|
اعتياديَّة العنف وتهافُت حديث الديموقراطيَّة
لم يكن الأربعاء، الثالث عشر من يونيو/حزيران 2007، غير يوم اعتيادي في جغرافية العنف العربية. بدأ بتفجير مرقد الإمامين في سامراء، متحولاً عنها صوب غزة، حيث استمر إهدار الدم الفلسطيني في مواجهات فتح/حماس، ليضع بعدها رتوشًا تكميليًّا على صورة شقاء مجتمعاتنا العربية في بيروت باغتيال النائب وليد عيدو ومرافقيه ومَن خانهم القدرُ بوجودهم في المكان ذاته واللحظة عينها. تتكرر مشاهد العنف كلَّ يوم في أكثر من مدينة عربية؛ فليس ذلك عن واقعنا بغريب. أولويات التغطية الإعلامية وحدها هي التي تحدد أيَّ موقع (أو أية متوالية من المواقع) سيُكتَب له المرور إلى وجدان المواطن–المتفرج، ضحية الغد المحتملة. وأعترف أن أحداث الأربعاء الدامي، على الرغم من قناعتي التحليلية باعتياديتها وقدرتي على تفسيرها بالرجوع إلى مسبِّباتها المتنوعة، هزت وجداني في عنفوان غاب عن نظيراتها المتواترة تصاعُدًا خلال الشهور الماضية، على نحو دفعني إلى إعادة التفكير في القضية التي تستحوذ اليوم على جل طاقتي البحثية، ألا وهي إمكانات التحول الديموقراطي في المجتمعات العربية. ودونما حذف أو تجميل أو ترشيد لصياغات اللحظة الانفعالية الأولى، كانت تلك هي ما راودني من انطباعات: - أولاً: تبدو أحاديث "الديموقراطية" و"التحول الديموقراطي"، على خلفية هيمنة ثقافة العنف الإقصائية والغياب الكامل لقيمة الفرد–الإنسان–المواطن، كفقاعات هواء لا محتوى لها. فالديموقراطية هي، في الجوهر، منهج وإجراءات الإدارة السلمية للاختلاف التي تسمح بتعددية الطروحات والفاعلين وبتداول السلطة فيما بينهم في إطار من حكم القانون والمشاركة الشعبية. وبالتالي، فلا إدارة للاختلاف في العراق أو فلسطين أو لبنان إنْ تجاوزت مضامينُه، أو هددت بتجاوُز، "الخطوط الحمراء" لآلات القمع الدولانية (المكون الأمني–الاستخباراتي) وغير الدولانية (أحزاب وفصائل وكتائب وجبهات ومنظمات وغير ذلك من المسميات التي لوثت قاموس الفعل السياسي في المشرق) سوى بالإلغاء والتصفية. وفي حين يرتبط تعدد مصادر القمع في العراق وفلسطين ولبنان بالانهيار الكامل لقدرة الدولة على احتكار الاستخدام الشرعي للعنف، تنفرد الدولة السلطوية، في معظم الحالات العربية الأخرى، بأداء المهمة بكفاءة وتعقد وظيفي تتنوع معهما مستويات القمع، من قتل إلى اعتقال وسجن وتعذيب، مرورًا بتعقب وتشريد ومنع، وانتهاءً بتهديد ووعيد، تمامًا كما تختلف الجهات المنفذة، من أجهزة رسمية إلى شبكات غير رسمية. - ثانيًا: الأصل في عمليات التحول الديموقراطي في المجتمعات الحديثة هو تبلور قناعة إستراتيجية (بمعنى الاستقرار النسبي على مدار فترة زمنية ليست بالقصيرة)، لدى النخب الحاكمة والنخب البديلة وحركات المعارضة، بإمكان الصناعة السلمية للتوافق بينها، بما يضمن مصالحها الحيوية ويصوغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبدأ المسؤولية–المحاسبة المزدوج من خلال نظام قضائي مستقل وبإشراك الأفراد، بوصفهم مواطنين، في تحديد معنى الصالح العام، من خلال آليات راسخة، كالانتخابات للهيئات التشريعية والرقابة الشعبية لمؤسسات المجتمع المدني. عربيًّا، في المقابل، يدلِّل استشراءُ ثقافة العنف الإقصائية على مركزية مقاربة الخطر والمعادلات الصفرية حين تنظر النخب والقوى الحاكمة والبديلة بعضها إلى بعض، الأمر الذي يرتِّب، بالتبعية، راديكالية الفعل والنزوع المستمر نحو ساحات سياسية يُستحوَذ عليها عنوةً وتُحتكَر دون تفريط. - ثالثًا: ليس لمثل هذه الرؤى والممارسات سوى أن تنتج عسكرة شاملة للمجتمع وللسياسة تتناقض جذريًّا مع الفكرة الديموقراطية وتزيد من تهافُت أحاديثنا، كمهتمين عرب، عن إمكانات التحول باتجاهها. لقد تضخَّم المكوِّن الأمني–الاستخباراتي في معظم الدول العربية المتماسكة، جمهوريات وملكيات، حتى طغى على سلطات تنفيذية ألغت استقلالية السلطتين التشريعية والقضائية أو حجَّمتْها وانفردت بالفعل السياسي والمجتمعي. أما في حالات الدولة الفاشلة (العراق ولبنان) أو الغائبة (فلسطين) فتمتد العسكرة من القوى السياسية إلى تركيبات المجتمع الأولية، الطائفية والفئوية، وتتداخل معها على نحو يصنع دويلات داخل الدولة تمتد كالخلايا السرطانية لتُجهز عليها أو لا تسمح لها بالبحث عن بدايات تأسيسية جديدة. بأية مصداقية، إذن، ننادي بـ"صوت لكلِّ مواطن" في لحظة يمكن فيها اختزال الواقع العربي الراهن إنْ في رمزية مقولة سلاح في وجه كلِّ "مواطن" يتجاوز "خطوطي الحمراء" أو سلاح لكلِّ "مواطن" يكرس معي "خطوطي الحمراء"؟ فُرِّغتْ المواطَنة من مضامينها الحقيقية واستحالت حديثًا باليًا لنُخَب حاكمة سلطوية وكيانات دينية وطائفية تسلب الفرد آدميته وحقَّه في الحياة كيفما شاءت. فعن أي "صوت" نبحث؟! - رابعًا: مجتمعاتنا في مأزق حقيقي، لا تزال تراوح معه عاجزةً في مواقع اللاحسم أو الحسم القسري المفتقد للشرعية (بمعنى القبول الشعبي) لأسئلتها الكبرى المرتبطة بالعلاقة بين الفرد والجماعة والدولة وبدور الدين في السياسة وحدود مدنية الأخيرة وبالجوهر الناظم لتدافع الأغلبيات والأقليات. هنا هيمنة ثقافة العنف الإقصائية وما ترتِّبه من غياب لآليات الصناعة السلمية للتوافق هي سبب العجز ونتيجته المكرِّسة له في آنٍ واحد. في المقابل، تتمثل عبقرية الفكرة الديموقراطية كنظام لإدارة المجتمع والسياسة، على أحد مستوياتها الرئيسية، في الحيلولة دون تحوُّل العجز والجمود إلى ظاهرة مستديمة من خلال بحث الفاعلين المختلفين المستمر عن قواسم مشتركة وتوافقات جديدة وآليات تصحيحية تترجَم بكفاءة إلى إجراءات قانونية وتقاليد مؤسَّسية وسياسات عامة تضمن دينامية التعاطي مع تحديات اللحظة والحراك التراكمي. يرفض عقلي، هذه المرة، البحث عن مخارج تحليلية أو عن صياغات إنسانية خلاصية قد تستعيد مساحات، وإنْ محدودة، من الأمل. عالمنا في جحيم، وأرغب في التوقف والتقاط بعض الأنفاس! *** *** *** عن الحياة، 22/06/2007 [*] باحث مصري في "مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي"، واشنطن.
|
|
|