هوليوود وعالم ما بعد الموت

 

وليد مهدي

 

تمثِّل صناعة السينما في هوليوود وعاءً كبيرًا يستوعب ثقافة الفكر الغربي، ويمثِّل تطور أفكار أفلامها مستوى معينًا من تطور الأفكار في المجتمع الثقافي الأمريكي، والغربي بصورة عامة، بل حتى السياسة العامة للحكومة الأمريكية لها تأثير كبير على الكثير من أفكارها، وبالتالي فهي أيضًا تمثل انعكاسًا للعقل السياسي الأمريكي.

وعلى الرغم من تنوع مستويات هذه الأفلام، إلا أن بعضها قد يتميَّز بسيناريوهات غنية بتنوع المرجعيات والخلفيات الثقافية والإبستمولوجية للكتَّاب، ومثلها طبعًا يحظى بمتابعة خاصة من قبل نقاد ومتابعين على نفس المستوى. وعبر هذه الدورة الجدلية في بناء ونقد و"تلقي" هذه الأفكار يرتسم تطور أفكار وسيناريوهات هذه القصص على مدى العقود الماضية. وفي موضوع اليوم سنناقش ونستعرض مسألة نظرة السينما الهوليوودية إلى المعتقد الاجتماعي القديم–الحاضر بوجود الحياة بعد الموت وبقاء الروح كمنظومة ادراكية عقلية حتى بعد موت الجسد. وهذه الرؤية، وعبر ثلاثة عقودٍ مضت، لا بدَّ وأن تكون قد مرت بتطورات وتلاقحات لا تخلو من جذورٍ علمية فلسفية حسب خلفية الكتَّاب والمخرجين الثقافية، بل وحتى الممثلين، والتي أدت بدورها إلى تبلور فكرة جديدة في الوعي الاجتماعي الغربي عن حياة ما بعد الموت، والمفارقة أنها، هذه المرة، بالعلامة الهوليوودية!

هوليوود الإمكانية التقنية–الثقافية المتفوقة

يمكن أن نميِّز اتجاهًا عام في هذه السينما يجاري المسار العام للنظريات العلمية والتفكير العقلاني الذي ينكر وجود عالم بعد الموت. لكن، ولفرط هذا الالتزام من قبل دوائر الإنتاج السينمائية هناك بمعطيات "إنتاج المعرفة والعلوم" العالمية، إذ تعتبر من نفسها القمة والأمثولة – وهي بالفعل كذلك، لما يتوافر لديها من قدرات مالية وتقنية وفكرية – فإن هوليود دخلت في متاهة جديدة حول جدلية الوعي والادراك التي يخوض بها المفكرون والفلاسفة في ميادين العلوم، وانتهى بها الحال إلى بروز "موجة " توجهٍ فكريٍ جديد لبعض من الأفلام التي تتناول موضوعة العقل بعمقٍ كبير لم يناقشه الفن العالمي على طول تاريخه من قبل بهذا المستوى من الموضوعية.

وبما أن مسألة الوعي والذاكرة البشرية والعقل عمومًا لم يصل الفكر الإنساني فيها إلى حلول وأجوبة شافية، لذا كان من الطبيعي أن تلجأ هوليوود إلى اللاهوت أو الميتافيزياء للإجابة على تساؤلات عدة تطرحها السينما، ما أفسح المجال لبروز رؤية فلسفية جديدة تتمازج فيها العلوم مع اللاهوت!!

لا غرابة إذن أنَّ ثمة اتجاهًا معينًا يرسي لـ"مفاهيمية" علمية–لاهوتية بدأت تترسخ في عقول صناعة الفن الهوليوودي عن عالم "آخر" بعد موت الجسد تعيشه الذات بادراك ووعي، نناقشه في موضوع هذا اليوم عبر الإجابة على الأسئلة التالية:

-       ما هي المقدمات والبدايات الأولى التي أدخلت هوليود في هذا الفضاء "الحساس" من الفن؟

