مأساة إبليس٭

 

صادق جلال العظم

 

“I am the spirit that ever denies”
فاوست- غوته

القسم الأول

تمهيد:

لو حاولنا أن نحدد المشاعر الرئيسية التي عبَّرت بها الأديان الساميَّة الثلاثة عن علاقة الإنسان بالإله لوجدنا إنها تنحصر في المحبة والخوف والكراهية: محبة الله، والخوف من جبروته وعقابه، وكره عدوه إبليس. عالج المفكرون الدينيون هذه المشاعر وأفردوا لها الصفحات والكتب، وكانت أقوالهم عن إبليس بين المحاولات "الجدية" لمعرفة المكانة التي يحتلها في نظام الكون وتحديد علاقته بالإله واستقصاء الغاية التي وجد من أجلها، وبين مجرد الاستفاضة في شرح تلبيسه على البشر وتلقينهم التعاليم والتعاويذ المعروفة بغية أبعاده واتقاء شره. لاشك في أن كل واحد منا يحمل في مخيلته صورة معينة عن شخصية إبليس ورثها كجزء لا يتجزأ من ثقافته التقليدية وتربيته الدينية. ولا أجدني مضطرًا لأن استرسل طويلاً في إعادة هذه الصورة إلى الأذهان لأنها معروفة جيدًا لدى الجميع. كان إبليس من المقربين بين الملائكة وكان له شأن عظيم في نظام الملأ الأعلى، إلى أن عصى أمر ربه فطرده من الجنة ولعنه لعنة أبدية، فأصبح بذلك تجسيدًا لكل ما هو شر، وجمع في ذاته كافة الخصائص التي تنتفي عن الله. ونلاحظ هنا أن اسمه يدل على جوهره وهو "الإبلاس" أي اليأس التام من رحمة ربه ومن العودة إلى الجنة (وفقًا للتفسيرات الإسلامية التقليدية لمعنى الإبلاس). ومن منا لا يعرف المثل الذي يضرب بأمل إبليس في الجنة دلالة على الأمل الضائع كل الضياع. تدل كلمة إبليس عند الجميع على الدس والفتنة والوسوسة والإفساد والعصيان وما إليه من الصفات الشنيعة والقبيحة التي جسَّدها خيال البشر في شخصية واحدة هي الشيطان. وعلى مر العصور أضفت مخيلة الإنسان قوى كبيرة وقدرات عظيمة على إبليس: منها الطاقات الفكرية الخلاقة والقوى الفنية المبدعة ومنها القدرة على القيام بخوارق الأعمال وعجائب الأفعال حتى أصبح إبليس يلي الإله مباشرة من حيث قوته وقدرته ومنجزاته. وقد ألف الإمام جمال الدين ابن الجوزي كتابًا سماه تلبيس إبليس[1]. أحاط فيه بالطرق التي يلبس بها إبليس على البشر فيبعدهم عن طريق الصلاح. والطريف في هذا الكتاب أنه لا يرسم لنا الصورة التقليدية الشائعة لشخصية إبليس فحسب وإنما يسبغ عليه، من حيث لا يعلم ولا يدري، قوى خلاقة مبدعة تثير الإعجاب والتقدير. وعلى سبيل المثال يعزو ابن الجوزي معظم الحركات الدينية والفكرية الكبرى التي قامت في تاريخ الحضارة الإسلامية إلى عمل إبليس، ويجعله مسؤولاً عنها، فيحوِّله بذلك إلى فيلسوف كبير ومتكلم قدير. يقول إمامنا المحترم إن السفسطائية، والدهرية، والطبائعية، وأديان الشرق الأقصى، والمسيحية، وعلم الكلام، وفرقة المعتزلة هي من أعمال إبليس ونتيجة لتلبيسه على المفكرين والعلماء[2]. كما أنه يرد حركة الخوارج والرافضة والزهد والتصوف إلى تلبيسه على أئمة هؤلاء القوم بما فيهم أبو طالب المكي والإمام الغزالي[3]. ويقول عن بعض الآراء الفلسفية ما يلي

إن أرسطو طاليس وأصحابه زعموا أن الأرض كوكب في جوف هذا الفلك، وأن في كل كوكب عوالم كما في هذا الأرض وأنهارًا وأشجارًا... فانظر إلى ما زيَّنه إبليس لهؤلاء الحمقى مع ادعائهم كمال العقل[4].

كما يقول عن تلبيس إبليس على أهل اللغة والأدب ما يلي:

قد لبَّس على جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب[5].

نستنتج إذن أن الفكرة الشائعة عن مقدرة إبليس لا تنحصر في مجرد اعتباره مصدر أغواء الناس عن سلوك الطريق القويم بل تتعدى ذلك لتشمل قوى واسعة وقدرات عظيمة لو أخذناها بعين الجد لظهر لنا أن إبليس يسيِّر قسمًا كبيرًا من مجرى الأحداث، ويعتبر مسؤولاً عن معظم الحركات الفكرية والفنية والسياسية في تاريخ الحضارة.

بعد هذه المراجعة السريعة للصورة التقليدية الشائعة عن إبليس وسلطانه أريد أن أبين أن هدف هذه الدراسة هو إعادة النظر في قصة إبليس ودراسة شخصيته وموقفه ومسؤوليته ومصيره على ضوء جديد يختلف عما ألفناه من عقائد وأفكار سيطرت على تصورنا لهذا المخلوق. أما المراجع الأولية التي سأعتمد عليها فهي الآيات القرآنية التي تروي لنا قصة إبليس وسيرته وبعض المؤلفات التي تركها لنا المفكرون المسلمون الذين اهتموا بإبليس وشخصيته وعصيانه ووظيفته ونهايته.

ولكن، قبل أن أدخل في صلب الموضوع أريد أن يتضح للجميع أن بحثي يدور في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الاطلاق، ألا وهو أطار التفكير الميثولوجي–الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية. أنني لا أريد معالجة قصة إبليس باعتبارها موضوعًا يدخل ضمن نطاق الإيمان الديني الصرف، ولا أريد أن أتكلم عنه باعتباره كائنًا موجودًا وحقيقيًا وأنما أريد دراسة شخصيته باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية وطوَّرها وضخمها خياله الخصب. عند التفكير بموضوع إبليس أجد نفسي واقفًا وجهًا لوجه أمام تراث ميثولوجي–ديني عريق في قدمه وتاريخه. وجل ما أريد تحقيقه هو دراسة إحدى الشخصيات الرئيسية التي انحدرت إلينا مع هذا التراث شرط أن نبقى ضمن حدود المعطيات البديهية للتفكير الميثولوجي وبدون أن نخرج عن مسلماته الأولية.

ومن هنا يجدر بي أن ألفت الانتباه إلى أن الفكرة المسبقة والشائعة عن الأسطورة وعن أهميتها بعيدة قليلاً عن حقيقة الدور الذي تلعبه الأساطير في حياة الإنسان وفي تركيب حضارته. لقد اعتدنا أن نقول عن أمر ما أنه من باب الأساطير والخرافات لنحط من شأنه ونبعد أذهان الناس عنه ولننفي عنه صفات الواقعية والموضوعية ولنبين أنه مجرد وهم وخيال. لذلك أرى أنه لا بد من الاستطراد، ولو قليلاً، في شرح بعض الحقائق الهامة عن طبيعة الأسطورة وعن أهمية التفكير الميثولوجي بالنسبة للإنسان والمجتمع.

عرَّف الفلاسفة الإنسان بأنه حيوان ناطق. وإذا كان الإنسان حيوانًا ناطقًا فلا شك كذلك بأنه "حيوان خرافي". فكما أنه الحيوان الوحيد الذي يتصف بالمنطق فأنه الحيوان الوحيد أيضًا الذي ينسج الخرافات والأساطير ويحولها إلى ميثولوجيات معقدة يؤمن بها إيمانًا جازمًا كما لو كانت حقائق واقعة لا ريب فيها. التفكير الأسطوري إذن صفة جوهرية من صفات الإنسان ووجه هام من أوجه نشاطه العقلي بالمعنى الواسع للعبارة. لذلك وجَّه الكثيرون من الباحثين اهتمامهم إلى دراسة نشاط الإنسان الخرافي لما يكشفه من الحقائق الأساسية عن الإنسان وعن مجتمعاته وقدراته وثقافاته وحضاراته. وعلى سبيل المثال، عندما أتكلم في هذا البحث عن "مأساة إبليس" لا بد أنكم ترجعون في أذهانكم إلى الارتباط العضوي القديم بين المأساة والدراما من جهة وبين الميثولوجيا والتفكير الأسطوري من جهة أخرى. كما أن إعادة النظر في هذه الشخصية الأسطورية التي درجنا على تسميتها بإبليس ستتفتق عن أبعاد ونتائج هامة بالنسبة للدين والفن والفلسفة. وقد بذل الباحثون جهودًا كبيرة لشرح العلاقات والارتباطات العضوية بين التفكير الأسطوري وبين الأبعاد الدينية والفنية والفلسفية لأية معضلة من المعضلات الكبرى التي يواجهها الإنسان. الميثولوجيا بحد ذاتها كانت ولا تزال دينًا بالقوة لأنها تحتوي في قالبها المرن غير المحدد الأطراف والأبعاد على عناصر المواساة والتعزية الضرورية لكل دين، وعلى خصائص التعبير الفني الخلاقة والاستجابة الجمالية للمؤثرات التي تحيط بالإنسان، وعلى نزعة نحو تعليل الأحداث وتفسير الوجود والتساؤل عن أصله وغايته. بالإضافة إلى ذلك كانت الأسطورة، ولا تزال، الوسط الذي واجه الإنسان فيه مشكلاته الكبرى والدائمة كالموت والمصير والشر وأصل الأشياء وغايتها ومعناها. لذلك كان التفكير الميثولوجي يشكِّل دومًا قوة حضارية خلاقة يغرف منها الفكر الديني والتأمل الفلسفي والتعبير الفني باستمرار. وزيادة في الإيضاح سأستشهد بنص كتبه الفيلسوف الإلماني أرنست كاسيرر الذي يعتبر من الرواد الذين درسوا طبيعة الأسطورة وبينوا علاقتها الجوهرية بباقي أوجه النشاط العقلية والروحية والفنية عند الإنسان. يقول كاسيرر في تحديده لعالم الأسطورة، وهو العالم الذي حصرت نفسي فيه في هذا البحث، ما يلي:

فعالم الأسطورة عالم درامي – عالم أعمال وقدرات وقوى متصارعة. والأسطورة ترى هذا الاصطدام بين تلك القوى في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة. والادراك الأسطوري مفعم دائمًا بهذه الخصائص العاطفية، فكل ما يرى أو يحس محاط بجو خاص – جو من الفرح أو الحزن أو العذاب أو الهياج والاستبشار والغم. في حال الأسطورة لا نستطيع أن نتحدث عن "الأشياء" باعتبارها مادة ميتة أو هامدة، فكل شيء ثمة خيِّر أو شرير، صديق أو عدو، مألوف أو غريب، جذاب معجب أو منفرد متوعد[6].

سأختتم هذا الجزء التمهيدي من بحثي بالتأكيد على أن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية. إن تركيب اللغة يتطلب مني بطبيعة الحال أن أكتب وأتكلم بطريقة معينة توحي في الظاهر وكأن الشخصيات التي أذكرها موجودة بالفعل ولكن يجب ألا يخدعنا هذا الوهم اللغوي، فلو كنت أكتب عن الأمير هاملت مثلاً فلن يعتقد أحد منكم بأن لهذا الاسم مسمى خارج نطاق التراث الأدبي الذي تركه لنا شكسبير. كما أنه عندما نقول "قتل هملت عمه" فإننا لا نعتقد بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الدانمارك. كذلك عندما نقول "طرد الله إبليس من الجنة" يجب ألا نظن بأن مثل هذه الحادثة وقعت في تاريخ هذا الكون، لأن مغزى هذا الكلام ومعناه يكمن في كونه رمزًا لا في كونه وصفًا لأحداث وقعت بالفعل.

القسم الثاني

إذا رجعنا إلى المصادر التي قلنا إننا سنعتمدها في دراستنا لقصة إبليس نجد أن سيرته تبدأ بوصف لمكانته المرموقة في نظام الملأ الأعلى، وعرض للمنزلة الرفيعة التي كان يتمتع بها بين الملائكة قبل طرده من الجنة. يقول الإمام عز الدين المقدسي في كتابه تفليس إبليس مخاطبًا الشيطان:

وأنت الذي خلقك الله بيد قدرته. وأطلعك على بدائع صنعته. ودعاك إلى حضرة قربته. وألبسك خلع توحيده. وتوَّجك بتاج تقديسه وتحميده. وجعلك تجول في مجال ملائكته. يقتبسون من نورك. ويستأنسون بحضورك. ويهتدون بعلمك. ويقتدون بعملك. فما برحت في الملأ الأعلى. تشرب بالكأس الأملى. وتتلذذ بالخطاب الأحلى. طالما كنت للملائكة معلمًا وعلى الكروبين مقدمًا[7].

