|
قطوف من شجرة الحياة 11
لا نعتقد أن أحدًا يحق له أن يقول لفاعل الخير توقف عن أدائه. ففعل الخير غريزة في الحياة تولد مع الطفل ساعة ولادته، وإن كانت قليلة الوضوح في سلوك بعض الأفراد أو الجماعات في وقتنا الراهن. إن كل الديانات السماوية، كما المواثيق الأخلاقية ومناهج التربية في المجتمعات التي تؤمن بالإنسان قيمة تستحق الرعاية، توصي بفعل الخير، لأن في أدائه تتنامى في الإنسان رسالته. وفي السياق نفسه، من الطبيعي الإشارة إلى أن من ينعم بتداعيات هذا الفعل لسبب أو لآخر يجب ألا يستسلم، بحال من الأحوال، إلى ظرف ما جعله يقف في موقع الآخذ لا المعطي، وإلا صار كما الطفيليات تتكاثرعلى ضفاف نهر شح فيه الماء. *** إن المعرفة البشرية، سواء ما حفلت بمعانيها صفحات الكتب، أو ما حفلت بها التجارب الإنسانية عبر الماضي مرورًا إلى اليوم، تؤكد بأن إدراك القدرة على التحرُّك في المكان المناسب وفي الوقت المناسب غالبًا ما يساعد المرء على تخطي المنعطفات الخطيرة في حياته إن هي داهمته في سبيله إلى غايته، وإنه بقدر ما يكون إدراكه لهذه المعادلة موضوعيًا يكون قد عرف ما أراد، وبذلك يكتسب صاحب هذه القدرة صفة التميُّز عن الآخر، ويوصف عادة بأنه إنسان عمليٌّ. بيد أن هذه المعادلة لا بدَّ أن تفقد قيمتها حين تسخَّر لخدمة الذات على حساب هذا الآخر أو ذاك وتؤذيه، لأنها بهذا تأخذ منحى ينزلق لا محالة في اتجاه الأنانية. *** إن قدرًا كبيرًا من الحقائق التي تتصل بحياة الإنسان، أيًّا كان هذا الإنسان، يبقى بعيدًا عن الآخر بنسبة ما تتعلق بما يمكن تسميته بالـ"الخصوصية"، وذلك على نحو حجم الثروة التي يمتلكها تحديدًا. وهذه المسألة طبيعية في اعتقادنا، ومبررة في الوقت عينه، لأن لكل إنسان في هذه الحياة ما يرغب بإعلانه أمام الملأ، وأيضًا ما يريد إخفاءه، لسبب من الأسباب التي يبررها بنفسه. وعلى هذا تبقى مسألة الوضوح، لدى البعض من شخصيات اليوم كما بالأمس، مسألة تقارب الحرص على إخفاء ما يمتلك المرء من ثروة، لا الحرص على الإدعاء بأهمية المركز الذي يحتله أو الثقافة التي يدَّعي امتلاكها حتى في حال غيابها. إن النفس الإنسانية، كما نعلم، بمنزلة مخزون عميق تختبىء فيه شتى الحقائق وأحيانًا تظهر على السطح عفوًا لسبب من الأسباب، بفعل إرادي وذلك على قاعدة العرض والطلب – إن صحَّ التعبير – وتحديدًا في المكان والزمان اللذين يتم اختيارهما لاعتبارات غالبًا ما تتعلق بحماية المصلحة الشخصية، وهنا قد يأخذ الفعل الإرادي معناه المؤكد وذلك على غرار السلعة التي تباع في الأسواق. وهنا أيضًا يكمن سرُّ الإنسان الذي لم يكتشفه أحد بعد بما في ذلك هو ذاته. وربما لكون هذه المسألة حقيقة ثابتة منذ القديم، قال الأديب المعروف أندريه مالرو ذات يوم: "إن أهم الحقائق عن المرء ما يتركه مخبوءًا". وهو بالتأكيد لم يقصد الحقائق عندما تكون مزيفة على نحو ما يتقنه البعض في أيامنا هذه. *** بين الناس من يعتقد أن تكرار الكذبة يحوِّلها إلى حقيقة. إلى ذلك يقول البعض منهم اكذب ثم اكذب حتى تصدق أنت نفسك كذبتك. وقد روَّج لهذه الكذبة ذات يوم – زمن الحرب العالمية الثانية – رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، ومن ثم غدا هذا النهج – ولضرورات الحرب بداية – لدى ساسة بريطانيا عادة. وفي مقابل ذلك وجد أيضًا من أوصى بأن يكذب المرء مرة وأن يقول الصدق مرة. وحجة القائلين بهذه الوصية أنه إذا صُدِّق أحدنا وعرف بصدقيته أكثر من مرة كان سهلاً عليه أن يمرر كذبته على خلفية صدقيته تلك. وهذا الاتجاه هو الأكثر رواجًا في وقتنا الراهن. وباستثناء بعض الحالات التي تتطلب لجوء المرء إلى الكذبة العابرة في سلوكه، فإنها مع ذلك تبقى، من حيث المبدأ، سابقة يصعب عليه محو تبعاتها من ذاكرة الآخر. وقصة راعي الغنمات والذئب معروفة. *** ثمة قناعة لدى فئات متعددة، خصوصًا في مجتمعاتنا العربية، أن الناس متساوين فيما بينهم لأن الشمس، على حد قول أحد فلاسفة الرومان في زمانه، "تشرق على الأشرار أيضًا". وفي سياق هذه القناعة يحاول البعض منا في أيامنا هذه السعي وراء قلب الحقيقة وذلك على نحو تبرير غريزة التملك بجمال القامة أو الوجه، وغريزة الحقد بثقافة حاملها، وغريزة الانحراف الاجتماعي بوفرة المال، وسوى ذلك. بيد أن هذه المعادلة تبقى ناقصة، وإن يكن دافعها سببٌ ذاتي أو جمعي، بمعنى على مستوى الأفراد أو المجتمعات. وبذلك يتساوى اللص مع الأمين، والجبان مع الشجاع، والعالم مع الجاهل، والخائن مع الوطني، وبذلك أيضًا من البديهي أن ينهار الإنسان في الإنسان، وأن ينهار المجتمع مع أفراده معًا. وهنا تكمن الكارثة إن على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. |
|
|