|
الماضي كظاهرة صحية أو إشارة إلى سقم يصيب الإنسانية
تأخذنا الروائية الألمانية هرتا مولر في الإنسان طائر درَّاج كبير في هذه الأرض إلى معاينة وقت آيل إلى التحجُّر في منطق ناس اختاروا ألا يغادروا مؤثرين البقاء نكايةً بعجلة الهجرة. تكتب: "يتوقف الزمن بالنسبة إلى أولئك الذين يمكثون"، لتطرح آليات الموت البطيء الموزَّع في كل ركن من إحدى القرى الرومانية المرصودة للرحيل، وتأتينا بمفاتيح فهم تعثُّر مسار الزمن، لا سيما في حقبات الأزمات والأهوال والحروب. غالب الظن أن الفكرة هذه تجعلنا نستوعب شيئًا من دوافع اللبنانيين لاختيار الإغلاق على جزء من ذاكرتهم المنخورة وجعًا في حظيرة النسيان. الحرب حلقة من ماضي نحاول تفاديه، فيما نسعى إلى المفارقة، وفي الوقت عينه إلى تحديد وظيفته. نسأل: هل الذاكرة، التي تدفعنا إلى التنبُّه لوجود هذا الماضي، هي ظاهرة صحية أم على نقيض ذلك: إحدى علامات السقم التي يصيب الإنسانية؟ يعلِّمنا نيتشه أن النسيان مؤتمن على وظيفة حيوية، فيما الذاكرة ملكة سلبية. هذا في الفلسفة، أما في البحث فإن كتاب ذاكرات الحرب في لبنان (1975-1990)، الصادر بالفرنسية في أيار 2010 عن "دار سندباد" في باريس تحت إدارة فرانك ميرميه وكريستوف فاران، يعيدنا عنوةً إلى تمرين استعادي نمقته في معظم الأحيان، وإلى مراحل متفاوتة من الحرب الأهلية اللبنانية، إلى نزاع وطني–جماعي وفئوي–فردي في آن واحد. الكتاب نتيجة تعاون بين "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" (ايفبو) وجامعة القديس يوسف، أثمر رزمة من الدراسات الميدانية لباحثين لبنانيين وأوروبيين أجريت في لبنان بين عامي 2007 و2010 في إطار برنامج "لبنان، ذاكرات الحرب. ممارسات وآثار واستخدامات". والحال، إن تلك المساهمات تلقينا في شرك ذاكرة متعددة، بل ذاكرات مجزأة على نسق الطوائف والمناطق والحوادث الميدانية والصولات والجولات العسكرية والمجازر ووسائل التعبير المختلفة وأنماط التأريخ وثقل الشهادات. إنها أشبه بضوضاء تمزج اللحظوي بالموروث، تمَّت معاينتها في مقدمة المؤلِّف "تضخُّمًا في الذاكرة" بنتيجة سياسات الهويات المعاصرة. يقترض الكتاب من طريق نحو ثلاثين دراسة مناهج العلوم الاجتماعية ويلجأ إلى الأنثروبولوجيا وعلم اجتماع الذاكرة من حيث الإحاطة النظريَّة، ليجرِّب وضع سند لإسقاطات ذاكرات الحرب وممارساتها في لبنان اليوم. لا يدين الكتاب إلى صنف كتابي واحد. إنه في الغالب تلوينات من الدراسات تقع بين النمط الصحافي التقريري والتوثيق والوثيقة القانونية والإحصاءات واللوائح الرقمية والمرويات المتكئة على حكايات معيشة تتخذ هيئة اليوميات، كما هي حال نص "يوميات ج. س. إحدى مهجَّرات الحرب"، وكان نشره كاتبه عالِم الاجتماع وضاح شرارة بالصيغة العربية فصلاً في كتابه أهواء المدينة الصادر عن "دار النهار". وإذ تعدُّ الذاكرة مقبرة مهملة حيث يرقد الموتى من دون تشريفات، يحاول منذر جابر قراءة الذاكرة من طريق المثاوي الأخيرة في الضاحية الجنوبية من بيروت المختلفة في عرفه عن العوالم السفلية في أنحاء أخرى من العاصمة. يجد في الضاحية "مدينة في طور التكوين"، تمدُّها الظروف المؤهلة للديموغرافيا الشيعية، المتعددة الانتماء العائلي والقروي والمناطقي، بطابعها المدفني الاجتماعي الجديد. يعاين عالم الاجتماع والأستاذ في الجامعة اللبنانية منذر جابر مراكز راحة أبدية تراها الأمثولة الاجتماعية نائية عن الانتهاز أو الضغينة أو الغرضية، غير أن الاجتماع البشري لا يحيِّدها، ويجرُّها إلى الانتساب إلى جماعة أو تيار اجتماعي. تبين تخوم العاصمة مساحةً للذاكرة كذلك، في دراسة أعدَّها الكاتب والزميل محمد ابي سمرا وتتناول المجتمع المحلي وذاكرة أهله في قرى ساحل المتن الجنوبي، أي حارة حريك والشياح وبرج البراجنة، وتتكوَّر خصوصًا على مجتمع حارة حريك وذاكرة أهله المسيحيين. ها هنا يرصد أبي سمرا تحوُّل المكان ليصير مجتمع ضاحية عشية الحرب، ويلاحق مقدمات هذا التحول منذ ثلاثينات القرن العشرين. يرقب أبي سمرا من طريق أكثر من خمس عشرة شهادة وسيرة حياة وإقامة ونزوحًا، أشخاصًا من مختلف الأعمار من قدامى الأهالي والسكان في بلدة حارة حريك المحلية من المسيحيين الذين هجروها أو هُجِّروا منها. يوزِّع حركة رحيلهم بين ثلاث حقبات تبدأ بظهور السلاح الفلسطيني في أواسط ستينات القرن العشرين، وتعقبها الحرب الممتدة بين 1975 و1982 حيث عاش أهالي حارة حريك موجات متمادية من القلق والخوف والانكفاء والحصار والتعرض لمضايقات واعتداءات، إلى حقبة ثالثة وأخيرة بين 1982 و1988 شهدت احترابًا أهليًا وتصفيات دموية داخل الحارة وفي محيطها. في خضم جعل الذاكرة تقابل فروض التاريخ، تتوقَّف المؤرِّخة ورئيسة قسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الانسانية في جامعة القديس يوسف كارلا اده، في "ذاكرات المحاربين: مقاربة جديدة لأبطال الصراع"، عند المشاركين في الحرب الذين صاروا كتَّابها، وتحصر اهتمامها باللبنانيين منهم أعضاء الأحزاب السياسية والميليشيات الفاعلة في الصراع. تقارب أعمالاً من صنف "المذكَّرات"، حيث الانتقائية سمة عامة، ذلك أن أصحابها يسعون إلى ايضاح وجهات نظرهم أو وجهات نظر معسكرهم في شأن الحرب. في المجموعة تحضر ثلاث نساء فحسب وخمسة محاربين في حين يكثر السياسيون وأولئك الذين اعتادوا الفن الكتابي من موقعهم كصحافيين وأكاديميين خصوصًا. يلفت في السياق عينه انصراف المسيحيين إلى هذا التمرين أكثر من أقرانهم المسملين، والموارنة أكثر من الروم الأرثوذكس، والشيعة أكثر من السنَّة، في حين لم يختر سوى درزي واحد من المحاربين توثيق تجربته الميدانية في كتاب. يتحسَّر جميع المشاركين في النزاع الدموي على الحال في لبنان في أعقاب انتهاء الحرب الأهلية، في حين يظن البعض الصراع مستمرًا بأشكال مختلفة. وفق اده، يكتب هؤلاء نادرًا لأنفسهم بدافع علاجي. يتوجَّه المنخرطون في الحرب إلى الآخرين وتحديدًا إلى اللبنانيين جميع اللبنانيين المنتمين إلى المعكسر عينه أو إلى المعسكر الخصم. يريد "المشاركون–الكتَّاب"، كما تصنِّفهم اده، توفير المعطيات للمؤرخين وليس للقضاة، ذلك أن محكمة التاريخ هي الوحيدة التي يرغبون في المثول أمامها. في حين لا يتحفَّظ "المشاركون–الكتَّاب" عن اعتبار الحرب "ضربًا من عته"، فإنهم يتردَّدون في إجراء جردة حساب أكثر دقة. تعاينهم اده فئةً تدخل معركة التاريخ في أعقاب دخولها معارك كان للسلاح فيها الكلمة الفصل. لأن التاريخ اللبناني طبقة في طبقات حيث التجربة القريبة نثار تجارب أكثر بعدًا كرونولوجيًا، تتأمل الباحثة المساعدة في "ايبفو" ديما دو كليرك في "ذاكرة المحاربين المسيحيين المتحدرين من جنوب جبل لبنان لمجازر 1860 المتناقلة والمستعادة"، رواسب العنف الجسدي الممارس على مسيحيي الجبل خلال مجازر 1860 النابضة إلى اليوم. تلفت إلى ارتقاء العنف إلى الترميز ليتم تناقله من طريق الندر والأمثال في الحلقات الخاصة، في حين يواكبه افصاح عن مشاعر الحذر والخشية والحقد من طريق أقوال مكتومة أو مؤتمنة على عواطف جيَّاشة. تتناول دو كليرك الذاكرة المتناقلة والمستعادة لمجازر القرن التاسع عشر انطلاقًا من حكايات الميليشيويين المسيحيين. تلحظ ذاكرة باتت عبئًا على المحاربين، أكانت موروثة من الأجداد أم مفروضة من خلال تأطير ميليشيوي وديني طائفي، وخصوصًا خلال حرب الجبل بين عامي 1982 و1984. تدجَّن في أوقات الصراع مجمل الوسائل المتاحة لأغراض الخدمة الآنية، وهذا ما يجعل مدير مركز الدراسات للعالم العربي المعاصر في جامعة القديس يوسف كريستوف فاران يهتم بالتقنيات الحديثة في دراسة عنوانها "يو تيوب والحرب بين عامي 1975 و1990: جزئيات رحلة إلى بلاد الذاكرات الهمجية". يتابع انخراط المنصَّة الحديثة للحاق بالحرب كفسحة لتقاسم "ذاكرات همجية" تحاول إحداها الردَّ على الأخرى والتعبير عنها كذلك. يستعيد فاران مفهوم شانتال كيني لـ"جماد الذاكرات" الذي تلوذ به لتناول سياسات النظام الاشتراكي غداة الحرب العالمية الثانية وتأطير العلاقات بين الصرب وأبناء كوسوفو. يأخذ المنطق عينه إلى الواقع اللبناني ليظهر أن موقع "يو تيوب" استحال أداة للفصل بين الذاكرة والتاريخ. لا يكتفي فاران بهذا القدر، إنما يرتفع بالاستنتاج إلى فرضية تأثير "قطيعة" مماثلة في المستقبل سلبًا في ترميم الرابط الاجتماعي في لبنان، في ظل الصلات الوثيقة بين التاريخ والذاكرة والمواطنة. لم تحيَّد فسحات الإنتاج الفني عن النزاع الأهلي بل صارت مطارح ممتازة لاستعادة رهانات الذاكرة. والحال أن الباحث ارنو شابرول يستبقي في دراسة "صناعة الذاكرة الفنية: التبعات الجلية والمبادرات الفنية في لبنان المعاصر"، تناسل كلام يتخذ ذاكرة الحرب الأهلية موضوعًا في ظلِّ إنتاج فني متنوع. تميَّز السمة التجريبية، الأعمال الفنية المنتجة منذ النصف الثاني لتسعينات القرن العشرين، على ما يشير شابرول، في حين تقدِّم نفسها كمشاريع دراسية. على هذا النحو، يحضر المسار التوثيقي لدى هؤلاء المبتكرين بهيئة شبه ممنهجة، فيما تتشوش الحدود