|
رسالة إلى صديق
لقد أضحت الشموس بعيدة، لكنها ما زالت مشعة... (1) ما الذي تعرفه عنّي يا صديقي؟... ووجدتني حين سألتني هذا السؤال، وكنّا في حينه في لحظة تباعد عميق، أقف صامتًا ولا أجيب... لأني، وأقولها صراحة، لم أكن أتوقع هكذا سؤال... ففهمت فجأة، أنا الذي أعرفك منذ ما يزيد عن عشرين عامًا، كالمصعوق الذي فاجأته هول الصدمة، وبعد كل هذه السنين الطوال من "الصداقة" والعمل المشترك، أني لم أكن أعرف عنك شيئًا (تقريبًا)... لا بل فهمت حتى أنّي لم أكن أعرف نفسي كما يجب... لكن هذا كان مجرّد شعور أولي... فمن بعده، وكما هي الحال معي دائمًا، أعدت المراجعة... ورأيت الكثير من الأمور تتكشف... الكثير من تلك الأحداث الصغيرة التي كنت أراها تمر أمامي ولا ألحظها... الكثير من تلك المتعلقة بك وبنفسي وبالآخرين... ما جعلني أبتدىء هذه التأملات بتعليق مرير يقول على لسان إبليس، وهو يهوي[1]، ما أكرره الآن ويحدث دائمًا في عالمنا حين نعكسه من خلال الأساطير على عالم الآلهة، إنَّ... الشموس أضحت بعيدة... لكنها ما زالت مشعة... وأنا أعرف وأقولها مباشرةً: إني لا أحب الأقنعة في علاقاتي مع أصدقائي ومع من أحب. وأعرف أن الصداقة بيننا لن تعود قطعًا كما كانت. حيث من الممكن أن تتعمق أكثر وتستمر، وهذا ما أتمناه... كما من الممكن أيضًا أن تنتهي... ولكن... لأن على الحياة أن تستمر، أرى أنه يجب علي مواجهة نفسي و... الاستمرار مع من تبقى من أصدقاء وأحبّة، بكل إيجابية وصدق ومسؤولية... لا أن أقطع رأسي... (2) وأول ما تراني أتفكر به في هذا السياق، الذي هو حياتي في نهاية المطاف، هو صداقاتي. هي تلك العلاقات التي طبعتني وشكّلت أجمل وأعمق ما عشت من علاقات ما زال بعضها مستمرًا منذ أيام الطفولة. الأمر يجعلني أتوقف ههنا للتفكر في معاني تلك العلاقة التي إن تفكرنا فيها جيدًا نراها تتجاوز تلك التي يصفها علماء الاجتماع كعلاقة تعاونية بين شخصين أو أكثر. تلك التي تستند بشكل خاص، كما يقولون، على المعرفة المتبادلة والتقدير والودّ والاحترام وما قد ينجم عن هذه الأمور من تقديم للمساعدة في أوقات الحاجة. لأنها علاقة أفترضها تستند، أول ما تستند، إلى الإخلاص في القول والفعل الذي قد يصل إلى حدّ الإيثار. علاقة أساسها ومنطلقها قيم تتجاوز مجرد الرغبة في التمنّي الغيبي إلى السعي لتحقيق ما هو الأفضل بالنسبة للآخر. علاقة تتجاوز حتمًا المودّة والاستلطاف والتفاهم المتبادلين؛ فكل هذه الأمور طبيعية وعادية جدًا بين الأصدقاء. لأنها علاقة تفترض النزاهة وخاصة في أوضاع يكون من الصعب فيها، بشكل عام، تبادل حقائق لايمكن التطرق إليها في الأحوال العادية. وأيضًا... لأن الصداقة هي، من منظوري، علاقة تتجاوز العلاقات العادية وتفترض نوعًا من الخصوصية، فإن أول ما تتطلبه تجاوز بعض الذات وما يستتبعها من أقنعة قد تفرضها علينا طبيعتنا الخاصة. علاقة أساسها، وأقولها مرة أخرى، الصدق قولاً والصدق فعلاً. وتراني من هذا المنظور "المثالي" أستعيد ما مرّ عليّ من علاقات في هذه الحياة، ومن بينها، صداقتنا. (3) وأجدني، في هذا السياق، لا أعبأ كثيرًا بتلك القصص الخالدة التي تحدثنا عنها الأساطير على مرّ العصور. فلا تستوقفني كثيرًا صداقة غلغامش وأنكيدو في أسطورة غلغامش، ولا صداقة أخيل وباتروكلس في الإلياذة. و/أو صداقة آرثر ولانسلوت في فرسان المائدة المستديرة. أجدني أتجاوز كلِّ تلك الأساطير، رغم جمالها، لأن في حياة كلّ منّا من الصداقات التي، إن تمعنّا بها جيدًا، لا تقل جمالاً عن تلك القصص التي تحدثنا عنها الأساطير. فهل هناك أروع من تلك العلاقة المستمرة مع صديق طفولة أو شباب شاركته حياة المراهقة والدراسة والسياسة، وتراني اليوم أشاركه أجمل ما يميز شيخوختنا: جمال رؤية الأبناء والأحفاد يكبرون ويترعرعون. أي شيء أكبر وأجمل من تلك الصداقة التي في مطلع حياتي العملية ربطتني بمعلمين تلقنت على يديهما أسرار المهنة، واحترام الكلمة، فكانا بالنسبة إلي كحيرام أبي بالنسبة لتلاميذه المخلصين. أي شيء أروع وأجمل من تلك العلاقة التي تربطني اليوم بذلك الأستاذ الذي عارضته ورفضته أيام شبابي، ثم عدت، وقد تعمقت نظرتي للأمور، لأتلمس منه الرشد والنصح والطريق. ومن خلال سياق هذه الحياة، أي شيء أجمل من الزوجة والصديقة والرفيق والشريك. أي شيء أروع وأجمل من تلك العلاقة التي باتت تربطني اليوم بأبنائي وأحفادي وبرفاق الدرب الذين تعلّموا منّي لفترة ثم أصبحت أتعلم منهم لأنهم بدأوا يتجاوزونني. إن هذه العلاقات جميعها، وكلّ واحدة منها على انفراد، لا تقل جمالاً وروعة عن تلك التي تحدثنا عنها الأساطير. وتراني أتذكّر كل هذا، كما أتذكّر أيضًا علاقاتي الفاشلة. تلك التي لم تستمر مع الأسف. تلك العلاقات التي ذهبت الآن ولن تعود. فأتفكر في نفسي وفيما أدى إلى فشلها وإلى نهايتها. لأنّي أخطأت أيضًا في حياتي. فأنا لم أكن يومًا، إن استعرت تعبير غاندي، لا قدّيسًا ولا غارقًا في الخطيئة. إنما كمعظمنا، كنت مجرّد إنسان يخطئ ويصيب ويحب ويفرح ويتألم. نعم وبكل فخر يا صديقي، كنت مجرّد إنسان. إنسان تراه اليوم يعود ليتذكر كيف وأين أخطأ تجاه نفسه وتجاه الآخرين. وأتفكر أني أخطأت في حياتي حين كانت تتملكني العقيدة التي جعلتني أنسى حقّ الآخر في أن يختلف معي. وقد أسأت في تلك الأيام لبعض من صداقاتي. وقد أخطأت خاصّة، وما زلت إلى الآن أخطىء، حين تتملّكتني ذاتي وتسيطر عليّ طباعي السيئة فتجعلني أسيءُ بلا قصد لذلك الآخر فأنسى خصوصيته وحساسيته. وقد أخطأت أيضًا حين لم أتسامح. وأخطأت وأخطأت... (4) نعم، لقد أخطأت في حياتي أيها الصديق. وارتكبت تجاه البعض من ذلك الآخر الذي هو أنا في نهاية المطاف، والذي كان من الممكن أن يبقى صديقًا، ما أساء إليه وإلى علاقتنا. وأنا نادم فعلاً على هذا. ولكني، حين أسترجع نفسي اليوم، تراني رغم كل ما حصل، أردد مع الأغنية إنّي...
الآن وقد قاربت النهاية، وما أنا متأكد منه، ما آمنت به وعشته وتعلّمته من حياتي ومن تجربتي، وأستطيع قوله بالفم الملآن هو: إنّي كنت صادقًا دومًا، ولم أفقد يومًا احترامي لنفسي. وهل تعرف السبب؟ السبب هو أن الحياة قد علّمتني، وعلى حسابي، أن عليّ دومًا احترام الآخر من خلال احترام كلمتي. وهذا الذي أُلزم نفسي به، على صغره، تراني أطلبه تحديدًا وبإصرار، من أصدقائي، وممن أحب... *** *** *** [1] سقوط إبليس لفيكتور هوغو. [2] And now, the end is near; And so I face the final curtain. My friend, I'll say it clear, I'll state my case, of which I'm certain… My Way – Frank Sinatra
|
|
|