَّام مسيحيين. اللامسيحيون، أي الذين يرون حياتهم في الخيرات الدنيوية، دائمًا يحكمون، ويجب أن يحكموا، المسيحيين، أي الذين يرون حياتهم في الزهد في هذه الخيرات. هكذا كانت الحال دائمًا، وباتت أوضح فأوضح تبعًا لانتشار واتِّضاح التعليم المسيحي. فكلما انتشرت الحقيقة المسيحية، واستوعاها الناس، أكثر كلما قلَّت إمكانية أن يكون المسيحيون بين المتسلِّطين، وكلما سهل أكثر على اللامسيحيين التسلُّط على المسيحيين. "إنَّ إلغاء عنف الدولة، قبل أن يصبح كلُّ الناس في المجتمع مسيحيين حقيقيين، سوف يؤدي إلى تسلُّط الأشرار على الأخيار، وقهرهم دون عقاب!" يقول المدافعون عن نظام الحياة القائم. "الأشرار سوف يتسلَّطون على الأخيار ويقهروهم." لكن، هكذا كانت الحال دائمًا، ولا يمكنها إلا أن تكون هكذا. هكذا كانت الحال منذ بدء الخليقة، وما زالت حتى الآن. الأشرار يتسلَّطون على الأخيار دائمًا ويقهرونهم. قابيل قهر هابيل، يعقوب الماكر تسلَّط على عيسو الذي وثق به، لابان على يعقوب بعد أن خدعه، قيافا وبيلاطس تسلَّطا على المسيح، الأباطرة الرومان تسلَّطوا على على أمثال سينيكا وإبكتيتوس والرومان الطيبين الذين عاشوا في زمانهم، إيفان الرابع بقمعه، وبطرس السكِّير بألعابه، والعاهرة كاترينا بعشاقها، تسلَّطوا على الروس الكادحين المتدينين في زمانهم وقهروهم. ويلهلم تسلَّط على الألمان، ستامبولوف على البلغار، الموظَّفون الروس على الشعب الروسي، الألمان تسلَّطوا على الطليان، ويتسلَّطون الآن على الهنغار والسلاف، الأتراك تسلَّطوا ويتسلَّطون على السلاف واليونان، الإنكليز يتسلَّطون على الهنود، والمنغول على الصينيين. وبالتالي، سواء أُلغي عنف الدولة أم لم يُلغَ فإنَّ حال الأخيار، المقهورين من قِبَل الأشرار، لن تتغيَّر من جرَّاء ذلك. لا يمكن إطلاقًا تخويف البشر من أنَّ الأشرار سيتسلَّطون على الأخيار لأنَّ ما يخوِّفونهم منه هو ما كان دائمًا، وما زال، ولا يمكن إلا أن يكون. مجمل تاريخ البشرية الوثني مؤلَّف فقط من الأحداث التي عن طريقها استولى الناس الأكثر شرًّا على السلطة على الأقلِّ شرًّا، وبعد الاستيلاء عليها بالقسوة والمكر عزَّزوها وتسلَّطوا على الأخيار، مقدِّمين أنفسهم كرعاةٍ للعدالة وحماةٍ للأخيار من الأشرار. كلُّ الانقلابات في التاريخ ليست سوى استيلاء على السلطة من قِبَل الأكثر شرًّا وهيمنتهم على الأخيار. إنَّ قول المتسلِّطين إنه لولا سلطتهم لاستبدَّ الأشرار بالأخيار معناه فقط أنَّ القاهرين الموجودين في السلطة لا يريدون التخلِّي عن هذه السلطة لقاهرين آخرين يريدون سلبهم إياها. بكلامهم هذا المتسلِّطون يفضحون أنفسهم فحسب. إنهم يقولون إنَّ سلطتهم، أي العنف، ضرورية لحماية الناس من قاهرين آخرين ما، أو من قاهرين قد يظهرون[1]. يكمن خطر استخدام العنف في أنه ما إن يُستخدَم، فإنَّ كلَّ الحجج التي يوردها القاهرون دفاعًا عن أنفسهم بالإمكان استخدامها ضدَّهم، وبطريقة مبرَّرة أكثر. إنهم يتحدَّثون عن عنفٍ سابقٍ، وعن عنفٍ لاحق مُتخيَّل غالبًا، في حين أنهم، هم أنفسهم، يمارسون عنفًا فعليًّا دون توقف. "تقولون إنَّ البشر كانوا فيما مضى ينهبون ويقتلون، وسينهبون ويقتلون، بعضهم بعضًا لولا سلطتكم. قد يحدث هذا، وقد لا يحدث، لكن كونكم تُهلكون آلاف الناس في السجون والأشغال الشاقة والمنافي والقلاع، وتدمِّرون ملايين الاُسر وتُهلكون، جسديًا وأخلاقيًا، ملايين البشر في الجيش، فإنَّ هذا ليس عنفًا افتراضيًا بل هو عنفٌ فعليٌّ، ويجب محاربته بالعنف، حسب رأيكم. لذا، فإنَّ الذين لا بدَّ من استخدام العنف ضدَّهم هم أنتم أنفسكم". هذا ما يجب أن يقوله المقهورون للقاهرين. والناس اللامسيحيون يقولون ويفكِّرون ويتصرَّفون دائمًا على هذا النحو. إذا كان المقهورون أشرَّ من الذين يقهرونهم فسوف ينقضّون عليهم ويُسقطونهم، وهم يُسقطونهم عندما تكون الظروف مؤاتية، أو – الأكثر اعتيادية – سينخرطون في صفوف القاهرين ويشاركونهم قهرهم. بالتالي، فإنَّ ما يُخوِّف منه الناس المدافعون عن "الدولتية"، بأنه لو لم تكن هناك سلطة قاهرة لتسلَّط الأشرار على الأخيار، هو ذاته ما حدث ويحدث في حياة البشرية، لذا فإنَّ إلغاء عنف الدولة لا يمكنه أن يكون، في أيِّ حالٍ من الأحوال، سببًا لازدياد عنف الأشرار تجاه الأخيار. إذا زال عنف الدولة فقد يمارس أناسٌ آخرون العنف، وليس الذين كانوا يمارسون العنف من قبل، لكن كميّة العنف لا يمكنها أن تزداد، في أيِّ حالٍ من الأحوال، من جراء انتقال السلطة من أيدي بعض الناس إلى أيدي آخرين. "يمكن لعنف الدولة أن يتوقَّف فقط بعد القضاء على الناس الأشرار في المجتمع" – يقول المدافعون عن النظام القائم، ويقصدون بذلك أنه بما أنه سيكون هناك دائمًا أناسٌ أشرار فإنَّ العنف لن يتوقَّف أبدًا. ولكان هذا صحيحًا فقط لو كانت الحال كما يعتقدون، بالتحديد، أنَّ القاهرين هم الناس الأخير، وأنَّ الوسيلة الوحيدة لتخليص الناس من الشرِّ هي العنف. حينذاك، بالتأكيد، لا يمكن للعنف أن يتوقَّف أبدًا، لكن بما أنَّ الحال ليست كذلك، أي أنَّ الأخيار يقمعون الأشرار، بل على العكس من ذلك، أي أنَّ الأشرار هم الذين يقمعون الأخيار، وبما أنَّ هناك وسيلة أخرى غير العنف، الذي لم يوقف الشرَّ يومًا، للخلاص من العنف، فإنَّ تأكيد أنَّ العنف لن يتوقَّف أبدًا ليس صحيحًا. العنف يغدو أقل فأقل، وجليٌّ أنه يجب أن يتوقَّف، لكن ليس بالطريقة التي يتصوَّرها بعض المدافعين عن النظام القائم، أي أنَّ الناس المُعرَّضين للعنف، نتيجةً لتأثير الحكومات فيهم، سوف يصبحون أفضل فأفضل (على العكس، هم يصبحون أسوأ فأسوأ نتيجةً لذلك) وإنما نتيجةً لأنَّ – بما أنَّ كلَّ البشر يصبحون أفضل فأفضل باستمرار – الناس الأشر، المتواجدين في السلطة، سيغدون أفضل بكثير بحيث يصبحون غير قادرين على استخدام العنف. الترجمة عن الروسية: هڤال يوسف ٭ الفصل العاشر من كتاب ملكوت الله في داخلكم، ليف تولستوي، ترجمة هڤال يوسف، معابر للنشر، 2010. (عنوان الفصل مترجم عن النسخة الإنكليزية للكتاب). [1] يثير الذهول إلى حدِّ الفكاهة، في هذا الخصوص، تأكيد السلطات الروسية، التي تقهر شعوبًا أخرى: البولونيين وألمان أوستيزيا واليهود، الحكومة الروسية التي تقمع رعاياها لقرون، ولم تهتم بالأقزام في بولونيا، ولا باللاتفيين في إقليم أوستيزيا، ولا بالفلاحين الروس، هؤلاء الناس المُستغَلِّين بشتى السبل، تصبح فجأةً حاميةَ المضطهَدين من المضطهِدين، والذين هي ذاتها تضطهدهم.
|
|
|