|
أضواء على العنف السياسي
كثيرة هي الأحداث العظيمة في شهر رمضان الأبرك، وكثيرة هي الفضائيات التي خصصت برامج ولقاءات وندوات ومسلسلات عن هذه الأحداث، التي جرت في شهر رمضان، كمعركة بدر، وفتح مكة، وفتح عين جالوت. ورغم تفاوت نشاط وفعالية الدعاة والخطباء والفضائيات وعدد مشاهديها فإن هناك ما هو مشترك بينها، وهو التعتيم على ذكرى اغتيال سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، الذي جرى في 19 رمضان 40 هجرية، في مدينة الكوفة، بينما كان أمير المؤمنين خارجًا من منزله متوجهًا إلى المسجد، داعيًا الناس، الصلاة، الصلاة. كمن له عبد الرحمن بن ملجم المرادي وسدد له ضربة على جبهته بسيف مسموم صارخًا: "الحكم لله لا لك يا علي". و"الحكم لله" هو الشعار الأساسي للخوارج الذي رد عليهم الإمام علي قائلاًَ: "كلمة حق يراد بها باطل". وكان من وصية الإمام: "لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من أراد الآخرة فأخطأها كمن أراد الدنيا فأصابها". وأستشهد أمير المؤمنين بعد يومين من إصابته، ليكون الخليفة الثاني الذي يقتله حزب الخوارج بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي قتله الخوارج داخل منزله وبين يديه المصحف الشريف يتلوا منه آيات الله تبارك وتعالى، بعد حصار لمنزله وصل درجة منع الطعام والماء. ومكانة الإمام علي في الإسلام معروفة لأجيال المسلمين، فهو ربيب الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه نشأ وترعرع في بيت النبوة. وكان أول الناس مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد دخلا في الإسلام. ومكانة الإمام علي في الإسلام معروفة، حتى أن عددًا من المواطنين العرب المسيحيين ألفوا عنه العديد من الكتب، ومن بينهم جورج جرداق الذي ألف 5 كتب بعنوان علي بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية، وكذلك نصري سلهب الذي ألف كتابًا بعنوان في خطى علي. وبعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الشاعر عن مكانة وأسبقية الإمام علي:
ما كنت أحسب أن الأمر منصـرف عن هاشم ثم منهم عن
أبي الحسن فهل الذين اغتالوا أمير المؤمنين كانوا من الفرس أم الروم؟ أم أنهم كانوا من الكفار وعبدة الأصنام؟ الحقيقة المرة، أن الذين اغتالوا أمير المؤمنين هم من المسلمين، ومن أكثر الناس صلاة وصيامًا وسجودًا وتهجدًا، وهم الخوارج، الذين كفروا جميع المسلمين، واعتبروا أن الإسلام حكر عليهم، كذلك خاضوا عشرات المعارك مع سيدنا الإمام علي، ومع خلفاء بني أمية وبني عباس، ما أدى إلى سفك دماء الآلاف المسلمين وإزهاق أرواحهم، بدون طائل، وبلا أية نتائج، وذلك لأن العنف لا يبني ولا يصلح بل يهدم، ولا يحقق تقدمًا، بل يدفع بالناس مراحل إلى الخلف، ويزيدهم شقاء ورهقًا. وإن تجاهل حدث بحجم وأهمية ومدلولات اغتيال الخليفة الراشد الرابع، لا يغير الحقيقة، وإنما يدل على وجود أزمة في تفكيرنا وبخاصة في أوساط الدعاة والخطباء والفقهاء، وهم في ذلك كغيرهم من قادة الرأي الذين يعانون وتعاني معهم ومنهم الأمة وأجيالها. لا يجدر بنا تجاهل ذكرى اغتيال الإمام علي بن أبي طالب، وذلك لأن محاولة التهرب من الحقيقة يعني التواطؤ مع الخلل، وليس التصدي لإصلاحه. فإن الاعتراف بوجود أزمة وخلل هو بمثابة الخطوة الأولى في مراحل التشخيص الدقيق والدراسة والعلاج واستخلاص العظات والعبر. لكن مشكلتنا نحن الدعاة، وغيرنا من قادة الرأي العام، أننا نخلط بين تاريخ الإسلام وبين تاريخ المسلمين، لأننا نفترض أن السلبيات التي جرت خلال عصور المسلمين وتعاقب أجيالهم، إنما هي سلبيات تنسب للإسلام. ونحن بهذا الخلط نتجاهل حقيقة أن الرسول صلى الله عيه وسلم وحده