|
النَّحلة والسُّلحفاة والزَّنبقة
أنا
مريضٌ عشيَّة العام الجديد. فكرةٌ حزينةٌ تحرِّكني حتى الأعماق. كيف يمكن للكلمات
أن تعبِّر عن كلِّ هذا الأسف؟ لقد خلف أبي وأمي هذا الجسد منذ ستين عامًا. ولكن مَن
أنا؟ رجل؟ امرأة؟ إنِّي أُطلقُ صرخةً كما فعلتُ منذ ستين عامًا.
[كائنان غريبان: عملاق وصغير. بقعة ماء ساكن، شديد الصفاء، مسطحة، على مستوى الخشبة تمامًا. خلفية حمراء سائلة... أشياء أخرى غير موجودة.] الكائن العملاق: أنت مُجبَر أن ترفع رأسك حتى تنظر إليَّ. الكائن الصغير: أنا مُجبَر أن أرفع رأسي؟
العملاق:
حتى تراني، أنت مُجبَر أن تحترم العلوَّ.
الصغير:
أجل، أجل، ينبغي لنا جميعًا احترامُ العلوِّ. العملاق: ما هذه البقعة؟ ما أشد انحطاطها!
الصغير:
إنه الماء. أنا مُجبَر أن أخفض رأسي حتى أشرب الماء. العملاق: هكذا إذن. إمْ مْ... الصغير: ألستَ ترغب في شربة ماء؟ العملاق: أجل، أجل... لا، لا!
الصغير:
عليك أن تحترم الماء، يا سيدي، العملاق: مائي معي. إنك بعيد، أكاد لا أراك في وضوح. الصغير: المسافة صافية. لعل عينيك متعبتان.
العملاق:
ما أشد صفاء هذه البقعة! الصغير: يوم بلا غيوم. إنك وحيد، أليس كذلك؟
العملاق:
أجل، أجل. إنها مسافة زائدة.
الصغير:
الصفاء لا يعرف الأيام.
العملاق:
إنه لإرثٌ كبير، هذا الذي
الصغير:
لا تبقَ وحيدًا، يا سيدي.
العملاق:
أرغب في بيت صغير كهذه البقعة،
الصغير:
ألأنك وقفتَ طويلاً بعيدًا عن الأشياء،
العملاق:
لكنك تعرف أن مائي معي.
الصغير:
أما أنا ففقير، يا سيدي، [صمت.] العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
هل رأيت نحلة، يا سيدي؟ العملاق: لم أرَ نحلةً منذ زمن بعيد.
الصغير:
أنا رأيت نحلةً بالأمس. العملاق: إمْ مْ مْ...
الصغير:
كان جناحُها بلون الأرض،
العملاق:
أهي قريبة إلى هذا الحد؟!
الصغير:
سرعان ما تختفي.
العملاق:
كم هي بعيدة عني،
الصغير:
لأنها محض نحلة،
العملاق:
كائن لا قيمة له إذن.
الصغير:
لأنها كذلك، لأنها كذلك،
العملاق:
لا شيء أعظم من مباهج النصر!
الصغير:
لكننا محكومون بتعاقب الليل والنهار،
العملاق:
على كلِّ حال، هي نحلة،
الصغير:
لأنها كذلك، يا سيدي، لأنها كذلك،
العملاق:
حديثك مملٌّ، أيها الكائن الصغير!
الصغير:
تكلم، سيدي، تكلم... أنا أحترمك عندما تتكلم. العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
إذا كنت لا ترغب في الحديث عن النحل
العملاق:
إمْ مْ... ماذا تقصد بالوحدة؟
الصغير:
نعم، سيدي، نعم. أنت مَن خلقتَ الوحدة،
العملاق:
أنا لا أحتاج إلى المسافة.
الصغير:
سأظل أنظر إليك.
العملاق:
حسنٌ وصفك هذا، أيها الكائن الصغير.
الصغير:
أتريد أن أحدثك عن السلحفاة، يا سيدي،
العملاق:
أنا لا أحب البطء!
الصغير:
لكن السلحفاة مهمة لنا كثيرًا، يا سيدي.
العملاق:
لا تذكِّرني بهذه الكائنات المسكينة!
الصغير:
ماذا تعرف عن السلحفاة، يا سيدي، غير دموعها؟ العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
تريد أن أغيِّر الحديث إذن؟ العملاق: إمْ...
الصغير:
لكنك لم تترك شارعًا دون ظلِّك.
العملاق:
إنها الوحدة، أيها الكائن الصغير، [صمت.]
الصغير:
أريد التحدث من جديد عن النحلة.
العملاق:
أشعر أن كلَّ الطرق مسلوكة...
الصغير:
إنك تحزنني بكلامك هذا، يا سيدي، العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
لقد طارت قرب لحاء زنبقة، العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
أفكر أن الزنبقة تتكلم،
العملاق:
أتسمع كلماتها؟
الصغير:
علينا أن نصغي أولاً، العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
وكي نصغي مطولاً العملاق: إمْ...
الصغير:
إننا، حين ننظر أننا ننظر، العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
لو امتلكنا يومًا ماء زنبقة!
العملاق:
لهذا عليَّ أن أرفع رأسي حتى أرى،
الصغير:
كلانا يبحث عن الكلمة. العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
لهذا ننحني، لهذا نرتفع،
العملاق:
أنت لا تدرك عبء المسافة!
الصغير:
لأجل ظل، لأجل زنبقة،
العملاق:
أنا واسع المدى والرؤية،
الصغير:
تكلم، يا سيدي، تكلم، العملاق: إمْ مْ... الصغير: كنت أحلم أنك تحوَّلتَ إلى فراشة. العملاق: إمْ... أنا فراشة؟!
الصغير:
لكنها مضت، تلك الفراشة،
العملاق:
إمْ مْ... أنا الفراشة، الصغير: ها أنا ذا كلَّ حينٍ ألتفت ورائي. العملاق: إمْ مْ... أنا أجعلك تلتفت ورائي؟!
الصغير:
إنه الماضي وحده أمامي،
العملاق:
أنت محكوم برؤية وجهي،
الصغير:
هل ترغب في أن أحدثك عن الفراشة، العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
منذ متى لم تَرَ فراشتك، يا سيدي، العملاق: إمْ مْ... أنا فراشة، أنا فراشة!
الصغير:
ابتسم، يا سيدي، ابتسم! العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
سنسوَّى بالأرض، مثل هذه البقعة الصافية،
العملاق:
إمْ... لا كلمة تردُّ بها على صمت العالم؟!
الصغير:
تبدو حكيمًا، يا سيدي. أحيانًا يتكلم قلبُكَ العملاق: أشعر بالخلود... لهذا أشعر بالخلود.
الصغير:
هل سنشفى من الخلود، [صمت كالنحيب.]
العملاق:
إن كلماتك مشوِّشة.
الصغير:
لكن وجه الأب لم يصمد أمام قبلة طفلته. العملاق: إمْ مْ...
الصغير:
كانت شفتا الطفلة ناعمتين، العملاق: إمْ مْ... طفلة، وجه طفلة...
الصغير:
ستكبر الطفلة، وآمل ألا تؤذيها [ينحَلُ العملاق حتى يصير مثل الصغير. يذوبان داخل بقعة الماء. الحمرة السائلة تزداد نضارة.] عامودا، تموز، 2007 *** *** ***
|
|
|