ومن ثم تصف لنا الآيات القرآنية ماذا حدث لإبليس وكيف عصى ربه فلعنه إلى يوم الدين وطرده من الجنة:

وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون.
وعلَّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين.
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. (بقرة، 30-34)

... وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من صلصال من حما مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حما مسنون. قال فاخرج منها فأنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين، قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، قال رب بما أغويتني لأزينن لهم الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. (الحجر، 28-41)

ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين، قال انظرني إلى يوم يبعثون. قال إنك من المنظرين، قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذؤمًا مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين. (الاعراف، 10-17).

تبدو قصة إبليس، كما وردت في هذه الآيات، بسيطة في ظاهرها؛ لقد أمره الله أن يقع ساجدًا لآدم فرفض وكان ما كان من شأنه، غير أنه لو أردنا أن نتجاوز هذه النظرة السطحية إلى مشكلة إبليس لرجعنا إلى فكرة هامة قال بها بعض العلماء المسلمين وهي التمييز بين الأمر الإلهي وبين المشيئة أو الإرادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال إما أن يطاع وينفذ وإما أن يعصى، وللمأمور الخيار في ذلك. أما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنها بطبيعتها لا ترد، وكل ما تتعلق به المشيئة الإلهية واقع بالضرورة. لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أنه أمر عباده بالابتعاد عنها كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخرى[8]. لذلك باستطاعتنا القول بأن الله أمر إبليس بالسجود لآدم ولكنه شاء له أن يعصى الأمر، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجدًا لوقع ساجدًا لتوه إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية. إذا نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية بإمكاننا أن نعتبر الأمر والنهي أشياء طارئة وعرضية إذا قيست بسرمدية المشيئة الربانية وقدم الذات الإلهية.

عندما نعيد النظر في الآيات القرآنية التي أثبتها في الصفحات السابقة يتبين لنا أن الله أراد للملائكة "أن يسبحوا بحمده ويقدسوا له". ويقول الطبري في تفسيره الشهير إن "التسبيح والتقديس" هما توحيد الله وتنزيهه وتبرئته مما يضيفه إليه أهل الشرك به[9]. وبعبارة أخرى يشكِّل التوحيد واجب الملائكة الأول والمطلق نحو خالقهم، ولذلك نراهم منغمسين في أدائه بكل كيانهم ووجودهم، أما بقية الواجبات المفروضة على الملأ الأعلى فتعتبر عرضية وثانوية بالنسبة للواجب المطلق الذي ينبع من المشيئة الإلهية نفسها.

بعد أن بيَّنا الفارق بين الواجب المطلق نحو الله وبين واجبات الطاعة الجزئية لأوامر الرب بإمكاننا أن نميِّز الأمور التالية في جحود إبليس:

1.     لا شك أن إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم غير أنه كان منسجمًا كل الانسجام مع المشيئة الإلهية ومع واجبه المطلق نحو ربه.

2.     لو وقع إبليس ساجدًا لخرج عن حقيقة التوحيد وعصى واجبه المطلق نحو معبوده. أراد الله للملائكة أن يقدسوه وأن يسبحوا باسمه، لذلك كان السجود لآدم وقوعًا في ما يضيفه أهل الشرك إلى الذات الصمدية مما هي منزهة عنه، إذ أن السجود لغير الله لا يجوز على الإطلاق لأنه شرك به. في الواقع يثير اختيار إبليس سؤالاً هامًا جدًا هو: هل تكمن الطاعة الحقيقية في الإذعان للأمر أم في الخضوع للمشيئة؟ هل يكمن الصلاح في الانصياع للواجب المطلق أم لواجبات الطاعة الجزئية؟ لو كان الجواب على هذا السؤال بسيطًا وواضحًا لما وجدت المأساة في حياة الإنسان، ولما وجد إبليس نفسه في هذه المحنة، ولما وقع بين براثن الأمر والمشيئة. نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل الاصرار المطلق على التوحيد في أصفى معانيه وأنقى تجلياته، وكأن لسان حال إبليس يقول: "جبين سجد للأحد لا يذل في الوجود لأحد"[10]. وعبَّر شهيد الصوفية الحلاج عن هذه الحقيقة في كتاب الطواسين بالكلمات التالية:

التقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال له: "يا إبليس! ما منعك عن السجود ؟"، فقال: "منعني الدعوى بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك. فإنك نوديت مرة واحدة "انظر إلى الجبل، فنظرت"، ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي[11].

3.     برَّر إبليس رفضه السجود لآدم تبريرًا منطقيًا واضحًا إذ قال: "أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين". وبالإضافة إلى ذلك تتضمن الآيات القرآنية التي أشرت إليها تبريرًا خفيًا لرفض إبليس، وهو معرفته المسبقة بأن آدم وذريته سيعيثون في الأرض فسادًا ويسفكون الدماء، وكان هذا شعور الملائكة أجمعين عندما قالوا لربهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك...". أي كانت الملائكة، بما فيهم إبليس، على علم بما سيرتكبه آدم وذريته من الكبائر والمعاصي فاستكبرت واستعظمت أن يخلق الله من يعصيه ويسفك الدماء.

عند إمعان النظر في حجة إبليس الأولى التي تتألف من مفاضلته بين جوهره (النار) وبين جوهر آدم (الصلصال) نجد أنها لم تكن استكبارًا وفخارًا بقدر ما كانت استذكارًا لحقيقة أساسية شاءها الله وأوجدها على ما هي عليه. وهذه الحقيقة هي أن الله لم يخلق الطبائع على درجة واحدة من السمو والكمال وإنما ميَّز بينها. ليس من حيث خصائصها الطبيعية والمادية فحسب بل من حيث درجات كمالها ورفعتها أيضًا. وبناء عليه ففي إمكاننا أن نصنِّف الكائنات والأنواع في نظام تقديري معين يبدأ بالكمال المطلق ذاته ثم يتدرج بالأنواع هبوطًا كلٌّ حسب درجة كماله التي أسبغها الله عليه إلى أن نقترب من العدم باعتباره الحد الذي نقف عنده. ولا ريب أن النار بطبيعتها وجوهرها تحتل مرتبة أسمى وأرفع في هذا الترتيب من المرتبة التي يحتلها الصلصال. بعبارة أخرى، تنطوي مفاضلة إبليس بين جوهره وبين جوهر آدم على نظرة فلسفية معينة لنظام الكون وترتيب الطبائع وفقًا لدرجات الكمال التي تتصف بها. لذلك كان إبليس على حق في جوابه لأن الخالق جعل الأشياء على ما هي عليه من درجات الكمال والسمو، وأمر السجود لآدم يشكل مخالفة صريحة لهذا النظام وخروجًا على الترتيب الذي شاءه الله وأجدوه. فإذا كان جوهر إبليس أرفع في سلم الكمالات من جوهر آدم فلن تستطيع النار عندئذٍ أن تذل للصلصال إلا بالسير في اتجاه مضاد لطبيعتها ومناف لدرجة الكمال التي أسبغها الله عليها، وهذا أمر محال ما لم يطرأ تحول جذري على المشيئة الإلهية فتغير ترتيب الطبائع عما كانت عليه منذ أن أوجدها الله. لقد أمر الله إبليس بشيء وشاء له تحقيق شيء آخر لذلك سنرى فيما بعد أن أمر السجود لم يكن أمر مشيئة وإنما كان أمر ابتلاء. ومن الطريف أن نلاحظ بهذا الصدد أن التحول الذي لحق بإبليس بعد طرده من الجنة لم يمس جوهره وإنما جرى على صفاته وأحواله فتشوهت صورته وأصبح لعينًا رجيمًا. عبَّر الحلاج بطريقته الخاصة عن هذه الحقيقة في المحاورة التي مرَّ ذكرها بين موسى وإبليس حيث يبين إبليس لكليم الله أن التغير الذي أصابه والتشويه الذي نزل به كانا في الأحوال الظاهرة والزائلة فحسب ولم يمسا جوهره الدائم ومعرفته الثابتة لأحكام المشيئة الإلهية. قال موسى لإبليس:

- "تركت الأمر".

فأجاب إبليس: "كان ذلك ابتلاء لا أمرًا"

فقال له موسى: "لا جرم قد غيَّر صورتك".

فأجاب إبليس: "يا موسى ذا وذا تلبيس، والحال لا معوَّل عليه فإنه يحول. لكن المعرفة الصحيحة كما كانت. وما تغيرت وإن الشخص قد تغير"[12].

أما الحجة الثانية التي برر بها إبليس رفضه السجود لآدم فكانت تستند إلى علم الملائكة بأن آدم وذريته سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فكيف يسجد من كان غارقًا في التوحيد والتسبيح والتقديس ومن أمام الملائكة وخطيب الكروبيين لمخلوق سيفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ يلخِّص الحلاج هذه الناحية من الموضوع بقوله:

قال الله لأبليس: "لا تسجد؟ يا أيها المهين!" فأجاب إبليس: "محب والمحب مهين، إنك تقول "مهين" وأنا قرأت في كتاب مبين، ما يجر عليَّ يا ذا القوة المتين، كيف أذل له وقد خلقتني من نار وخلقته من طين. وهما ضدان لا يتوافقان، وإني في الخدمة أقدم، وفي الفضل أعظم، وفي العلم أعلم وفي العمر أتم"[13].

نستخلص إذن أن قصة إبليس، كما وردت في الآيات القرآنية التي ذكرناها، ليست بالبساطة التي كنا نتخيلها، إنها ليست قصة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل. وقع إبليس بين شقي الرحى، رحى المشيئة من ناحية ورحى الأمر من ناحية أخرى فكان عليه أن يختار اختيارًا مصيريًا بين واجبه المطلق في التقديس والتوحيد والتسبيح وبين واجبات الطاعة الجزئية التي أمره بها الله، فجاءت محنته مفعمة بالعناصر الدرامية والمأساوية.

قبل أن استمر في استخلاص النتائج المترتبة على هذا التصور لمحنة إبليس أجدني مضطرًا للرد على الدعوى التي قال بها العقاد في كتابه إبليس. تتلخص دعوى العقاد في محاولة للدفاع عن النظرة التقليدية السطحية إلى شخصية إبليس واعتباره مجرد كائن عصى أمر ربه فطرده من الجنة. لذلك يرفض العقاد الاعتراف بمحنة إبليس ويقول بوجوب سجوده لآدم. وعند تمحيص هذا الرأي نجد أنه يستند إلى حجتين:

1.     وجب على الملائكة السجود لآدم لأنه خير منهم فهو قادر على فعل الخير والشر بينما الملائكة قادرة على فعل الخير فقط وهي بمنجاة من غواية الشر ولا توصف به[14].

2.     حق السجود لآدم لأن الله علمه الأسماء كلها ولم يعلمها للملائكة ما جعله أسمى مرتبة منها[15]. وسأرد على كلٍّ من هاتين الحجتين على حدة.

يبدو لي أن دعوى العقاد القائلة بفضل آدم على الملائكة لأنه عرضة للخير والشر بينما هي بمنجاة من غوايته دعوى فاسدة من أساسها للأسباب التالية:

أ‌-     تبرهن قصة إبليس أنه حتى سادة الملائكة والمقربين منهم ليسوا بمنجاة من غواية الشر وإلا لما عصى إبليس ربه وانتهى إلى بئس المصير. نستنتج إذن أن الملائكة عرضة للخير والشر، وهي، كالإنسان، مطالبة بالخيرات وممتحنة بالشرور مما ينفي فضل آدم على الملائكة وبالتالي يلغي ضرورة السجود له.