يمثل الإسلام، لأنه يوحى له من السماء، ومع ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى وجه له عتابًا مباشرًا وواضحًا من أجل حق مؤمن واحد، فكيف بجرائم الاغتيال والمعارك والحروب التي طحنت أجيالاً من المسلمين. وعتاب الخالق للرسول عليه الصلاة والسلام ما زال قرآنًا يتلى: "عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكِّر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة". (عبس 80 : 1-11). إذا درس الدعاة والساسة والمعلمون والإعلاميون، وغيرهم من قادة الرأي العام، تاريخنا دراسة جدية علمية دقيقة، ووقفوا عند كل منارات المجد والإنجاز والفخار، وهي كثيرة جدًا، ولم يقفوا عند محطات الخلل، فإننا بذلك نتعاطى مع التاريخ كأنه مسلسل للتسلية وللتأثير، وليس منجمًا فيه كثير من الدروس والخبرات التي يتعلم منه الأحفاد من خبرات ونجاح وفشل الأجداد. ودراسة التاريخ واجب شرعي وفريضة دينية، ومسؤولية تجاه أولادنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة. إذ لا يكفي حفظ بعض قصص وأحداث وتكرارها في المنابر، وفي وسائل الإعلام. فالأمة التي لا تدرس تاريخها دراسة عميقة متأنية كأنما تتنازل عن ذاكرتها، ولا خير في أمة لا تدرك أهمية ذاكرتها وواجب حمايتها مما تتعرض له من نمط وعظي استعراضي، وكذلك من استهداف قوى الاستكبار لذاكرتنا ولغتنا، والتلاعب بهويتنا. فنبقى عربًا في شعاراتنا وصهاينةً في أدائنا ومواقفنا، ومسلمين في خطابنا، وأدوات تخدم أعداء الأمة بإنتاجها مزيدًا من الضعف والهوان. يدرك الاحتلال أهمية دراسة التاريخ في الصراع. لذلك يصرف كثيرًا من الجهد والوقت والمال على دراسة فترات الاحتلال الفرنجي الأوروبي للقدس، ولمساحة من وطننا تمتد من شمال حلب إلى شمال مصر. ويتجلى دلك من عدد المؤرخين الإسرائيليين الـ 25 الأعضاء في جمعية "علماء الصليبيات" ومركزها لندن، بينما لا يتجاوز عدد المؤرخين العرب في الجمعية ذاتها 7 مؤرخين فقط. ويقول المفكر محمد الطالبي: "من اعتنى بالتاريخ فقد ضم إلى عمره أعمارًا وإلى تجربته تجارب". وكما يقول المفكر محمد جابر الأنصاري: "لا يمكننا تغيير التاريخ لكن يمكننا الاعتبار به". ويقول مفكر آخر: "التاريخ كالطب لا مجاملة فيه". لماذا نجامل بعضنا بعضا؟ بل لماذا نغش بعضنا بتجاهل تاريخ أمتنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من غش فليس منا"، وغش الذات أخطر أنواع الغش؟ اغتال عبد الرحمن بن ملجم الخليفة الراشد الرابع بدافع تقوى الله، وصرخ بعد إصابته لأمير المؤمنين: "فزت ورب الكعبة". يشكل هذا الفكر التكفيري الغريب، والبعيد عن رسالة الإسلام، خطرًا حقيقيًا على الأمة في كل أطيافها وشرائحها وفئاتها العمرية، ويفرض عليها مزيدًا من الضعف والهوان والإذلال. عبد الرحمن بن ملجم من الخوارج الذين اعتبروا أن سفك الدماء وإزهاق الأرواح بمثابة قربان إلى الله، ولهذا قال زعيمهم وشاعرهم مفتخرًا بالقاتل ابن ملجم:
يا ضربة من منيب ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش
رضوانا عدم دراسة التاريخ دراسة العلماء الفقهاء الباحثين عن الحقيقة، وعن كل منارات وعمل الصالحات والإنجاز والمجد، وكذالك عن محطات الفساد والخلل والانجراف والعنف، يجعلنا نكرر المآسي والخطايا، وبالتالي الوقوع في شراك العنف والاغتيال السياسي. فقد قرر (الجهاز الخاص)، وهو جهاز سري عسكري لجماعة الأخوان المسلمين، اغتيال محمود باشا النقراشي رئيس وزراء مصر ووزير داخليتها، الذي قرر بعد تحقيقات واعتقالات سحب ترخيص جماعة الأخوان المسلمين في غمرة حملة اعتقالات واسعة وشرسة. وجرى تنفيذ اغتيال الرجل في 28-12-1948. وبعد هذا التاريخ بـ 46 يومًا جرى اغتيال الشيخ حسن البنا المرشد العالم والمؤسس لجماعة الأخوان المسلمين في 12-2-1949. والعنف والاغتيال هما فعلان لا عقلانيان. وذلك لأن اغتيال رئيس الوزراء لم يترك الحكومة في مصر بدون رئيس، فقد جرى تكليف إبراهيم عبد الهادي خلفًا له فأدار آلة القمع والاعتقالات بدرجة أكثر قسوة مما فعل سلفه القتيل. وكذلك لأن اغتيال الشيخ حسن البنا لم يهدم جماعة الأخوان المسلمين فكرة وتنظيمًا، بل إن عدد الذين يؤمنون بفكر الشيخ حسن البنا، بعد 60 عامًا من اغتياله، هم أضعاف عددهم في يوم اغتياله. معارضة حكومة أو هيئة حقٌ، لكن استخدام العنف، واللجوء إلى العمل السري، لم يحقق للمسلمين، ولا لغيرهم، على مدى عصورهم، خيرًا أو إنجازًا واحدًا. فإن اغتيال الخوارج للإمام علي بن أبي طالب أنهى الخلافة الراشدة، ومهد الطريق لما أطلق عليه المؤرخون (الملك العضوض). العنف والاغتيال السياسي لم يحققا للأمة أية نتائج، وذلك لأن الاغتيال السياسي يقتل ويهدم، حتى لو اقترف تحت شعارات طيبة مقدسة. فاغتيال الرئيس السادات وغيره من الاغتيالات الكثيرة لم يحقق لمصر ولا للعرب وللمسلمين أية نتائج طيبة، وذلك لأن الإصلاح العميق والجذري لا يتحقق بتغيير الحاكم أو المنافس أو الخصم، وإنما بإحداث تغيير في المواطنين كي يراهنوا على أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، وهي العقل والإيمان والصبر والقدرة على العمل الجماعي. ومشهد وطن العرب وبلاد المسلمين بعد نحو 1400 عام من تكفير الخوارج لغيرهم من المسلمين ما زال مأساويًا لأنه يعاني من العنف والاقتتال والحروب الأهلية. هذا العنف الذي يعاني منه عشرات الملايين في العراق واليمن والصومال والسودان، وغيرها من الأقطار، بغض النظر عن التفاصيل، وذلك لأن رفض الآخر وتكفيره، وما ينتجانه من إزهاق للأرواح، لم يتوقف في شهر رمضان الأبرك؛ فالقاتل صائم، والقتيل صائم أيضًا؛ فهل أراد الله سبحانه وتعالى من صيامنا الامتناع عما أحله الله من طعام وشراب، والخوض في سفك الدماء وقتل الناس؟ يعرف الناس، في كل العصور، أن بعضًا من الفساق والفجار من المسلمين يمتنعون عن فسقهم وفجورهم في رمضان ويرجعون مع هلال شوال. فهل من يقتلون الناس يوميًا يفتقرون إلى حياء الفجار والفساق؟ إن الخوارج فرضوا على أجدادنا عنفًا ومعارك واغتيالات ذهب ضحيتها عشرات آلاف المسلمين، ولكن فكر الخوارج في مطلع القرن الحادي والعشرين يشكل أخطارًا أفدح من القرن الأول للهجرة، وذلك لوجود قوى إقليمية وعالمية تدفع أمتنا ووطننا نحو العنف واللاعقلانية وسفك الدماء. ويجمع المؤرخون على حقيقة أن الخوارج الذين قتلوا سيدنا الأمام علي بن أبي طالب، وتسببوا في سفك دماء عشرات آلاف من المسلمين، لم تحركهم أو تدعمهم أي جهة خارج حدود الوطن، ولم يملكوا مدارس ووسائل إعلام تحقن الناس بالكراهية ورفض الآخر وإقصاءه وما ينجم عنهما من عنف. إن مقاومة العنف لا تكون بالسيف ولا بالقمع والقهر والملاحقة، ولا باعتباره (قضية أمنية)، وإنما تكون بقراءة صحيحة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة التي دعت الناس إلى الهدى والرحمة وعمل الصالحات والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبتطوير التعليم، وتفعيل الحركة الثقافية، والتنوير والتوعية، وبالقراءة اليومية، ومقاومة الفساد والاستبداد، وبالتالي العمل على تحقيق العدالة والحرية وتكافؤ الفرص، وصولاً إلى تحقيق الشراكة الفعلية بين جميع المواطنين. وذلك بوضع الناس حدًّا لإذعانهم، وإدراكهم لقوتهم وقدرتهم على العمل الجماعي والجهد المؤسسي والعمل بروح الفريق باللاعنف، وهو سلاح المستضعفين وكل المعنيين بالإصلاح في كل زمان ومكان. |
|
|