|
دورُ المثقَّف رياديٌّ ومسؤوليَّتُه معرفيَّة
لقاء مع جورج قُرم
ينطلق المفكِّر السياسي والخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور جورج قرم، في مقاربته للظواهر السياسية والثقافية والتاريخية في العالم العربي، من نفي مقولة "صِدام الحضارات" ومن رفضه عزل الدِّين عن العوامل التاريخية والسياسية الفاعلة فيه التي يُوظَّف من خلالها. وهو يؤكِّد – خلافًا لعدد كبير من المفكرين – أن "الشرخ" القائم بين الشرق والغرب شرخ أسطوري الطابع، يغذِّيه السادةُ السياسيون ومثقفو السلطة. ويبيِّن قرم الملابسات التاريخية التي أدَّت إلى ظهور ثنائية شرق/غرب، ويشير إلى التباس مفاهيم الدِّين والثقافة والحضارة، مثلما يشير أيضًا إلى التباس مهمة المثقف بالمهنة الإعلامية. فعلى المثقَّف، بحسب رأيه، أن "يبني ثقافة متينة رصينة تفرض نفسها بالتدريج على أنظمة الحكم والأجهزة الإعلامية" – إلى غير ذلك من "الإشارات والتنبيهات" والآراء القيمة التي تخلَّلت هذا اللقاء معه. حسن سلمان * * *
حول المسألة الدينية حسن سلمان: تؤكد في كتابك الأخير المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين[1] أن انهيار الإيديولوجيات العَلمانية، المكرَّس باختفاء الماركسية، فَتَحَ الباب أمام عودة المفهوم الديني. هل نستطيع القول، في هذا الإطار، بأن ظهور نظريات، وضعها مفكرون أمثال فوكوياما وهنتنغتون، اعتمدت النظرة الدينية إلى العالم وأفرزت مقولات من نحو "نهاية التاريخ" و"صِدام الحضارات"، يؤكد عودة الدين، ومن ثم توظيفه في مقولات إيديولوجية لتحقيق مآرب إستراتيجية، سياسية واقتصادية؟
جورج قرم: نعم، لا شك عندي أن مقولة "عودة الدين" لا تعكس إلا أهدافًا ومآرب سياسية لأنها، في الأصل، سخيفة! فالدين لم يختفِ من حياة الإنسان، منذ بداية الإنسانية حتى يومنا هذا؛ وهو لن يختفي مستقبلاً، لأن حاجة الإنسان إلى تصوُّر ما يحصل بعد الموت هو الذي يطوِّر العقائد الروحية والدينية المختلفة. فإذًا لا معنى لطرح "عودة الدين"؛ إذْ لم يختفِ الدين من حياة البشرية ولن يختفيَ مستقبلاً. فهذه المقولة تعتمد على انخفاض مستوى التديُّن أو ممارسة الشعائر الدينية في أوروبا – وهي أصغر قارة في العالم! – ولا تأخذ في الحسبان استمرار حيوية الممارسة الدينية في المناطق الأخرى من العالم كافة، من أمريكا الشمالية والجنوبية إلى شرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا. أما ما هو متغير فهو حياة الأديان نفسها والعقائد الدينية، بحسب التطور الذي يحصل في المجتمعات المختلفة التي تؤمن بعقيدة دينية ما. فعلى الرغم من الجهود كلِّها، هناك باستمرار طُرُق مختلفة ومتغيِّرة في الإيمان والممارسة الشعائرية ضمن الديانة الواحدة. والديانات، عندما تتأسس في المجتمعات، تمر بمراحل مختلفة وتنشطر إلى مذاهب مختلفة، متناقضة أحيانًا، أو تتفاعل مع عقائد أخرى. فإذا أخذنا الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) – وهي ديانات ليست لديها "مرونة" كبيرة، كالبوذية والهندوسية أو الكنفوشية، لأن التوحيد له نظرة رسولية ومخلِّصية عبر الإيمان بالإله الواحد – نجدها قد تغيرت عبر التاريخ وعرفت بين أهلها الانشقاقات، بل والحروب والفتن، وتغيَّر وجهُها كثيرًا في السنوات الخمسين الماضية بتأثير عوامل سياسية عديدة أضفت عليها وجهًا أصوليًّا متشددًا، بدلاً من الوجه المتسامح الأكثر تقليدية. ومن الأسباب التي يمكن لنا أن نذكرها سريعًا هنا، وهي التي تقف من وراء ظاهرة "عودة الدين": - مكافحة الشيوعية ونفوذ الاتحاد السوڤييتي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وانتشار الشيوعية في العالم الثالث كإيديولوجيا عَلمانية الطابع، مع ذكر الجهود التي بذلتْها الولايات المتحدة، مع كنيسة روما وبعض الدول الإسلامية، لتمويل تنامي الجماعات المتشدِّدة دينيًّا في كلٍّ من الإسلام والمسيحية؛ - بروز الحركة الصهيونية وتوظيفها في الهيمنة الاستعمارية البريطانية على المنطقة العربية، وكسبها هي هيمنة على اليهودية بعد حصول "المحرقة" في أوروبا على أيدي النظام النازي، وإقامة دولة إسرائيل كدولة تدَّعي تمثيل جميع يهود العالم والتأثير على مواقفهم السياسية؛ - انكسار حركة القومية العربية أمام القوة العسكرية الإسرائيلية واتجاهها نحو نوع من الراديكالية الماركسية الهوى عبر بروز التنظيمات الفلسطينية المسلَّحة؛ ثم - صعود الصحوة الإسلامية، برافديْها العربي/الخليجي والفارسي، الذي تجسَّد في الثورة الإيرانية وإقامة نظام جديد سُمِّي بـ"ولاية الفقيه". أما المصدر العربي/الخليجي فقد اتخذ طابعًا اتنشاريًّا كبيرًا بفضل الأموال النفطية وتراجُع الحركة الناصرية وحركة القومية العربية[2]. وقد عمل هذا الاتجاه أيضًا على مكافحة الشيوعية والعَلمانية التي أصبحت تعني – وإنْ بشكلٍ مخالف لطبيعتها – الإلحاد. وقد جُنِّدَ في هذا الإطار آلافٌ من الشبان العرب للقتال في أفغانستان ضد الاحتلال الروسي.
