|
الكـون الجديـد
خوف المرء على نفسه أو ماله أو مصيره أو عائلته أو عشيرته أو طائفته يلقيه في القلق والرعب أو الاكتئاب، إذ يحس أن هذه المخاوف تهدّد كيانه، تقبضه أو تقزّمه أو تشتّته حتى التلاشي. في الحقيقة إذا أحسّ أحدنا أنه لا يخاف يدرك أنه موجود. ولكن أنّى له أن يشعر بالهناء، وهو وجه من وجوه السلامة، إذا لم يصبح كائنًا مستقلاً عن المرمي في الزمان وعن الزمان نفسه في تقادمه، حرًا من الحرب، من السياسة، من الجنس، من أعدائه ومن أصدقائه، حرًا من زوجته وأولاده ولو معهم، من كل من يلوذ به أو من لاذ هو بهم، مؤسسًا على ما لا يزول. أنت طبعًا تعيش في الخارج، ولكن هل أنت من الخارج؟ مِن أوضح ما قاله يسوع في هذا السياق، عندما صلّى من أجل تلاميذه في خطبة الوداع، قوله: لا أطلب إليك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ما هم من العالم وما أنا من العالم. قدّسهم في الحق. (يوحنا 15:17-17). العالم هنا هو الكون التاريخي والتلاميذ موضوعون فيه ولا يسعهم أن يخرجوا منه إذ ليس من عالم آخر أو تاريخ آخر. يدعو المسيح أباه لا لينقذهم من الوجود ولكن من الشرّ المحيط بالوجود أو المشكّل له. إلى هذا، الحق لا ينبثق من التاريخ ولو حلَّ فيه إذ لا بدَّ للحق من مدى. إنه شيء آخر نازل من فوق على بعض القلوب، وينتشر منها إلى القلوب الأخرى المتعطّشة إلى الحق. الذين يلامسون الحق، أو يستقرُّ فيهم، نازلون من السماء حسب تعبير يوحنا الإنجيلي. عندنا، إذًا، هذا الوجود الملموس، الزمنيُّ، العاصف أحيانًا، المتخبِّط دائمًا في سيلانه، المتقبِّل قراره مما يهبط عليه. هذا الوجود، بما ينسكب عليه، يهدأ أحيانًا – أفي الفرد كان هذا أم في الجماعة. يسلم الإنسان حينًا بعد حين، ويسلم كثيرًا ومرارًا عند عظماء المجد الإلهي ولو سقطوا حينًا بعد حين. ينكسر الكبار إذا غفلوا عن رؤية ما يجب إلتماسه ليحلَّ فيهم حتى تصدق الكلمة عن الأكثرين: "اتخذوا الباطل بدلاً من الحق الإلهي، وعبدوا المخلوق وخدموه من دون الخالق" (رومية 25:1) حتى صاروا "بلا فهم، ولا وفاء، ولا حنان، ولا رحمة". * * * نحن الذين نتكلَّم على الخطيئة لا نستخدم التحليل النفسي، وإن كان مفيدًا لفهم نفسك والناس. إن كنت مصابًا بعصاب، ومعظمنا كذلك، لا يعفيك شيء من مسؤولية الخطيئة المتحكِّمة فيك أو العائدة إليك، طوعًا أو في غفلة منك. أضخم حيلة للشيطان أن يُقنعك بأن ليس ثمَّة من خطيئة. هذا يريح إقامتك فيها، وتبقى جميلاً في عينيك، وتلبس الخطيئة ثوب الفضيلة. كلُّ الذين سقطوا في الهيستيريا الجماعية في الإنتخابات الأخيرة، وما يلحق بها من حقد، قد اعتبروا أنفسهم متجندين للحقِّ. وسرعان ما تنطلق من موقفك السياسي، المعتدل أحيانًا حتى الطراوة، إلى عداء شخصي. وفي الحقيقة إن البغض يكون كامنًا فيك فتستعير قضية سياسية، قد تكون مجيدة، لتضرب الآخر. تكون قد تحزَّبت (ونصف اللبنانيين لا يعرفون لماذا تحزَّبوا) وليس عندك قوّة جدل فتشتم حتى الضرب، وقد تزول في ذلك صداقات. أما الأطهار فينقسمون ولا تخرب قلوبهم. كان أبي رجلاً بسيطًا. رافقته، منذ سبع وأربعين سنة، لننتخب في قلم واحد، وأحسست، دون سؤال مني أو منه عن خيارنا، أن كلاً منّا وضع قائمة تختلف عن الآخر، ثم صاحبته إلى الغداء في بيت العائلة، وبقينا على الودِّ. لماذا لا يسلم الودُّ في لبنان؟ أليس هو أهم من همروجة الانتخابات؟ في العالم لا من العالم ولكن من الله، تلك هي قاعدة الخلاص. الله فيك أو معك هو ما يحرِّرك ويجعلك قريبًا إلى الحقِّ، فلا تصبح معوقًا على الصعيد الروحي، وتصبح إطلالة الله في هذا العالم. إقامة الله معك أو فيك هذا هو خلاصك من هذا العالم الذي فيه تعيش. دونكم مثلاً عن هذا: عند صديق لي كبير، كان من نخبة المثقّفين، ما كنت أعرف معطوبيّته في بدء مودّتنا. صارت له خيبتان في حياته، في المجال الوطني أو القومي، لن أذكرهما. خياران له أعرف عظمتهما إنهارا انهيارًا شبه كامل في الراهن. هبط في الحزن هبوطًا عظيمًا. هبط حتى الإحباط ولم يقم. قلت له: أعظم القضايا تفنى، وهذه هي وطأة الزمان. التاريخ مقبرة القضايا العظيمة. إلى هذا الناس المخيبون الآمال، أقرب الناس إليك المعروفون بالمحبة والصدق. فجأة، بعد سنين من المعاشرة طوال، ترى أنهم خانوا الوفاء أو سقطوا في آثام ما كنت تتوقعها، أو تنكشف لك فيهم سيئات أو نزعات خفية ما كنت تعرفها. إن كنت معلَّقًا بهم حتى تجيء منهم عاطفيًا فكان هذا أو ذاك معتمدك أو متوكّلك يصيبك غمٌّ شديد قد لا تخرج منه. * * * في الإنجيل مقولة الترك أساسيِّة لاقتناء الخلاص. في دعوة السيد لمتى يقول السيد لهذا: "اتبعني! فقام وترك كل شيء وتبعه" (متى 27:5 و28). وقد تحدَّث الرَّبُّ، في غير موضع، عن ترك الأقربين (الأب، الأخ، الأخت ومن إليهم). من الواضح أن المخلَّص لا يدعو إلى الانفصال الجسدي أو المجتمعي عن العيلة والأنسباء، لكنه يريد ألا تجعل أحدًا من الناس مركزًا لحياتك أو مصدرًا لها. المحبة المسيحية عطاء ولا أسر فيها لأحد. العشق الذي سمّاه اليونانيون القدامى إيروس Eros هو عاطفة استيلاء فتستولي ويُستولى عليك. أما في المحبة الإنجيليِّة فتمحو الأنا فيك وتبيدها كليًا لتصير للآخر. وإذا أنت محوتها يسكن الله فيك، ويقيم فيك أنا طاهرة، فيصير الرَّبُّ وجهك إذ لم يبقَ فيك شيء من الأرض. إذ ذاك، تخدم ولا تملك ولا تطلب جزاءً ولا شكورًا، ولا أن يعترف بك أحد أو أن يكون وفيًّا. أنت أحببته ليعرف أنه حبيب الله ويحسَّ في ذاته بلطف الله ورأفاته. أنت بتَّ فقيرًا إلى كلِّ الناس، إلى الأنقياء والخبثاء الذين كانوا يظهرون لك المودَّات. أنت تحزن من أجل نجاتهم لا لكونهم مرمروك. تدعو لهم بطهارة الفكر والعيش، ولا ينفصل داخلك عنهم ولو أبعدوك عن معشرهم. إذا استقللت عن كل البشر والمنافع التي كنت تستدرُّ، وإذا منعتهم عن مديحك، إذا أقمت في الله لا تستكبر، وإذا كان هو كلُّ شيء فيك تكون موجودًا به، وهو يكون موجودًا فيك ولا تفصل، إذ ذاك، أناك عن حضرته لأنك لا ترى إلى وجهك كما في مرآة. هذا يعمله الغاوون. والعاشق وجه الله لا يعرف الغواية إذ يعتبر نفسه لا شيء، ويجعله ربُّه شيئًا لكنه لا يعلم. ولو استطاع يحجب هيأته الخارجية والداخلية حتى لا تبدو منه إلا الكلمة، ويبقى الله وحده متجلِّيًا حتى يستحيل العالم "أرضًا جديدة وسماءً جديدة". *** *** *** النهار |
|
|