|
اليهود العرب*
يبدو تصوّر الهوية اليهودية-العربية المشتركة متعذر اليوم بحكم الوضع السياسي القائم في الشرق الأوسط، بيد أنها كانت حقيقة واقعة قبل الحرب العالمية الثانية، كما هي الحال مع الهوية اليهودية-الألمانية. شهود هذه الهوية اليهودية-العربية الممتزجة هم اليهود الناطقون باللغة العربية وشعراؤها. أبصر والدي النور ببغداد وأجبر على الهجرة إلى إسرائيل عام ألف وتسعمئة وواحد وخمسين، وبعد ذلك بسنتين وُلدتُ في حيفا على شاطىء البحر الأبيض المتوسط. وكأي يهودي إسرائيلي المولد تلقّى تعليمه في إطار النظام التعليمي الإسرائيلي-الصهيوني، لقِّنتُ بأن الهويتين العربية واليهودية نقيضان لا يلتقيان. وفي محاولتي كطفل التكيّف مع المعايير الصهيونية-الإشكينازية الغربية السائدة، وكما كانت الحال مع بقية الأطفال من ذوي الخلفية الاجتماعية المماثلة، كنت، وأنا طفل، أشعر بالخجل من عروبة والديّ. أما بالنسبة إليهما فلم أكن سوى عميل جهاز القمع الصهيوني الحكومي الذي أرسته المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، بعد تلقّي أفضل التمرينات والتدريبات، إلى قلب استحكامات العدو، أي: عائلتي، وقد أتممت المهمة على أكمل وجه يمكن أن يؤديه طفل أمام والديه المحبّين، مستغلاً استغلالاً تامًا ما تنطوي عليه محبّة الوالدين من ضعف إزاء طفلهما: حظرت عليهما الكلام بالعربية في الأماكن العامّة، أو الاستماع إلى الموسيقى العربية داخل بيتهما. ولم تكن العروبة مشكلة والدي الوحيدة فحسب، إذ كان نشيطًا شيوعيًا في وقت كان فيه الانتماء للشيوعية في إسرائيل لا يختلف عن الانتماء إلى منظمة إرهابية. وأكثر ما أتذكره عن والدي هو عشقه الكبير للشعر، ولا سيّما للشعر العربي، وكيف كان يستشهد به محاولاً إرشادي وتثقيفي. لا أتذكر بالتأكيد الآن أي شيء مما كان ينشد على مسمعي آنذاك من أبيات شعرية، أعرف فقط أنه كان يصرُّ على إلقائه رغم أني، ويعود الفضل في ذلك إلى تربيتي الصهيونية المتشددة، لم أودّ الإصغاء إليه. وأعتقد أن إحجامي التامّ عن الاستماع إليه، هو ما دفعه إلى تكراره مرة تلو الأخرى، الأمر الذي أهّلني بعد ذلك بسنوات لاستعادة بيت واحد من الشعر، أذكر أنه على علاقة ما بالإبل والماء، ربما لأني طوَّرت حسًّا بموسيقاه الداخلية المستمدة من بحر الكامل الخليلي. وكان بيتًا منسوبًا إلى شاعر القرون الوسطى الأعمى الزاهد أبي العلاء المعرّي (973 - 1058) الذي أثير الكثير من الجدل حول إمكانية تأثر دانتي أليغري Dante Alighieri به عند كتابته الكوميديا الإلهية - مأساتي، على كلّ حال، كانت أبعد ما تكون عن كونها إلهية: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولُ حين بدأت أبحاثي في تاريخ اليهود العرب، موليًا اهتمامًا خاصًا لعروبة اليهود العراقيين المتأصِّلة في عمق التاريخ العربي وما قبله، عذّبني هذا البيت كثيرًا. وقد بلغ العذاب مدى لا يطاق حين قرأت، لأول مرة، رائعة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941 - 2008) أنا يوسف يا أبي من ديوان ورد أقل، وخصوصًا عندما استمعت إلى مارسيل خليفة يغنّيها: أنا يوسف يا أبي، إخوتي لا يحبّونني، لا يريدونني بينهم يا أبي، يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام. يريدونني أن أموت لكي يمدحونني. وهم أوصدوا باب بيتك دوني. وهم طردوني من الحقل. هم سمّموا عنبي يا أبي. وهم حطّموا لعبي يا أبي. حين مرَّ النسيم ولاعب شعري غاروا وثاروا علّي وثاروا عليك، فماذا صنعتُ لهم يا أبي؟ الفراشات حطّت على كتفي، ومالت على السنابل، والطير حطّت على راحتيَّ. فماذا فعلتُ أنا يا أبي، ولماذا أنا؟ أنت سمّيتني يوسفًا، وهم أوقعوني في الجبِّ. واتهموا الذئب. والذئب أرحم من إخوتي، أبت! هل جنيتُ على أحد عندما قلتُ أني رأيت أحد عشر كوكبًا. والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين. تساؤل يوسف المتكرر "ماذا فعلتُ يا أبي؟" و"هل جنيت على أحد؟"، بعث، وما زال يبعث، في قلبي، شعورًا عميقًا بالندم. والسؤال الأخير يفيد نفس المعنى الوارد في الشطر الثاني من بيت أبي العلاء الذي أوصى بنحته على قبره: هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد ولأن النزوع نحو الزهد أفعم قلب المعرّي بالغيظ من والده الذي أنجبه، فقد قمع شهوته الجنسية خشية تنسيل ذرّية من صلبه. أما بالنسبة لي، فشعرت أن عليّ بالأحرى قراءة البيت بشكل معاكس تمامًا: هذا ما جنيت على أبي وما جناه على أحد كان إصراري على رفض التراث الحضاري العربي، الذي كان تراث والديّ قبل هجرتهما إلى إسرائيل، متأصلاً في قلبي ومتحكِّمًا في هويتي الإسرائيلية الصهيونية على مدى سنوات طويلة. ولم يفارقني هذا الإصرار حتى عندما بدأت تعلّم اللغة العربية في المدرسة الثانوية، وبعد ذلك في الجامعة، إذ كان النظر إلى اللغة العربية وظائفيًا بحتًا، أي إجادة اللغة العربية لكي يكون بالإمكان خدمة الأجهزة الأمنية في المعركة ضد العرب. وعندما أطلّ الآن على تلك الفترة المبكرة من حياتي، لم أجد أفضل تعبير عن مثل ذلك الانفصام في هويتي - عروبة والديّ مقابل التثقيف الصهيوني الساعي إلى شطب هذه العروبة - مما قالته الشاعرة الإنكليزية كريستينا روسيتي في مطوِّلتها الشعرية عفريت السوق: بإمكان شخص واحد أن يقود حصانًا إلى الماء، لكن عشرين شخصًا لا يستطيعون أن يجعلوه يشرب. اكتشاف الهوية اليهودية-العربية كانت توبتي تدريجية وبطيئة للغاية، ولكن في "باب التوبة" من الرسالة القشيرية يرد القول إن الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التوبة (وربما أضحى ذلك واحدًا من هويّتي المبتكرة للقمة العيش. أما في أبحاثي الأكاديمية فكنت منهمكًا في تحقيق نصوص الزهّاد والصوفيين القدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس - فلم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أي حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبرية (وهناك من يصرّ أن هذا التصور ما زال سائدًا هناك حتى الآن) هو أن العرب المعاصرين ليسوا إلا "أمّة بائدة"، أي أمّة ذات ماض عريق حضاريًا، ولكن بلا شيء ذي قيمة حاليًا. في ذلك اليوم الشتائي، أبلغنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (1904-1948) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فورًا بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العبري، إذ ظننت أن من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونية المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العربية أيضًا خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. "أنور من؟" سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنها سرعان ما قالت: "هذا لا يعني مستمعينا بتاتًا". لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام 1986، خطف الموت شاعرًا يهوديًا عربيًا آخر هو مراد ميخائيل (1906-1986)، ثمّ في السنوات اللاحقة أدركت المنّية المزيد من الشعراء والكتاب اليهود العرب في غفلة تامة: شالوم درويش (1913-1997)، داود صيماح (1933-1997)، يعقوب بلبول (1920-2004)، إسحاق بار- موشيه (1927-2004)، وكذلك سمير نقاش (1938-2003)، من أعظم الكتّاب في جيلنا، من وجهة نظري. وأصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، وأدعو كل من يعتقد أني أبالغ بحكمي النقدي أن يحتفظ بتحفّظاته إلى أن يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة نزولة وخيط الشيطان التي نشرت عام 1986. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأساب العيش الكريم مما حدا به، قبل موته المبكر ببضع سنوات، أن يعبّر عن عزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: لا أعتبر نفسي كائنًا حيًّا في هذا البلد، ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد). ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (1910-2006) في لندن وإبراهيم عوبديا (1924-2006) في حيفا. لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عرضة لمؤسسة ثقافية عبرية-صهيونية سائدة، فرضت هيمنتها المطلقة على كافّة الكيانات الثقافية الأخرى تحت مظلّة الليبرالية اليسارية، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافية الغربية عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها توماس بابنغتون ماكولي (1800-1859) في كلمة له عام 1834 أمام الهيئة العامة للتعليم العام. متحدّثًا عن الأهداف التعليمية للبريطانيين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون "هنديًا بالدم واللون، وإنجليزيًا في الذوق، الأخلاق والذكاء". لقد حقّقت الحركة الصهيونية نجاحًا باهرًا بالضبط حيث عجزت بريطانيا عن تحقيقه - خلق نموذج جديد للإسرائيلي: شرقي في دمه ولونه، وصهيوني وإشكينازي وغربي في الذوق والرأي. هكذا، مثلاً، قسر النظام التعليمي الإسرائيلي نسل العوائل اليهودية العربية على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذاتية - وأستطيع أن أضيف أحيانًا، كما لو أنها روح - تاريخهم الوحيد والوحيد والعلامة الفاصلة في هويتهم الثقافية. الهويّة العربية الأصلية لليهود المهاجرين من العالم العربي إلى إسرائيل حضاريًا وثقافيًا ألقيت في سلّة المهملات التاريخية. مسائلة الهويّة الإشكينازية الغربية وصار المدافعون عن الميول الغربية للهويّة الإسرائيلية المخترعة يتفجّعون خوفًا من "خطر تشرّق" و"تمشرق" المجتمع الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال كتب الصحافي آريه غيلبلوم في صحيفة هآريتس الإسرائيلية يوم 22 نيسان/ أبريل 1949 ما يلي: نحن نتعامل مع أناس في غاية البدائية، مستوى معرفتهم يقترب عمليًا من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك؛ إنهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أي شيء عن الثقافة. أحد هؤلاء الذين وصفهم غيلبلوم بأنهم "لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أي شيء عن الثقافة" كان نسيم رجوان (ولد عام 1923) ، الذي كتب باستمرار في الأربعينيات لصحيفة iraq times الإنجليزية التي كانت تصدر في بغداد، وكان يهتمّ خصوصًا في شؤون الأدب الأنجليزي. وبالرغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالبًا ما يعامل ككاتب يفتقر للقابليات الثقافية المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربية، حينما كان يعمل مثلاً لصحيفة جيروزاليم بوست. أما رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرسمية التي سعت إلى شطب الهويّة اليهودية العربية واستهانت باليهود العرب: إنها المؤسّسة السياسية - الثقافية (الصهيونية) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيون، على الغالب، من قرى وغيتوات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع "الغربيين" الأصليين - هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشرقيين إلى عملية منظّمة من التثاقف والتطهير الثقافي التي أجبرتهم على التنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب - بدلاً من الانغلاق على النفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها. ومن جانب آخر، أرفض تمامًا الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكل عناية، ومفادها أن يهود العراق كانو في خطر داهم، أنقذتهم منه عملية إنقاذ خيالية قامت بها أجهزة الدولة اليهودية الجديدة. فالحقيقة هي أن يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتى مطلع عام 1950، بل وحتى حينما أصدرت الحكومة العراقية قرارًا يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخيلّهم عن الجنسية العراقية أو ما سمّي بالتسقيط. طُرح خيار تسقيط الجنسية المذكور لفترة سنة واحدة فقط ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية - إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل؟ سؤال حرج، وبالفعل، لا أعرف، وربما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكل ثقة، إن معظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أي شكّ بهويّة الجهة الفاعلة، أو بالأحرى بهويّة تلك الجهة التي حقّقت أكبر المنافع حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة إلى إسرائيل. ووفق هذه العجالة التاريخية المنسوجة بمذكّراتي الشخصية، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثقافة والهويّة اليهودية - العربية. كان العنصر الأساسي في "التكافل الخلاق"، ويعود الفضل في طرح هذا المصطلح إلى الباحث شلومو دوف غويتيان (1900-1985)، بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنّوا اللغة العربية كلغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التكافل لأن العربية أصبحت تتلاشى الآن كلغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديًا يتحدّث العربية بطلاقة، فكن على ثقة بأنه إما ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنخبة اليهودية - الإسرائيلية سواء كانت الرسمية أو الثقافية لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزًا حضاريًا. وليس هناك، مثلاً، ولو كاتب يهودي واحد وُلد بعد 1948 ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيًا تراث حضاري نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ، أمام أعيننا، الإجهاز بشكل منظّم على هذا التراث الحضاري الرائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناءً على تآمر غير معلن تشارك فيه الصهيونية، من جهة، والقومية العربية، من جهة أخرى، وكلّ منهما يجد دعمًا في دين سماوي يستلهمه، وكأن الإسلام واليهودية يجمعان على ضرورة محو هذا التراث الحضاري اليهودي - العربي العريق المشترك. بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهودية- العربية مثل الوباء الذي ينبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلة من الناس التي مازالت مصابة به في حجر صحي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المصابين. إن دور القومية العربية في عملية محو الحضارة اليهودية- العربية أمر لا يمكن إنكاره، إلا إنني لا أعتبر نفسي مؤهّلاً للتطرّق إليه - فعلى المسيحيين والمسلمين أنفسهم أن يدركوا خطأهم التاريخي الفادح ويعترفوا به - فمن دواعي السرور أننا بدأنا نرصد بعض المؤشّرات الإيجابية في هذا الاتجاه، إلا أن الطريق مازال طويلاً. أما بالنسبة للصهيونية، فقبل 20 سنة فقط، أي في نهاية الثمانينيات، بدأت أفهم أن المجتمع الحضاري المتطوّر الذي أعيش فيه لا بدّ وأن تنطبق عليه مقولة فالتر بنيامين (1892-1940): ليست هناك وثيقة في الحضارة ليست، في ذات الوقت، وثيقة في البربرية. تعريف الهويّة ولكن ما هي الهوية اليهودية-العربية؟ وأيضًا، من، يا ترى، يحتاجها اليوم "بعد خراب البصرة"، كما يقول العراقيون؟ عليّ أن أعترف، بدايةً، بأن اهتمامي بنظريات الهويّة حديث نسبيًا. ولقد بدأ هذا الاهتمام عندما رأيت العديد من المجتهدين في هذا المجال يتناقشون حول الهويّة اليهودية-العربية دون أن يكون لهم أي مدخل مباشر إلى النصوص الأصلية، إذ أن حقل دراسة الحضارة العربية-الإسلامية بوجه عام هو، كما أشار إلى ذلك المفكِّر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935 – 2003)، أحد الحقول القليلة التي يكتب فيها العديد من الباحثين الذين لا يتقنون العربيّة، ويدّعون في ذات الوقت عدم الحاجة للتبحّر في هذه اللغة وحضارتها. فمن السهولة بمكان التصدّي للسؤال الثاني المارّ ذكره أعلاه - فهناك حاجة لمناقشة مفهوم الهويّة اليهودية-العربية في المحيطات الصهيوني، والإسرائيلي، والعربي، واليهودي، والإسلامي، والمسيحي، شأنها شأن الحاجة لمناقشة الهويّات الأثنية والأنثوية والمثليّة الجنسية وغيرها من الهويّات الشخصية والجماعية والاجتماعية والوطنية والقومية والثقافية. تقول الباحثة جوان سكوت Joan Scott، من أبرز المنظرين في مجال الجنوسة Gender: ما أن نفهم أن الذات يجري بلورتها والتعبير عنها من خلال عمليات الاستثناء والإقصاء، حتى يغدو من الضروري تقصّي طبيعة هذه العمليات التي من شأنها أن تؤدّي إلى بلورة هويات معيّنة ومحو أخريات. أمّا الباحث أندرو إدجار فيقول: ما أن ندرك أن الهويّة لم تنشأ كبناء ناجز، وإنما تعتمد على عوامل أخرى، ينفتح الأفق النظري أمام المجموعات المضطهدة والمهمّشة للتحدّي وإعادة نقاش الهويّات التي فُرضت عليها في عمليّة الهيمنة. وهكذا، أخضعت الهويّات الأثنية، الجنسيّة المثلية، والهويّات الأنثويّة لعمليات التغيير السياسي. وممّا لا شك فيه، أن اليهود-العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد 1948 أن يطلق عليهم، من باب لطف التعبير "مزراحيم" (شرقيون)، قد اضطهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قبل الصهيونية والقومية العربية وعملائها السياسيين والاجتماعيين والثقافيين المتنفِّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحيانًا، وربما بسبب ما مرّوا به من شطب لهويتهم الأصلية وإحلال هويّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصًا للفلسطينيين. غير أن السؤال الأصعب هو: ما هي بالفعل الهويّة اليهودية-العربية وكيف نستطيع أن نحلِّل عناصرها؟ أودُّ بهذا الصدد أن أقترح التعمُّق في تصورات طُرحت على المستوى النظري في السنوات الأخيرة وتقول بأنَّ الهويات ليست أبدًا أحادية البنية وإنما متعددة البنى وهي قائمة على مستويات وممارسات ومواقف مختلفة، غالبًا ما تكون متداخلة ومتضادّة. فالهويّات إذن تدور حول قضايا استخدام الموارد التاريخية واللغوية والثقافية في عملية صيرورة أكثر منها عملية وجود: ليس "من نحن؟" أو "من أين ننحدِر؟"، وإنما في الغالب "ما الذي سنصير عليه؟"، وكذلك "كيف ولماذا جرى تمثيلنا على هذا النحو؟" و"ماذا سيكون تأثير هذه التساؤلات على كيفية تمثيلنا لأنفسنا لاحقًا؟". بكلمة أخرى، تنطلق الهويّات من "حكائية" الذات، لكن الطبيعة القصصية الخيالية الضرورية في هذه العملية لا تقوّض، في أية حال من الأحوال، مادّتها الاستطردية أو التأثير السياسي. وأودُّ أن أبدأ بمفهوم الهويّة الذي يقترحه الشاعر والناقد السوري أدونيس. فهو يقول في كتابه المحيط الأسود: لا تأتي الهوية حصرًا من "الداخل" وحده، ولا من "الخارج" وحده: إنها في هذا التفاعل المتحرك أبدًا. لهذا يمكن القول إن الهويّة ليست ما يثبت بل ما يتغيّر. أو يمكن القول، بتعبير آخر، الهويَّة معنى لا صورة له - أو هي، بشكلٍ أدقّ، معنى في صورة متحركة دائمًا. فالهويّة "لا تتطابق مع أية تجربة محسوسة" كما يعبر ليفي شتراوس. إنها تتجلّى في "الاتجاه نحو". لا في "العودة إلى". إنها التفتّح، لا في التقوقع، في التفاعل لا في العزلة، في الإبداع لا في الاجترار. في الشعر، في الإبداع الفنّي، بعامة، تتجلّى مسألة الهويّة في إشكاليتها الأكثر سطوعًا. فالهويّة، في اللغة الشعرية، هي موضوع تساؤل دائم. لا يكون الإنسان نفسه، في موضوع الإبداع الفنّي، إلاّ بقدر ما يخرج مما هو. فهويّته جدل بين ما هو وما يكون: هي في هذه الحركة الدائمة - في اتجاه أفق آخر، وضوء آخر. والهويّة في هذا المنظور، هي أمام الإنسان أكثر مما وراءه، وذلك بوصفها مشروعًا، وإرادة خلق وتغيير. أو لنقل: الهويّة هي أيضًا إبداع: فنحن نبدع هويّتنا، فيما نبدع حياتنا وفكرنا. (ص 17 – 18) كل من يدرس هويّة أولئك المثقفين الإسرائيليين الذين يتبنّون مؤخرًا الهويَّة اليهودية-العربية، ويجوز لنا أن نطلق عليهم اسم: اليهود العرب الجدد Neo Arab Jews، سيرى أن فكرة بلورة هذه الهويّة، وأحيانًا خلقها من العدم، نشأت من خلال استبعاد أحد أهم مكوِّنات تلك الهويّة على مرِّ الأجيال، أعني اللغة العربيّة. إن نشطاء الهويّة اليهودية-العربية الجدد ليس لهم أي صلة مباشرة بالثقافة العربية بل لا يتقن معظمهم العربية الفصحى وليس بوسعه التعرّف مباشرة على الكنوز الحضارية العربية. فعلى سبيل المثال، ينحدر الشاعر سامي شالوم شيتريت (المولود عام 1960) من أصول عربية مغربية لكنه يعجز عن التعبير عن ذاته بالعربية. وهو لا يجد أية غضادة في القول علانيةً: "أنا يهودي-عربي!" كما يعتبر الهويّة الصهيونية هويّة فرضت عليه في طفولته وجرّدته من هويته العربية الأصلية. فلقد نشر نصًّا بالعبرية بعنوان: من هو اليهودي وأي نوع من اليهودي، يتضمن حوارًا خياليًا بين المتكلّم وصديقة أمريكية تستفسر عن هويّته وتسأله إن كان عربيًا أم يهوديًا؟ فيجيب "أنا يهودي-عربي". فتقول له: "لم أسمع بمثل هذا الشيء". يحاول أن يقنعها بأن بوسع المرء تصوّر هويّة يهودية-عربية أسوة بالهويّة اليهودية-الأمريكية أو اليهودية-الألمانية أو اليهودية-الإنجليزية. - المقارنة مستحيلة فاليهودي الأوروبي شيء آخر. - كيف ذلك؟ - لأن مصطلح "يهودي" لا ينسجم مع المصطلح "عربي". ذلك لا ينسجم مطلقًا، بل إنه نشاز. - ذلك لا يعتمد إلا على أذنك. - أنا لا أحمل أية ضغينة ضد العرب، بل لديّ بعض الأصدقاء من العرب. لكن كيف يسعك أن تقول "يهودي-عربي" في حين يريد العرب تحطيم إسرائيل؟ - ولكن كيف يمكن أن تقولي يهودي-أوروبي في حين كان الأوروبيون قد حطّموا فعلاً اليهود؟. نرى في هذا النصّ تصويرًا رائعًا للتراتبية الحضارية المتمحورة حول أوروبا، التي يجري في أجوائها الجدل حول الهويّة اليهودية-العربية. بيد أنه يصوِّر، في الوقت ذاته، الفرق بين "سياسة الهويّة" وبين ما يمكنني أن أسمّيه: "سياسة الهوية المنفردة"، والعملية التي جرى أو يجري، في كلتا الحالتين، بناء وصياغة الهويّة اليهودية-العربية. وفي اعتقادي أن تصريحات مثل: "أنا يهودي-عربي!" لم يتم التفوه بها إلاّ في العصر الحديث وفي سياقات محددة فقط. فقد أمكننا ملاحظتهما خلال العقود السابقة، لكن السياق كان يقوم دائمًا على الاختلاف والسلبية. والحقيقة أن مثل هذه التصريحات أطلقها أشخاص كانوا يزرحون تحت حالة تهميش وصدرت عنهم في حالة احتجاج ضد هيمنة سياسية، إجتماعية أو ثقافية. وهي بشكل عام جزء من "سياسة المقاومة" أو "لعبة الأقنعة"، على المسرح السياسي الإسرائيلي المحلّي. إن "سياسة الهويّة المتفرِّدة"، من وجهة نظري، أنجع وأنجح بكثير في إيضاح ما حدث في العشرينات في بغداد على سبيل المثال، يومها عبّر المثقفون اليهود الشباب عن انتمائهم للوطن العراقي وللثقافة العربية، ليس من باب محاربة جهة أخرى، بل من باب الإيجابية البحتة، وهو ما لا يحدث ولا يمكن أن يحدث اليوم بسبب سياسة التهميش، الاستثناء والإقصاء التي تمارسها الصهيونية. ربيع بغداد لم يكن ربيع بغداد في عشرينات القرن العشرين قصيرًا كربيع براغ في ستينات القرن نفسه، لكنه كان قصيرًا، لسوء الحظ، بحيث لم يتح خلق نقطة انطلاق لمستقبل يختلف عن ذلك الذي مرّت به منطقة الشرق الأوسط في السنوات اللاحقة. لو نجحت بغداد في ذلك الزمان أن تورث لأهالي الشرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تشكل منها ربيعها المشرق لكان تاريخ المنطقة اليوم محفوفًا بالرفاهية والازدهار بعيدًا عمّا جرّبه أهاليها من ويلات الحروب والضغينة المتبادلة طيلة معظم عقود القرن الماضي. كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظم الفرص التي تم تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الربيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حدت بهم إلى الاعتقاد بأن المجتمع المحلّي المحيط بهم، وفي مقدِّمته الملك فيصل (1883-1933)، كان يروم دمجهم التامّ بكل ما أوتي من قوة. قبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطابًا أمام النادي العربي بحلب في 9 حزيران 1919 قال فيه: نحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى وإبراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرِّقنا الموت. وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكًا على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/يوليو 1921، زعماء الجالية اليهودية قائلاً: لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق... إني أطلب من أبناء وطني العراقيين أن لا يكونوا إلاّ عراقيين لأننا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدِّنا سام وكلنا منسوبون إلى العنصر السامي ولا فرق في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي... وليس لنا اليوم إلاّ واسطة القومية القويّة التأثير. كما أكّد وقتذاك ساطع الحصري (1880-1968)، المدير العام للتربية والتعليم في العراق، بين 1923 - 1927، أن: "كلّ من يتكلم العربية فهو عربي". هذه التصريحات من قبل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات منفتح على جميع الطوائف والملل دُعي للانضمام إليه السكان من المنحدرات المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابية والشعور بالانتماء أكثر مما بنيت على السلبية والاختلاف. وقد أسهمت التصريحات أعلاه في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلورة هويّته العراقية العربيّة المتفرّدة إذ أن هناك رابطة ضرورية بين فنِّ الخطابة والهوية، فليس سؤال "الواحد والكثرة"، الذي تستند الهويّة في جوهرها إليه، من اهتمامات الفلسفة فحسب، وإنما يقف في صميم فنِّ الخطابة أيضًا، وهو في أساسه يتّصل بقدرة المتحدث أو الكاتب على إشراك الآخرين وجلبهم، وفرض تأثيره عليهم. فمهمة الخطيب، كما يقول كينيث برك، في كتابه المعنون بلاغة الحوافز، هي استثمار هذه الموهبة عن وعي بهدف خلق مجتمع يشعر أفراده بالانتماء إليه. فالخطيب يبعث الوجود في جمهوره، وينسج مجتمعًا من المستمعين إليه، ويحضّهم على تمييز أنفسهم عن الآخرين بجمع صفوفهم وتوجههم إلى غاية مشتركة. ولقد رأينا تجسيدًا رائعًا لمثل هذه الطريقة في "نسج مجتمع من المستمعين" في الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي خاضها باراك أوباما، مستخدمًا قدته الباهرة في جذب الأمريكيين وبلورة هويّة تستمدّ حيويتها من الموارد التاريخية واللغوية والثقافية الأمريكية في عملية صيرورة أكثر منها عملية وجود: ليس "من نحن؟" أو "من أين ننحدر؟"، وإنما في الغالب "ما الذي سنصير عليه؟" و"ما هو الدرب نحو المستقبل؟". وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع العراقي الجديد في عشرينات القرن الماضي وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقًا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التحوّل حاسمًا لأنه شمل هويّات متفرِّدة مختلفة ولم يكن مشروطًا بالتخلّي عن الأطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينية، إثنية أو احترافية وما إلى ذلك، فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقي الكلداني يوسف رزق الله غنيمة (1885-1950) في مطلع عام 1924 كتابًا بعنوان نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق (عن مطبعة الفرات ببغداد). لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطبقات الاجتماعية والمهنية للجالية اليهودية، أن يهود العراق يمارسون كافّة المهن: إلاّ أنك لا تجد بينهم من حملة الأقلام وأصحاب المجلات والجرائد. وسبب ذلك أن اليهودي يرمي إلى ما به نفعه وسوق التأليف والكتابة كاسدة في ديارنا فإنهم في هذا الباب يتبعون المثل اللاتيني القائل: "عش أولاً ثمّ تفلسف". ولكن بعد ثلاثة أشهر فقط من ظهور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/أبريل 1924 بالضبط صدر العدد الأول من مجلة المصباح العربية. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلّة أن تكون جزءًا من الثقافة العراقية العربية ومن تيار الثقافة العربية السائد دون أن تكون لها أيَّة غاية يهودية ضيّقة على الإطلاق، ولا سيمّا في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسّد صدور المصباح التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافية لأبناء الجالية اليهودية التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشباب يعتبرون أنفسهم جزءًا من الأمّة العراقية-العربية الجديدة وطبقتها المثقفة. وبوسعي أن أقول، مستخدمًا مفردات غنيمة، أن اليهود بدأوا يتحدثون آنذاك في "القضايا الفلسفية"، وبالذات حول الأشياء ذات الاستقلالية النسبية في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي غالبًا ما تتجسّد بأشكال جمالية كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها. ومنذ البداية تأثر المثقفون اليهود العراقيون الشباب بالرؤية الثقافية التي كان "الدين لله والوطن للجميع" شعارًا لها. هذا الشعار، الذي كان أول من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1911، مستمدًّا من الترجمة العربية لإنجيل مرقص 12، 17: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". ونجد شبيهه في شعار المثقفين اللبنانيين-السوريين المسيحيين في القرن التاسع عشر "حبُّ الوطن من الإيمان". وقد ثبَّتته أيضًا مجلة الجنان، أول نشرة دورية عربية عمومية تأسست ببيروت عام 1870 من قبل بطرس البستاني (1819-1883) وصدرت حتى عام 1886، وحررت أيضًا من قبل نجله سليم البستاني (1848-1884). ووفقًا لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرابطة الدينية بالرابطة القومية. ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيين المارِّ ذكرهم، شعار "الدين لله، والوطن للجميع"، كما حفزتهم الآيات القرآنية التي تدعو للتسامح الديني والتعدّدية الثقافية مثل "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة، 256)، و"لكم دينكم ولي ديني" (سورة الكافرون، 6). واصطفّت نخبتهم، وخاصة المثقفون العلمانيون الشباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قومية حديثة تعامل كلّ مواطنيها من المسلمين الشيعة والسنة، والكرد، والتركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيديين واليهود، على قدم المساواة. أمّا أحلام وآمال الصهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهودية قومية في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام 1917، فكانت أمرًا غير مرغوب به تمامًا في صفوف معظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أية وثائق تاريخية تعكس تحمّسًا لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقي العربي. يكفي بنا أن نقتبس مما كتبه أرنولد تالبوت ويلسون، المفوض المدني المؤقت في بلاد الرافدين في الفترة ما بين 1918 و1920، في سجلاّته عن تلك الفترة: ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الجالية اليهودية الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلد فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسكن. وبلاد الرافدين جنّة مقارنة بفلسطين. قال أحدهم: العراق جنّة عدن ومن هذا البلد طرد آدم - أعطونا حكومة جيّدة وسنجعل البلد يزدهر - وادي الرافدين وطننا؛ وطن قومي سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا للقدوم إليه! تتوفر هنا الحرّية والفرصة! قد تتوفر في فلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفر فيها الفرصة. وقال التربوي والصحفي اليهودي عزرا حداد (1900-1972) في أواخر الثلاثينات: نحن عرب قبل أن نكون يهودًا. كما كتب الأديب يعقوب بلبول (1920-2004): لا يتوقع الشباب اليهودي في البلدان العربية من الصهيونية غير الاستعمار والهيمنة. عاش معظم السكّان اليهود العراقيين ببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيين والحقبة الملكية المبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنه يمكن أن يقول المرء بكل ثقة إن بغداد كانت يهودية في النصف الأول من القرن العشرين، كما كان يقال إن نيويورك مدينة يهودية. كان الأفق الحقيقي ليهود العراق، على الأقل من وجهة نظر النخبة المثقّفة، عراقيًا وعربيًا. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقية جميع أبناء المجتمع المحلّي على اختلاف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصدد: لم يطلق يهود العراق على العراقيين من غير اليهود تسمية "عرب". إنما استخدموا مفردات "مسلم" و"مسيحي" وحينما كانوا يتكلمون عن "عرب" فالمعنى في أذهانهم كان "البدو" فقط. إذا عدنا إلى المصباح نرى أن رئيس التحرير أنور شاؤل، كان يكتب تحت الاسم المستعار "ابن السموأل"، إشارة إلى الشاعر اليهودي الجاهلي السموأل بن عاديا، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السموأل، هكذا تسرد الروايات العربية القديمة، تسليم أسلحة عُهد له بها، وبالتالي فقد شهد مصرع ولده على يد شيخ القبيلة البدوي الذي فرض حصارًا على قصره كي يقسره على تسليم الأسلحة التي تركت بحوزته. وبفضل ذلك خُلِّد السموأل في ذاكرة التاريخ بالقول "أوفى من السموأل". ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقف العراقي-العربي الذي كان، من منظاره، الموقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقية. وتصوّر قصيدة شاؤل الربيع، التي نشرت في العدد الأول من المصباح، الأمل بحقبة جديدة من الوحدة القومية بعيدًا كل البعد عن الانتهازية أو التعصّب الديني. وقال شاؤل في مقدِّمته للقصيدة: استيقظوا، استيقظوا أيها الكتّاب والشعراء فلقد وافى الربيع سيّد الزمان طلق المحيّا باسم الثغر، وقد ضحكت الطبيعة لبني البشر بعدما أخافتهم بشتائها المرعب. انظروا الحقول والمروج، والحدائق والرياض فلقد اكتست ثيابها السندسية الزاهية. واستنشقوا أريج الزهور وطيب عرفها الفائح بين الخمائل والأنهار واسمعوا البلابل والطيور مرحّبة بالربيع المحبوب بتغاريدها المشجّية فوق أفانين الأشجار، وأنتم أنتم أيها الكتاب والشعراء ما لي أراكم في سكوت عميق؟ ألستم بلابل الأدب فعلامَ لا ترحّبون بشباب الطبيعة النضر، علام لا تؤهّلون بروضة الحياة اليانعة علام لا تحيّون الأشجار؟ وفيما يلي الأبيات الخمسة الأولى من قصيدته:
وافى الربيع تحفّـــه الأزهار فشدت مرحّبة به الأطيــار ويحمل البيت الخامس أعلاه علاقة تحاورية مع الميمية الصوفية الشهيرة لعمر بن الفارض (1181-1234): أدر ذكرى من أهوى ولو بملام إن أحاديث الحبيب مدامي ويختم شاول القصيدة كالآتي: خير المناظر في الربيع حديقة في وصفها تتناشد الأشعار الربيع المحبوب، الذي ترحب به البلابل والطيور بتغاريدها المشجيّة فوق أفانين الأشجار، هو ربيع الأمة العراقية العربية، وخير المناظر في هذا الربيع هو الحديقة الوطنية التي تتناشد في وصفها الأشعار. لقد أعلن شاؤل من خلال قوله هذه القصيدة انضمامه إلى الوطن العراقي وإلى أمته العربية انطلاقًا من الفردانية الخاصة به واندفاعه الشخصي المحض إلاّ أنه لم يصرّح آنذاك: "أنا يهودي-عربي!" أو "أنا يهودي-عراقي!"، لأن الأمر بدا بديهيًا له كما كان كذلك بالنسبة لزملائه المثقفين العراقيين الآخرين من غير اليهود. ولقد عثرت، ودون أي جهد خاص، على نصوص تناول ذلك الربيع ببغداد في عشرينات القرن الماضي بقلم السنّي معروف الرصافي (1875-1945) والشيعي محمد مهدي الجواهري (1899-1997) والكردي جميل صدقي الزهاوي (1863-1936) والمسيحي يوسف رزق الله غنيمة (1885-1950). لا أجد منهم من تباهى بأنه عربي أو عراقي إذ كان ذلك بديهيًا كما كان بديهيًا بالنسبة لأنور شاؤل - كان انتماؤهم جميعًا يستند إلى كون كلٍّ منهم جزءًا من الأمّة العراقية وكانت لغته الأم هي العربية وكان مستقره الأوحد هو الوطن العراقي، ولم يكن للاختلاف في الدين أية أهمية إذ أن الإيمان الديني، في المنظور السائد في تلك الفترة، كان أمرًا بين الفرد وخالقه: "الدين لله، والوطن للجميع". اليهود الألمان واليهود العرب اتخذت تحقيقاتي حول الهويّة اليهودية-العربية منحى جديدًا حين كنت عضوًا في معهد الدراسات العالية في برلين، في السنة الأكاديمية 2004 - 2005. فبعد زيارة للمتحف اليهودي ببرلين لاحظت بنية الهويّة القابلة للمقارنة من خلال رصد ظاهرتين فريدتين في الحياة اليهودية الحديثة، وأعني اليهود الناطقين بالألمانية واليهود الناطقين بالعربية. فاليهود العراقيون، وخاصةً في بغداد، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم يكونوا مختلفين من حيث صلتهم بالمجتمع المحيط بهم وتعاملهم معه عن يهود الطبقة الوسطى في ألمانيا، أو في المناطق الأوروبية الأخرى، التي شعر فيها اليهود أنهم ألمان أو أوروبيون أكثر من شعورهم بأنفسهم كيهود، مغلِّبين هويّتهم القومية والثقافية على هويّتهم الدينية. وحينما بدأت دراسة هذا التشابه، فكّرت فقط بظاهرتين مماثلتين جوهريًا في بقعتين مختلفتين من العالم، لكنني اكتشفت بالتدريج منظومة متشابكة من العلاقات بين اليهود العراقيين والأوروبيين تمتدُّ إلى منتصف القرن التاسع عشر. وهاكم بعض الأمثلة: 1 - نشط يهود بغداد كمراسلين وممثّلين للصحف اليهودية الأوروبية الناطقة بالعبرية مثل هاماغيد، التي تعتبر أول صحيفة تأسست في أوروبا. 2 - دأب اليهود العراقيون الميسورو الحال على إرسال أبنائهم لتلقّي التعليم في المؤسسات الأوروبية. وكمثال على ذلك فقد درس ساسون حسقيل أفندي (1860-1932) علوم الاستشراق في فيينا حيث كان العديد من اليهود يتحدّثون الألمانية الفصحى، اتخذوا أسماء ألمانية، وصاروا يرتدون الملابس ويتصرّفون كالنمساويين والألمان. وعثرت على مقابلة معه أجرتها صحيفة هاعولَم العبرية في فيينا يوم العاشر من آذار/مارس 1909. وعبّر ساسون أفندي، أحد ممثّلي بغداد وقتذاك في البرلمان العثماني، في تلك المقابلة عن وجهات نظر ألهمتها الأفكار التي كانت سائدة في صفوف اليهود الأوروبيين. وهنا اقتباس منها: يريد السيد ساسون أن يندمج في المجتمع العراقي، ولأنه لا يرى أي أفق إيجابي يمكن أن يوحّد اليهود، غير الدين. فإنه قد يرضى بالذوبان مع العرب داخل المجتمع العراقي. ولقد احتلَّ ساسون أفندي لاحقًا منصب وزير المال في عدة وزارات عراقية تشكّلت في عشرينات القرن الماضي. 3 - ونعرف أيضًا عن مهاجرين يهود أوربيين وصلوا إلى بغداد حاملين بشرى التنوير والعلمانية. ويمكننا أن نذكر، على سبيل المثال، ياكوب أوبرماير (1845-1935)، الذي عاش في بغداد بين عامي 1869 - 1880، وحاول بمجهوداته الإصلاحية تحديث الأطر الدينية للجالية اليهودية المحلّية. 4 - هناك أيضًا العلاقات العائلية: على سبيل المثال، انحدر الموسيقار العراقي يوسف حوريش من نسل عائلة أوروبية هاجرت إلى البصرة. أمّا جدُّ أنور شاؤل فكان أحد المهاجرين اليهود من النمسا إلى بغداد في أواسط القرن التاسع عشر. وأنصح كل من يودّ تقصي تاريخ هؤلاء المهاجرين بقراءة الرواية التاريخية الساعاتي للكاتبة بربارا تاوفر، المنشورة عام 2001. وسأختم هذه العجالة بما أشارت إليه المفكّرة اليهودية-الألمانية حنه أريندت (1906-1975)، من حيث مصير الهويّة اليهودية-الألمانية والتي يمكن أن يلقي الضوء على الهويّة اليهودية-العربية ويوضّح العلاقة الجدلية بين الظاهرتين الفريدتين. لقد بدأت أريندت بكتابة سيرة حياة امرأة يهودية، هي راشيل ليفن فارنهاغين، في أواخر العشرينات من القرن العشرين ببرلين إلاّ أنها اضطرّت للهروب من ألمانيا عام 1933 وأكملت كتابها بباريس. ولم ينشر الكتاب حتى عام 1957، برعاية معهد ليو بيك وبترجمة إنجليزية. كتبت أريندت في مقدّمة الكتاب: إن اليهود الألمان وتاريخهم عبارة عن ظاهرة فريدة بحدِّ ذاتها؛ لا يوجد لشيء مثيل لها حتى في الأماكن الأخرى التي شهدت اندماج اليهود في مجتمع غير يهودي. والتحقيق في هذه الظاهرة، التي تجد تعبيرها، ضمن أشياء أخرى، في ثروة وموهبة أدبية إبداعية علمية وفكرية مدهشة، هي مهمة تاريخية من الطراز الأول، لا يمكن بالطبع التصدّي لها إلا الآن، بعد أن وصل تاريخ اليهود الألمان إلى نهايته. الآن، وبعد أكثر من خمسين سنة، بإمكاننا قراءة الفقرة ذاتها ثانيةً، مع تغيير كلمة واحدة تكررت مرتين: إن اليهود العرب وتاريخهم عبارة عن ظاهرة فريدة بحدِّ ذاتها؛ لا يوجد لشيء مثيل لها حتى في الأماكن الأخرى التي شهدت اندماج اليهود في مجتمع غير يهودي. والتحقيق في هذه الظاهرة، التي تجد تعبيرها، ضمن أشياء أخرى، في ثروة وموهبة أدبية إبداعية علمية وفكرية مدهشة، هي مهمة تاريخية من الطراز الأول، لا يمكن بالطبع التصدّي لها إلا الآن، بعد أن وصل تاريخ اليهود العرب إلى نهايته. *** *** *** * عن مجلة فكر وفن العربية الصادرة عن معهد غوته، الإصدار 91، وقد ترجم هذه المقالة عن الإنكليزية ماجد الخطيب، وراجعها ونقحها رؤوبين سنير نفسه. ** رؤوبين سنير Reuven Snir أستاذ اللغة والأدب العربيين في جامعة حيفا.
|
|
|