وقد تم أيضًا، في الفترة التاريخية نفسها، إنشاء "مؤتمر الدول الإسلامية" لتحقيق التضامن الإسلامي في النظام الدولي كبديل عن القومية العربية الراديكالية الطابع. وهذا التطور عكس أيضًا تراجعًا كبيرًا في نفوذ الجمهوريات العربية، وعلى رأسها مصر، وصعود نفوذ الملَكيات، وبالأخص المملكة العربية السعودية، بإمكاناتها المادية الكبيرة الناتجة عن تصديرها للنفط وزيادة أسعار الطاقة. هذه لمحة سريعة جدًّا عن العوامل الموضوعية، السياسية والتاريخية، التي لا علاقة مباشرة لها بالدين، إنَّما وُظِّفَ من خلالها الدينُ لمآرب سياسية وجيوسياسية. ح.س.: بما أنك ترفض مصطلح "صِدام الحضارات" أو "صراع الأديان" الذي طرحه هنتنغتون، باعتباره أن الصراع هو أساس العلاقة بين الغرب والإسلام، ما هي، برأيك، سمات "الأصولية المسيحية" التي تعتقد بأنها صاغت هذا المصطلح، مبشِّرة بحروب دينية جديدة؟ وهل أنت مع مصطلح "حوار الحضارات" الذي طرحه عددٌ من المفكِّرين كردٍّ على هنتنغتون؟ ج.ق.: لقد قلتُ مرارًا وتكرارًا وكتبتُ أن المسألة ليست مسألة "حوار حضارات" لمنع "صِدام الحضارات"، وذلك لسببين أساسيين: - أولاً: الحضارات ليست كيانات سياسية وإرادة موحَّدة عبر دولة و جيش، وذلك على خلاف الدول التي لها لغات وثقافات وأهواء مختلفة. فليس هناك من دولة إسلامية واحدة، ولا دولة مسيحية واحدة، ولا دولة بوذية واحدة، وإنْ كان الغرب يميل إلى اتجاه مثل هذا التوحيد عبر "الاتحاد الأوروبي" و"منظمة حلف شمال الأطلسي" العسكرية الطابع، ناهيك عن خطابه السياسي السخيف الذي صار يضع عبارة "قيم يهودية–مسيحية" لكي يضفي شرعيةً على سياسة الولايات المتحدة الهجومية تجاه العالم وطموحها إلى السيطرة الإمپريالية الطابع، مما يساعد على إقناع العالم بأن هناك "حضارة مسيحية غربية" تقوم حصرًا على قيم "يهودية–مسيحية". وهذا أيضًا سخيف للغاية، حتى من المنظور الديني: إذْ إن المسيحية برزت وانتشرت وولَّدت المؤسسات الدينية الطابع متخطِّية اليهودية، بلْ مضطهدةً لخصائص هذه الديانة التي تقلَّصت بشكل كبير. ولسوء الحظ فإن بعض الحكومات العربية والمثقفين العرب تحمَّسوا لفكرة مماثلة للفكرة الغربية حول الحضارات، وكأن الحضارة تُختزَل إلى الدين فقط، فأصبحوا ينشرون أدبيات حول "القيم العربية الإسلامية" كنقيض أو كمنظومة مختلفة تمامًا عن المنظومة الأخرى[3].
- ثانيًا: إذا قبلنا بمبدأ "حوار" بين الحضارات لدرء الحروب فهذا يعني أنَّنا نقبل بأن الدين أو الثقافة، بمكوِّنَيها الديني والدنيوي، هي سبب الحروب والعنف. وهذا أيضًا سخافة فارغة، لأن ما يولِّد العنف هو الوجه الشرير للطبيعة البشرية الذي يطمح إلى التوسع والهيمنة على أراضي الشعوب وخيراتها ومصيرها. الديانات، في معظم تعاليمها، تدعو إلى الانضباط والأخلاق والتسامح. إذًا ليس الدين، في حدِّ ذاته، مصدر العنف، بل توظيف أهل السلطة للعقيدة الدينية وتحريفها، في كثير من الأحيان، لإثارة الفتن والحروب. وفي نظري أن الوقوع في فخ "حوار الحضارات" يحول دون النظر إلى القضايا الموضوعية والدنيوية التي تسبِّب حالة العداء الحالية بين العرب والمحور الأمريكي–الإسرائيلي–الأوروبي، أيْ احتلال الأرض، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان (وهي دول مسلمة) وقمع الشعوب المحتلة والسيطرة على حياتهم اليومية ووصف أعمال المقاومة الشرعية بأنها "إرهاب". هذا بالإضافة إلى تطبيق القانون الدولي بمعايير مزدوجة، تمامًا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل: فهو يصبح فوق القانون، بينما عندما يتعلَّق القانون بدول عربية أو دول إسلامية فهو يطبَّق بانحراف خطير في تفسيره وباستعمال أبشع الوسائل العسكرية والاقتصادية، مثل الحظر الاقتصادي المجرم الذي طُبِّق على الشعب العراقي على مدى 13 سنة، فأفقره وجعله في الحالة البائسة التي هو فيها تحت الاحتلال الأمريكي. هذه هي القضايا الجوهرية والأساسية التي يجب مناقشتها، لا قضايا تتعلق بالقرآن أو بالإنجيل أو بالتوراة أو بـ"ثقافة الحياة" و"ثقافة الموت"، كما درجت العادةُ مؤخرًا. ح.س.: يرى بعضهم في دعوتك إلى استعادة روح الحضارة العربية الإسلامية التي مارست التعددية الدينية والإثنية، ونبذ الصورة التي تقدِّمها الحركات الأصولية عن الإسلام كدين مغلق وغير متسامح، وإنهاء المؤسسات القائمة على توجُّهات إقليمية أو دينية، وصوغ مذهب إنساني عَلماني بديل عن حرب الحضارات، نوعًا من التصور الطوباوي للحل، في حين يرى آخرون أنك تقدِّم حلاًّ ناجحًا للمسألة الدينية وإشكالياتها المعاصرة في القرن الحادي والعشرين. ما ردُّك على ذلك؟ ج.ق.: نعم، إنَّ التوجُّه طوباوي الطابع في الظرف الراهن! لكن لا بدَّ للإنسان الذي يعي استغلال الدول الغربية للإيديولوجيات التوتاليتارية والأصولية التي تتخذ الطابع الإسلامي من أن يتخذ الموقف المناسب حمايةً للدين نفسه وحمايةً للمجتمعات العربية. ذلك أن ما سُمِّي بـ"الصحوة الإسلامية" لم يملأ بتاتًا الفراغ الذي تركه تراجُع الشعور القومي العربي ولم يؤدِّ إلى أيِّ نوع أفضل من الدفاع عن الأمَّة والتضامن بين الأقطار العربية المختلفة ولا إلى مزيد من اللحمة داخل المجتمعات القطرية. بل إن مشهد الساحة العربية والتمزق والتوترات وأعمال العنف التي تصيب أقطارًا عربية مختلفة باسم الدين – كل ذلك مؤشِّر واضح وموضوعي إلى أننا سائرون على طريق خاطئة، خاصة أن الاعتقاد بأن هناك "تضامنًا إسلاميًّا" عبر القوميات المختلفة (عربية، إيرانية، تركية، پاكستانية، إندونيسية، إلخ) هو ضرب من الخيال التام: فتعاطف المسلمين في العالم مع قضية الشعب الفلسطيني وتحرير القدس من الاحتلال الإسرائيلي لم يؤدِّ بحكومات الدول الموصوفة كـ"إسلامية" إلى أيِّ نوع من الوقفة الفعالة ضد الاستعمار والصهيونية، بل نرى، في معظم الأحيان، أن الحكومات التي تُظهِر أكبر الحرص على الشخصية الإسلامية والقضايا الإسلامية بالكلام فقط هي المتحالفة أساسًا مع الولايات المتحدة في السياسة الدولية! وأنا أعتقد أن السكوت عن مثل هذا الوضع والرضوخ الفكري لهذا التناقض الصارخ هو موقف مدمِّر في صراعنا كعرب مع المحور الأمريكي–الإسرائيلي. أضف إلى ذلك أن وجود مذاهب إسلامية مختلفة في حالة تصادم سياسي، كما تشهد الساحة العراقية بشكل دموي أو الساحة اللبنانية من حيث التوتر السياسي الكبير والأزمة الدستورية الخانقة التي يتخبط فيها هذا البلد، يفرض علينا تحييد الدين من الصراعات على السلطة وإقامة أنظمة لا تسمح بزجِّ الدين في الحياة السياسية الداخلية أو بإقحام مذهب من مذاهب الديانة الإسلامية في الحياة السياسية الداخلية، خاصة لدى الأقطار العربية التي تتعايش فيها مذاهب إسلامية مختلفة. يجب أن نصل في العالم العربي إلى حالة من الرقي السياسي، بحيث لا تُعطى أية أهمية للهوية المذهبية للأشخاص الذين يتولون الحكم. إذ إن الهوية المذهبية أو الدينية، في حال وجود طوائف غير إسلامية، ليست هي المهمة، بل المهم هو صواب السياسة التي تمشي عليها النخبة الحاكمة وعدالتها، أكان ذلك في السياسة الخارجية أو في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في كلِّ قطر عربي. حول تاريخ المشرق العربي ح.س.: تؤكد في كتابك انفجار المشرق العربي[4] استحالة كتابة التاريخ العربي من منظور الدولة القُطرية وافتقار المنطقة العربية إلى تقاليد الكتابة التاريخية من منظور الدولة القومية. والسؤال هو: إذا استثنيْنا مقدمة ابن خلدون، هل ثمة محاولات عربية أخرى لكتابة التاريخ العربي الكلِّي اتسمت بالموضوعية؟
ج.ق.: أنا أعتقد أن هناك العديد من المؤلَّفات العربية القيِمة جدًّا التي حلَّلت الأوضاع العربية، وذلك منذ بروز النهضة العربية في القرن التاسع عشر؛ وقد ذكرتُ العديد منها في كتابي انفجار المشرق العربي. وأنا شخصيًّا لم تنبنِ رؤيتي التاريخية على قراءات غربية المصدر فقط، إنَّما أيضًا على العديد من القراءات العربية المصدر التي حلَّلتْ التحديات التي نواجهها كعرب منذ انهيار السلطنة العثمانية. لكن ما تفتقده المنطقة العربية هو وعي التطورات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في آنٍ معًا لتعميق فهم الأحداث الجسيمة التي حصلت في منطقتنا من دون أن نحصِّن أوضاعنا الداخلية وتضامننا لكي نصدَّ الهجمات العسكرية الخارجية أو الهيمنة السياسية الآتية من الغرب. ففي التحليل الأخير، أنا ممَّن يعتقدون أن معيار النجاح التاريخي هو في ردع أية قوة خارجية غازية في مجملها. فالشعب الذي لا يتمكن من الدفاع عن نفسه وعن أراضيه وخيراته يصبح شعبًا متخلِّفًا بكلِّ معنى الكلمة، مقموعًا وضائعًا في هويته. وهذه هي الحلقة المفرغة التي نتخبَّط فيها كعرب: فلا وجود لنا فعليًّا خارج قطاع النفط في الإنتاج العالمي والتطور الهائل والمتسارع في تقنيات الإنتاج والتكنولوجيا والعلم، ولا وجود فعليًّا لنا في النظام الدولي يفرض احترام الغير لمنطقتنا العربية ولهويتنا التي أصبحت ممزَّقة. حول العلاقة بين الشرق والغرب ح.س.: تميل في كتابك السابق شرق وغرب: الشرخ الأسطوري[5] إلى نسف بعض المقولات السائدة حول العلاقة بين الشرق والغرب، حيث تشكك في مسألة "عَلمانية" الغرب وعقلانيته، كما تشكك أيضًا في "روحانية" الشرق وتديُّنه، لتخلُص إلى نتيجة يراها بعضهم غير موضوعية: ثمة "شرخ أسطوري" صناعي وغير واقعي نشأ بينهما. والسؤال: ما هي طبيعة العلاقة التي تربط بين الشرق والغرب في ضوء تصورك الجديد الذي تطرحه في كتابك؟ ومتى نشأ الشرخ المفتعَل بينهما؟ وما سبب نشوئه؟
ج.ق.: إنَّني أعمل حاليًّا على وضع مؤلَّف مستقل أحلِّل فيه وأفكِّك اللغتين الخشبيتين اللتين تتحدثان عن "عالم غربي" مبني على "قيم يهودية–مسيحية"، و"عالم شرقي" مبني على "قيم عربية–إسلامية"، وأستكمل ما كنْتُ قد كتبتُه في كتابي السابق حول هذا الموضوع، وأغوص بشكل أساسي في مقوِّمات أسطورة وجود كيانٍ ذي طابع خرافي اسمه "الغرب" قد نشأ إما انطلاقًا من الرواية التوراتية وظهور "التوحيد" لدى قبائل بني إسرائيل أو عند ازدهار الثقافة اليونانية–الرومانية، لأنني أعتقد بأن عنف هذا الخطاب، الذي تَرافَق مع توسُّع قدرات بعض الشعوب الأوروبية (وليس كلها) في الهيمنة على العالم منذ فتح القارة الأمريكية ووصول البرتغاليين إلى شرق آسيا عبر مضيق رأس الرجاء الصالح، هو الذي يولِّد الخطاب المعاكس حول القيم العربية–الإسلامية ويعظِّم من شأنه، أو عندما يتعلَّق الأمر بشرق آسيا، التحدث عن خصوصية "القيم الآسيوية" المبنية على البوذية أو الهندوسية أو الكنفوشية. وأسعى في هذا المؤلَّف إلى التذكير بمدى تفاعل الثقافات والأديان في ما بينها، خاصةً بين الثقافات العربية والإيرانية والتركية وبين الثقافات الأوروبية، مما يدحض النظرة الثنائية للعالم شرق/غرب. كما لا بدَّ من التذكير بأن هذه الثنائية نشأت تاريخيًّا في المخيِّلة وفي الواقع السياسي عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى كيانين: الإمبراطورية الشرقية التي اتخذت القسطنطينية عاصمةً لها والإمبراطورية الغربية التي بقيت فيها السلطةُ متمركزةً في روما. وقد انهار الجزء الغربي من الإمبراطورية بالتدريج تحت أثر فتوحات القبائل المختلفة الآتية من أقصى الحدود الشمالية والشرقية لأوروبا. وقد ترسَّخ هذا الانقسام واتخذ طابعًا حادًّا عندما تأجَّجت الخلافات العقائدية والتنظيمية بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة روما، حيث رفض بطريرك القسطنطينية الخضوع لهيمنة البابا، معتبرًا أن مراكز السلطة الكنسية يجب أن تبقى على قدم المساواة. يظهر جليًّا من هذا السرد المختصر أن المنبع الأساسي للثنائية قد انفجر في قلب الديانة المسيحية الواحدة في الأصل، وأن أيَّ كلام على أن أصل الشرخ هو الثنائية المتناقضة بين المسيحية والإسلام هو هراء، كلام خرافي توظِّفه الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدوائر السياسية وبعض المثقفين الأوروبيين في معارك الهيمنة السياسية. يجب ألاَّ نقع نحن، كعرب، في مثل هذا الفخ! المشكلة الأساسية هي في أنَّ الخيال البشري والأسطوري المتفرِّع عنه يمكن أن يصنع حدودًا أكثر خطورةً وتحجُّرًا من الحدود الجغرافية – وهذا هو لب الموضوع: فعلى جغرافية الأرض تتمازج الشعوب وتختلط وتحب مثل هذا الاختلاط، والثقافات تتفاعل في ما بينها، وكل واحدة تأخذ من الأخرى ما يناسبها في عملية تطوير حضارة ما. ونحن نصطدم بمشكلة أخرى في الدول العربية والإسلامية هي استعمال كلمات ومقولات مختلفة دون الدقة المطلوبة، فنخلط بين "الدين" و"الثقافة" و"الحضارة" و"القومية"، فلا نفرِّق بينها، بل نستعملها كمترادفات. والحقيقة أن مفهوم الدين مختلف عن مفهوم الثقافة، وإنْ أثَّر الدين على تطور الثقافة. إنَّما الثقافة تجمع بين عناصر مختلفة، دينية عقيدية وأخرى دنيوية، مثل الشعر والأدب والرواية والرسم والموسيقى إلخ. أما الحضارة فهي أيضًا مفهوم مختلف عن مفهومَي الدين والثقافة: فهو يشتمل على البعد المؤسَّسي في حياة الشعوب. والحضارة، كالثقافة، تحتاج إلى لغة للتعبير عن نفسها. وداخل ما يُسمَّى بـ"الغرب" نجد حضارات مختلفة: فالثقافة الفرنسية والمؤسسات الاجتماعية والسياسية الفرنسية، على سبيل المثال، اختلفت عن نظيراتها في الكيانات الأوروبية الأخرى، وإنْ كنَّا نرى اليوم تطورًا نحو تشبيك المؤسسات في الحضارات الأوروبية المختلفة والتنسيق فيما بينها عبر إقامة "السوق الأوروبية المشتركة" التي أصبحت اتحادًا اقتصاديًّا اليوم. ويمكن لنا أن ننظر النظرة نفسها عندما نتحدَّث عن الشرق المتخيَّل: فالثقافة العربية هي غير الثقافة التركية وغير الثقافة الفارسية، كما لا علاقة لها بثقافتَي إندونيسيا وپاكستان؛ بلْ إن هناك عداوات موروثة من تاريخ الكيانات السياسية المختلفة التي كانت تدين كلها بالديانة الإسلامية، لكنها كانت، في كثير من الأحيان، في حالة حروب فيما بينها (ولنتذكر مؤخرًا هذه الحرب الشعواء بين العراق وإيران!). ولم تتمكن "منظمة مؤتمر الدول الإسلامية" من التأسيس للحدِّ الأدنى من الوئام والوفاق والتضامن أمام الهجمات الغربية الأمريكية–الإسرائيلية للهيمنة على ديار المسلمين، على الرغم من الكلام عن وحدة القيم الإسلامية ووحدة الثقافة الإسلامية! لذا أتمسك بالرأي القائل إن "الشرخ" أسطوري الطابع، يغذِّيه السادة السياسيون ومثقفو السلطة لأغراض دنيوية بحتة، سواء تعلَّق الأمر بمزيد من الهيمنة من قوى غربية أو بالدفاع عن النفس في بعض الحالات الشرقية؛ إنَّما يأتي هذا الدفاع، في معظم الأحيان، في سياق صراع نفوذ رهيب بين الدول الإسلامية نفسها للهيمنة وتوسيع النفوذ السياسي داخل مجموعة ما يسمَّى بالدول الإسلامية، وكذلك في الجامعة العربية. ح.س.: لكن كيف تفسِّر حالة العداء المتفاقم بين الشرق والغرب؟ هل تنطوي على عدم فهم الآخر، على الرغم من مسألة الوحدة التي سلَّمنا بها سابقًا؟ أم أنها تندرج في إطار نظرية "المؤامرة" التي تذكرها في بعض كتاباتك؟ ج.ق.: طبعًا، إن "الشرخ" اليوم له ما يبرِّره – لسوء الحظ – في الواقع. ذلك أن الولايات المتحدة خلفت فرنسا وإنكلترا في النزعة الاستعمارية، ورغبة السيطرة على الشعوب العربية وعلى إيران وعلى أية قوى سياسية تقف في معسكر الممانعة لهذه السيطرة – ناهيك عن استعمال القيادات الغربية – الأمريكية خصوصًا – عبارات تثير عداء المسلمين، مثل "الفاشية الإسلامية" أو "الإرهاب الإسلامي"؛ هذا بالإضافة إلى الاستعمال المكثَّف لعبارة "الحضارة الغربية اليهودية–المسيحية". أما من جانبنا، نحن العرب و/أو المسلمين، فقد أصبحت تستهوينا أيضًا عبارات مضادة لها طابع ديني، خاصةً في خطابات الحركات التكفيرية الإسلامية المستوحاة من كلام أسامة بن لادن أو من مؤلَّفات سيد قطب، بالإضافة إلى النفور من كلِّ شيء غربي وتحويل كلمة "عَلمانية" إلى شتيمة وإلى عبارة معادِلة للكفر. في القرن التاسع عشر، بدأ الشعور الحديث بـ"الشرخ" مع تقسيم العالم، لدى الاختصاصيين في علم الألسنية في ألمانيا، بين مناطق "آرية الطابع"، يتكلََّم فيها الناس لغات مشتقة من أصل هندأوروبي وتشمل أوروبا، من جهة، وبين مناطق "سامية الطابع" تتكلَّم لغات سامية ومركزها الأساسي الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين، من جهة أخرى. وقد تطوَّرت هذه النظرية طوال القرن التاسع عشر لتضفي طابعَ التخلُّف على المجموعات "السامية"، وذلك لأسباب تكوينية غير قابلة للتغيير، وطابعَ التقدُّم المتواصل على الشعوب الآرية الأصل. وقد أضفى عالِم الفينيقيات الفرنسي إرنست رينان (الذي كان معجبًا بالثقافة الألمانية إلى أبعد الحدود) طابعًا حادًّا على هذا التصنيف عندما حمَّل الدين الإسلامي مسؤولية تخلُّف الشعوب السامية، مستثنيًا اليهودية من التحليل ومدَّعيًا أن المسيحية، على كونها انطلقت من الشرق السامي، لكنها لم تتطور وتُؤسِّس لحضارة أوروبا الراقية إلا بفضل "العبقرية الآرية"، في مقابل "البلادة السامية" التي تخلَّفت عن الرَّكب! هذا الكلام العنيف الذي تفوَّه به رونان، وجاء في محاضرة شهيرة ألقاها من على أرقى منبر فكري في فرنسا في القرن التاسع عشر، أسَّس فعليًّا لنمط عدائي بين الشرق المسلم وبين الغرب المسيحي؛ وقد أثار حينذاك غضب جمال الدين الأفغاني الذي راسله في الموضوع. أنا أعتقد أن كلَّ هذا مرتبط بصعود النزعة الاستعمارية في أوروبا وتبرير هيمنتها على العالم، كما حصل فعليًّا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد تراجعت هذه النزعة وتزايدت القوى المعادية للاستعمار في قلب أوروبا في القرن العشرين. فبعد زوال الاستعمار وتقلُّص القدرات العسكرية الأوروبية وتعاظُم الرأي العام الإنساني الأوروبي المعادي للاستعمار، حلَّت الولايات المتحدة محلَّ أوروبا في النزعة الاستعمارية؛ وهذه ظهرت ظهورًا ساطعًا عند انهيار الاتحاد السوڤييتي وصعود إيديولوجيا "المحافظين الجُدُد" التي أعادت صياغة الأفكار الرجعية والعنصرية الأوروبية القديمة التي برَّرت سياسات القوة والهيمنة في الماضي. لذلك لا أعتقد أن هناك "مؤامرة"، بل هي تطورات تاريخية في موازين القوى العالمية، وتُستعمَل الإيديولوجيا الرجعية مجددًا كغطاء لنزعة الهيمنة والسيطرة. ح.س.: برأيك، كيف نستطيع، كعرب، إلغاء هذا "الشرخ"، أو ترميمه على الأقل، في وقت يبدو فيه وكأنه يزداد توسعًا؟ ج.ق.: إنني أرى أن العمل الثقافي الموضوعي والهادئ، وسبر غور الاتجاهات الفكرية المختلفة والمتناقضة، وتحليل منابعها وعلاقاتها في ما بينها وتفاعلاتها الإيجابية والسلبية بين الشرق والغرب، هو واجب على كلِّ مفكِّر مستقل لا يقبل بأن تندرج أعماله في إحدى التيارات "الإعلامية" التي تسيطر على المشهد الأكاديمي والإعلامي، في الشرق كما في الغرب. وأود، بهذه المناسبة، أن ألفت النظر إلى الهوة بين الأدبيات الأكاديمية والإعلامية التي تسعى إلى السيطرة على عقول الناس، في الشرق كما في الغرب، بأساليب ووسائل مختلفة تموِّلها القيادات السياسية، وبين شعور الناس العاديين الذين يبقى جزء كبير منهم في منأى عن الكلام البرَّاق والكاذب والدراسات المنحازة والمنحرفة، ولو صدرت عن جامعات مرموقة! وهو شعور منطقي، موضوعي، يرى صراع القوى على حقيقته ويتمسَّك بشتى أنواع الخطاب الإنساني، سواء كانت مستلهَمة من القيم العَلمانية الحديثة أم مستلهَمة من إيمان ديني الطابع يرى أن البشر، على أنواعهم وأجناسهم، سواسية وأنه لا يجوز قهر أيِّ إنسان بسبب دينه أو عرقه. لكنَّها معركة طويلة، والتاريخ يمشي في بطء، ولو تسارعت الأحداث. إنَّما لا شك عندي، فيما يخص إسرائيل، أن هذا الكيان كما هو الآن زائل لا محالة بفعل قوى الممانعة الكبيرة عند الشعوب العربية. وإذا فشلت في الماضي الحركات المسلَّحة الفلسطينية، فالمشهد المقاوِم اليوم مختلف تمامًا مع [...] قبول الشعوب تحمُّل أعباء المعركة، على خلاف العديد من الزعامات السياسية. وفي النهاية، فإن الاحترام الذي نود أن نحظى به من قبل الشعوب الأخرى وقياداتها السياسية مرتبط بإنجازاتنا، سواء في الميدان العسكري أو الميدان الاقتصادي. ويجب ألا ننسى أن العرب، كمجتمعات ونخبة، بقوا قرونًا عديدة في سبات عميق تحت حماية العنصر غير العربي (تركي أو عجمي)، وأن إطلالتهم على النظام الدولي حديثة للغاية، فلم يتمتع العرب من جرَّاء ذلك بتراكم خبرة في إدارة شؤونهم، خلافًا للعنصرين التركي والإيراني. حول مفهوم النهضة الجديدة ومسؤولية المثقف العربي ح.س.: تقول في أحد حواراتك: "المطلوب من المثقف العربي تغيير نوعية الخطاب الحضاري والثقافي العام وبناء صرح ثقافي لعمل تراكم معرفي"، في حين يرى بعضهم أن المثقف العربي لا حول له ولا قوة: فهو واقع بين مطرقة السلطة، من جانب، وسندان الأصولية، من جانب آخر. والسؤال هو: ما هو نوع الخطاب الذي يمكن للمثقف العربي أن يقدِّمه في ظل فقدانه لشرط الحرية وتعرُّضه لضغط السلطات السياسية والاجتماعية والدينية أيضًا؟ وما هي سمات النهضة العربية الجديدة التي تدعو إليها والتي من المفترَض أن يقودها المثقفون العرب؟ ج.ق.: ليست مهمة المثقف، في نظري، الدخول في العمل السياسي المباشر واليومي، خاصة ضد أنظمة غير مستقرة البنية والتركيبة الاجتماعية، ويمكن لها أن تكون شرسة في حال التهجم عليها بشكل يجرِّح أصحاب السلطة – فهذه هي مهمة الناشط السياسي والأحزاب. أما مهمة المثقف فهي العمل المتواصل الشاق الدءوب للمساهمة في التراكم المعرفي حول أوضاعنا وتاريخنا وفهم مواقع الضعف في المجتمع والنظر إلى ما حققتْه شعوبٌ أخرى تعرَّضت لما تعرَّضنا له من الهيمنة الأوروبية وعجرفة الاستعمار وشراسته والأفكار المسبقة والنمطية ضد هذه الشعوب (الصين والهند واليابان إلخ) – وهي أفكار أتت أيضًا من الثقافة الغربية –، وذلك لأخذ العِبَر وتنوير الرأي في بلداننا. وكذلك على المثقف أن يحلِّل في دقة الاتجاهات الفكرية في العالم وعلاقتها بظواهر القوة في النظام الدولي. لسوء الحظ، أعتقد أننا واقعون في التباس تام بين المهنة الإعلامية، أي كتابة مقالات الرأي في الصحف أو الظهور على الشاشات التلفزيونية لإبداء الرأي في الأحداث اليومية الظرفية، وبين وظيفة المثقف الذي عليه أن يبني ثقافة متينة رصينة تفرض نفسها بالتدريج على أنظمة الحكم والأجهزة الإعلامية. يجب أيضًا أن نخرج من الإشكاليات التي نتخبَّط فيها منذ النهضة العربية الأولى، مثل الإشكالية العقيمة بين الحداثة والتراث أو الإشكالية بين القومية والدين – وهما إشكاليتان لا تزالان تحتلان الحيز الفكري والإعلامي كلَّه دون إيجاد حلٍّ لهما. فمن المؤسف، على سبيل المثال، أننا لا نزال نتعامل مع قضية حرية الاجتهاد وإقامة الفصل بين شؤون الدولة، التي يجب أن تبقى مدنية، وبين شؤون الدين، وكأن هاتين المسألتين من الممنوعات وتؤديان إلى الكفر وفقدان الشخصية الحضارية. وأنا في الحقيقة لا أرى كيف يمكن لنا أن نؤسس لقومية عربية، يرتاح إليها العرب من جميع الأديان والمذاهب، مادمنا نجعل من الدين قاعدة أساسية، حصرية في كثير من الأحيان، في تحديد الهوية القومية. فأين تصبح الخصوصية العربية بالنسبة إلى الشعوب الأخرى التي تدين بالإسلام؟ وكيف ننظِّم أمور الحكم داخل الأقطار العربية إذا كان الدين هو مصدر السلطات واللحمة المجتمعية، في حين أن العرب المسلمين منقسمون إلى مذاهب وطوائف، كما هي الحال في معظم أقطار المشرق العربي، فنفتح بذلك المجال لتدخلات دول عربية وإسلامية أخرى في شؤوننا، مما يؤجِّج صراعات مذهبية الطابع أصبحت تنهش في جسم الأمة بشكل خطير؟ وأخيرًا، في خصوص هذا الموضوع، لا أعتقد أن هناك أحدًا ينفي الدور العظيم الذي لعبتْه الرسالة النبوية الشريفة عالميًّا ودور العرب في انتشار الديانة الجديدة، وكذلك إنجازات الحضارة الإسلامية عندما كانت في أوجها تتفاعل وتتكيَّف مع الحضارات الأخرى وتسمح بتعدد مذاهب الاجتهاد في فهم النص القرآني والسنَّة النبوية. فلماذا هذا الإصرار اليوم على تأكيد الجانب الديني من الشخصية العربية، وكأن هناك مَن يشكِّك تشكيكًا خطيرًا في أهمية الرسالة المحمدية في حياة العرب؟! وليست مهاجمة بعض الدوائر الغربية، الأكاديمية والإعلامية والسياسية، إيانا بصفتنا "مسلمين" ومهاجمتها الدين الإسلامي سببًا وجيهًا لكي نكون مستنفَرين باستمرار للردِّ على هذه الحملات والخزعبلات التي وصفنا سابقًا منابعها الفكرية ودوافعها السياسية الواضحة. إن في هذا الاستنفار استنزافًا للقدرات الفكرية التي يجب أن تنصبَّ على بناء قدرات الأمَّة الفكرية وعلى إعادتها إلى حالة إبداع علمي وتقني واقتصادي، بدلاً من الحياة المُذِلة التي نحن فيها، حيث نعتاش على نشاطات قليلة وريْعية الطابع (نفط، پتروكيماويات، فوسفات، قطن، مساعدات خارجية، تحويلات المغتربين)، بدلاً من أن ندخل في عالم الإنتاج وفي واقع الحياة اليومية لملايين من المواطنين العرب الرازحين تحت أوضاع الفقر والأمية والتهميش والبطالة، إلى حدِّ أن الملايين من الشباب العرب يحلمون بالهجرة إلى ديار مَن يعادينا ويعرِّضون حياتهم للموت عند عبور المتوسط في أقسى الظروف. إن هذه الحالة تثير فيَّ الاشمئزاز، ولا أفهم كيف أن كتلة المثقفين العرب لا تحرِّك ساكنًا حيال ذلك! وأخيرًا، أنا لا أحمِّل الأنظمة العربية كلَّ المسؤولية في أوضاعنا المتردية لأنها لم تهبط من السماء! فخطاب الأنظمة مستمَد من خطاب المثقفين العرب ومن الحالة الحضارية الثقافية العامة التي نحن فيها والتي تدهورت تدهورًا كبيرًا في العقود الأخيرة. فأين نحن فيها من الأجواء الثقافية الغنية للغاية خلال النهضة العربية الأولى (وقد اختفت آثار هذه النهضة العملاقة ثقافيًّا)؟ وكيف حصل هذا الانقطاع الخطير في المعرفة والانفتاح والتفاعل مع تطور الإنسانية؟ أعتقد أن مسؤولية المثقف العربي هي العودة إلى هذه "النهضة" للبناء عليها، والعودة كذلك إلى أوجُه عديدة من التراث العربي والإسلامي في الفلسفة وعلم التاريخ والسوسيولوجيا التي أسَّسها، في عبقرية خارقة، ابن خلدون. كل ذلك أصبح مجهولاً، بل مطموس ومقبور، لصالح ثقافات سطحية وأفكار جامدة تأسرنا في سجن فكري وثقافي وحضاري كبير يجب أن نعمل على تفكيكه. وهذه هي مسؤولية المثقف الأولى، وليس العمل السياسي اليومي والكتابة السريعة الإعلامية الطابع حول أحداث ظرفية ومتلاشية ومتكرِّرة في الساحة الإعلامية الدولية والإقليمية والعربية. *** *** ***
التقى به: حسن سلمان [1] جورج قرم، المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين، دار الفارابي، بيروت، 2007. [2] راجع: جورج قرم، النفط العربي والقضية الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1979. [3] راجع: جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، دار النهار، بيروت، طب 3: 1999. [4] جورج قرم، انفجار المشرق العربي: من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق 1956-2006، دار الفارابي، بيروت، 2006. [5] جورج قرم، شرق غرب: الشرخ الأسطوري، دار الساقي، بيروت، 2003.
|
|
|