ب‌- لو افترضنا جدلاً مع العقاد أن الملائكة ليست عرضة للخير والشر وإنما هي تفعل الخير دائمًا بطبيعتها وجوهرها فهل يعني ذلك أن آدم أفضل منها؟ لنطرح السؤال بصيغة أعم وأشمل: أيهما أفضل، الكائنات التي تصنع الخير أحيانًا وتصنع الشر أحيانًا أخرى فتفسد في الأرض وتسفك الدماء أم الكائنات التي لا تصنع إلا الخير بصورة مستمرة ودائمة؟ أعتقد أن الجواب على هذا السؤال واضح كل الوضوح ولا يتطلب مزيدًا من النقاش بدليل أن تصورنا الأخلاقي للإرادة الفاضلة في أسمى مراتبها يقول بأنها الإرادة التي تصنع الخير باستمرار وبدون أي عناء أو جهد، لأن صنع الخير أصبح من جوهرها ومعدنها. أما الإرادة الناقصة فهي لا تزال تصارع وتجاهد للتغلب على غواية الشر لها محاولة بذلك الاقتراب من الإرادة الفاضلة باعتبارها مثلها الأعلى. وإذا كانت الملائكة، وفقًا لدعوى العقاد، بمنجاة من غواية الشر فلا شك أن الله أنعم عليها بإرادة فاضلة تجعلها أسمى وأرفع بدرجات من آدم وذريته. عندما قال الله للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة" استكبرت الملائكة الأمر واستعظمته بدليل جوابها "أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء". فهل يريد العقاد أن يجعل من قدرة آدم على الإفساد وسفك الدماء مصدرًا لسموه على الملائكة؟

ننتقل الآن إلى الرد على حجة العقاد الثانية التي تدَّعي بأن سجود الملائكة حق لآدم لأن الله علمه الأسماء كلها ولم يعلمها للملائكة. بيَّنا في السابق أن سمو إبليس على آدم كان سموًا بالطبيعة والجوهر وليس سموًا في الأحوال العارضة الزائلة كالتي اكتسبها آدم عندما علمه الله الأسماء كلها. بعبارة أخرى لا يؤلف علم آدم بالأسماء كلها خاصة من خصائصه الجوهرية المميزة، ولا شك أنه كان باستطاعة الملائكة تعلِّم الأسماء كلها لو شاء الله ذلك. نرى إذن أن علم آدم بالأسماء كلها كان علمًا طارئًا أنعم الله عليه به ليغري الملائكة على السجود.

الملاك الساقط، ألكساندر كابانيل

نستخلص مما ورد:

1.     أن لا فضل لآدم على الملائكة، بما فيهم إبليس، لا من حيث قدرته على صنع الخير والشر ولا من حيث علمه بالأسماء كلها.

2.     أن جوهر إبليس أفضل وأسمى من جوهر آدم لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من صلصال وهو الذي أرد للصلصال ألا يسمو سمو النار.

3.     أن دعوى العقاد القائلة بأنه كان يجب على إبليس أن يسجد لآدم لأنه أفضل من الملائكة دعوى فاسدة ومردودة.

القسم الثالث

لنعد الآن إلى محنة إبليس الناتجة عن تناقض الأمر والمشيئة. عبَّر الحلاج عن محنة إبليس بإيجاز رائع بقوله:

لما قيل لإبليس "أسجد لآدم!" خاطب الحق: "أرفع شرف السجود عن سري إلا لك حتى أسجد له؟ إنْ كنت أمرتني قد نهيتني"[16].

وحدَّد الأمام المقدسي طبيعة التناقض بين الأمر والإرادة الإلهية بالكلمات التالية:

فإني نظرت بعين اليقين دائرة الشقاوة والسعادة: تدور على خط الأمر ومراكز الإرادة، وبينهما تدقيق يدق عن التحقيق، ومضيق يفتقر سالكه إلى رفيق للتوفيق. فالأمر يهب والإرادة تنهب، فما وهبه الأمر نهبته الإرادة. الأمر يقول افعل والإرادة تقول لا تفعل[17].

يبدو أن الإمام المقدسي أدرك الكثير عن أهمية العناصر الدرامية والمأساوية التي تنطوي عليها محنة إبليس، لذلك نراه يشدِّد على عنصر التناقض الذي واجهه إبليس وعلى عجزه عن أن يجد مخرجًا لائقًا لنفسه، مما جعل الاختيار الذي كان عليه أن يقوم به اختيارًا مصيريًا تتوقف عليه شقاوته الأبدية أو سعادته الأبدية، وأن يخضع لمتطلبات المشيئة وينسجم مع واجبه المطلق فيسعد في نهاية المطاف، وإما أن ينزلق في الأذعان للأمر والخضوع لواجبات الطاعة الجزئية فيفشل في الامتحان ويشقى إلى الأبد. أي أن أمر السجود وضع كيان إبليس وحياته وسعادته الأبدية في الميزان لأن "الأمر يهب والإرادة تنهب" و"الأمر يقول افعل والإرادة تقول لا تفعل". بالإضافة إلى ذلك تبين الفقرة التي استشهدنا بها من كتاب الإمام المقدسي أن الذين يقعون في مثل هذه المحنة لا يرون طريقهم واضحة ناصعة ولا يتاح لهم أن يميزوا بسهولة بين الاختيار الصائب والاختيار الفاسد، لأن "بينهما تدقيقًا يدق عن التحقيق". كما أن الذين يتورطون في مثل هذا المأزق يجدون أنفسهم في وحدة تامة لا ينفعهم فيها لا نصح صديق ولا معونة رفيق، عليهم أن يختاروا وحدهم وأن يتحملوا نتائج اختيارهم لأن الطريق التي كتب عليهم أن يسلكوها "مضيق يفتقر سالكه إلى رفيق للتوفيق"، على حدِّ قول الإمام المقدسي.

في الصفحات التالية سأحاول أن أحدد عناصر المأساة في محنة إبليس وأن أبرز نواحيها المتعددة بقدر ما يسمح به الموضوع من الدقة والوضوح. لذلك سأعتمد مرجعين رئيسيين هما: مسرح سوفوكليس من التراث الأدبي اليوناني الغربي وقصة النبي إبراهيم من التراث الديني السامي، ولا حاجة لي أن أطيل الكلام في إعادة قصة إبراهيم إلى أذهانكم. أُمر إبراهيم أن يذبح ولده اسحق أو (اسماعيل) ولما همَّ بذلك فداه الله بـ"ذبح عظيم"[18]. وهنا أقف برهة لأشير إلى دراسة كيركجورد الشهيرة لقصة إبراهيم في كتابه الخوف والقشعريرة لأبيِّن أني اعتمدت في هذا القسم من بحثي الخطوط العريضة لتأويله لتجربة إبراهيم. ولكن هذا لا يمنع وجود بعض الخلافات الأساسية بين الآراء التي سأوردها حول هذا الموضوع وبين نظرة كيركجورد الخاصة إلى شخصية إبراهيم.

مما لا ريب فيه أن قصة إبراهيم تحتوي على إمكانات مأساوية عنيفة، وتتضمن كثيرًا من المقومات الرئيسية للتراجيديا. ولكنه لا يحق لنا، في أية حال من الأحوال، أن نعتبرها مأساة حقيقية لأنها تنتهي نهاية سعيدة متفائلة يرتاح لها الجميع. فالشعور الذي تخلفه فينا قصة إبراهيم يختلف اختلافًا تامًا ونوعيًا عن الشعور الذي تخلفه فينا قصة الملك أوديب مثلاً[19].

توجد اعتبارات عديدة تجعل من محنة إبليس مأساة حقيقية وسأوجه إليها الانتباه واحدة تلو الأخرى:

1. كثيرًا ما تقع المأساة في ساعة الأزمات الكبرى والهزات العنيفة التي تقلب الأوضاع السائدة وتزلزل أركان الأنظمة القائمة وتهز القيم المسيطرة، فيشعر الذين يمرون بالتجربة بأن كيانهم السابق ونمط وجودهم المألوف قد وضع موضع التساؤل، وأن العالم المحيط بهم أصبح على وشك الإنهيار بمقوماته الروحية والمادية والأخلاقية. أنعم الله على إبراهيم "بغلام رحيم" "فلما بلغ معه السعي" قال له: "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك...". أمر إبراهيم بذبح ولده تقدمة منه إلى الله، فقلب هذا الأمر المعايير والمقاييس وصدَّع القيم وأضاع الملامح وخلط القسمات إذ على الأب الرحوم العطوف أن يقتل ولده أشنع قتلة عن سابق تصميم وتدبير، وبكل هدوء وخشوع. كان إبليس للملائكة معلمًا وعلى الكروبيين مقدمًا. كان، كما يقول الإمام المقدسي، ساكن البال مستقيم الحال، صالح الفعال، ولكن بينما هو في حضرة الشهود أتى الله بآدم إلى الوجود وأمر له بالسجود[20]، فاهتز نظام الملأ الأعلى وانقلبت المعايير والموازين مرة أخرى، إذ على الجبين الذي لم يسجد إلا للأحد أن يذل بالسجود لبشر، وعلى معلم الملائكة في التوحيد أن يجحد التقديس والتسبيح، وعلى النار أن تخضع للصلصال. ولكن إبليس رفض السجود فلُعن إلى يوم الدين. بعبارة أخرى تعرض علينا القصة جحود إبليس وطرده وهو في قمة عزه، ومن ثم ترينا إياه في حضيض بؤسه وشقاوته شأنه في ذلك شأن القصة اليونانية القديمة التي تعرض علينا الملك أوديب في ذروة مجده وسلطانه، ومن ثم ترينا إياه ضالاً في متاهات اليأس والعذاب والألم. لقد أضحى كل منهما منبوذًا مشوهًا مكروهًا بعد أن هوى إلى أدنى مهاوي الشقاء، فأصبح كل من كان عونًا لهما عونًا عليهما.

2. إذا رجعنا إلى مسرحية انتيجونا نجد أن المأساة التي انتهت إليها البطلة ناتجة عن التناقض الجوهري القائم بين ما تمثله انتيجونا من ناحية وما يمثله كريون ملك طيبة من ناحية أخرى. كانت انتيجونا مصممة تصميمًا مطلقًا أن تدفن جثمان أخيها القتيل مهما كلَّفها الأمر، وكان دافعها إلى ذلك حبها الكبير لأخيها وإيمانها الذي لا يتزعزع بضرورة تنفيذ مشيئة السماء القاضية بدفن الموتى. تقول انتيجونا لأختها اسمينا:

أما أنا فموارية أخي، فإذا أديت هذا الواجب فما أجمل بي أن أموت، ولئن مت فإنما أنا صديقة لحقت بصديقها. سأؤدي واجبًا عدلاً ملؤه التقوى، لأن الوقت الذي سأروق فيه إلى الموتى أطول من الوقت الذي سأروق فيه إلى الأحياء، فسأكون قرينته أبد الدهر[21].

ومن ناحية أخرى نجد أن الملك كريون كان مدفوعًا بعاطفة نبيلة ووطنية لما أمر بإنزال العقاب بالأخ الذي حمل السلاح ضد مدينته وقتل على أبوابها. كما أنه كان صادقًا في محاولته لإحلال حكم القانون وإعادة النظام إلى مدينة طيبة بعد الفوضى التي عصفت بها. لذلك كان لزامًا عليه أن يتمسك بالحزم ويتسلح بالشدة ويصر على تنفيذ أوامره وإرشاداته بحذافيرها، وبكل تفاصيلها، وأن يتوعد كل من تسول له نفسه مخالفة النظام بأشد أنواع العقاب. وجميع هذه الإجراءات أمور طبيعية وضرورية في مدينة عانت من ويلات الحرب والوباء والفوضى ما عانته طيبة عندما تسلَّم كريون مقاليد حكمها، وكانت النتيجة ذلك الصدام المفجع بين متطلبات السلطة الزمنية وضروراتها، متمثلة في شخصية كريون، وبين متطلبات السماء وأوامر الآلهة متمثلة في شخصية انتيجونا. وحصد الجميع الموت واليأس والمأساة. عندما يسأل كريون انتيجونا: "وكيف جرؤت على مخالفة هذا الأمر ؟" أجابت:

ذلك لأنه لم يصدر عن "ذوس" ولا عن "العدل"... ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم، وما أرى أن أمورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين، التي تصدر عن رجل، أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي لم تكتب، والتي ليس إلى محوها من سبيل...

ألم يكن من الحق عليَّ إذن أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدًا من الناس؟ وقد كنت أعلم أني ميتة، وهل كان يمكن أن أجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ لئن كان موتي سابقًا لأوانه فما أرى في ذلك إلا خيرًا...[22].

إذا نظرنا إلى قصة إبراهيم من هذه الزاوية تبيَّن لنا أنها تحتوي على تناقض شبيه بالتناقض الذي صوره سوفوكليس في مسرحيته المذكورة. لا بد أن إبراهيم عانى الأمرين من التناقض بين احترامه لمتطلبات الأبوة العاطفية وواجباتها الأخلاقية من جهة وبين ضرورة الإذعان للأمر الإلهي القاضي بذبح اسحق من جهة أخرى. كان إبراهيم يحب ولده أكثر مما يحب نفسه، وكان يقوم بواجبات الأبوة خير قيام، ولكن ما عساه أن يفعل إذا تعارض هذا الحب وتعارضت واجبات الأبوة مع متطلبات الطاعة التامة لأوامر الإله ومع واجباته الدينية المطلقة تجاه ربه؟ الحق يقال إن محنة إبراهيم مشحونة بعناصر المأساة وببوادر توترها إلى درجة أعظم من مسرحية انتيجونا، لأن التناقض الأساسي في مسرحية سوفوكليس كان بين السلطة الزمنية وبين أوامر السماء الأزلية، ولكل واحد من طرفي هذا التناقض مصدره المستقل عن مصدر الآخر، أما بالنسبة لإبراهيم فإن طرفي التناقض يعودان في نهاية الأمر إلى مصدر واحد هو الله. عندما خضعت انتيجونا لأوامر السماء خالفت بذلك أوامر السلطات الزمنية، بينما حين خضع إبراهيم لأمر ربه ووضع المدية على عنق ولده خالف بذلك القواعد الأخلاقية المطلقة التي أنزلها الله على عباده عن كيفية معاملة الآباء للأبناء والأبناء للآباء. بعبارة أخرى لمَّا أطاع إبراهيم ربه من الناحية الدينية اضطر لأن يعصيه من الناحية الأخلاقية.