-       ما هي أهم الأفلام التي تناولت هذا الموضوع كقضية محورية لفكرة الفيلم؟

-       إلى أي مدى يمكن تقييم نضج الفكرة الهوليوودية لبناء عقيدة في هذا الخصوص؟

-       هل هذا يعني أن الفن الهوليودي العملاق بدأ بتشكيل "دينٍ" جديد يتداخل فيه الفن مع العلم؟

-       ما هو استشرافنا المستقبلي حول تطور هذه الأفكار؟ وإلى أي مدى قد يصل؟

الإرهاصات الأولية لفكرة بعد الموت الهوليودية

أفلام الوعي Consciousness Films

وهي الأفلام التي ناقشت موضوع الوعي ومشاهد ورؤى الأحلام. ولعل الأفلام التي تناولت تجارب الاقتراب من الموت، بما يعرف في ميدان الطب بـ Near death experience، والتي ظهرت أواخر القرن الماضي، كانت المنطلق لهذا التيار، خصوصًا وأن الكثير من مشاهير العالم، ومنهم نجوم هوليوود أنفسهم، كانوا يحكون عن تجاربهم في الاقتراب من النقطة الفاصلة بين الموت والحياة أثناء إجراء العمليات الجراحية، وهذا ما شكَّل أهم دعائم هذه الأفكار في أفلام عديدة تناولت نفس الأفكار، وتحديدًا السيناريوهات التي حاولت الإجابة عن السؤال الآتي ضمن "دائرة الفكر الهوليوودية" المتنامية المتطورة: ما الذي يحدث في "الوعي" عند الدقائق الأولى من توقف القلب عن النبض وانقطاع التنفس؟ فاستنادًا على خبرات من عاشوا هذه التجربة – الاقتراب من الموت – نجد السيناريوهات تناقش المسألة عبر تجارب حقيقية واقعة فعلاً ويرويها أكثر الأطباء عن مرضى توقفت نبضات قلوبهم وانقطعت أنفاسهم لدقائق قبل أن تعود إلى الفعالية مرة أخرى.

خلاصة هذا الأفلام تطرح الاستنتاج الآتي: إن دخول الوعي في غيبوبة وتحول الادراك الدماغي إلى "وعي حالم" خلال هذه الدقائق بلا دماء تتدفق في الشرايين ولا أوكسجين ينساب عبر حويصلات التنفس الرئوية يجعله يتراجع في حقول الذاكرة الشخصية للإنسان صاحب الحالة–التجربة، فتبدأ أحداث يومٍ سبق فأيام أسبق... وتُظهر مشاهدها أشخاصًا يقومون بإرادتهم بتجربة توصلهم إلى هذا المستوى من فقدان الوعي الحسي والموت (المؤقت) عبر حقن عقاقير طبية معروفة، لتكون الدقائق والثوان المعدودة قبل الموت النهائي الذي لا رجعة عنه منتهية بتذكر أولى ذكريات الطفولة، أي بدايات الوعي الأول في مساحات الذاكرة المنسية التي لا يذكرها الخاضع للتجربة في حياته العادية مطلقًا.

وهكذا، تتلاحق المشاهد التي تضع في النهاية بين يدي المشاهد فكرة مفادها أنَّ: ما نراه ونتصوره سكونًا وموتًا في الدماغ والقلب هو في الحقيقة نشاط ويقظة لبيانات Data تتجسد في حلم أو واقع افتراضي خاص. هذه البيانات مطمورة ومنسية في الذاكرة وتمثِّل ذكريات مسموعة ومرئية وملموسة وحتى ذاكرة روائح شمية وذاكرة انطباعية (أي حالة الشخص إذا كان فرحًا أو حزينًا في ذلك الحين).

مثل هكذا فيلم على العموم يضع المشاهد في صورة "اللحظات الأخيرة لحياة الخلايا الدماغية"، وجذور الفكرة هي علمية وقريبة جدًا من الواقع الحقيقي، ولهذا السبب فهي تترك النهاية مفتوحة للمشاهد ليخمن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟

أي، لو عبر الوعي "خط الحياة" Life Line وحدث موت فعلي للدماغ، هل ينطفئ الوعي ويذوب الشعور الذاتي للإنسان كما يطفأ المصباح الكهربائي فيذوي الادراك الذاتي بصورةٍ تامة بعد أن ينطمر الجسم في التراب، أم أن فاعلية ونشاط الذكريات والادراك تبقى كوقائع في عالمٍ آخر وأبعاد أخرى كما تخبرنا الديانات؟

هوليوود تغصُ بأفلامٍ لا بأس بها تتميز بمقدار معقول من الرصانة العلمية والواقعية وإن شابتها الفنتازيا ضمن إطار الخيال العلمي في محاولاتها لتفسير "ماذا بعد الموت؟"، فهي بصورة عامة، عدا حالات نادرة، تلتزم بعدم تخطي آفاق المعرفة وعدم الخوص في مسألة وجود العالم الآخر: عالم ما بعد الموت، أو ما يسمى بعالم البرزخ في الدين الإسلامي. لكن، مع ذلك، وكما ذكرنا في البداية، فإن عدم الإجابة عن السؤال الخالد "ماذا بعد الموت؟"، وباستمرار خلال سنوات في أفلام هوليوود، إنما يفسح المجال لتداخل اللاهوت مع النيوربيولوجيا (علم الأعصاب الحيوي) كخلفية أفكار الأفلام المتتابعة التي يطرحها الكتَّاب والمنتجون بصورة عفوية تلقائية ظاهرًا، لكنها كنتاج فكري في حقيقة الأمر إنما تخضع لتقلبات وجدل ومناقشة ضمن دائرة "فكر" جمعي عام يمكننا أن نسميها "منظومة الفكر الهوليوودي!".

الوعي والموت في هوليوود

فيلم افتح عينيك open your eyes للكاتب اليخاندرو امنبر، وهو منتج بنسختين: إسبانية قديمة بحدود العام 1997، والنسخة الأحدث هوليوودية باسم Vanilla Sky من إخراج كاميرون كرو (2002)، والتي قام ببطولتها توم كروز، بنيلوبي كروز، وكاميرون دياز. ويمكننا أن نقول إن هذا الفيلم، ومنذ إنتاجه بالنسخة الأقدم، كان يحمل فكرة التمهيد الأولى ضمن دائرة الفكر الهوليوودي لسلسلة أفلام الماتركس "المصفوفة" The Matrix التي ظهرت بعد ذلك بسيناريو وأفكار يتداخل فيها اللاهوت المسيحي مع العلم، حيث تتمحور فكرة افتح عينيك حول العيش في واقع افتراضي virtual reality (أساس وجوهر فكرة سلسلة أفلام الماتركس The Matrix فيما بعد)، فعندما يتشوه وجه البطل (توم كروز) ويفقد الأمل في تجميله بعد حادث سيارة يلجأ إلى شركة تجميد تجمِّد جسده بالكامل عدا "الدماغ" الذي يبقى في نشاطه وعملياته البيولوجية!

شركة التجميد هذه تؤمل زبائنها الذين يعانون من تشوهات أو أضرار جسدية مستعصية أن التجميد لمدة 100 – 200 عام كفيل بتطور العلوم إلى حدٍّ يفسح اصلاح هذه الأضرار والتشوهات بعد فك التجميد الذي ينتهي به الفيلم في صوت الممرضة وهي تخاطب توم كروز، الذي جمِّد أكثر من مئة سنة، بعد أن يخرج من الحافظة وترفع العصابة الطبية عن وجهه وعينيه: Open your eyes.

مع ذلك، فإن الفكرة المحورية في الفيلم ليست التجميد وإنما "الواقع الافتراضي" حيث يبقى الدماغ في حالة نشاط حيوي طيلة مدة التجميد، وتقوم الشركة "بخلق" واقع افتراضي يعيشه بطل الفيلم. هذا الواقع هو "حلم" Dream طويل الأمد، اختياري الأحداث من قبل "الشركة". يعيش البطل مدركًا لواقعٍ افتراضي لا يصدق بأنه خيالي، إذ إن تقنيات معالجة الدماغ التي يقوم بها المختصون في هذه الشركة تتحكم في بيانات الذاكرة فتحذف منها وتضيف إليها ما تشاء؛ تحذف أهم أحداث سيئة وقعت للشخص في حياته بما فيها حادث السيارة وتشوه وجهه وفشله في قصة الحب مع كاميرون دياز، وتضيف إليها أحداثًا افتراضية غير حقيقية تجعل البطل يعيشها وكأنها واقعه مثل قصة الحب الناجحة مع دياز وسلامة وجهه من التشوهات.

كل هذا يجري ضمن واقع افتراضي، فيما الواقع الحقيقي يتمثل في حقيقة وجود البطل في حافظة مجمدة في الشركة!

يمكننا هنا أن نلاحظ أولى إرهاصات سلسة أفلام الماتركس (كتابة وإخراج الأخوة واكاوسكي)، الواقع الافتراضي الذي يتوهم الناس بأنه حقيقي، حيث تحتجز الآلات الذكية الواعية كل البشر تقريبًا في حافظات أشبه ما تكون بالبطاريات، تجعل البشر أجمعين "يعيشون" في حلم جماعي، واقع افتراضي جمعي collectional Virtual reality، واقع غير حقيقي، لكنه مصمم حسبما يتمناه بني البشر، ووفق المنطق الفرويدي حولهم: "حيوانات ساعية للمتعة" Pleasure seeking animals.

نلاحظ في هذه الأفلام (الماتركس The Matrix، وافتح عينيك Open your eyes) الاشتراك بـ "نتيجة" تمثِّل فكرة ميتافيزيقية عن الوعي البشري وهي: لا يمكن التلاعب لفترة طويلة بالوعي البشري عن طريق آلة أو برنامج حاسوبي متداخل مع الدماغ، إذ سرعان ما يكتشف الوعي أن هذا الواقع الافتراضي مزيفٌ ولو بعد حين، يحدث هذا مع (توم كروز) في افتح عينيك، ومع (نيو) في أول أجزاء الماتركس!

السبب في وجود هذه "البديهية" لدى كتَّاب هوليوود هو النهايات المفتوحة بلا أجوبة في دائرة الجدل حول الذاكرة والعقل البشري في ميادين العلوم العصبية والفيزياء، كذلك شيوع ورواج خبرة الاقتراب من الموت بين الممثلين والمشاهير الهوليووديين أنفسهم مثل (ألفس برسلي) و(شارون ستون) على سبيل المثال لا الحصر، ما يجعل اللاهوت بديلاً عن العلم في توقع "خارقية" العقل البشري وخلفيته الروحية التي تنذر الفرد (الخاضع دماغه لتجربة الواقع الافتراضي)، ولو بعد مدة، بأن ما يعيشه هو عالم غير حقيقي كما يحدث مع توم كروز في الفيلم الأول حيث تبدأ "مشاهد" غير واضحة في مخيلته تُظهر له بأنه تعرض إلى حادث، أو أن حبيبته التي معه في الفراش ليست "هي"... مع إنه لا يزال مدركًا ضمن الواقع الافتراضي!

كذلك الحال بالنسبة إلى "نيو" في الماتركس الذي يكتشف بطريقة ما أن عالمه غير واقعي وهناك بعض الأخطاء في بياناته التحليلية التي يجريها عبر الحاسوب!

خلاصة القول التي قدمتها هذه الأفلام أن هناك خلفية ما ورائية للعقل، جانب آخر من الوجود يتجاوز البنية العصبية المادية–البرمجية للدماغ لا يمكن التحايل عليها طويلاً، ما يفسح المجال لأفكار أخرى وأفلام أخرى في أن تظهر في هوليوود لتعلن بداية أولية للدخول إلى عالم ما بعد الموت، أو ما نسميه في الفكر الإسلامي "عالم البرزخ".

الفكر الهوليوودي وبداية الدخول إلى "البرزخ"

يمكننا أن نعتبر فيلم الحاسة السادسة Sixth sense، عام 1999، إخراج نايت شيملاين، بطولة بروس ويلز وهالي اوسمنت، هو أول عمل متكامل وعميق في مناقشة قضية "الأرواح" التي تبقى بعد الموت، لمدة، تطوف في عالمنا الواقعي بصورة انتقائية، وتختار منه أحداثًا معينة، ولا تعيش فيه مثل الأحياء بالكامل. بالطبع ليس هذا بالفيلم الوحيد الذي تناول الموضوع بل هناك العديد من الأفلام التي شكَّلت جميعها سلسلة فكرية حية في هوليوود تتوجت في فيلم الحاسة السادسة، والذي رشح للأوسكار، إذ كان بحق النقاط الأخيرة فوق الحروف في الإجابة على تساؤلات الوعي "العقلاني" عبر هوليوود.

ماذا بعد الموت؟ في حقيقة الأمر، السيناريو والحوار في الفيلم يختار ببراعة شخصية الطبيب النفسي Malcolm Crowe (بروس ويلز) والطفل غريب الأطوار الذي يتميز بقدرته على رؤية بعض الأموات الذين تبقى أرواحهم معلقة في هذا العالم وليس جميعهم. والنهاية الغريبة للفيلم تظهر بأن الدكتور "مالكولم" نفسه كان ميتًا دون أن يشعر بذلك، والطفل هو الذي نبهه بأنه ميت يعيش في واقع الأحياء فيرى ويعيش بعضًا من تفاصيل حياتهم وليست كلها، فيما الأحياء لا يرونه ولا يشعرون به. عدا هذا، الطفل غريب الأطوار لكونه يتميز بقابلية تمييز الأموات "المعلقين" في واقعنا الدنيوي!!

لعل النتيجة الأهم من هذا الفيلم تتوافق مع افتح عينيك والماتركس في كون واقعنا الدنيوي ربما يكون واقعًا افتراضيًا أصلاً، لكننا نشعر به حقيقي بما أن سبعة مليارات فرد على الكوكب الأرضي يعيشون أحداثه "المصممة" والمختارة بدقة من قبل منظومة سيطرة كونية ما ورائية تتمثل في افتح عينيك بالبرنامج الذي وضعته شركة التجميد الذي بنى العالم الافتراضي لتوم كروز، وكذلك في الماتركس أيضًا ببرنامج من صنع الآلات حيث ينقل وعي البشر أجمعين إلى الحياة في عالم افتراضي.

ما الذي يمنع المتلقي أن يتسائل إذن: لما لا نكون نحن البشر نحيا الآن في واقع مماثل – عالم افتراضي يعيشه الجميع كبرنامج يسيطر عليه "عقل" ماورائي خارج حدود الطبيعة، على اعتبار أن الطبيعة كلها مجرد برنامج، والادراك العقلي متحسس للعالم الافتراضي الجمعي الذي يخلقه هذا البرنامج؟

بكل تأكيد توجد خلفية علمية لهذه الرؤية؛ الطبيعة برنامج والعقل البشري قارئ لبيانات هذا البرنامج التي نفهمها حسيًا على أنها "الطبيعة" التي نعرفها، وتحديدًا أفكار تيار جديد من علماء الفيزياء الذين يعتقدون بـ "رقمية" الوجود وعلى رأسهم ستيفن وولفرام الذي تتجسد نظريته عن كون الطبيعة أساسًا بيانات برمجية رقمية في حاسوب كوني عملاق كما في فيلم الماتركس بصورة كلية تامة!

فـ"الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا"، وفكرة أن يكون الموت مجرد "فصل" من فصول مسرحية حياة الفرد ضمن هذا البرنامج الذي يتحول إلى عرض مرحلة جديدة "للعقل" وواقع افتراضي آخر هي نتاج جدليات الأفلام الهوليوودية التي ذكرناها. فالدكتور مالكولم في فيلم الحاسة السادسة "يتذكر" في النهاية إنه أطلق رصاصة على بطنه بعد أن شعر بذنبٍ كبير نتيجة إخفاقه في علاج أحد مرضاه، أي اقتنع بفكرة أن "العرض" الأولي لحياته انتهى في العالم الافتراضي الدنيوي وقد آن الآوان كي ينتقل إلى "العرض" الآخر من جانب حياته.

فيلم باسنجرز "الركاب" Passengers

لعل هذا الفيلم المنتج خلال فترةٍ أحدث (2008) للكاتب رونيه كرستنسن وإخراج رودريكو كارسيا، هو امتداد لفكرة الفيلم السابق؛ فباحثة اجتماعية (الممثلة آن هيثوي) تركب في طائرة ثم تتحطم الطائرة فتدخل في مرحلة "ما بعد الواقع الافتراضي الدنيوي"، أي ما بعد الموت دون أن تدرك بأنها ميتة!

أي أن الفيلم يتناول فكرة ما بعد الموت منذ البداية، لكن، الفيلم عمومًا يتوخى الحذر من العبور إلى الواقع الثاني (ما بعد الموت) وإنما يكتفي بعرض وقائع "الوعي" لدى البعض من ركاب الطائرة الأموات الذين لم يتقبلوا فكرة أنهم ميتون مثل الدكتور مالكولوم في الحاسة السادسة، فهؤلاء الركاب، وبضمنهم الباحثة الاجتماعية، لا يتقبلون فكرة الانتقال إلى مرحلة جديدة من الادراك "ما بعد جسدي" بعد الموت، فيعيشون الأحداث كما لو أنهم لا يزالون على قيد الحياة، مثل حلم النائم ولكن بتداخل فعلي مع عالم الأحياء الحقيقي. أي يمكنهم رؤية بعض من الأحداث التي تحدث في العالم الدنيوي بعد موتهم... وتستمر المشاهد حتى يتقبل كل واحد من هؤلاء فكرة موته وأن وعيه وادراكه أصبحا جزءًا من فضاء افتراضي "أوسع". فهم يشاهدون الناس في العالم الأول لكن الناس لا يشاهدونهم أو يحسون بهم إلا عبر مشاعر غير قوية عندما يقبلون على النوم كما حدث في توديع دكتور مالكولم لزوجته وهو ميت عندما كانت في نعاس مقبلة على النوم.

هوليوود والمستقبل

الإمكانية الضخمة التي يتمتع بها الإنتاج الفني الهوليوودي تضعه في محل مركز الوعي الاجتماعي البشري بعمومه في شرق الأرض وغربها، ومثلما للاقتصاد سلطة وللتكنولوجيا العسكرية المتقدمة اللتين تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية كذلك فإن لهوليوود دورًا مهمًا في ترويج دعاية القوة الأمريكية، فهي تحتل مكان المركز في تشكل الوعي الجمعي البشري بسبب قابليتها على التأثير والتغلغل في عقول الناس بإرادتهم أو رغمًا عنها!

مع ذلك، ورغم ما تضطلع به من دور ترويجي للإمبراطورية "الديمقراطية" الأمريكية، إلا أنها وبما تمتلكه من قدرة مادية وخبرة متراكمة لها التأثير الأبرز في تحويل "العلم" إلى "فن" ممتع محرك للخيال، أي هي تقوم بدور "تيسير المعرفة" وتحويلها إلى منتج سائغ وممتع.

ولهذا السبب، وعبر ما قدمناه من عرض في هذا المقال، فإن لهوليوود الفضل الكبير في تيسير تلقي غالبية البشر في عالمنا الواسع لنظريات "جافةٍ" في الفيزياء والنيوروبيولوجيا ما كان لأغلبنا القدرة على هضمها أو أخذ فكرة عامة عنها لولا هوليوود.

ما هو مستقبل هوليوود؟؟ في اعتقادي الشخصي، هوليوود بمثابة الخيال في "مخ" المجتمع البشري ككلٍّ موحد، وحتى لو زالت الامبراطورية العسكرية "الديمقراطية" الأمريكية من الوجود، فأعتقد أن هوليوود ستبقى في القمة ولن يصل إلى مستواها الفني مكانٌ آخر في العالم. وربما سيكون لها دورٌ أكبر في تثقيف البشرية عبر سبكها للعلم والفن واللاهوت والتاريخ في قوالب ملونة متنوعة تعيد إنتاج الفنون والعلوم والتاريخ في وعينا! خصوصًا في موضوعة مقالنا هذا: عالم ما بعد الموت.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود