قُطُوفٌ مِنْ شَجَرَةِ الحَيَاة 3

 

إسـكـنـدر لـوقـا

 

"في سبيل إجراء تغيير خلاَّق في النهج الجامعي المتَّبع علينا الانتقال من قراءة الكتاب إلى قراءة الإنسان لأنه الغاية السامية من كلِّ فعل إنساني."

على هذا النحو جاءت كلمة غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، في مناسبة تخريج دفعة طلاب من جامعة "البلمند" في طرابلس لبنان.

في سياق هذا القول، تتجلَّى قيمةٌ من الأهمية بمكان أن يسعى المرءُ إلى الاهتداء بها، ليكون، فعلاً لا قولاً، إنسانًا فاعلاً في مجتمعه، إنسانًا قادرًا على أن يكون خلاقًا، لأنه بذلك يحقِّق ذاته حيث هو، فلا يكون إنسانًا طارئًا على سطح الأرض، كما الطفيليات تتكاثر على ضفاف الأنهار الآسنة المياه، بل على نحو آخر يكون الإنسانَ البعيدَ عن أنانيته، وبذلك يغدو جزءًا من الكل، لا الكلَّ في الكل، بادِّعاء امتلاكه القوةَ أو النفوذَ أو الثروة.

إنَّ طائفةً من هذا الطراز الأخير من الناس غادروا دنياهم ولم يتركوا دليلاً واحدًا على حضورهم في الذاكرة الجمعية لدارسي العلوم أو الفنون أو الآداب وسوى ذلك، وإنْ كانوا خلال حياتهم من فئة ذوي القوة أو النفوذ أو الثروات.

على العكس من ذلك، نقرأ في كتب التاريخ عن الآلاف من فئة العلماء والفنانين والأدباء الذين مازال لهم حضورُهم المستدامُ في الذاكرة الجمعية لشعوب العالم كافة، وكانوا خلال حياتهم ضعفاء ومتواضعين وفقراء. هؤلاء هم الخالدون في سجلِّ تاريخ البشرية، بينما الأولون اندثرت أسماؤهم كما تندثر أوراق الخريف مع أول هبة ريح. فطوبى للَّذين كانوا أمناء على أداء رسالتهم الإنسانية السامية في الحياة لأنهم الباقون بيننا، وإنْ هم غادروا الحياة قبل آلاف السنين.

ألا تستحق منَّا هذه المعادلة التي وردت في خطبة غبطة البطريرك هزيم أن نتمعَّن في معانيها، وبالتالي، أن نلتفت إلى قراءة الإنسان أولاً قبل أن نقرأ الكتاب؟

* * *

ليس صعبًا على المرء أن يحطِّم شيئًا بناه هو أو سواه في دقائق معدودات، إنما الصعوبة تكمن في قدرته على البناء. فالبناء، مهما يكن نوعُه ومستواه، يتطلب أضعافَ الجهد الذي تتطلَّبه عمليةُ الهدم.

وكما أن نزعة البناء لدى المرء تكمن في أعماقه، كذلك تكمن في تلك الأعماق المجهولة نزعةُ الهدم والتحطيم. وطبيعي أن يكون الفارق بين هاتين النزعتين كبيرًا – وكبيرًا جدًّا – كالمسافات الشاسعة التي تفصل الأرض عن أقرب كوكب إليها.

إن هاتين النزعتين، كباقي النزعات التي تولد مع الإنسان، تنموان أو تكمنان أو تضمحلان، وذلك طبقًا لحُسْن الرعاية أو انعدامها، شأنهما شأن الورود التي تتعرَّض لخطر الاختناق بالشوك قبل تفتُّحها بسبب الإهمال؛ أو يكون العكس من ذلك بسبب حُسْن العناية.

كذلك هي نزعة الشرِّ في النفس البشرية: فإنْ هي تُرِكَتْ نَمَتْ وترعرعتْ كأشواك الحدائق لتخنق ما حولها من النباتات؛ ولكنْ إنْ هي طُوِّقَتْ وجُرِّدَتْ من قواها انطوتْ على نفسها وخنقتْ ذاتها بذاتها.

* * *

من السهولة بمكان أن ينظر المرءُ إلى ما وراء ذاته وأن يدَّعي رؤية ما لا يراه آخرون ممَّن هم حوله، حتى إذا كان ما يراه واضحًا وضوح الشمس! وفي مثل هذه الحالة فإنه من الصعوبة بمكان أن يقتنع صاحب الادِّعاء بأنه على خطأ؛ ومردُّ ذلك إلى النوازع الخفية الكامنة في نفسه. ومن خلال تتبُّع أحدنا ظاهرةَ تفشِّي مرض الادِّعاء على هذا النحو في وقتنا الراهن، يستطيع التِماسَ ما يقوله علماءُ النفس والاجتماع حول مرض تضخُّم الذات إلى حدِّ الادِّعاء بأن صاحبها هو الأول والأخير الذي لا يمكن أن يخطئ، حتى بين أقرانه الذين هم من أفراد بيئته.

وإذا جاز لنا القول بأن مَن لا يملك القدرة على فرز الخطأ من الصواب في تقييم الآخر حين النظر إلى الأمور المحيطة به لا بدَّ أن يكون موقعُه خارج زمانه، إنْ لم يكن خارج مكانه، خصوصًا في عصرنا هذا الذي يشهد تحطيم الثوابت الصالحة للحياة بفعل تأثير الفضائيات، لاسيما على عقول الناشئة.

بعد هذا، ترانا نستطيع توصيف حالة عدم امتلاك القدرة على فرز الخطأ من الصواب بأنها حالة مَرَضية ترتبط، حصرًا، بنزعة الفوقية لا التفوُّق؟ ففي حال الإصرار على الادِّعاء على النحو المشار إليه، يكون المرءُ في حاجة إلى إصلاح نفسه بالعودة إليها من باب التأمل؛ إذ لا شيء آخر يمكن له أن ينجِّيه من الوقوع في خندق الأنا المصابة بداء الغرور والتعالي على الغير. وقديمًا قال الحكيم الأشهر كونفوشيوس ما معناه إن من واجبات الإنسان أن يصلح أخطاءه، ولم يقل أولاً أن يصلح "نفسه"، ذلك لأن إصلاح الخطأ، كما تعلِّمنا الحكمةُ هنا، هو سبيل إصلاح النفس لا محالة.

* * *

يحتاج المرءُ إلى مران طويل حتى يعيش الفرح. فمن أجل الفرح ناضلَ الإنسان، وسيبقى يناضل حتى النهاية. وبهذا يكون الفرح نتاج هدف أوصل صاحبَه إلى غايته بفعل الجهد والإيمان، على نحو الفرح بالنجاح في امتحان، أيًّا كان شكل هذا الامتحان. الفرح ليس كيانًا يمكن القبض عليه باليد، كما الضوء الذي يشعُّ من المصباح والنسمة التي تلامس وجوهنا والأريج الذي يفوح من حولنا في حقل مزهر.

الفرحُ إحساسٌ ينبع من داخل ليعمَّ أطراف الجسم كافة، كسريان الدم في الشرايين وكتدفُّق مياه النبع في أرض عطشى. وللفرح أكثر من وجه يعبِّر به عن نفسه، سواء من خلال ضحكة صاخبة، أو بسمة صافية، أو نظرة حانية، أو لمسة رقيقة، وسوى ذلك. الفرح في حياة المرء كالوسادة التي تحتضن الرأس المتعب بعد عمل شاق. ولأنه كذلك، يحتاج المرءُ إلى مران طويل لينعم به بعيدًا عن مفردات الكتب.

* * *

"مَن لا يعمل لا يخطئ" – هذه المعادلة متعارَف عليها بين الناس كافة. وما هو متعارَف عليه أيضًا هو أن الخطأ إنْ لم يكن، نسبيًّا، أساسًا لعملٍ ناجحٍ في بعض مراحله فهو، على الأقل، أحد أسبابه. وثمة معادلة أخرى يتعارف عليها العديدُ من الناس، وهي أن مَن يقرُّ بخطأ ارتكبَه يؤكد على حضور الفضيلة في ذاته. وطبيعي جدًّا أن الفضيلة يتضاعف حجمُها حين يرجع مرتكبُ الخطأ عن خطئه.

لكن هذا الرجوع عن الخطأ يحتاج، في حدِّ ذاته، إلى مزايا تتصل بالتجرد وبالواقعية معًا. إن هاتين الصفتين يفتقر إليهما إنسانُ اليوم، كما يلاحَظ. وهنا يكمن السرُّ في انزلاق مرتكب الخطأ في خندق الخطأ أكثر فأكثر؛ وهنا أيضًا يكمن السرُّ في لجوئه إلى ما يسمَّى بـ"المبرِّرات". إن الخطأ ليس عيبًا حين يُرتَكَبُ عفوًا؛ أما أن يحوِّم صاحبُه حول ذاته، باحثًا عن مبرِّر لتبرئة ذاته قبل إدانة الغير لها، وهو عالم بما فعل، فإن حالَه تكون كحال فراشة حين تحوِّم حول اللهب، فتزداد اقترابًا منه، ولا تدري بمصيرها المنتظر!

* * *

ليس سهلاً أن يعيد الإنسانُ النظرَ في مواقفه أحيانًا كي يبدأ من جديد. وفي هذا السياق، ومن وحي شكسپير في مسرحيته الشهيرة ماكبث تحديدًا، يمكن لنا القول بأن مواصلة الطريق من منتصف النهر إلى الطرف المقابل كالعودة إلى شاطئه لأن مقدار البلل، في حال العودة إلى نقطة البدء، لن يقلَّ أو يزيد!

هذه الصورة تتعلق بمدى قدرة المرء على تقدير جدوى السير على الدرب وصولاً إلى هدفه المنشود من دون تردُّد، وذلك لأن العودة إلى نقطة البدء – أعني نقطة التردُّد – لا تشكِّل، حُكمًا، استثناءً في جوهر هذه المعادلة، مثلما لا يغيِّر الظلُّ من واقع المعالم التي يمرُّ بها أو يتوقف عندها، وأيضًا مثلما لا تغيِّر الصبغةُ من معالم قسمات الوجوه المخبَّأة وراءها كليًّا.

بهذا المعنى يفيد الإنسانُ من نزعة التردد في حال استوعب أبعادَها وتحكَّم بها في المكان أو الزمان المناسبين. على أنه يجب الاعتراف بأن إنسانًا يخلو كيانُه من هذه النزعة لا وجود له إلا في عالم الوهم. ومَن يعتقد – وهو في منتصف نهرٍ غزيرِ المياه – أن عودته إلى نقطة البدء يقلِّل من حجم البلل، مثله في ذلك كمثل مَن لا يدري أنه لا يدري، ومع ذلك يمضي في سبيله واهمًا بأنه يدري!

* * *

البداية في حياة الإنسان سؤالٌ ما، وكذلك هي النهاية. ويبقى السؤال دائمًا معلقًا في المخيِّلة إلى نهاية رحلته في الحياة. ولكن ثمة أناسًا لا يأبهون لأيٍّ من الأسئلة التي تتعلق بقدومهم إلى الحياة أو بخروجهم منها، كما النبتة تخرج من تحت التراب وترتفع، قليلاً أو كثيرًا، نحو السماء ثم تموت.

ومن هنا فإن إنسانًا لا يسعى إلى معرفة مَن هو، وبالتالي، لماذا جاء وإلى أين سيمضي، مكتفيًا بدور النبتة في الحقل، هو وحده الذي يدفع ضريبة الحياة ممثَّلةً بالألم والضجر ولا يدري لماذا. إن المعرفة، في هذا السياق، وإن أرَّقتْ صاحبَها أو الباحثَ عنها، تبقى مدعاةً للمتعة لأنها تقرِّبه من نفسه، وبالتالي، تغدو لديه – إنْ هو أتقن مقاربتَها بإرادة واعية – كماء النبع يروي أرضًا عطشى.

إن طريقَ المعرفة طريقٌ طويلة. ومع كلِّ خطوة باتجاهها، قد يصادف السائرُ على دربها قدْرًا من قلق أو ألم. ولكنْ، مع ذلك كلِّه، فإنَّ ما يعطي الحياةَ معناها هو البحث الدائم عن إجابات لأسئلة مزمنة، منذ أن وُجِدَ الإنسانُ على وجه الأرض، كي يستكمل معنى حضوره فيها، بينها، على سبيل المثال لا الحصر: لماذا؟ وإلى أين؟

* * *

إذا جاز لنا أن نشبِّه الحياة بالبحر فإن الناس كافة يبحثون لأنفسهم عن "شاطئ" يرتاحون على رماله في أمن وأمان، كلٌّ منهم بالوسيلة التي يختارها وتُناسِبُه.

بعض هؤلاء يجيدون السباحة، فينقذون أنفسهم حين تفاجئهم عاصفةٌ وترتفع أمواج البحر من حولهم، غير آبهين بِمَنْ هم في عرض المياه معرَّضين لخطر الغرق؛ بعض آخر منهم يسارعون إلى مساعدة مَن لا يقوى على إنقاذ نفسه من الغرق؛ والبعض الثالث منهم يحاولون التشبث بأيٍّ من هؤلاء أو أولئك إذا ما اقترب أحدُهم من مكان وجودهم توفيرًا للجهد، لا بسبب جهلهم السباحة. إن مثل هؤلاء هنا كمثل الغني الذي يحبس أمواله في خزانة المال، ومع ذلك يتظاهر بالحاجة ولا يتورَّع عن طلب الإحسان وهو في غنى عنه. ولهذا فهو الأسوأ بين الباحثين عن خلاص أنفسهم فقط.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود