النَّحلة والسُّلحفاة والزَّنبقة
مسرحية من فصل واحد

 

علي جـازو

 

أنا مريضٌ عشيَّة العام الجديد. فكرةٌ حزينةٌ تحرِّكني حتى الأعماق. كيف يمكن للكلمات أن تعبِّر عن كلِّ هذا الأسف؟ لقد خلف أبي وأمي هذا الجسد منذ ستين عامًا. ولكن مَن أنا؟ رجل؟ امرأة؟ إنِّي أُطلقُ صرخةً كما فعلتُ منذ ستين عامًا.
لقد استمتعا آنذاك بما كنتُ عليه. أما أنا، ولأنِّي لم أكن عشبةً ولا نبتة، لم أتوفَّر على أية كلمة لأردَّ عليهما. والآن، هل لهذا القلب الذي يخفق ولهذا الدم الذي يجري أن يتحملا كلَّ هذا الأسف وهذا الخجل اللذين عشتهما طوال حياتي؟ يا للهول! يا للفاجعة! لا يمكن لهذه الفكرة الحزينة أن تتوجَّه إلاَّ إلى السماء...
– شيه تاو (رسام صيني)، راهب اليقطين المر (1701)

 

[كائنان غريبان: عملاق وصغير. بقعة ماء ساكن، شديد الصفاء، مسطحة، على مستوى الخشبة تمامًا. خلفية حمراء سائلة... أشياء أخرى غير موجودة.]

الكائن العملاق: أنت مُجبَر أن ترفع رأسك حتى تنظر إليَّ.

الكائن الصغير: أنا مُجبَر أن أرفع رأسي؟

العملاق: حتى تراني، أنت مُجبَر أن تحترم العلوَّ.
         المسافة ليست شاقة، لكنها ضرورية.

الصغير: أجل، أجل، ينبغي لنا جميعًا احترامُ العلوِّ.
         إن أفكارك سامية، يا سيدي.

العملاق: ما هذه البقعة؟ ما أشد انحطاطها!

الصغير: إنه الماء. أنا مُجبَر أن أخفض رأسي حتى أشرب الماء.
         مثل حيوان صغير، أخفض رأسي لأشرب الماء.

العملاق: هكذا إذن. إمْ مْ...

الصغير: ألستَ ترغب في شربة ماء؟

العملاق: أجل، أجل... لا، لا!

الصغير: عليك أن تحترم الماء، يا سيدي،
         عليك أن تحترم الماء.

العملاق: مائي معي. إنك بعيد، أكاد لا أراك في وضوح.

الصغير: المسافة صافية. لعل عينيك متعبتان.

العملاق: ما أشد صفاء هذه البقعة!
         إنها أشبه بيوم بلا غيوم.

الصغير: يوم بلا غيوم. إنك وحيد، أليس كذلك؟

العملاق: أجل، أجل. إنها مسافة زائدة.
         أشعر أنِّي أحمل في صدري
         مسافةً زائدةً كلَّ يوم.

الصغير: الصفاء لا يعرف الأيام.
         ومَن لا تسكُنُه الأيامُ
         لا يعرف أيَّ أثر للمسافة.

العملاق: إنه لإرثٌ كبير، هذا الذي
         يخفيه الماءُ بين عيونه المفتوحة!

الصغير: لا تبقَ وحيدًا، يا سيدي.
         اخرجْ مثل نحلة إلى الحقول.

العملاق: أرغب في بيت صغير كهذه البقعة،
         لكن انحنائي نحوها يؤلمني.

الصغير: ألأنك وقفتَ طويلاً بعيدًا عن الأشياء،
         فما عدتَ قادرًا على الاقتراب منها؟

العملاق: لكنك تعرف أن مائي معي.
         مائي عميق، كثير، مائي معي.

الصغير: أما أنا ففقير، يا سيدي،
         فقير وصغير، مثل هذه البقعة.

[صمت.]

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: هل رأيت نحلة، يا سيدي؟
         متى رأيتَها آخر مرة؟

العملاق: لم أرَ نحلةً منذ زمن بعيد.

الصغير: أنا رأيت نحلةً بالأمس.
         أترغب في أن أحدثك عنها،
         يا سيدي، أترغب في ذلك؟

العملاق: إمْ مْ مْ...

الصغير: كان جناحُها بلون الأرض،
         ومثل هواء أعمى سليم،
         مضتْ بين أشجار صغيرة.

العملاق: أهي قريبة إلى هذا الحد؟!
         مثل لون الأرض،
         مثل لون الأرض...

الصغير: سرعان ما تختفي.
         أظنها شديدة الخجل،
         كثيرة الجهد والصبر.

العملاق: كم هي بعيدة عني،
         هذه النحلة! لِمَ تتحدث عنها
         بكلِّ هذه المودة؟

الصغير: لأنها محض نحلة،
         وهي لا تريد شيئًا
         سوى أعمال معهودة.

العملاق: كائن لا قيمة له إذن.
         أيَّ شيء جديد تتوقع
         من كائن بهذه الصفات؟!

الصغير: لأنها كذلك، لأنها كذلك،
         فأنا أحبها مثلما تُحَبُّ الأعمالُ العادلة،
         أعمالٌ لا تبتغي نصرًا ولا خسارة.

العملاق: لا شيء أعظم من مباهج النصر!
         النصر وحده جدير بعقل الإنسان،
         بقوَّته التي ما ينبغي أن تُبذَل لغير النصر.

الصغير: لكننا محكومون بتعاقب الليل والنهار،
         وعمل النحلة من الشجاعة والطهر
         بحيث إن أحدًا لا يحس به إلا بعد عناء كبير.

العملاق: على كلِّ حال، هي نحلة،
         مهما كانت أعمالُها متقَنة.

الصغير: لأنها كذلك، يا سيدي، لأنها كذلك،
         لا تنجز أعمالَها إلا متقَنة مُحكمة.

العملاق: حديثك مملٌّ، أيها الكائن الصغير!
         أنت لا تعرف عن العلوِّ شيئًا!
         إنك لا تحسُّ بما يعانيه كائنُ الضخامة السامية:
         غير قادر على حركة خفيفة، غير قادر على الانحطاط.

الصغير: تكلم، سيدي، تكلم... أنا أحترمك عندما تتكلم.
         لا تخبِّئ حزنك عنِّي. إنه ثقيل حزنك،
         أليس كذلك، يا سيدي، أليس كذلك؟

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: إذا كنت لا ترغب في الحديث عن النحل
         فسأحدثك عن الوحدة، يا سيدي.
         أترغب في أن أتحدث عن الوحدة، يا سيدي؟

العملاق: إمْ مْ... ماذا تقصد بالوحدة؟
         ماذا تعرف عنها؟
         أنا مَن يصون الوحدة، أنا خلقتُها،
         مثل هذه المسافة التي بيننا والتي تحترمها مرغَمًا.

الصغير: نعم، سيدي، نعم. أنت مَن خلقتَ الوحدة،
         لكنك تترك المسافة فارغة.
         ولأنها فارغة منذ عهود،
         ما عدتَ تعرف كيف تجتازها وحيدًا.

العملاق: أنا لا أحتاج إلى المسافة.
         إنها عبء مَن يعيش تحت عيني.
         مَن يودُّ رؤيتي عليه أن يرفع رأسه جهتي،
         مثلما تفعل أنت الآن، مثلما تفعل أنت الآن.

الصغير: سأظل أنظر إليك.
         أنت الوحيد الذي يجب عليَّ
         النظرُ إليه، مثل شمس فوق تلة.

العملاق: حسنٌ وصفك هذا، أيها الكائن الصغير.
         بدأتَ تدرك كُنْهَ المسافة التي يجب أن تحترمها،
         مثل سلحفاة تخرج من البحر لتضع بيضها في الرمل.

الصغير: أتريد أن أحدثك عن السلحفاة، يا سيدي،
         السلحفاة التي تضع بيضها في الرمل؟
         إنها تعرف كيف تقوم بعملها الدءوب، البطيء.

العملاق: أنا لا أحب البطء!
         سرعان ما أملُّ الكائنات البطيئة.
         إنها تجلب الكَدَرَ إلى نفسي العالية.

الصغير: لكن السلحفاة مهمة لنا كثيرًا، يا سيدي.
         السلحفاة تنجب أطفالاً جميلين،
         تنجبهم ودموعها بين عينيها الحزينتين.

العملاق: لا تذكِّرني بهذه الكائنات المسكينة!
         فهي تجلب اليأس، إنها تخنق أنفاسي،
         أنفاسي التي لا تلائمها غير المعابر السامية.

الصغير: ماذا تعرف عن السلحفاة، يا سيدي، غير دموعها؟
         إنها أيضًا ملكة رصينة، وهي تحمل قبةً مثل سماء
فوق ظهرها وهي تزحف ببطنها الملتصقة بالأرض.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: تريد أن أغيِّر الحديث إذن؟
         أنا أفهم هذا بسرعة،
         وألبِّيه في الحال.

العملاق: إمْ...

الصغير: لكنك لم تترك شارعًا دون ظلِّك.
         ظلالك في كلِّ مكان، يا سيدي.

العملاق: إنها الوحدة، أيها الكائن الصغير،
         الوحدة التي لا تعرف كم هي مفيدة!

[صمت.]

الصغير: أريد التحدث من جديد عن النحلة.
         أرجو أن تسمح لي بذلك، يا سيدي.

العملاق: أشعر أن كلَّ الطرق مسلوكة...
         ما عدت قادرًا على الخروج من نفسي.

الصغير: إنك تحزنني بكلامك هذا، يا سيدي،
         لكنني أرغب في أن أحدثك مطوَّلاً عن النحلة.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: لقد طارت قرب لحاء زنبقة،
         زنبقةٍ أسفل حائط ترابي،
         قاعُها رطبٌ، داكنٌ، حنون.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: أفكر أن الزنبقة تتكلم،
         وأننا، إزاء زنبقة، كائنات بلا قيمة،
         لأننا لا نسمع مَن يتكلم قربنا.

العملاق: أتسمع كلماتها؟
         حقًّا، أتسمع كلماتها؟!

الصغير: علينا أن نصغي أولاً،
         أن نصغي مطوَّلاً.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: وكي نصغي مطولاً
         علينا أن ننظر أولاً.

العملاق: إمْ...

الصغير: إننا، حين ننظر أننا ننظر،
         سرعان ما نرى،
         سرعان ما نصمت.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: لو امتلكنا يومًا ماء زنبقة!
         لو امتلكنا يومًا ظلَّ نحلة!

العملاق: لهذا عليَّ أن أرفع رأسي حتى أرى،
         لهذا عليَّ أن أنحني حتى أصمت.

الصغير: كلانا يبحث عن الكلمة.
         لسنا عشبةً ولا بقعةَ ماء.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: لهذا ننحني، لهذا نرتفع،
         لنرى الكلمة، لنسمع الكلمة.

العملاق: أنت لا تدرك عبء المسافة!
         إنها تُربكُ مَن يحملها بين عينيه.
         لهذا تعبتْ عيناي، فلا أرى ظلاًّ ولا زنبقة.

الصغير: لأجل ظل، لأجل زنبقة،
         انحنِ، يا سيدي، انحنِ.

العملاق: أنا واسع المدى والرؤية،
         أرى الأرض محض صمت،
         محض صدى داخل صمت "موجة حجرية".

الصغير: تكلم، يا سيدي، تكلم،
         علَّك ترى، علَّك تجتاز عمر حبَّة الندى.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: كنت أحلم أنك تحوَّلتَ إلى فراشة.

العملاق: إمْ... أنا فراشة؟!

الصغير: لكنها مضت، تلك الفراشة،
         صارت خلفي، مالكة عيني.

العملاق: إمْ مْ... أنا الفراشة،
         ملكتُ عينكَ؟!

الصغير: ها أنا ذا كلَّ حينٍ ألتفت ورائي.

العملاق: إمْ مْ... أنا أجعلك تلتفت ورائي؟!

الصغير: إنه الماضي وحده أمامي،
         وكلما التفتُّ إلى الخلف رأيتُ وجهك.

العملاق: أنت محكوم برؤية وجهي،
         إمْ مْ... أنَّى نظرت.

الصغير: هل ترغب في أن أحدثك عن الفراشة،
         يا سيدي، الفراشة التي تحولتَ إليها في حلمي؟

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: منذ متى لم تَرَ فراشتك، يا سيدي،
         منذ متى لم تَرَ مصيرك الخفيف؟

العملاق: إمْ مْ... أنا فراشة، أنا فراشة!

الصغير: ابتسم، يا سيدي، ابتسم!
         تخفَّفْ حتى تنحني،
         حتى تلمس عيناك سطح الماء،
         مثل فراشة تلمس سطح الماء.

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: سنسوَّى بالأرض، مثل هذه البقعة الصافية،
         وحين لا نرفع كلمة ولا إشارة،
         ستغمرنا الحكاياتُ بصمتها المرفرف،
         وحوافر ملائكية ترسم من جديد عظامنا الخجلة.

العملاق: إمْ... لا كلمة تردُّ بها على صمت العالم؟!
         إنك حزين، أيها الكائن الصغير،
         وهذا كافٍ، وهذا شأن دمية، شأن ورقة نبات.

الصغير: تبدو حكيمًا، يا سيدي. أحيانًا يتكلم قلبُكَ
         عبر لسانكَ اليائس، كأنك تبرِّر الخسارة.

العملاق: أشعر بالخلود... لهذا أشعر بالخلود.

الصغير: هل سنشفى من الخلود،
         من "يقظة الخلود في ورقة نبات"؟

[صمت كالنحيب.]

العملاق: إن كلماتك مشوِّشة.
         الأجدر بك أن تحتفظ بها لنفسك.
         ثم إنِّي أمتلك درعًا ضد كلمات كهذه!

الصغير: لكن وجه الأب لم يصمد أمام قبلة طفلته.
         ألا تريد معرفة شيء عن الوجه، يا سيدي؟

العملاق: إمْ مْ...

الصغير: كانت شفتا الطفلة ناعمتين،
         وكان الفرح بطيئًا يغلق عينيها،
         آه، حدَّ أن المرء يخشى عليها
         من وَقْع الكلمات القادمة.

العملاق: إمْ مْ... طفلة، وجه طفلة...

الصغير: ستكبر الطفلة، وآمل ألا تؤذيها
         كلماتُ الكبار...

[ينحَلُ العملاق حتى يصير مثل الصغير. يذوبان داخل بقعة الماء. الحمرة السائلة تزداد نضارة.]

عامودا، تموز، 2007

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود