|
المسـبحـة
- أبتي... أشعر بحاجة ماسَّة للاعتراف... سأبوح لك بسرٍّ دفين أخجل منه ويُثقل على صدري... - تفضلي، يا ابنتي، قولي ما عندك. فمَن يكتم خطاياه لا ينجح، ومَن يُقرُّ بها ويتركها يُرحَم. - شاركتُ في إثم كبير، ضد إنسانة بريئة... حِكْتُ المكائد ضدها، آذيتُها وشاركتُ في قطع رزقها... أشعر بالذنب نحوها... كنت واحدة من بين ستِّ نساء حِكْنَ المؤامرات من حولها لفترة طويلة... ولم تكن وحدها ضحية مكائدنا... كنا نصطاد الواحدة بعد الأخرى... كالحيوانات في الغاب، يا أبتي... كنا نتكاتف ضد كلِّ واحدة تختلف عنَّا. سكتت وفاء قليلاً، وخيَّم الصمت على كرسي الاعتراف. لم يكن يُسمَع سوى سقوط حبات المسبحة في يد الخوري الذي يصغي إليها في لهفة. كان هذا الصوت يختلف إيقاعُه بحسب مراحل روايتها. خفضت رأسها وواصلت حديثها: - تسبَّبنا في طرد أربع زميلات لنا من العمل، وبعضهن انسحبن وحدهن. لكن أمينة كانت شيئًا خاصًّا... تركت أثرًا قويًّا في نفسي... امرأة قوية وطيبة، مُحبة ومتسامحة، صادقة وتعمل بإخلاص... كانت مبادِرة في تطوير عملنا، غيورة جدًّا على مصالحنا، لم تفرِّق بين إنسان وآخر، رغم اختلافاتنا المتعددة، وكان لها رأي ثاقب ومسموع... كانت، يا أبتي، رائدة في معظم المجالات، ومن الصعب جدًّا مصادفةُ إنسانة في خُلُقها... لن تصدق، يا أبتي، أن أمينة هي التي جاءت بي إلى العمل، هي التي درَّبتْني وعلمتْني أسرار المهنة كلَّها... أخذت بيدي حتى أصبحت متمرسة في عملي... مع أنها ليست من طائفتنا... شعر الخوري بالملل من إسهابها في الحديث، وأخذت حباتُ مسبحته تدق بسرعة، وقال: - "هاتي من الآخِر، يا ابنتي، فهناك طابور من المعترفين اليوم! خبِّريني، ما هو إثمك؟" وتابعت وفاء اعترافها: - عيبها الوحيد أنها لم تشارك "الشلة" المناسبات الاجتماعية التي كنَّا نختلقها مجامَلةً لبعضنا بعضًا. كن نزور زميلة إذا أنجبت طفلاً ونخطط للزيارة مسبقًا: أية هدية سنشتري لها، هل ستكون هدية فردية أم هدية جماعية، هل نسأل زميلتنا أية هدية سنشتري لها أو نشتريها حسب أذواقنا... ونتشاور حول قيمة الهدية ونوعيتها، أية ثياب سنرتدي في أثناء حمل الهدية، هل سيرافقنا أزواجنا لحمل الهدية، مَن ستشتريها، مَن سترافق مشترية الهدية، من أين سنبتاعها، هل الهدية لكلِّ أفراد العائلة، أم لها وحدها، أم لطفلها... وقبل الشراء، هناك سلسلة من التحضيرات الجماعية للوالدة: فعلى مدى أسبوع، يجب أن نقدم لها طبخة بيتية تعدُّها إحدانا وتبعث بها إلى بيتها: اليوم بريجيت ستطبخ صينية بطاطا بالدجاج، وغدًا لورا ستطبخ ملوخية بالرز، فلانة ستقدم صينية كفتة، وبعدها علانة ستطبخ مجدرة... وبعدها تأتي سلسلة الاتصالات اليومية بها... وما إن تنتهي هذه التحضيرات كلها ونشترى الهدية حتى يبدأ برنامج التخطيط لهدية أخرى... لامرأة أخرى أنهى ابنُها دراسته الابتدائية، أو لامرأة دخلت المستشفى، أو لواحدة خطبت أختُها، أو لأخرى أنهى زوجها دراسته الجامعية، أو عاد من السفر، أو انتقلت إلى بيت جديد، أو حتى اشترت ملابس داخلية... وهكذا دواليك، أيام السنة كلِّها، ننفق من جيوبنا الفارغة على أمور فارغة... - يا ابنتي، كفى إسهابًا! ما هذه التفاصيل المملَّة؟! هل ستقصين عليَّ قصة حياتك أم ستعترفين بالإثم؟! أنا لست إحدى صديقاتك التي ترغين معهن! - اعذرني، أبتاه، أنا مرغمة على الدخول في الحيثيات لكي تعرف ما هو الإثم... سرُّ التوبة والاعتراف سرٌّ لازم للخلاص... - "طيب، أكملي باختصار." ازدادت سرعة حبات المسبحة وعلا صوتها. - منذ البداية، اعتذرت أمينة من المجموعة في صدق ولطف: "لا أستطيع أن أكون واحدة من الشلة بسبب ضيق وقتي وكثرة انشغالاتي وقلة مواردي." استغربنا وقاحتها! وبصراحة، تمنيت لو أستطيع فعل ما فعلت. لكننا، بدلاً من تقدير موقفها، أعلنَّا الحرب عليها... قاطعناها... لا أحد يختلط معها أو يكلمها داخل العمل... فرضنا عليها عزلةً تامة... أصبحتْ منبوذة... لفَّقنا قصصًا عن سوء عملها وبثثناها كمن يبث السموم في الجسم... والكلمة السيئة، يا أبتي، لها عشرات الآذان المصغية... اختلقنا حولها الأقاويل والشائعات، صورناها امرأةً شيطانيةً سيئةَ السمعة، عدوانيةً وشريرة... كنت أعرف أنها بريئة تمامًا، إلا أنني لم أحرِّك ساكنًا ضدهن، وبسكوتي هذا دعمت مكائدهن... كنت أخاف الاعتراض على "الشلة" لكي أحمي نفسي منهن. - "وماذا حصل بعد ذلك؟" سألها الخوري وهو يضغط على حبات المسبحة في غضب. - لم تيأس أمينة، ولم تأبه... عكفت على عملها وزادت من اجتهادها... إلى أن جاء يوم واستدعاها صاحب العمل وقال لها في خجل: "هل تعرفين لماذا استدعيتك؟" نظرت إليه أمينة نظرةً جامدة، ولم تبدرْ عنها أية ردة فعل. "أريد أن أفصلك من العمل لأن زميلاتك في العمل مستاءات منك. وقد تحدثت معك مرارًا بهذا الشأن، لكنك لم تغيِّري من سلوكك." كان صاحب العمل يتوقع أن تذرف أمينة الدموع وتتباكى – كما يحدث عادةً – لكنها قابلت القرار ببرودة أعصاب تامة، كأنها هيأت نفسها لهذا الموقف، وقالت في هدوء: "أنت صادق في ما تقول، فأنا لا أستطيع إرضاء زميلاتي. ولو أعطيتني فرصة أخرى لما تغيَّرت. لكن ما يُحزنني أن للتكتل ضدي اعتبارات طائفية، كوني من طائفة غير طائفتهن." هزَّ المدير رأسه وسألها: "لك أن تختاري: إما أن أعطيك رسالة طرد من العمل وإما تُقدِّمي استقالتك لأساعدك في إيجاد عمل آخر." فأجابت في عزَّة نفس: "اخترْ أنت ما شئت، فما همُّ الشاة بعد ذبحها!" حملت أمينة معطفها وخرجت في كبرياء من مكان العمل... كان الجو ماطرًا يومذاك... رأيناها تسير الهوينى تحت الشتاء... لم تودِّع أحدًا منَّا... خيَّم الصمت والهدوء على المكان، واستبدَّ بالجميع شعورٌ بالخزي... علمنا فيما بعد أنها جمعت جميع أغراضها مسبقًا، قبل أن يتم فصلها من العمل، وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة! عادت حبات المسبحة تتساقط في بطء من جديد. وسألها الخوري: - وماذا حدث بعد ذلك؟ - علمتُ من إحدى صديقاتها أنها سافرت قبل عدة أعوام مع زوجها وأولادها إلى كندا. وقد التحق أولادُها بالمدارس هناك، كما حصلت هي وزوجها على وظيفتين جيدتين وراتبين يبلغان أضعاف ما نحصل عليه هنا. حالتهم الاجتماعية الآن ميسورة جدًّا، وهي سعيدة، كما كانت قبل سفرها. - "يا ابنتي، هذه الحادثة مرت عليها عدة أعوام، حسبما ذكرت. فلماذا جئت للاعتراف اليوم بعد كلِّ هذه المدة؟!" أجهشت وفاء بالبكاء وقالت: - لأنني طُردتُ من العمل قبل أيام... ومررت بالتجربة نفسها التي مرت بها أمينة مع "الشلة" نفسها... - ألم تقولي إنك من طائفتهن نفسها؟ - بلى، يا أبتي... - ما هو السبب إذن؟! - الطائفية، يا أبتي، هي الابنة الشرعية للعنصرية. والعنصرية تلبس أثوابًا عديدة، بحسب الإنسان والزمان والمكان. ولو أنني، يا أبتي، وقفت إلى جانب أمينة منذ البداية لما حصل لي ما حصل الآن... فأنا طُردتُ يوم طُردتْ أمينة! توقف صوت حبات المسبحة، وقال الخوري: - لقد اعترفتِ بالذنب... ومَن يعترف يسامحْه الرب، لأن الله محبة... ثم ناولها قطعة صغيرة من خبز القربان مغموسة بنبيذ الكأس وقال: - "من أكل جسدي وشرب دمي أسكن فيه ويسكن فيَّ وتكون له الحياة الأبدية..." خيَّم الصمت على كرسي الاعتراف لبرهة. وفجأة عاد صوت حبات المسبحة بإيقاعه البطيء، معلنًا عن انتهاء الجلسة وبداية جلسة جديدة... حيفا *** *** *** عن موقع تفانين: www.tfaneen.co.il
|
|
|