ولا تختلف محنة إبليس، من حيث النوعية، عن محنة كلٍّ من انتيجونا وإبراهيم. كان أمامه الأمر الإلهي المباشر بأن يقع ساجدًا لآدم وفي الحين ذاته كانت أمامه متطلبات المشيئة الإلهية الداعية إلى التوحيد والتقديس والتسبيح، والتي لا تسمح بالسجود لأحد سوى للذات الصمدية. فأذعن إبليس لمتطلبات المشيئة وعصى بذلك أمر السجود فطرد ولعن وكتب عليه اليأس المطلق من العودة إلى الجنة. لكن مأساة إبليس كانت أعظم وأفجع من محنة إبراهيم، ولا نقول مأساة إبراهيم بسبب ذلك الكبش الذي ذبحه عوضًا عن اسحق، لأن التناقض الذي واجهه إبليس لم يكن بين واجبات الطاعة الدينية وبين الواجبات الطاعة الأخلاقية، بل كان بين واجبات الطاعة الإلهية فحسب. بعبارة أخرى واجه إبليس الرب وهو يناقض نفسه بصورة مباشرة ومفضوحة فذهب ضحية هذا التناقض وضحية الموقف الذي اختاره ووقفه.

من ينظر إلى شخصية انتيجونا بشيء من الدقة والعمق لا يمكن أن يرى فيها مجرد البطلة التقليدية التي تمثل كل ما يوصف بالخير والحق والجمال بينما يمثل خصمها نقيض هذا الخصال. كما أن من يفهم قصة إبراهيم بأبعادها الإنسانية لا يمكنه أن يرى في محاولته ذبح ولده مجرد جريمة نكراء تتنافى مع أبسط بديهيات الإنسانية والأخلاق. وكذلك الأمر بالنسبة لإبليس لأن من يدقق النظر في محنته لن يرى في جحوده أمر السجود مجرد تجسيد للعصيان والشر والخطيئة. إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية معينة فأننا لا نشك بأن إبليس كان عاصيًا وجاحدًا، ولكن من ناحية أخرى يجب ألا ننسى أن جحوده كان أعظم تقديس للذات الإلهية وأكبر مثل على التمسك بحقيقة التوحيد. وقع إبليس في الأثم عندما جادل ربه ولكن الله هو الذي سمح له بذلك وأصغى له عندما قال "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". وهنا تتجلى شخصية إبليس المأساوية باعتبارها مزيجًا من البراءة والإثم، من الجمال والقبح، من الحق والباطل، ومن الخير والشر. إنه يتصف بهذه الصفات مجتمعة شأنه في ذلك شأن الأبطال المأساويين الذين عرفناهم من خلال التراجيديات الكبرى في تاريخ الأدب، إذ كان على إبليس أن يرفض السجود تمامًا كما كان على "أوريستيز" أن يقتل أمه، وعلى "هملت" أن يقتل عمه، وكان عليه أن يتحمل مثلهم البلاء والألم واليأس الناتج عن فعله. وجميع هؤلاء الأبطال وجدوا أنفسهم بين شقي الرحى، فهم محقون من ناحية وغير محقين من ناحية أخرى، ولا يتحمل هذا التوتر المأساوي إلا أشدهم بأسًا وأصلبهم عودًا، أي لا يتحمله سوى من كان معدنهم من معدن الأبطال.

3. ستتضح لنا الأمور أفضل لو ميزنا بين نوعين من المأساة: "مأساة الغربة" Tragedy of Alienation، و"مأساة المصير والقدر" Tragedy of fate. والموضوع الذي أريد أن أطرحه الآن هو: إن محنة إبليس تمثِّل، بكل جلاء، كلا النوعين من المأساة. ينتج البلاء في مأساة الغربة بسبب الانفصال عن "وضع معين" كان البطل يشارك فيه قبلاً ولكنه يجد نفسه غريبًا عنه الآن. وتعطينا أعمال ميلتون ودوستويفسكي وكافكا وكتاب كامو الغريب أمثلة واضحة عن مأساة الغربة. أما بالنسبة لغربة إبليس فقد قال الحلاج، على لسان إبليس، وفي وصفها ووصف ويلاتها، ما يلي:

أفردني، أوحدني، حيرني، طردني لئلا اختلط مع المخلصين، مانعني عن الأغيار لغيرتي، غيرني لحيرتي، حيرني لغربتي، حرَّمني لصحبتي، قبحني لمدحتي، أحرمني لهجرتي، هجرني لمكاشفتي، كشفني لوصلتي...[23]

وكتب الأمام المقدسي على لسان إبليس الأسطر التالية في وصف غربته وشقائه:

ثم لكمال شقوتي سالت الأنظار. فصرت أضحوكة للحضار. أذوب إذا سمعت الذاكرين. وأتمزق إذا رأيت الشاكرين. واحد أفر من ظله. وواحد أهرب من زكي فعله. وواحد تحرقني أنفاسه. وواحد يعجزني مرأسه... إذا تاب التائب قصم ظهري. وإذا رجع الآيب نقص عمري. كلما بنيته مع العاصي في سنة، تهدمه التوبة في سنة. فأنا في ويل لا يزول، وحرب لا يحول، وحزن شرحه يطول[24].

أما إذا رجعنا إلى الوصف الرائع الذي تركه لنا أبو حيان التوحيدي لحال الغربة فإننا نجده ينطبق كل الانطباق على حال إبليس. قال أبو حيان:

يا هذا! الغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذاله، وأغرب في أقواله وأفعاله... الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودل عنوانه على الفتنة عقيب الفتنة، وبانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة... يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى![25]

تعتبر مسرحية الملك أوديب ومسرحية روميو وجولييت لشكسبير من أروع ما كتب حول مأساة المصير. وكل من قرأ مسرحية سوفوكليس المذكورة يعرف كيف أخذ القدر مجراه المحتوم وصدقت جميع التنبؤات، وكيف فشلت جميع المساعي التي قام بها أوديب وجوكاستا ليفلتا من مصيرهما المظلم. إذا نظرنا إلى محنة إبليس من هذه الزاوية تبين لنا أنه كان مسيرًا في جميع خطواته وفقًا للقدر الذي كتبه الله عليه، شأنه في ذلك شأن كل ما هو كائن في ملكه بدليل الحديث القدسي القائل:

إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب، قال يارب وما أكتب؟، قال مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة من مات على غير هذا فليس مني[26].

وعبَّر الحلاج عن هذه الحقيقة بإنشاده عن إبليس:

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له              إياك إياك أن تبتل بالماء

بعبارة أخرى كان إبليس خاضعًا في أحوله واختياره وطرده ولعنته وتشويهه إلى أحكام الإرادة الإلهية ولأمر قضائه الذي لا يرد. كان مجبورًا بحكمته ومقهورًا بمشيئته بدليل قوله تعالى: "إنَّا كل شيء خلقناه بقدر". وكتب الحلاج الكلمات التالية حول خضوع إبليس لقضائه وقدره:

قال الحق سبحانه لإبليس: "الاختيار لي لا لك"، فأجاب إبليس: "الاختيارات كلها واختياري لك، قد اخترت لي يا بديع، وإن منعتني عن سجوده فأنت المنيع، وإن أخطأت في المقال فأنت السميع، وإن أردت أن أسجد له فأنا المطيع، لا أعرف في العارفين أعرف بك مني، لا تلمني فاللوم مني بعيد، وأجر سيدي فإني وحيد"[27].

هنا يجب أن نلفت النظر إلى أنه ليس كل من جار عليه القدر وسحقه المصير المحتوم يصبح بذلك بطلاً، وليس كل من وجد نفسه في محنة مفجعة كمحنة إبليس وانتيجونا وإبراهيم يصبح بذلك شخصية مأساوية. لأن الأمر يتوقف إلى حد كبير على نوعية رد الفعل الذي يبديه الإنسان تجاه محنته، وطبيعة الاستجابة التي يبديها نحو مصيره. وعلى سبيل المثال كانت شقيقة انتيجونا واعية كل الوعي للتناقض الذي دفع بأختها إلى نهايتها المفجعة غير أنه لا يجوز لنا بأية حال من الأحوال أن نعتبر اسمينا شخصية مأساوية لأنها ظلت سلبية في استجابتها لهذا التناقض واستسلمت لمجرى الأحداث، لذلك نراها تنصح بالتعقل والتحفظ وتثير الشكوك وتبدي المخاوف مما يبين أن معدنها لم يكن من معدن الأبطال. والاعتبار نفسه ينطبق على الملائكة: "وسيماهم على وجوههم من أثر السجود". ومن الطريف أن نقارن بين موقف إبليس وموقف آدم من هذه الناحية. عصى آدم ربه شأنه في ذلك شأن إبليس، ولو شاء ربك لآدم ألا يعصي لما عصى، ولما عاتبه الله على معصيته لم يبد آدم أي رد فعل إيجابي بل قال: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". أما البطل المأساوي الذي يصارع مصيره كما صارعه الملك أوديب فلا يقول "إني ظلمت نفسي" لأنه يعلم حق العلم أن قدره المحتوم هو الذي ظلمه. أما إبليس فإنه استجاب بصورة إيجابية لعتاب ربه فقال: "بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض..." فنفى بذلك أن يكون قد ظلم نفسه أو أن يكون مسؤولاً عن مصيره ومآله. ومرة أخرى ينطبق على إبليس وصف أبي حيان التوحيدي للغريب: "لا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيغفر، ولا عيب عنده فيستر"[28]. أي، خاف آدم من الاعتراف بهذه الحقيقة لمَّا عاتبه ربه بينما ناقشه إبليس وحاول أن يدافع عن فعله وأن يبرر اختياره بالرغم من علمه أنه لا مفر له مما قدره الله عليه، مثله في ذلك كمثل أوديب وجوكاستا في محاولاتهما الافلات من مصيرهما المشؤوم، مع العلم بأن فشلهما كان محتومًا ومتوقعًا. وحتى بعد أن نزلت اللعنة بإبليس ظلَّ إيجابيًا في مواقفه وأفعاله بدليل قوله: "لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين...". نرى إذن أن إبليس هو المعدن الذي صنع منه أبطال الأعمال التراجيدية الكبرى في الأدب العالمي، وصورت شخصياتها المأساوية على صورته. ولا عجب إذن أن نجد بأن هؤلاء الأبطال كانوا إما على اتصال مباشر بالشيطان أو كانوا يتصفون بصفات شيطانية واضحة. كما أنه ليس من باب الصدفة أن تكون الشخصيات المأساوية الكبرى مستمدة في معظم الأحيان من بين جموع الشاذين والمخربين والعاصين والكافرين والجاحدين والقتلة، ولذلك وردت المحاكمات القانونية بكثرة في عدد كبير من الأعمال التراجيدية المشهورة. ويكفينا أن نذكر على سبيل المثال اسكيلوس، وكافكا، والأخوة كارامازوف، ورواية الغريب لكامو. وبإمكاننا أن ننظر إلى الجدل الذي دار بين إبليس وربه على أنه نوع من المحاكمة العرفية السريعة حيث أتيحت لإبليس فرصة ليدافع عن نفسه قبل أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

4. من العسير على الباحث في طبيعة المأساة ألا يتطرق إلى موضوع عاطفة الكبرياء وإلى الدور الذي تلعبه في حياة الشخصيات المأساوية. ويكتسب موضوع الكبرياء أهمية خاصة بالنسبة لنا بسسبب الرأي الذي يعزو رفض إبليس السجود إلى دافع الكبرياء والفخار. قال الحق لإبليس لمَّا طرده من الجنة: "فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين". ولندرك طبيعة كبرياء إبليس على حقيقتها يجب أن نميِّز بين الكبرياء بمعنى العجرفة وبين الكبرياء المأساوية التي اتصفت بها الشخصيات المأساوية الكبرى، علمًا بأن هذا لا يمنع أن يكون البطل المأساوي متعجرفًا، غير أن هذه الخصلة الذميمة تبقى عرضية وطارئة بالنسبة لبطولته ومأساته. فالتعجرف والكبرياء الدونكيشوتية لا يجلبان لصاحبهما سوى الشفقة والسخرية، أما الكبرياء المأساوية فإنها تفرض علينا موقفًا جديًا تجاه البطل فيه الكثير من الإعجاب والتقدير حتى لو كان موقفه مخالفًا لكافة مبادئنا ومواقفنا الخاصة. لذلك كانت الكبرياء دومًا من أهم الدوافع التي حركت الشخصيات المأساوية من الملك أوديب إلى إيفان كارامازوف.

يتكون جوهر الكبرياء المأساوية من رفض البطل لأن يبقى سلبيًا في وجه ما يعتبره تحديًا لواجبه ومنزلته وكرامته حتى لو كان يعلم أن هذا التحدي هو جزء من مصيره، وأن كبريائه ستنتهي به إلى الدمار واليأس والموت. هكذا انتهى أوديب وهكذا انتهت انتيجونا وهكذا انتهى إبليس. أما آدم فلم يعرف هذا النوع من الكبرياء على الإطلاق ولو كان مقدرًا له أن يكون شخصية مأساوية لما قال: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". نستنتج إذن أن كبرياء إبليس لم تكن ناتجة عن عجرفة فارغة ولا عن تطاول على معبوده بل كانت كبرياء مأساوية دفعته لأن يلجأ إلى الله من قضاء الله عليه. ولم يغير إبليس موقفه من ربه حتى بعد أن أصبح طريدًا ولعينًا، وظلَّ يعترف بسلطانه وقوته ويخاف منه ولا يقرُّ لنفسه بمعبودٍ سواه بدليل قوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف رب العالمين". وبدليل جواب إبليس عندما أقسم أمام الله: "بعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين" (سورة ص 83، 84). أي أنه بيَّن أن لا شيء أعز عنده من عزة ربه، حتى بعد أن نزلت به اللعنة، واستثنى عباده المخلصين من قسمه وكأنه يريد أن يبين حسن ثنائه وصدق ولائه، حتى بعد اللعنة والطرد. لم يكن إبليس غريبًا فحسب بل كان في غربته غريبًا على حد تعبير أبي حيان. يصف الحلاج موقف إبليس من ربه بعد أن نزلت عليه اللعنة الأبدية في محادثته التي تخيلها بين موسى وإبليس، قال:

قال موسى لإبليس: "الآن تذكره؟" فأجاب إبليس: "يا موسى. الفكرة لا تذكر، أنا مذكور وهو مذكور، ذكره ذكري، وذكري ذكره، هل يكون الذاكرون إلا معًا؟ خدمتي الآن أصفى، ووقتي أخلى، وذكري أجلى، لأني كنت أخدمه في القدم لحظي والآن أخدمه لحظه"[29].

ونظر الإمام المقدسي إلى مصير إبليس وكبريائه نظرة غير مألوفة متأثرًا في ذلك برأي الحلاج فقال:

قال لي اسجد لغيري قلت لا غير. قال عليك لعنتي قلت لا ضير. إن أدنيتني فأنت أنت. قال تفعل ذلك استكبارًا وفخارًا فقلت سيدي من عرفك في عمره لحظة، أو خلا بك في دهره غمضة، أو صحبك في طريق محبتك ساعة، حقٌّ له أن يفتخر، كيف بمن قد قطع الأعمار، وعمَّر بحبك الآثار. كم قد رقمت في صحائف توحيدك في الليل والنهار. كم قد درست من دروس تقديسك وتمجيدك في الإعلان والأسرار. والآثار تشهد لي. والديار تعرف بحقي. والليل والنهار يصدقني... فأين كان آدم وأنا إمام صفوف الملائكة، وخطيب جميع الكروبيين، وقادة وفد المقربين، فلي معك سابق عبادة، ولك معي سابق إرادة. فلما ظهرت أعلام الإرادة. انطمست رسوم العبادة. فأخطأ المجتهد اجتهاده. وزال السيد عن رتب السيادة. وأصابه سهم القضا فما أخطى فؤاده. فسواء أسجد أو لم أسجد. وعبدت أم لم أعبد، فلا بد إلى الرجوع إلى سابقة الأقدار. فأنك خلقتني من نار. فلا بد من العود إلى النار. منها خلقناكم وفيها نعيدكم[30].

القسم الرابع

عالجت في الصفحات السابقة مشكلة إبليس على مستويات مختلفة، بدأت بالنظرة التقليدية الشائعة ثم وصفت محنته ثم حددت النواحي المأساوية في شخصيته وموقفه. ومما لا ريب فيه أنه كلما انتقلنا من أحد هذه المستويات الثلاثة إلى المستوى الذي يليه انكشفت لنا حقيقة إبليس بصورة أعمق وأفضل، وتبينت لنا جوانب شخصيته المتعددة بجلاء أعظم. ولكن هذا لا يعني أن فهمنا لشخصية إبليس على مستوى المأساة يبين لنا حقيقة تامة وكاملة إذ أن شخصيته ليست من إنتاج الخيال الأدبي والدرامي بقدر ما هي من إنتاج الخيال الديني الصرف. لذلك تظل نظرتنا المأساوية إلى إبليس ناقصة لا تكشف إلا جانبًا من حقيقته، ولن تكتمل الصورة ما لم نعالجها على المستوى الديني البحت الذي سيكشف لنا وضع إبليس الحقيقي والنهائي في نظام الخليقة. أما السبب الرئيسي الذي يدعوني إلى هذا القول فهو تعذُّر قيام مأساة بمعناها النهائي والمطلق ضمن إطار الأديان السامية الثلاثة. يستحيل على الدين أن يقبل المأساة بصفتها النهائية لأن العناية الإلهية تحيط بالكون إحاطة تامة وتسيِّره نحو الغايات القصوى التي اختارها الله له، لذلك نجد أن الدين بطبيعته يدعي تجاوز المأساة مهما كانت مفجعة ويدعي حلَّ جميع إشكالاتها، إن لم يكن في الحياة الدنيا، ففي الآخرة إذن. وعلى سبيل المثال تتطلب النظرة المأساوية للأشياء أن يتكبد الأبطال خسائر فادحة لا يمكن أن تعوَّض على الإطلاق يرمز إليها في معظم الأحيان بالموت أو اليأس التام، كما يطلب من الأبطال أن يتحملوا بلاء وعذابًا لم يستحقوهما ولم يريدوهما لأنفسهم. أما الدين فلا يقبل بهذا المنطق المأساوي ويقول بأن الخسائر التي يتكبدها الصالحون ستعوَّض عليهم في يوم ما كما عوَّض الله أيوب على المصائب التي حلت به وكافأه على صبره الطويل. أما الخسائر التي يتكبدها الأشرار فإنها عقاب عادل استحقوه بسبب آثامهم وأفعالهم الشريرة بدليل أن "من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره". وحتى فاجعة الموت، بالنسبة للدين، ليست إلا خسارة مؤقتة ترمز إلى الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء. أي أن الدين لا يقبل المأساة إلا بصورة مؤقتة ومرحلية ويتبع من ذلك أنه لا بد لمأساة إبليس من أن تكون مأساة مؤقتة ستتلاشى في يوم من الأيام.

بعد هذه الإشارة إلى حدود النظرة المأساوية إلى شخصية إبليس أريد أن أطرح السؤال التالي: لماذا أمر إبليس بالسجود لآدم؟ أو بالأحرى، لماذا وضعه الله في هذا المأزق ورماه في هذه المحنة؟ والجواب هو لأنه أراد أن يمتحنه ويجربه كما امتحن من بعده أيوب وإبراهيم وغيرهما من عباده الصالحين. والإشارة إلى تجربة إبليس واضحة في قوله لربه "بما أغويتني لأزينن لهم الأرض"، و"فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم..."، أي أنه سيغوي البشر كما أغواه الله وسيبتليهم كما ابتلاه. كان إبليس إمام الملائكة وخطيب الكروبيين فأراد الله أن يبتليه فأمره بالسجود لآدم ليرى مدى تمسكه بحقيقة التوحيد وتشبثه بدعواه في التقديس والتسبيح، وبرهن إبليس عن استعداده لأن يضحي بكل شيء في سبيل دعواه بمعبود واحد. يقول الحلاج عن إبليس:

هو الذي كان أعلمهم بالسجود، وأقربهم من الموجود، وأبذلهم للمجهود، وأوفاهم بالعهود، وأدناهم من المعبود. سجدوا لآدم على المساعدة وإبليس جحد السجود لمدته الطويلة على المشاهدة[31].

وكما أبتلى الله إبراهيم بأن طلب منه تضحية أعز ما عنده في سبيل وجهه تعالى، كذلك أبتلى إبليس بأن طلب إليه تضحية أعز ما لديه في سبيل معبوده ومحبوبه.

من خصائص التجربة الدينية أنها تدخل الممتحن في محنة صعبة تحمِّله ما لا يطاق، فتظهر حقيقته بكل جلاء وبدون أي تمويه أو تزييف. والفكرة الريئسية التي أريد أن أبينها هي أن إبليس اجتاز التجربة التي أبتلاه الله بها بنجاح تام، وتتضح لنا هذه الحقيقة من الاعتبارات التالية:

1.     نجح إبراهيم في التجربة لأنه علَّق مفعول واجباته الأبوية والتزاماته العائلية والإنسانية ليذعن للأوامر الإلهية ويقوم بواجبه نحو ربه مهما كلفه الأمر. كذلك نقول إن إبليس نجح في التجربة لأنه علق واجبات مفعول الطاعة الجزئية ليذعن للمشيئة الإلهية ويتمسك بواجبه المطلق في التوحيد والتقديس.

2.     كما حوَّل الأمر الإلهي ذبح اسحق من مجرد جريمة نكراء إلى تضحية كبرى وعطاء ما بعده عطاء، حوَّل تمسك إبليس بواجبه المطلق، جحوده، من مجرد عصيان إلى أسمى تقديس توجه به مخلوق إلى الذات الإلهية.

3.     في الواقع جعل الأمر الإلهي من واجبات إبراهيم الأبوية والتزاماته الإنسانية واجبات ابتلاء لو أذعن لها لفشل في التجربة، كذلك أصبحت واجبات إبليس الجزئية ابتلاء بالنسبة للواجب المطلق، لو امتثل لها لفشل في التجربة.

4.     كما أن إبراهيم لم يسلك سلوك الإنسان العادي تجاه واجباته الأبوية وإنما سلك سلوك الأنبياء والأولياء فظهرت حقيقته من خلال التجربة، لم يسلك إبليس سلوك الملائكة بالنسبة لواجباته الجزئية نحو الله بل سلك سلوك القديسين والصالحين والمقربين فبانت بذلك حقيقته بكل صفائها ونقائها.

5.     أصبح من الجلي أن الابتلاء الإلهي هو مصدر البلاء والعذاب واليأس الذي يمر به الممتحن. كانت رغبة إبراهيم الشديدة في إنقاذ اسحق والاحتفاظ به مصدر عذابه وشقائه، ولولا هذه الرغبة العنيفة لما استحقت تجربته كل هذا الاهتمام لأنه يكون قد قدم إلى ربه شيئًا لا يعز عليه إلا قليلاً ولا يشكل فقدانه بلاء عظيمًا. كذلك الأمر بالنسبة لإبليس، عندما جرَّبه الله كان يشعر برغبة جامحة لأن يذعن لأمر السجود وعزَّ عليه إلى أقصى الحدود أن يضحي بهذه الرغبة في سبيل تمسكه بحقيقة التوحيد وألا يكون قد ضحى بشيء لم يكن يرغب فيه أصلاً إلا رغبة طفيفة. كان إبليس وإبراهيم يعلمان أن الله يجربهما وأنه يطلب منهما أشق أنواع التضحيات وأغلاها على الإطلاق، ولكن ما من تضحية تصعب عليهما في سبيل وجهه تعالى، لذلك رفض إبليس السجود ورفض إبراهيم روابط الأبوة والإنسانية.

