|
التجربة حررتني من الالتزام النمطي
يمكن القول بأن ما بين الشعر والشاعر أسعد الجبوري مساحة قابلة لجعل الارتباك تربة تفيض بالحرارة والتمدد وربما إلى حدود الفيضان. أسعد الجبوري كتب شعرًا لم يجد له النقاد العرب له أبًا في الشعر الحديث ولا في كتب التراث. فهو شاعر لا يتكئ على أحد. هكذا يمكن القول بسهولة. كانت تجربته بعيدة عن التأثر بحركة الشعر هنا أو هناك، لأنه شاعر استخلص من اللغة نفوذًا خاصًا به من خلال التجريب الدائم الذي لم يتوقف عند حد بعينه. من هنا سننطلق معه في هذا الحوار الحار حول مجمل الموضوعات الأدبية الخاصة بالشعر والرواية وطقوس الحياة اليومية. س. م. * سلام مراد: بعد تسع مجموعات شعرية، ثمة من يؤكد على تأثيرك في العديد من الأصوات الشعرية العربية. هل تعتقد بأن التأثير والتأثر من جوهر العمل الشعري؟ أسعد الجبوري: شيء مهم أن يحدث هذا التجاذب المغناطيسي بين الطرفين: ما بين المنتج للعمل الإبداعي باعتباره رب خبرة وبين القارئ باعتباره مستهلكًا للجوهر الفني الخاص بالنص. هذا مؤكد وطبيعي على حد فهمي. لكنني مع ذلك أنظر بحذر إلى هذه العملية كونها تحمل في طياتها المزيد من المخاطر. س. م.: مخاطر!! بأي معنى؟ أ. ج.: مخاطر التلوث بالنصوص الرديئة أقصد. فالتأثر والتأثير ليسا خاضعين للمنتوج الممتاز إبداعيًا على الدوام. كلا. فهنا ملايين من المؤلفات السيئة التي تسيطر على ملايين من القراء، وتأخذهم نحو الهاوية المظلمة. تأخذهم نحو الكهوف ومنازل الغبار والعمى. وبالتالي فهي نصوص تسيطر على شعوب بأكملها، مما يعني أنها طواحين تسحق وتفتت وتفرض ثقافتها القائمة على تغييب حرية الاختلاف، لأنها ثقافة تريد أن توحد العقول البشرية وخزائن أفكارها إلى فكرة مختزلة غير قابلة للتبدل أو الجدل أو الانقلاب. كما أن التأثر بالنصوص الخلاقة، هو الآخر، ينتج تبعية نصية تنحى صوب الاستنساخ والفوتوكوبية بأمراضها المختلفة، مما يُعقد أوضاع الكثر من الكتَّاب والأدباء إلى حدود عدم تمكنهم من التخلص من تلك الآثار وتوابعها. وتاليًا تراهم يقعون قرابين للنص القوي دون الانفلات من تبعاته. س. م.: هل تعني بأن التأثير والتأثر ورطة أدبية؟ أ. ج.: بالضبط. وأكثر من ذلك فهو مرض يحمل بكتريا قد لا ينجو منها الآخر، كونها غير قابلة للعزل ولا وجود لمضادات حيوية تستطيع محوها من الأمكنة التي عادة ما تخص أدوات الخلق والإبداع. تطهير الرأس من تلك البكتريا، قد لا يتم كما أرى إلا من خلال النص الأقوى. النص الذي يحتوى نص الآخر ويقوم بتفتيته ومن ثم تحويله إلى طاقة غامضة لا تظهر في ما يؤلفه الشاعر أو الكاتب الممسوس بالتأثير. لذلك تراني شاعرًا قائمًا على التجريب دون الالتفات إلى أحد. أمحو كل من يقع في طريقي دون ارتباك أو خوف أو مداهنة. لا ينجو الشعر من الضعف إلا بالتخلص من قوة الشاعر الآخر. س. م.: متى تفعل ذلك؟ هل مع الجميع مثلاً؟ أ. ج.: لا أجد نفسي إلا بعيدًا. ولا يجدون أنفسهم إلا خارجي على الدوام. كأنني نوح. سفينتي لا تستوعب غير مخلوقاتي، ومن كل اثنين واحد. س. م.: لمَ واحد بالضبط؟ أ. ج.: ربما لأنني أخشى على كائناتي من التناسخ. لا تعجبني في النص الثنائيات. استمرار تدفقها يصيبني بالهلع. الازدحام بالمتشابهين، يجعل مرآة مرعبة. س. م.: طالما يصفك نقادك بالسوريالي. كيف تجد نفسك هناك؟ أ. ج.: سأقول لك كلامًا جميلاً. بسيطًا. أنا شاعر لا نقاد له منذ نشأته الشعرية الأولى وحتى الآن. لا أعرف لماذا؟ ولكن ربما لأنني أكتب نصًا لا يقربه إلا المطهرون من الأدوات النقدية الكلاسيكية التي تربوا عليها من كتب هذه المدرسة أو من مدرج جامعة كانت هناك. لقد حررتني تجربتي من الالتزام النمطي وما ينمو في تربتي الشعرية من سكون. ومن هنا لم أكن شاعرًا وسطيًا في يوم من الأيام، لينشأ على كتفي غواة مضادون لحركتي بين طبقات النص. أنا كسوريالي أو غير سوريالي معني بالمدى الذي توفره لي اللغة لأصنع منها طيرًا خارج القفص أو سمكة بعيدة عن الاكواريوم وذكرياته السوداء. السوريالية الغربية سهمُ في هواء النص، وهي في النص العربي عربة بعجلات ما تزال مربعة أو مثلثة. س. م.: هل تعتقد بأن الشعر نوع من السحر؟ أثمة ادعاء في أمر من هذا القبيل؟ أ. ج.: لا وجود لشعر في غير ترسانة السحر والساحر. الشاعر الناهض من تربة اللغة، غير ذلك البستاني الذي يحرث في الأرض لاستخراج الزرع والنباتات على مختلف صنوفها وألوانها. نحن عندما نتحدث عن السحر الشعري، فإنما نعني بذلك حجم الفلزات وكمياتها الموجودة في النص. أو تلك التي تحرك الكلمات في الاتجاه اللامنطقي الصحيح والخاص بالشعر. كل مخلوق في هذا الكون يحمل رغبة أن يكون ساحرًا حتى في أشد لحظات التاريخ وأعمقها هولاً. الحياة لا تستمر خارج لعبة السحر. والشعراء هم أول السحرة وآخر من يلعبون في آتون السحر والخرافة والنار. س. م.: أنت شاعر تُقلق اللغة ببلاغات تجعلها عصية على الفهم. تجعل اللغة شائكة، وفيها الكثير من عسر الهضم أو الغموض. أ. ج.: نحن لو أفرغنا اللغة، أية لغة في العالم، من نفوذ البلاغة، لكانت مخلوقًا دون قفص صدري وعرضة للالتهاب أو الهلاك. البلاغة التي نعنيها رئة تتنفس بها الكلمات وتنجو من الاحتقان والربو. من هنا يمكن تحصين الكتابة بهذا اليورانيوم القادر على إنتاج الحركة وصولاً إلى اللذة التي تجسدها عملية التأليف. س. م.: ولكن بعضهم من يقول بأن القارئ آخر «هم» أسعد الجبوري! كيف؟ ألا تفكر بالقارئ حقًا؟ أ. ج.: أنا وإن لم أفكر بالقارئ في إثناء الكتابة، إلا أنني أعتبره جزءًا من كياني الأدبي الذي لا تستكمل عملية التأليف دونه. ثمة خلاف تاريخي على القارئ. خلاف يبدأ من لحظة التأليف الأولى، فيما ذا كانت الكتابة تعنيه هو وحده، أم هي في اتجاه آخر. س. م.: وهل ثمة قارئ سري آخر تتجه الكتابةُ نحوه؟ أ. ج.: القارئ الظاهر على مسرح العالم ليس وحده محط اهتمام المؤلف المبدع. هناك قارئ باطني يستولي على أنماط الكتابة الحارقة المثقلة بعوالم قد لا نجدها في واقعنا المعاصر واليومي. أنا شاعر وروائي. ربما لي قراء من غير هذه العوالم المعلنة راهنًا. قراء آخرون بتربة مشبعة بخيال مؤلم. بخيال نادر. ومخيلة شائكة تعطي اللغة ولا تأخذ من حطامها إلا الحرائق. س. م.: لقد قدمتك قصيدة النثر إلى القارئ على طبق من ذهب. فأنت أول من اخترق الحصار وجرَّ اتحاد الكتاب العرب إلى الموافقة على طبع أول مخطوط له صخب طيور مشاكسة لنشر أو تبني مشروع قصيدة النثر عام 1978 على ما أعتقد. هل كان سيحدث لك لو كتبت شعرًا كلاسيكيًا أو على غرار شعر التفعيلة؟ أ. ج.: أشك لو قلت بأن الشاعر ابن لهذه المدرسة أو تلك. الشعر بخصائصه البيولوجية التي قد أدرك سرها كما أعتقد، حيوان قارض لكل المدارس ولكل الأنماط ولكل الأساليب. أظن الشعر ليس بذلك العمل الجراحي الذي يجب اللجوء إليه من أجل الحصول على براءة اختراع في قصيدة العمود أو التفعيلة أو في قصيدة النثر. صحيح إن الأخيرة قصيدة برمائية تشابه إلى حد ما الروح التسونامية في ابتلاع الأعمدة لشعرية وأحجار التفعيلة، ولكنها تواجه الآن مصيرًا مشوبًا بالقلق جراء عدم تمكنها من السيطرة على المساحات الكبرى التي تحتلها في عالم الشعر المعاصر. أنا أؤمن بأن قصيدة النثر تشبه اليوم تلك الرمال المتحركة، كثيرًا ما تبتلع كتابها أو تغوص بهم في قيعان خطرة لا ينقذهم من أهوالها قراءٌ ولا نقاد عابرون. س. م.: كأنك تعتبر قصيدة النثر مرضًا شعريًا؟ أ. ج.: نعم. قصيدة النثر مرض شعري بامتياز. مرض يصيب اللغة فيطهرها من البوار. مرضٌ يخلخل العقلَ النائم وراء السواتر الترابية، فيحيله إلى حقل تملؤه زهور عباد الشمس. وربما يكون هذا أجمل أمراض اللغة العربية. س. م.: ثمة من يظن بأنك غارق بهوس تخرب اللغة العربية شعريًا. تدفعها نحو مواقع غير محتملة تارة باللعب وتارة بالتوليد أو التجريب. ما رأيك؟ أ. ج.: ليس في هذا الكلام ما يخدم الوقائع. اللغة العربية قادرة على استيعاب قنبلة نووية دون أن تلحق فيها ما يضرها أو يتسبب بهلاك شيء منها. من هنا نجدها شاسعة وكونية. وهي لغة تستطيع حماية نفسها وحماية كتابها بحرية تامة. لذلك عندما نجرب ونقوم بالتوليف والتوليد وتدمير الصيغ والعلاقات القديمة، فإنما نمنحها قدرة إضافية على أن تكون عصرية أكثر ويومية أكثر مما يتخيله ديناصورات المجمعات اللغوية ممن ينشغلون بتنظيف جلدها من الوبر على اعتبارها لغة بدوية بالأصل. ولأمة ربما ما تزال جاهلية بنظرهم! س. م.: الشعرية النسوية. هل تعتقد بوجود تقسيم من هذا القبيل؟ أ. ج.: نعم. هناك شعريات نسوية متعددة. وأغلبها يقوم على التأليف الإيروسي كهدف لا حيد عنه. صحيح إننا نفتقد الجرأة في بناء النصوص، ولكنها ليست تلك الجرأة الخاصة بالجنس والتداعيات الإيروتيكية القائمة على فتح أبواب الجسد أمام قارئ الفرجة. القارئ الباحث عن سيقان ونهود ومؤخرات وتخوت مطرزة بالحرير والساتان والتأوهات. النص الشعري قد يتعايش مع رغبات القارئ الشهواني، ولكنه لا يملك دوام الاستمرارية. الشاعرات العربيات في غالبيتهن العظمى من فصائل «الجيشا» اليابانية، نسوة غرف نوم، لا يبتعدن عن تمثيل أجسادهن الشبقة في النصوص بمثل تلك الكثافة، حتى إن بعضهن يرغبن بلصق قطع لحم من أجسادهن بكل نسخة مما يطبعنه هدية للقارئ. حوار: سلام مراد الثورة، الملحق الثقافي، 29-6-2010 |
|
|