بين الواقع والتخييل. والحال، إن ذاكرة القطيعة، أو ذاكرة الحرب، تحجز لنفسها فسحة مريحة في الإنتاج الفني إلى درجة يصعب حصرها بعناوين، وفق الباحث شابرول. في حين لم يبتعد المجال الثقافي اللبناني خلال العقد التاسع من القرن المنصرم عما تسمِّيه انيياس فافييه مرحلة "إعادة ابتكار مؤسساتية" غدت بيروت شاهدة على كلام مفرط حيث يشتغل منشطون ثقافيون على إعادة ترسيم المشهد الفني اللبناني. يلفت شابرول في الدراسة إلى تكاثر الأعمال الفنية اللبنانية المتمحورة على ذاكرة الحرب الأهلية، وانسحابها على الميادين الفنية شتى. صارت أشباح الحرب وجوهًا تطارد الإنتاج الفني والثقافي في السينما والمسرح والرواية والشعر والشرائط المصورة. في وسط تصميم العاصمة اللبنانية الهندسي، تتعقب الباحثة المساعدة في "ايبفو" صوفي برونس في نصها "دمار في حال انتظار"، عمارات مفصولة عن النسيج المديني الحاضر وتتسم بهالة من غموض، ذلك أنها تحاكي صور المحفوظات. تقفل برونس جولتها في معالم بيروت عند مشروع "متحف لذاكرة الحرب" المزمع انشاؤه طمعًا باستنباط مساحة تتقاطع فيها المقاربات الأكثر نفورًا. تنظر إلى المتحف المقبل كأحد أمثلة متاحف "المجتمع" وشاهدًا على حرب يقحمها في سياق أكثر رحابة، أي في تاريخ بيروت الحديث والمعاصر. للدراسات المعمقة في الإجمال دور إيجاد خلاصات، أو في الحد الأدنى اقتراح استنتاجات من شأنها أن تشكل ورقة عمل يبنى عليها. والحال، إن الكتاب يختتم على نص لفواز طرابلسي حيث يسأل المؤرخ والكاتب والأكاديمي عن الدافع إلى تذكُّر الحرب الأهلية، ليجد في تفادي حرب أخرى جوابًا ناجعًا. غير أنه لا يكتفي بهذا القدر، فيضيء على ظاهرتين بزغتا في المرحلة اللاحقة للحرب، راوحتا بين فقدان الذاكرة والعفو. يتوقف عند تلاعب بالذاكرة أدى إلى فقد رسمي ومبرمج للذاكرة، من خلال حذف ألبوم ذكريات الحرب وإبدالها بأخرى، وتحضير الأرض لبناء لبنان مختلف. أما العفو المعبَّر عنه من خلال قانون العفو الصادر في عام 1991 فجعل الحرب مسؤولية سوانا، فأسقطت المحاسبة تاليًا عن الجميع كمحصلة منطقية. بخِّس دم المدنيين، وهؤلاء ضحايا ميليشيويون أو رؤساء ميليشيات أفادوا من قانون العفو، في حين أبقيت عمليات اغتيال أو محاولات اغتيال السياسيين أو المسؤولين الروحيين تحت سقف الملاحقة القانونية، وفي ذلك اجحاف يعاينه طرابلسي "انحرافًا إضافيًا ومذلاً إزاء مئات الآلاف من الضحايا". يلحظ طرابلسي كذلك ممارسة سائدة في حصر مسار تذكُّر الحرب الأهلية بجانبها العنفي، لكنه يزيد عليه ثلاثة عناصر ذات أهمية. أولها أسباب الحرب وثانيها العبر التي ينبغي استخلاصها من محنها القاسية وثالثها تقديم الحرب في صيغة الحكاية في إطار حق المواطن في سرد كرونولوجي وموضوعي للحوادث يبدأ قبل المفصل الرسمي لاندلاعها ويستمر خلالها إلى حين خواتمها. تخبرنا الحرب اللبنانية أن الحياة ربما تكون خاسرة إزاء الموت، غير أن الذاكرة منتصرة دومًا في معركتها ضد الانزلاق صوب العدم. النهار
|
|
|