وعندما عالجنا محنة إبليس على مستوى المأساة وقارناها بقصة إبراهيم ومسرحية انتيجونا ذكرنا أن محنة إبراهيم عجزت عن الوصول إلى مستوى المأساة بسبب ذلك الكبش المشهور وبسبب تعذر وجود المأساة الحقيقية في الدين. كما قلنا حينئذ إن محنة انتيجونا تعلوها في الأهمية من حيث أنها تمثل مأساة حقيقية، أما محنة إبليس فاعتبرناها مأساة المآسي لأنها تعبر عن المأساة بأجلى صورها وأقصى حدودها وأبعد معانيها. غير أنه عندما ندرس هذا الموضوع على مستوى التجربة الدينية نضطر لأن نغير هذا التصنيف ونستعيض عنه بتصنيف جديد ينسجم مع منطق الدين وموقفه من المأساة. ولو قدِّر لحقيقة إبليس أن تتجلى على مستوى المأساة فحسب لانتهت مشاغلنا عند التصنيف الأول. أما التصنيف الجديد فإنه يضع محنة انتيجونا في أسفل السلم لأن تجربتها فرضت عليها الاختيار بين أمر السلطة الزمنية وبين أمر السماء، وكل منهما يعود إلى مصدر غير المصدر الذي يعود إليه الآخر. بينما نجد أن تجربة إبراهيم أهم مغزى وأقوى مفعولاً لأنها خيرته بين أمر الله المباشر وبين الواجبات الأبوية والالتزامات الأخلاقية والإنسانية التي كان يعتقد إبراهيم أنها مقدسة ومنزلة من عنده تعالى، أي أن اختياره كان بين أمرين نبعا من مصدر واحد هو الله. أما تجربة إبليس فهي تجربة التجارب وأعظمها شأنًا وأشدها مرارة لأنها اضطرته للاختيار بين متطلبات المشيئة الربانية من ناحية وبين الأمر الإلهي المباشر من الناحية الأخرى، أي لم يكن على إبليس أن يختار بين الدنيوي والأزلي كما كان على انتيجونا أن تفعل، ولم يكن عليه أن يختار بين الإلهي والأخلاقي كما كان على إبراهيم أن يفعل، بل كان عليه أن يختار بين الإلهي والإلهي أو بين الأزلي والأزلي لذلك كان ابتلاؤه لا يطاق وبلاؤه لا يقاس ويأسه لا يوصف.

من المقومات الأساسية للتجربة الدينية الناجحة أن يجهل الممتحن جهلاً تامًا النهاية التي ستسفر عنها تجربته إن كانت هذه النهاية لصالحه أم لم تكن. فلو شك إبراهيم لحظة واحدة أنه سيذبح كبشًا عوضًا عن اسحق لما كانت محنته تجربة بل كانت مهزلة، ولو توقع أيوب تعويضًا لصبره على المصائب التي ابتلاه الله بها فتحمل العسر أملاً منه باليسر الذي سيليه لفقدت تجربته كل معانيها ومغازيها وفشل في الامتحان. ولو دخل في خلد إبليس يومًا أن لعنته ليست أبدية أو أن خاتمته النهائية ليست جهنم وبئس المصير لانقلبت محنته من تجربة مفعمة بالمأساة إلى مسرحية هزلية. بعبارة أخرى، من شروط التجربة الناجحة أن يعتقد الممتحن اعتقادًا راسخًا لا يتطرق إليه الشك بأن تجربته ستفسر عن خاتمة مفجعة، وكم عندئذ ستكون فرحته عظيمة عندما يكتشف أنها أسفرت عن نهاية سعيدة، كما حدث لإبراهيم لما استعاد ولده، ولأيوب لما أعاد الله إليه أمواله وذريته أضعافًا مضاعفة. وبما أن الله كافأ إبراهيم وأيوب على صبرهما ونجاحهما وتمسكهما بواجبهما المطلق نحوه يجوز لنا أن نستنتج بأنه سيكافئ إبليس على نجاحه وتضحيته ويعوض عليه ما تكبده من خسارة مفجعة وما عاناه من شقاء وبلاء وغربة. ولكن إذا كان هذا الاستنتاج صحيحًا لماذا لعنه إلى يوم الدين؟ الجواب بسيط: لعنه إلى يوم الدين لأن التجربة بحد ذاتها تتطلب ذلك، فلو اعتقد إبليس مثلاً أن اللعنة التي نزلت به كانت مؤقتة فأمل بالعودة إلى الجنة لفقدت تجربته مغزاها ومعناها، ذلك لأن تمسكه بحقيقة التوحيد، بالرغم عن يأسه التام من النجاة، هو دليل اجتيازه التجربة بنجاح، تمامًا كما كان يأس إبراهيم من انقاذ اسحق ووضعه المدية على عنقه الدليل القاطع على نجاحه في التجربة التي ابتلاه الله بها. بعبارة أخرى، لا تبين اللعنة الأبدية مصير إبليس الحقيقي بقدر ما تشكل جزءًا لا يتجزأ من امتحانه. أما مصيره الحقيقي فهو أمر يجب أن يظل سرًا مكتومًا عنه إلى أن يحين موعد افشائه، تمامًا كما ظل مصير اسحق سرًا مكتومًا على إبراهيم حتى حان الوقت المناسب لإعلانه. كما أنه لا يجوز لإبليس أن يبقى ملعونًا إلى الأبد، بعد اجتيازه التجربة بنجاح، لأن بقاءه على هذه الحال يشكل مأساة كبرى وحقيقة في الكون. ومنطق الدين، كما مر معنا مرارًا، لا يسمح بذلك على الإطلاق.

كما أن فهمنا لشخصية إبليس على مستوى المأساة لا يبين لنا حقيقة تامة وكاملة، كذلك الأمر بالنسبة لمعالجتنا لشخصيته على مستوى التجربة والابتلاء مع العلم بأن مستوى التجربة يقربنا إلى حقيقته بصورة أفضل وأعمق من أي مستوى آخر ذكرناه. ولنصل إلى معرفة حقيقة إبليس التامة ومنزلته الفعلية في الكون علينا تحديد علاقته الجوهرية المباشرة بالمشيئة الإلهية. ومهما بحثت لن أجد تعبيرًا عن علاقة إبليس الحقيقية بالمشيئة الإلهية أفضل من التعبير الذي ضمنه الإمام المقدسي في الأسطر التالية حيث قال على لسان إبليس:

خلقني كما شاء. وأوجدني لما شاء. واستعملني فيما شاء. وقدَّر عليَّ ما شاء. فلم أطق أن أشاء إلا ما شاء. فما تجاوزت ما شاء. ولا فعلت غير ما شاء. ولو شاء لردني إلى ما شاء. وهداني بما شاء ولكنه شاء. فكنت كما شاء... فمن يكون على القضاء عوني. ومن يطق من القدر صوني. لكن كل ما يرضيه مني. رضيت به على رأسي وعيني. يا هذا ما حيلة من ناصيته في قبضة القهر. وقلبه بيد القدر. وأمره راجع إلى حكم القدم. وقد قضي الأمر وجفَّ القلم[32].

بعبارة أخرى كان إبليس صنيعة الإرادة الإلهية، خاضعًا لأحكامها، ومنفذًا لطلباتها. وعندما اختار العصيان والجحود لم يختر سوى ما كان الله قد اختاره الله له منذ الأزل. إنه مستعمل فيما قدَّره الله عليه، واقع في قبضة قهره، وبذلك بطل الأمر والنهي بالنسبة إليه مع العلم أن الحجة التي طرد على أساسها تستند إلى الأمر والنهي. يستطرد الأمام المقدسي في تبيان مكانة إبليس الحقيقية والغرض الإلهي من طرده فيقول على لسان إبليس:

يا هذا، أتظن أني أخطأت التدبير. ورددت التقدير. وغيرني التغيير. لا وعلو عزته. وسنا قدرته. لكنه خلق الحسن والقبيح. والمستقيم والصحيح. جمعًا بين الشيء وضده. ليدل على كمال قدرته. فإن الأشياء لا تعرف إلا بالأضداد. فجعلني في الأول أعلم المحاسن في الملأ الأعلى فأبينها للأملاك. وأزين بها الأفلاك. فكنت معلِّم التوحيد. فلما طالع أطفال الكتب أمثلة توحيدهم. وحققوا حروف هجاء تقديسهم وتمجيدهم. نقلني من العالم الأعلى إلى العالم الأسفل أعلمهم ما هو ضد ذلك فأبين لهم القبائح وأزينها لهم. فبي عرف الحسن والقبيح. وميز المستقيم والصحيح. فأنا في الأرض والسماء. عريف العرفاء. معلم العلماء. فأنا معجز القدرة. ومشاهد حضرة الحكمة. فمن هو في الحضرة أدنى مني. ومن هو في الذكر أشهر مني. فلي شرف إذ ذكرني. وإن كان لعنني. ولي فخر إذ نظرني. وإن كان قد طردني. فبمعرفتي له أنكرني. ولحيرتي به حيرني. ولغيرتي عليه غيرني. ولخدمتي خذلني. ولصحبتي حرمني. فالآن وقتي به أصفى. وحالي معه أشفى. لأني كنت أخدمه لحظي. والآن أخدمه لحظه. فارتفع الحظ من البين. وأنت تظنه بين. فلئن كنت قد سقطت من العين. فقد وقعت في عين العين[33].

القسم الخامس

سأكرس هذا القسم من بحثي لمحاولة إيجاد تعليل ديني مقبول لبعض المفارقات التي وردت معنا في الأقسام السابقة من هذا البحث، وللإجابة على بعض الأسئلة الهامة التي لا تزال معلقة. وفي ما يلي تصنيف لأهم المفارقات والأسئلة:

1. عندما طرحت السؤال، لماذا أمر إبليس بالسجود لآدم، أجبت عليه بقولي: لأن الله أراد أن يجربه ويبتليه كما جرب إبراهيم وأيوب من بعده. والسؤال الذي يبرز أمامنا الآن هو، لماذا يبتلي الله ملائكته وعباده وهو العليم بكل ما يظهرون وما يبطنون؟ هل باستطاعتنا مثلاً أن نحدد صفة من الصفات الإلهية التي تدعو الله لأن يجرب عباده؟ أو بالأحرى إلى أية صفة من صفات الذات الإلهية يجب أن ننسب هذا الميل إلى ابتلاء العباد؟

2. لمَّا ميزنا بين المشيئة والأمر في مطلع هذا البحث ذكرنا أن الله يأمر أحيانًا بشيء بينما يكون قد شاء تحقيق شيء آخر. ترى هل من تعليل ديني لهذه المفارقة في تصرفات الإله؟

3. رأينا أن إبليس واقع في قبضة قهره، خاضع خضوعًا تامًا لقدره وأحكام مشيئته، شأنه في ذلك شأن بقية المخلوقات، مما يبطل مفعول الأمر والنهي؟ بالإضافة إلى ذلك، قدَّر الله منذ الأزل من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار. والأدلة الدينية على ذلك عديدة أورد منها، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، الحديث القدسي التالي: "إن الله تعالى قبض قبضة فقال هذا إلى الجنة برحمتي ولا أبالي، وقبض قبضة فقال هذا إلى النار ولا أبالي"[34]. ولكن بالرغم عن ذلك أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وشحنها بالأمر والنهي وميز بين الحلال والحرام، وما فائدة كل ذلك لمن كان مجبورًا بحكمته ومستعملاً فيما قدره عليه؟

4. إذا كان الله صانع الأشياء كلها، ومقدر الخير والشر على عباده، لماذا أراد للناس أن يعتقدوا أن إبليس هو سبب الشر والمعصية؟ ولماذا شاء تحميله أوزار أولئك الذين خلقهم للشر وأجرى الشر على يديهم؟ هل باستطاعتنا أن نعلل هذه المفارقة بردها إلى إحدى الصفات الإلهية المعروفة؟

أعتقد أن الصفة الإلهية التي نبحث عنها للإجابة على هذه الأسئلة هي صفة المكر. وإليكم بعض الآيات القرآنية التي تبين طبيعة هذه الصفة:

1.    "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين". (آل عمران، 54).

2.    "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين". (الأنفال، 30).

3.    "وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مسَّتهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرًا لإن رسلنا يكتبون ما تمكرون". (يونس، 21).

نجد أن بعض الآيات الأخرى تنسب إلى الذات الإلهية صفة مشابهة هي صفة الاستهزاء، كما في قوله تعالى: "الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون" (البقرة، 15). وأوردت بعض الآيات المعنى نفسه دون ذكر المكر الإلهي وتخصيصه كما في الآيات التالية:

1.    "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين". (آل عمران، 178).

2.    "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول". أي وجب عليها العذاب. (الإسراء، 16).

3.    "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم". (النساء، 141).

نستخلص من تفسير الطبري للآيات المذكورة ما يلي:

1.    ينطوي المكر على الاستهزاء والخديعة[35].

2.    ينطوي المكر على إظهار شيء لشخص ما وإضماره شيء آخر له، لذلك: "يظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي عنده في الآخرة"[36].

3.    إملاء الله للقوم، يعني "أن يمد من عمرهم وسعادتهم وجاههم، ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة"[37].

4.    لما قال الله: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول" كان قد شاء تدمير القرية، ولكن لئلا يكون للعباد عليه حجة في ما شاء لجأ إلى المكر فأمر مترفيها أن يفسقوا حتى يبدو للجميع وكأن القرية استحقت ذلك التدمير، بينما الحقيقة غير ذلك.

ويشرح أبو طالب المكي فكرة المكر الإلهي ويربطها بكل وضوح بابتلاء العباد، فيقول في كتابه الشهير قوت القلوب ما يلي:

وحدثنا عن أبي محمد سهل رحمه الله تعالى قال: رأيت كأني أدخلت الجنة فلقيت فيها ثلثمائة نبي فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا فقالوا لي سوء الخاتمة هي مكر الله تعالى الذي لا يوصف ولا يفطن له ولا عليه يوقف ولا نهاية لمكره لأن مشيئته وأحكامه لا غاية لها ومن ذلك الخبر المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل بكيا خوفًا من الله تعالى فأوحى الله إليهما لما تبكيان وقد أمنتكما، فقالا ومن يأمن مكرك. فلولا أنهما علما أن مكره لا نهاية له لأن حكمه لا غاية له لم يقولا "ومن يأمن مكرك" مع قوله "قد أمنتكما"، ولكان قد انتهى مكره بقوله، ولكانا قد وقفا على آخر مكره، ولكن خافا من بقية المكر الذي هو غيب عنهما... فكأنهما خافا أن يكون قوله تعالى "وقد أمنتكما مكري" مكرًا منه أيضًا يختبر بذلك حالهما كما اختبر خليله عليه السلام لما هوى به المنجنيق في الهواء فقال "حسبي الله ربي" فعارضه جبريل عليه السلام فقال ألك حاجة قال لا، وفاء بقوله "حسبي الله" فصدق القول بالعمل[38].

بعد هذه المراجعة السريعة لفكرة المكر الإلهي بإمكاننا القول إن الله كان يبدي لإبليس من الرضا غير ما شاء له من مصير وأضمر له من قدر ومحنة وخاتمة. أي أنه مكر به فأمره ظاهرًا بالسجود لآدم ولكنه شاء له ضمنًا أن يعصى الأمر حتى يكون له حجة على إبليس ليفعل به ما شاء وينفذ فيه قضائه وقدره. لم يكن أمر الابتلاء إذن سوى أداة المكر الإلهي غايتها تنفيذ أحكام المشيئة وتبريرها أمام مخلوقاته فتصبح بذلك مقبولة في أعينهم فلا يكون لهم حجة عليه فيما يفعل بهم. وكما قال أبو طالب المكي:

لا غاية لمشيئته وأحكامه، ولكن المكر الإلهي يتدخل ليجعل الأمور تبدو للعباد على غير ما هي عليه، أي ليجعل المشيئة تبدو وكأن لها غايات ومبررات وأسبابًا. لذلك مكر الله بالملائكة فأبدى لهم وكأن إبليس طرد لسبب وجيه هو العصيان ولولا هذا التدبير الماكر لاستعظمت الملائكة طرد سيدهم أكثر مما استعظمت قوله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، ولتعذر عليها تحمل أحكام المشيئة الربانية ومواجهتها مباشرة دون توسط المكر بمبرراته وتفسيراته. لذلك طرده من الجنة بحجة الأمر والنهي وليس بحجة نفاذ مشيئته فيه. كما أنه يحسن للعباد، من الناحية العملية، أن يعتقدوا أن إبليس عصى أمر ربه فطرده بسبب جحوده، لأنهم لو آمنوا عن حق بأن الله قدر عليه هذا المصير التعيس منذ الأزل لما تحملت عقولهم هذه الحكمة فيفقدون صوابهم ويكفرون بعدالته ورحمته. لذلك أرى أن الأمام المقدسي قد وقع على عين الصواب حين كتب ما يلي عن إبليس: "إن زل أحدهم قال إنما استزلتهم الشيطان. وإن نسي أحدهم قال فأنساه الشيطان. وإن عمل أحدهم قال هذا من عمل الشيطان. فأنا حمَّال أوزار المذنبين. وحمَّال أثقال الخاطئين"[39].

رأينا أن أبا طالب المكي ربط بين تجربة إبراهيم وبين المكر الإلهي لأنه عندما كان إبراهيم على وشك السقوط في النار توكل على الله توكلاً تامًا بقوله "حسبي الله ربي". غير أن الله أراد اختبار تمسكه بهذا التوكل فمكر به بأن أرسل له جبريل يعرض عليه المساعدة. أي كان إرسال جبريل إغواءً له للجحود بتوكله على الله ولكنه رفض مساعدة الملاك ونجح في التجربة، فكانت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم. بعبارة أخرى، شاء الله منذ القدم لإبراهيم أن يكون من أهل الجنة ومن أنبيائه الصالحين فابتلاه حتى لا يكون لأحد من مخلوقاته حجة عليه فيما شاء لإبراهيم من قدر ومصير. أما بالنسبة لإبليس فقد شاء له الله منذ الأزل أن يكون معلم التوحيد في الملأ الأعلى وأن يكون معلم الشر والمعصية في العالم الأدنى لذلك ابتلاه ومكر به حتى لا يكون لأحد عليه حجة فيما شاء لإبليس من مصير تعيس.

ومع أن الله قرر منذ الأزل من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وملأها بالأمر والنهي، وميز بين الحلال والحرام ليبدي لعباده أن سعادتهم وشقاوتهم تتوقفان على سلوكهم واختياراتهم في اتِّباع أنبيائه والتمسك بشرائعه وبذلك لا يكون لهم حجة عليه بالنسبة للمصير الذي كتبه عليهم "إنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون". وهذا يعني أن إرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمييز بين الحلال والحرام ليست إلا وسائط من مكره لتنفيذ أحكام مشيئته في عباده، شأنهم في ذلك شأن أهل القرية التي أراد الله تدميرها فأمر مترفيها ففسقوا فيها، وشأن الذين أملى الله لهم خيرًا لأنفسهم ليزدادوا أثمًا فعذبهم عذابًا مهينًا. ومع أن إبليس كان مجبورًا بحكمته لا حول له ولا قوة تجاه ربه لم ينفذ الله مشيئته فيه ويلعنه ألا بعد أن مكر به بواسطة أمر السجود. فظهر للجميع وكأن إبليس كان مسؤولاً واستحق هذا العقاب.

رددنا مرارًا أن الله هو صانع الخير والشر بدليل الحديث القدسي القائل:

إن الله عز وجل يقول: لا إله إلا أنا، خلقت الخير وقدَّرته، فطوبى لمن خلقته للخير وخلقت الخير له وأجريت الخير على يديه. أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الشر وقدَّرته، فويل لمن خلقته للشر وخلقت الشر له وأجريت الشر على يديه[40].

ولكن من مكره أراد للعباد أن يعتقدوا غير ذلك، وأن ينسبوا النقيصة والقبيحة إمَّا لأنفسهم كما فعل آدم عندما قال: "ربنا ظلمنا أنفسنا"، أو إلى تبليس إبليس وغوايته، وأن ينسبوا الخير والعدل والرحمة إلى الله كما فعل آدم عندما قال: "وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". بالإضافة إلى ذلك يحسن للعباد، من الناحية العملية، أن يعتقدوا بصورة عامة أن لله عدوًا اسمه إبليس اللعين هو مصدر الشر والزلَّة والخطيئة، لأنهم لو آمنوا عن حق أن الله هو مصدر بلائهم ومصائبهم التي تحيط بهم من كل جانب لما تحملت عقولهم هذه الحقيقة فيفقدون صوابهم ويكفرون به وبنعمته. كتب الإمام المقدسي على لسان إبليس ما يلي:

وبعد ذلك. فإنه جعلني سببًا لوجود الزلة. وعلة لتوجه الأمر والنهي. وفي الحقيقة لا علة لأمره. ولا معقب لحكمه. ولا سبب لبعد أعدائه. ولا نسب لقرب أوليائه. فإن الله تعالى غني عن خلقه. قائم بنفسه. قيوم بعباده. لا تنفعه حسنات المحسنين. ولا تضره سيئات المسيئين. فقد نفذ حكمه. ومضى قضاؤه. وجف قلمه بما هو كائن في ملكه [...] إن شاء عذَّب وأن شاء عفا. لا يلزمه إثبات الوعيد. بل الأمر إليه في وعيده. والمشيئة إليه في تهديده. فله أن يعذب بلا سبب. وأن يسعد بلا نسب ولا مكتسب[41].

إذا كان باستطاعة آدم أن ينسب النقيصة إلى نفسه أو إلى إبليس الذي أغواه وأن يطلب المغفرة والرحمة من ربه تمشيًا مع توصية السيد المسيح: "أعط ما للقيصر لقيصر وما لله لله". فإلى من يجب أن ينسب إبليس عصيانه وجحوده؟ أو على حد قول إبليس: "فلئن كنت إبليس آدم فليت شعري من كان إبليسي؟"[42]. وبطبيعة الحال أحال إبليس جحوده إلى مصدره الحقيقي والنهائي بقوله: "فبما أغويتني" فأعطى بذلك لله ما لله ولم يعط لقيصر شيئًا لأن قيصر لا يملك شيئًا على الإطلاق بالنسبة لإبليس ولا حول له ولا قوة حتى ينسب له أي شيء. إذا استرسلنا في مقارنة موقف آدم بموقف إبليس نجد أنه إذا كان إبليس أول بطل مأساوي في الكون كان آدم أول انتهازي لأنه رفض اتخاذ موقف محدد بين الأمر والمشيئة رغبة منه بالنجاة كيفما تمت الأمور، وهذا واضح في جوابه الذي رددناه مرات عديدة، فلو صح "الأمر" وكان آدم مسؤولاً بالفعل عن عصيانه يكون قد اعترف بذنبه واعتذر من ربه واستغفر فتتاح له فرصة النجاة، ولو صحت المشيئة وبذلك انتفت عنه مسؤولية العصيان يكون قد نجا بتسليم أمره لله وتعلقه برحمته وغفرانه. بعبارة أخرى، أضاف آدم الفعل إلى نفسه لما قال: "ربنا ظلمنا أنفسنا" وأخذ مسؤولية العصيان على عاتقه فكان "قدريًا" ونفى بذلك أن يكون الله قد قدر عليه الظليمة وأرادها له، ولما قال آدم "إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" تعلق بحبال الرحمانية المنوطة بعروة المشيئة فكان "جبريًا" ونفى بذلك عن نفسه مسؤولية الظليمة لأنه في هذه الحال يكون الله قد قرر منذ الأزل فيما إذا كان سيرحم آدم أم سيعذبه، فتكون الظليمة حجة الله على آدم ولا يكون لآدم حجة على ربه. نرى إذن أن آدم حاول النجاة عن طريق القدرية وعن طريق الجبرية في آن واحد تحوطًا منه إذ أنه لم يكن على يقين أيهما ستصح في نهاية المطاف. أما إبليس فقد اتخذ موقفًا محددًا بقوله "فبما أغويتني" فلم يضف شيئًا إلى نفسه بل أحال كل شيء إلى مصدره الحقيقي أي إلى المشيئة الإلهية فكان بذلك جبريًا مخلصًا ولم يحاول الاستفادة من القدرية كما فعل آدم بغية السلامة والنجاة.

رفض بعض المجتهدين إحالة النقيصة إلى المشيئة الإلهية، وقالوا إن إبليس هو مصدر الشر وخالق المعصية[43] رغبة منهم في تنزيه الله عن خلق الشر وتقديره على عباده. أعتقد أن هذا الاجتهاد ينسجم مع بعض النظريات الفلسفية التي تأثر بها المفكرون المسلمون أكثر بكثير ما ينسجم مع النظرة الدينية الخالصة للموضوع، وبما أننا نعالج شخصية إبليس ومكانته في الكون على المستوى الديني البحت لا يمكننا أن نأخذ بالاجتهاد المذكور. بالإضافة إلى ذلك ينسب هذا الاجتهاد إلى إبليس القدرة على الخلق والتكوين لا على التشويه والإفساد فحسب. وهذا قول مردود من الناحية الدينية. ولو أراد إبليس خلق المعصية لكان بقدرته تعالى أن يمنعها وبما أنه لم يمنعها نستنتج أن وجودها كان منسجمًا مع مشيئته السرمدية.

ورد معنا قول أبي طالب المكي "إن الخاتمة هي من مكر الله تعالى الذي لا يوصف ولا يفطن له ولا عليه يوقف". يعود بنا هذا القول إلى الخاتمة النهائية التي توقعتها لإبليس عندما قلت إن الله سيكافئه على نجاحه في التجربة التي ابتلاه بها ويعيده إلى الجنة عندما تشرف هذه الدراما الكونية على الانتهاء. سأقدم فيما يلي الاعتبارات والأسباب التي جعلتني استنتج أن نهاية إبليس ستكون نهاية سعيدة ومرضية:

1.    تمسك إبليس بحقيقة التوحيد تمسكًا لا مثيل له، ولذلك لا يمكن أن ينتهي في جهنم عملاً بالحديث القدسي القائل: "قال الله عز وجل إني أنا الله لا إله إلا أنا من أقر لي بالتوحيد دخل حصني ومن دخل حصني أمن عذابي"[44].

2.    نجح إبليس في التجربة التي ابتلاه الله بها وصبر على البلاء الذي حل به من جرائها وعليه فإن مكافأته النهائية مضمونة بدليل الحديث القدسي القائل: "قال الله عز وجل إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب للحفظة إني قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر"[45]. ولولا هذه النهاية السعيدة المتوقعة لإبليس لكانت خاتمته مأساة حقيقية ونهائية لا يمكن لمنطق الدين أن يقبل بوجودها كما مر معنا في السابق. وبما أن الخاتمة هي من مكره تعالى، جعل الله إبراهيم وأيوب يعتقدان أن خاتمة تجربة كل منهما ستكون على نقيض ما كانت عليه فعلاً وعلى عكس ما أراد لها الله من خاتمة، أي أنه أبدى لهما من أحكامه عند بداية التجربة غير ما أضمر لهما بالنسبة لخاتمتها. ينطبق هذا الاعتبار على إبليس إذ إن مكر الله يتطلب أن يعتقد إبليس اعتقادًا جازمًا بأن خاتمته لن تكون تعيسة ويائسة. نستنتج إذن أن اللعنة التي نزلت بإبليس لم تكن تعبيرًا عن نهايته الحقيقية التي شاءها الله له وإنما كانت مكرًا إلهيًا غايته تنفيذ أحكام المشيئة فيه.

لنفترض جدلاً أني على صواب في ما قلته عن حقيقة إبليس وعن خاتمته ومصيره النهائي، ماذا يستتبع هذا الافتراض من نتائج بالنسبة لموقفنا الشخصي من إبليس؟ أعتقد: أولاً أنه يجب علينا إدخال تعديل جذري على نظرتنا التقليدية إلى إبليس وإحداث تغيير جوهري في تصورنا لشخصيته ومكانته. ثانيًا يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكًا يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص وينفذ أحكام مشيئته بكل دقة وعناية. وأخيرًا يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيرًا بعد أن اعتبرناه، زورًا وبهتانًا، مسؤولاً عن جميع القبائح والنقائص. ولكن أرى من واجبي أن أحذركم أن العفو عن إبليس ورد الاعتبار له يستتبع نتائج وعواقب هامة لا تخطر على بال أحد في أول الأمر. إن مثل هذه الخطوة تضطرنا لأن نبذل الكثير من أفكارنا الدينية ومعتقداتنا الموروثة حول أمور الدنيا والآخرة. ولأعطيكم فكرة بسيطة عن خطورة العواقب التي قد يؤدي إليها العفو عن إبليس، سأستشهد بقصة طريفة وجميلة كتبها توفيق الحكيم[46]. يقول الحكيم في هذه القصة إن إبليس قرر ذات يوم أن يتوب إلى ربه وأن يرجع عن إثمه ليكرس نفسه لعمل الخير والسير على الصراط المستقيم، فذهب إلى شيخ الأزهر ليتوب على يديه ويدخل بارشاده في الدين الحنيف فدار الحوار التالي بين إبليس وشيخ الأزهر:

-        إيمان الشيطان؟! عمل طيب ولكن...

-        ماذا؟ أليس من حق الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجًا؟ أليس من آيات الله في كتابه الكريم: "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا"؟ هأنذا أسبح بحمده واستغفره، وأريد أن أدخل في دينه خالصًا مخلصًا، وأن أسلم ويحسن إسلامي وأكون نعم القدوة للمهتدين!

وتأمل شيخ الأزهر العواقب، لو أسلم الشيطان، فكيف يتلى القرآن؟ هل يمضي الناس في قولهم: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟!". لو تقرر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن... فإن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه ووسوسته لمما يشغل من كتاب الله قدرًا عظيمًا... كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمس بذلك كيان الإسلام كله؟!

رفع شيخ الأزهر رأسه ونظر إلى إبليس قائلاً: إنك جئتني في أمر لا قبل لي به... هذا شيء فوق سلطتي، وأعلى من قدرتي، ليس في يدي ما تطلب... ولست الجهة التي تتجه إليها في هذا الشأن.

-        إلى من أتجه إذن؟ ألستم رؤساء الدين؟ كيف أصل إلى الله إذن؟ أليس يفعل ذلك كل من أراد الدنو من الله.

أطرق شيخ الأزهر لحظة... وهرش لحيته ثم قال:

-        نية طيبة ولا ريب!... لكن... على الرغم من ذلك أصارحك أن اختصاصي هو اعلاء كلمة الإسلام، والمحافظة على مجد الأزهر، وأنه ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك.

أي أدرك شيخ الأزهر ضرورة وجود إبليس لإعلاء شأن الدين والمحافظة على مؤسساته. ولو اختفى الشيطان لزال سبب وجوده وذهب مبرر استمراره، وكما يقول الحكيم نفسه في ذات القصة:

كيف يمحى إبليس من الوجود دون أن تمحى كل تلك الصور والأساطير والمعاني والمغازي التي تعمر قلوب المؤمنين وتفجر خيالهم؟... ما معنى يوم الحساب إذا محي الشر من الأرض؟ وهل يحاسب أتباع الشيطان الذين تبعوه قبل إيمانه أم تمحى سيئاتهم ما دامت توبة إبليس قد قبلت...[47].

وبعد أن يأس إبليس من شيخ الأزهر صعد إلى السماء مباشرة وتكلم مع جبريل طالبًا منه أن يتوسط له عند ربه لينال المغفرة وتقبل توبته فدار الحوار التالي بين إبليس وجبريل:

-        نعم، ولكن زوالك من الأرض يزيل الأركان ويزلزل الجدران، ويضيع الملامح ويخلط القسمات، ويمحو الألوان، ويهدم السمات. فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة... ولا للحق بغير الباطل... ولا للطيب بغير الخبيث... ولا للأبيض بغير الأسود... ولا للنور بغير الظلام... بل ولا للخير بغير الشر... بل إن الناس لا يرون نور الله إلا من خلال ظلامك... وجودك ضروري في الأرض ما بقيت الأرض مهبطًا لتلك الصفات العليا التي أسبغها الله على بني الإنسان!

-        وجودي ضروري لوجود الخير ذاته؟! نفسي المعتمة يجب أن تظل هكذا لتعكس نور الله! سأرضى بنصيبي الممقوت من أجل بقاء الخير ومن أجل صفاء الله... ولكن... هل تظل النقمة لاحقة بي واللعنة لاصقة باسمي على الرغم مما يسكن قلبي من حسن النية ونبيل الطوية...

-        نعم يجب أن تظل ملعونًا إلى آخر الزمان. إذا زالت اللعنة عنك زال كل شيء...

-        عفوك ياربي! لماذا أحمل هذا الوقر العنيف، لماذا كتب عليَّ هذا القدر المخيف؟ لماذا لا تجعل مني الآن ملاكًا بسيطًا من ملائكتك، يباح له حبك وحب نورك، ويثاب على هذا الحب بالعطف منك والحمد من الناس؟ هأنذا أحبك حبًا لا مثيل له ولا شبيه... حبًا يستوجب مني هذه التضحية التي لم تدركها الملائكة ولم يعرفها البشر... حبًا يقتضيني الرضا بارتداء ثوب العصيان لك، والظهور في لبوس المتمرد عليك. حبًا يستلزم مني احتمال لعنتك عليَّ ولعنة الناس. حبًا لا تسمح لي حتى بشرف ادعائه، ولا بفرح الانتساب إليه. حبًا إذا كتمه النساك ملأ صدورهم نورًا... وأنا أكتمه، ولكن نوره يأبى من صدري اقترابًا...

وبكى إبليس، وترك السماء مذعنًا، وهبط الأرض مستسلمًا. ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره وهو يخترق الفضاء. رددت صداها النجوم والأجرام، في عين الوقت كأنها اجتمعت كلها معها لتلفظ تلك الصرخة الدامية:

إني شهيد!... إني شهيد!

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ ألقيت كمحاضرة في النادي الثقافي العربي في بيروت، 10 كانون الأول 1965، نشرت مع شيء من الاختصار في مجلة "حوار"، بيروت، كانون الثاني 1966. انظر أيضًا مجلة النادي "الثقافة العربية"، العدد الثاني، شباط 1966. (فصل من كتاب نقد الفكر الديني).

[1]  حققه محمد منير الدمشقي، مطبعة النهضة، القاهرة، 1928.

[2]  راجع تلبيس إبليس، ص 39-44، 65، 72، 82، 83.

[3]  المرجع السابق، ص 164، 165.

[4]  المرجع السابق، ص 45، 47.

[5]  المرجع السابق، ص 126.

[6]  مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، أو مقال في الإنسان، أرنست كاسيرر، ترجمة الدكتور إحسان عباس، دار الأندلس، بيروت، 1961، ص 147، 148.

[7]  تفليس إبليس، الإمام عز الدين المقدسي، مطبعة مدرسة والدة عباس الأول، القاهرة، 1906، ص 11.

[8]  أورد الطبري في تفسيره الشهير الأسطورة التالية، وهي ذات مغزى هام بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده: "فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث الله ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلطه، فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين".
تمثل هذه القصة الفارق بين المشيئة والأمر. أمر الله جبريل وميكائيل أن يأتيانه بطين من الأرض ولكنه شاء ألا يتحقق الأمر إلا على يدي ملك الموت، وكان له ماشاء. تفسير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف، مصر، ج1، ص 459.

[9]  تفسير الطبري، ج1، ص 475.

[10]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 15.

[11]  كتاب الطواسين، تحقيق لويس ماسينيون، باريز، 1913، "طاسين الأزل والالتباس".

[12]  "طاسين الأزل والالتباس"، مرجع سابق.

[13]  المرجع السابق.

[14]  إبليس، عباس محمود العقاد، دار الهلال، القاهرة، ص 10، 11.

[15]  المرجع السابق، ص 148.

[16]  كتاب الطواسين، المقدمة، ص 11، 12.

[17]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 4.

[18]  قال فريق من المجتهدين إن الابن الذي أُمر إبراهيم بذبحه هو اسحق بينما قال فريق آخر بأنه اسماعيل. وقد ناقش الطبري في تفسيره آراء الفريقين وأورد حججهم وانتهى إلى تبني رأي القائلين بأنه اسحق. وسأتبع رأي الطبري في هذه التسمية. تفسير الطبري، الطبعة القديمة، المطبعة الميمنية، مصر، ج8، الجزء3، ص 49.

[19]  يرى كيركجورد في استعادة إبراهيم لابنه اسحق خامة دينية خاصة تسمو بقصة إبراهيم فوق مستوى المأساة بمعناها الأدبي المعروف، ويرى في شخصية إبراهيم إنسانًا تجاوز بمراحل شخصية البطل المأساوي كما نجده في الأدب العالمي. بينما الواقع هو أن قصة إبراهيم تقصر تقصيرًا تامًا على الوصول إلى مستوى المأساة وتبقى شخصيته دون شخصية البطل المأساوي للأسباب المذكورة أعلاه.

[20]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 15.

[21]  من الأدب التمثيلي اليوناني، سوفوكليس، طه حسين، دار المعارف، مصر، ص 138.

[22]  من الأدب التمثيلي اليوناني، مرجع سابق، ص 151.

[23]  "طاسين الأزل والالتباس"، مرجع سابق.

[24]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 26، 37.

[25]  الإشارات الإلهية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، القاهرة، 1950، ص 80، 81، 82.

[26]  الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، الشيخ محمد المدني، حيدر آباد، 1258هـ، ص 87.

[27]  "طاسين الأزل والالتباس"، مرجع سابق.

[28]  الإشارات الإلهية، مرجع سابق، ص 81.

[29]  "طاسين الأزل والالتباس"، مرجع سابق.

[30]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 21، 22.

[31]  "طاسين الأزل والالتباس"، مرجع سابق.

[32]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 13.

[33]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 22، 23.

[34]  الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، مرجع سابق، ص 68.

[35]  تفسير الطبري، ج1، ص 201، 203.

[36]  المرجع السابق، ج1، ص 302.

[37]  المرجع السابق، ج7، ص 421، 423.

[38]  قوت القلوب، أبو طالب المكي، ج1، ص 229.

[39]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 26.

[40]  الاتحافات السنية، مرجع سابق، ص 71.

[41]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 38، 39.

[42]  تفليس إبليس، مرجع سابق، ص 16.

[43]  راجع: تفسير الطبري، ج1، ص 477-488، 508.

[44]  الاتحافات السنية، مرجع سابق، ص 4.

[45]  الاتحافات السنية، مرجع سابق، ص 10.

[46]  الشهيد.

[47]  الشهيد.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود