|
أنفـي والجـيرُ المبتَّـل[1]
"عزيزي الله، مَن رَسَمَ الخطوطَ حول الدول؟" عنوان مقال كتبتُه بعمودي الأسبوعي بجريدة الوقت البحرينية [انظر نصَّ المقال أدناه]. صحيحٌ أن المحرِّرَ اختصر العنوانَ في السؤال وحسب، دون المخاطَب: "عزيزي الله"، وصحيحٌ أنه استبدل بلفظ الجلالة، في بقية المقال، كلمةَ "الرب"، لكنني، الحقَّ أقول، امتننتُ أن المقال نُشِرَ، وقد حدستُ أن يُحجَبَ ويطلبوا سواه. فرِحتُ لأن نشْرَه يعني أن ثمة بلدانًا عربية – ماعدا لبنان – لا يقصفون الأقلام ولا يُحجِّمون الخيالات، مهما شطحت. ذاك أن لا قانون ثمة يمنع التفكير والخيال، وبالتالي، لا محلَّ لقانون، سواء فعلي أو عرفي، يمنعُ الجهرَ به. فرِحتُ! والحقُّ أن المقال لا يخصُّني إلا بقدر جهد الترجمة وبعض التقديم. وبالتالي، هو شرفٌ لا أدِّعيه، وإنْ تكن تهمةً لا أُنكرها، بل تمنيتُ أن أكون فاعلتَها – سوى أن الفاعلَ الحقيقيَّ أجرأ مني وأكثر حريةً وتحليقًا، لأنه بعدُ لم يتعلم ثقافة قصِّ اللسان وتقليم الأظافر. الفاعلُ مجموعة من الأطفال الأمريكان طُلِبَ إليهم توجيهُ رسائل إلى الله! نعم، لكن ليس هنا العجب. العجيب هو أن المدرسة هي صاحبة هذا الطلب الجميل الشاعر. ثم – وهو الأعجب – أن يقوموا بنشر هذه الرسائل في الصحف. لم يُصفَع الطفلُ الذي قال: "عزيزي الله، لماذا أنت مُختفٍ؟ هل هذه خدعةٌ مثلاً أو لعبة ما؟" ولم يُتَّهم بالبله مَن سأل: "عزيزي الله، مَن يقوم بمهماتك يوم إجازتك؟" ولم تُقَمْ "دعوى حسبة" بتهمة الاستهانة بالمقدس على نورما إذ سألت: "هل فعلاً كنتَ تقصد أن تكون الزرافة هكذا، أم حدث ذلك نتيجة خطأ ما؟" أو على مَن قال: "من فضلك أرسلْ لي حصانًا صغيرًا. ولاحظ أنني لم أسألك أيَّ شيء من قبل، ويمكن لك التأكد من ذلك بالرجوع إلى دفاترك." ولم تُنهَر التي سألت بكلِّ براءة وعمق: "عزيزي الله، مَن رسم هذه الخطوط حول الدول على الخريطة؟" فالبنتُ جميلةٌ بقدر جهلها بالسير سايكس والمسيو پيكو، وجميلةٌ مادامت لم تقرأ عن آرثر بلفور ووعوده. عديد من الإيميلات والمهاتفات وصلتْني بعد نشر المقال. أصحابها معجبون بعمق الأطفال الغربيين وجرأتهم مقارنةً بأطفالنا. وكانت إجابتي: الأطفالُ في العالم كلِّه متشابهون. عميقون وبعيدو النظر. ذاك أنهم بعدُ لم يُلوَّثوا بالمعرفة التي تحدُّ سقفَ الخيال وتؤطِّر المشهد بحدود الممكن والقانون والمنطق. الأطفالُ هُمُ هُم، هنا وثمة – سوى أن أطفالنا يتعلَّمون الصمتَ الأبديَّ بعد أول صفعة أو زجرة من الأم أو المعلِّمة بمجرَّد طرح مثل هذا السؤال! ليتقن بقية حياته، على الطفل لا أن يصمتَ عن السؤال وحسب، بل عن التفكير أيضًا. ذاك أننا الأمَّة التي تُعاقِبُ على التفكير وسعة الخيال. أمَّةٌ تجيد قصقصة أجنحة الصغار إنْ هم حاولوا الطيران. حكى لي الروائي جمال مقار أن صديقًا له سأل في طفولته: "أين الله مادمنا لا نراه؟" فما كان من المعلِّمة إلا أن ضربتْه، واستدعوا والده الذي أكمل عقابه المطوَّل في البيت... وفي الزمن. فشبَّ الفتى يخاف أن يفكر، يُطرِقُ برأسه دائمًا حتى لا يضبطه أحدهم وهو يفكر! حادثةٌ مشابهةٌ وقعتْ لي. كنت في مدرسة قبطية، معظم طلابها ومدرِّسيها مسيحيون. فكانوا في حصَّة الدين يعزلوننا، نحن الأقلِّية المسلمة، في فصل مجاور، لتعلِّمنا المعلمةُ أن الله سوف يحرقنا إن نحن كذبنا أو شتمنا أو نظرنا في كراسة زميل، وسيقطِّع أوصالنا إنْ نحن خالفنا أوامر الماما أو شردنا في الحصَّة أو لعبنا ولم نذاكر. تقريبًا كل ما يفعله الأطفال كان على قائمة عذاب الله! هكذا يُقرُّ المعلِّمون في وعي الأطفال أن الله ساديٌّ متفرِّغٌ لتعذيب الأطفال! وحين يكبرون قليلاً سوف يتساءلون: إذا كان الله سيحرق الأطفال إنْ لعبوا وتماكروا ولم يذاكروا الدرس، فماذا سيفعل بالحري مع السفاحين ومبيدي الشعوب؟! ماذا سيفعل حيال "الهولوكوست" الصهيوني الراهن حيال أطفال فلسطين؟! أما حكاية "أنفي والجير" فلأنني حين سمعت كلام المعلِّمة وقفتُ وصرخت فيها: "بس أنا عاوزة أقرا ميكي ماوس وألعب من غير ما يحرقني ربِّنا، حعمل كده من وراه!" ومازالت رائحة الجير المبتَّل والعشب الرطب تملأ رئتي حتى الآن! ذاك أنهم أوقفوني في الفناء تحت المطر حتى نهاية اليوم الدراسي، وجهي إلى الحائط الجيريِّ، وذراعاي مشرعتان للأعلى! * * *
عزيزي الله، مَن رَسَمَ الخطوطَ حول الدول؟[2]
في إحدى المدارس الأمريكية طلبتِ المعلمةُ من الأطفال أن يوجِّهوا رسائل إلى الله في الكريسماس، يسألونه عن أحلامهم وأمنياتهم، أو يوجِّهون إليه أسئلةً مما يخفق الأبوان والمعلِّمون في الإجابة عنها. وفي حين بدا بعض الرسائل طفوليًّا شديد البراءة، وبعضها الآخر جاء ضاحكًا عابثًا، بدت أخرى عميقةً ماكرةً شديدةَ الإيغال الإشكاليِّ والفلسفي، بل والسياسي أيضًا. ولا عجب، فالجهل يفتح مدارك الإنسان نحو أقصى مدارج السؤال، على العكس من المعرفة التي تحدُّ رؤانا بسقف الممكن والمنطق، فتنخفض هامةُ الأسئلة لتنضوي تحت خيمة المعلوم من الحياة بالضرورة. حين قال النفَّري: "الجهل عمود الطمأنينة"، أظنه لم يعنِ فقط أن عدم المعرفة تريح بالك من التفكير في إجابات على أسئلة الوجود الكبرى، ومن ثم تطمئن وتنام، على عكس ما يَأْرقُ الفلاسفةُ والعلماءُ، فيخاصمهم النومُ وتنأى عنهم الراحة، بل أظنه قصد أيضًا أن المعرفة تحدُّ من أسئلتك وتقصُّ من شطحاتها لأنك مقيَّد بالنظرية ومكبَّلٌ بالقانون. فلم يعد ممكنًا أن تسأل (الآن): لماذا تدور الأرض عكس اتجاه عقارب الساعة؟ ولماذا ينير القمر ليلاً؟ ولماذا تبدو السماء زرقاء؟ ولماذا تسقط الثمرة من الشجرة بدلاً من أن تطير؟ لكنَّ مَن "يجهل" يحق له أن يسأل "مطمئنًّا" عمَّا يشاء، وقتما يشاء، وعلى النحو الذي يشاء، لأنه يمتلك شيئًا ثمينًا يُفقِدُنا العلمُ إياه: الدهشة. والدهشةُ أصلُ الفرح ومصدر الإبداع الأكبر. لذلك الأطفال مبدعون كبار في أسئلتهم وفي رسومهم وفي ركضهم وراء فراشة أو ضفدع. فالطفلةُ التي سألت الله عن الحدود بين الدول لا تفهم معنى كلمة "احتلال" ولا "إمبراطوريات"، ولا تعرف من هو سير مارك سايكس أو مسيو جورج پيكو ولا آرثر بلفور ووعوده؛ وحُكمًا هي بريئة من دم الهندي الأحمر الذي تدوس قدماها رفاته كلَّ يوم وهي في طريقها إلى المدرسة. هنا بعض هذه الرسائل، ترجمتُها إذ أراها قطعًا من الشعر الصافي. ف.ن. * * *
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله،
عزيزي الله، *** *** ***
|
|
|