|
التحليل النفسي أداة لفك الأغلال المحجوبة ويساهم في انبثاق العلمانية
انبثاق ما يسمَّى المحلل النفسي، في بلد مثل المغرب، الذي انخرط بفعل الاستعمار في حداثة تابعة، فيما عمقه الثقافي والاجتماعي ضارب في التراثية، قد يبدو من غرائب مفارقات التاريخ الحديث. إذ كيف يمكن المحلل النفسي أن يتدخل في مجال هو حكر على الفقيه ورجل الدين، اللذين يملكان المعرفة والسلطة في مجال الداء والدواء، وتاليًا يحتكرناهما؟ كيف يمكنه منافسة معرفة مفصلة مسبقًَا على قياس لاهوتي؟ كيف يمكنه أيضًا نفض الجسد والخطاب عن الثقل الوازن للغة اللاهوت، واقتراح لغة تحليلية علمية بديلة؟ هذا أحد الرهانات التي يطرحها وجود التيارات التحليلية، فرويدية ولاكانية، في المجتمعات العربية–الإسلامية. فقد تشكلت، في وقت مبكر في المغرب، حلقات تحليلية، على هدي الحلقات الموجودة في فرنسا، لتقديم خطاب بديل من الجسد والمخيل واللاوعي، لا تحدوها رغبة لهدم الخطاب السحري–اللاهوتي، بل تقديم شبكة مفاهيمية وخطابية جديدة مفسرة لأمراض الأزمنة الحديثة التي رافقت التحولات العمرانية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات العربية الإسلامية. جليل بناني هو أحد المحللين النفسيين المغاربة الذين عكفوا، بفضل تعددية تخصصه المعرفي، على مساءلة البنيات الخطابية والذهنية اللاواعية للذات المغربية، سواء في عيادته أو في أبحاثه النظرية، من مثل التحليل النفسي في بلاد الأولياء، أو الجسد المشكوك فيه، أو من خلال مساهمته في اشغال جماعية من مثل "المعجم الدولي للتحليل النفسي"، "الإسلام والتقليد"، "ممارسة التحليل النفسي بالمغرب العربي" و"التحليل النفسي في العالم العربي والإسلامي". في ما يأتي مقابلة معه حول هذه الإشكالية. ا. ق. * المعطي قبال: كيف تنظرون إلى وضعية التحليل النفسي في المجتمعات العربية–الإسلامية؟ جليل بناني: المجتمع العربي ليس واحدًا، بل هو مجتمعات ذات حقائق متباينة تخضع لشروط اجتماعية، ثقافية، دينية وتاريخية متنوعة. إلى عهد قريب، ساد الاعتقاد أن التحليل النفسي تخصص غربي، وأنه ترف ينحصر في الطبقة البورجوازية. بيد أنه تسرب تدريجيًا إلى العالم العربي والإسلامي، مرافقًا التحولات الاجتماعية تحدوه رغبة التمكن من التعبير الفردي. داخل العالم العربي–الإسلامي، أرسى التحليل النفسي في البداية كيانه داخل ثلاث دول، تعتبر ريادية في هذا الميدان: مصر، وذلك بدءًا من الثلاثينات، لبنان والمغرب منذ السبعينات. يرجع تاريخ "إدخال" التحليل النفسي إلى بلدان مثل تونس، الجزائر وسوريا، إلى عهد حديث. غير أن المغرب يبقى أول بلد عربي–إسلامي عرف حضورًا للتحليل النفسي في الفترة الاستعمارية. ا. ق.: ما هي عوامل المقاومة والانحصار التي تعوق انبثاق الممارسة التحليلية في المجتمعات العربية؟ ج. ب.: يتوقف نمو التحليل النفسي وانتشاره على تحرر القول، على خلع التابوهات والمحرمات، على إعادة النظر في الأعراف المفروضة من التراث. مما يعني أن المقاومات لها صلة بكل ما يعارض هذه الحريات. وهي مقاومات داخلية وخارجية. للأولى علاقة بوزن العصاب، وقد تجد تبريرها وسندها ضمن معتقدات دينية، وتحديدًا ثقافية. أما المقاومات الخارجية فهي على صلة بالضوابط السياسية، وخصوصًا المسألة الديموقراطية، التي تعتبر أحد الشروط الأساسية التي قد تفسح في المجال لإمكان الوجود القانوني الذي يمكنه الاعتراف بالمؤسسة التحليلية. هذه المؤسسة هي التكملة الضرورية لمشغول العلاج، على اعتبار أن أهدافه هي التبليغ، التعليم وتطوير الخطاب التحليلي. ا. ق.: أي آلام يشخصها المحلل النفسي الذي يمارس في العالم العربي؟ ج. ب.: أصادف مشكلات لها صلة بصراع الهويات: بين أجيال وأجناس، بين الأصالة والحداثة. وهي تتأتى غالبًا بدءًا من القطيعة بين نظامين، ثقافتين، ولغتين. في هذه الحالات يتم الحديث بشكل مبالغ فيه عن "الفصامية"، للإشارة إلى الفوارق، إلى القطائع والانتماء المزدوج، فيما الأمر يخص صراعات ناتجة من تشوش في الهوية. هذا ما تؤكده حالة الشباب، الذي يستطيع الانتقال من طرف إلى آخر، ويمكنه أيضًا تبني هويات عديدة، عندما يتنقل من موضة إلى أخرى، من ثقافة إلى ثقافة ومن لغة إلى لغة. كما في مقدوره النمو ضمن تمازج ثقافي وفي أحضان وضع لغوي مزدوج. غير أن "الما بين" هذا، يمكن أن تنجم عنه أيضًا قطيعة. قضايا ثنائية اللسان أو الازدواج اللغوي، هي اليوم محط نقاشات مهمة. الشيء نفسه ينطبق على استعمالاتنا للغة الأم، العربية الدارجة واللغة المكتوبة أو الفصحى. غالبًا ما يعيش الطفل قطيعة بين الوسط العائلي والمدرسة. لاحقًا، وعلى مستوى التعليم العالي، يمكن أن يحصل تفاوت بين اللغة العربية واللغات المسماة أجنبية. في عيادة المحلل النفساني، يتحدث المريض بشكل عفوي باللغة العامية. غير أنه يملك إمكان الانتقال من لغة إلى أخرى، من جملة إلى جملة، ومن كلمة إلى أخرى، كما لو كان الأمر يتعلق باللغة نفسها. نصادف أيضًا في عيادة الطبيب وضعيات أخرى. لنذكر بتواتر حالات من الانهيار تترجمها انتكاسة في الطاقات والقدرات، وتعبِّر عنها مشاعر الخسران الناجمة عن أسباب عديدة، مثل الحداد، الصراعات، التحولات وفقدان مرجعيات الاستدلال. كما أسجل أيضًا تواتر تصرفات هلوسية قد تحجبها طقوس دينية: إفراط في النظافة، تكرار للغسل وطقوس الصلاة، هي بمثابة تفاسير لشكوك تتكرر باستمرار. نصادف كذلك سلوكات للإخفاق المدرسي، العائلي أو المهني والتخوفات الناتجة من الفوبيا والإضمار. ا. ق.: في المغرب، وربما في مجتمعات إسلامية أخرى، يتنافس المحلل النفساني وفقيه الدين حول جسد الشخص المريض. بأي طريقة يتصرف المحلل النفساني في هذا الصراع؟ ج. ب: قام التحليل النفسي على دعامة معرفية طبية وطب–نفسية. بيد أن الطب تلاحم مع تربة تقليدية كان يمثلها الفقهاء، السادات والأولياء والسحرة والمشعوذون. جاء الطب النفسي ليحدث قطيعة إبستيمولوجية، نسب بموجبها الجنون لا إلى أسباب القداسة بل الى أسباب إنسانية. طرح بدل التصورات التقليدية نظامًا تصنيفيًا. لم يعد الجن والسحر يندرجان داخل نظام أحادي يفسر، أو يجد تفسيره في المعتقدات وفي الكون، بل ضمن مقولات تشخيصية: الهيستيريا، الهلوسية، البارانويا،... إلخ. نقف هنا عند تحول ما. يعود التحليل النفسي إلى اللغة لتشديد التركيز على الذات. وهو بذلك يسائل التقليد بواسطة الأدلة المنتقاة من الثقافة: إذ لا أحد يمكنه التملص من انتماءاته الرمزية. لا يُحدِّث التحليل النفسي أي معارضة بين التقليد والحداثة، لكنه يحاول إعادة التمكن من التقليد، بإعادة إدماجه في قيم عالمية. ا. ق.: هل هناك طلب على التحليل النفسي في العالم العربي، ومن هم "زبائن" هذا الطلب؟ ج. ب.: إدخال التحليل النفسي ونقله، وفرا إمكان انبثاق إنصات يتكئ على الرغبة، وذلك بمنأى من أي طلب: الرغبة في التغيير، في إعادة النظر، رغبة الانخراط في المصير الذاتي. يجد هذا الطلب حقيقة تعبيره لدى أقلية، لكن ما إن يرشح التحليل النفسي خطابات أخرى (وهو ما يعرف بالتحليل النفسي الموسع)، حتى تتمخض عن ذلك تأثيرات على ممارسات أخرى، سواء أكانت طب–نفسية أم تربوية. لكي يتم نقل التحليل النفسي جيدًا في مجتمع ما، ولكي لا تكون العملية مجرد زرع لجسد مستورد، عليه أن يكون مترسخًا ضمن الثقافة وأن يكون محتضنًا منها. لذلك يجب "إعادة ابتكاره" والتمكن منه بواسطة لغة البلد وثقافته. ا. ق.: أي سلطة للتحليل النفسي أمام الهيمنة الزاحفة للاهوت على الجسد، على الخطابات والمخيلات؟ وأي موقع للذة والمتعة؟ ج. ب.: في الإسلام عالمان: عالم المتعة وعالم المحرمات. يشجع الأول الجنس ويعارض فكرة الخطيئة والغفران التي تدمغ المسيحية، أما الثاني فيقمع المتعة. تنتمي الرغبات والممارسات الجنسية إلى مرحلة محددة وتندرج ضمن خطابات مميزة. جنة الإسلام هي عالم عجيب وهلامي. التيار المهيمن اليوم هو لصالح القمع الجنسي. عالم الملذات، كما تم وصفه ماضيًا بـ"الشرق"، غذَّى فانتاسمات الغرب. اليوم، ترك عالم ألف ليلة وليلة مكانه إلى فانتاسمات أخرى لا توجد المرأة فيها محجبة في خمار. يجب القيام بتحليل تاريخي، أنتروبولوجي، سوسيولوجي للنص. ليس للتحليل النفسي أي طموح لمعارضة صحوة الخطاب اللاهوتي أو معارضة الإيديولوجيات، لكنه يوفر مجالاً للحرية. يمكن مشغول المحلل النفساني أن يفضي إلى التمييز بين المعتقد الديني والضغوط والمستلزمات، سواء أكانت هذه عصابية أم اجتماعية. يمكن المعتقد إذًا أن لا يفرض من الخارج، كما يمكنه أن يتحرر من هواجس الخوف، من الصراعات والأوهام. بفكه الضغوط العصابية والقيود المفروضة على المعتقد، فإن في مقدور التحليل النفسي المساهمة في انبثاق شكل من أشكال العلمانية. أجرى الحوار: المعطي قبال النهار |
|
|