من تجربة الفكر/طريق الحقل
"كينونة" هيدغِّر لا تتجلَّى إلا في الشعر

 

عبده وازن

 

لا تمكن قراءةُ "الشذرات" التي جَمَعَها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغِّر (1889-1976) تحت عنوان من تجربة الفكر إلا من خلال فلسفته الشاملة التي أسَّس بها مدرسةً جديدةً عمادها الإنسان بصفته "الموجود هنا" (أو "الكينونة هنا"). وقد يستحيل اختصار فلسفة هيدغِّر عبر قراءة هذه الشذرات البديعة التي تؤالف بين اللحظة الفكرية واللحظة الشعرية، مرتكزةً إلى لغة شديدة الكثافة والإلماح.

إنها، ربما، المرة الأولى تُنقَل هذه الشذراتُ إلى العربية من اللغة الألمانية؛ وقد قام بنقلها شاعر هو على علاقة بيِّنة بالفلسفة الألمانية والشعر الألماني: المقصود هو فؤاد رفقة، أحد شعراء مجلة شعر. والشاعر–المترجم ليس غريبًا عن نصِّ الفيلسوف الألماني ولا عن خطابه "الوجودي". وقد عمد إلى نشر الشذرات بالألمانية والعربية معًا، وأرفق الشذرات بنصٍّ قصير لهيدغِّر عنوانه "طريق الحقل"[1]؛ وهو نص فريد وبديع هو الآخر، يفصح عن بعض أسرار الفيلسوف الألماني وعن هاجسه الأدبي أو الشعري الذي ظل يلح عليه طوال حياته. وقد كتب رفقة أيضًا تقديمًا قصيرًا لم يتخطَّ الصفحات الأربع – وليته أطاله! –، متناولاً هذه التجربة الغريبة التي خاضها هيدغِّر، محاولاً عبرها أن يكون شاعرًا، محققًا ما قاله نظريًّا في شأن الشعر: "لا يتكلم الشاعر حول القصيدة ولا عنها. إنه يكتب." هكذا سعى هيدغِّر إلى كتابة الشعر، أو ما يشابهه، بعدما كتب الكثير حوله وعنه.

كان لا بدَّ من تقديمٍ أطول وأعمق لهذه الشذرات وللنص المرفق بها ("طريق الحقل"). فالقارئ الذي يتصدَّى لهذين النصَّين يشعر بأنه يحتاج إلى ضوء يسبر سرَّهما والخلفية الفلسفية القائمَين عليها وبعض الأبعاد التي تفرضها العلاقةُ بين الشعر والفكر وبين الكينونة واللغة. والبارز في الشذرات أن بعضها يميل إلى الفكر المصفَّى (أو الصافي)، وبعضها الآخر ينزع إلى الشعر الخالص. أما النص ("طريق الحقل") فهو يجمع بين الفلسفي والشعري والأوتوبيوغرافي (السيرة الذاتية) جمعًا داخليًّا قادرًا على إلغاء أية مسافة بين الأنواع الثلاثة هذه.

لم يعتمد أي فيلسوف معاصر (وربما قديم) الشعر كمادة فلسفية مثلما فعل هيدغِّر. هذا الفيلسوف وجد في الشعر والقصيدة ما يشبه "الشاهد" على بعض رؤاه أو نظرياته "الوجودية" ("الكينونية"). فهو، إذ انطلق من الحضور الإنساني الذي سمَّاه بالألمانية Dasein ("الموجود هنا"، "الكينونة هنا")، رأى أن "العبور" إلى الكينونة يتم عبر اللغة بصفتها "العنصر" الدائم في الإنسان الذي منه يتكلم. اللغة، في نظر هيدغِّر، هي "بيت الكينونة"، بل هي "البيت الذي يسكنه الإنسان". وفي رأيه أن على الإنسان أن ينصت إلى اللغة حتى يسمع ما تقوله له. أما "حضور الكينونة" فلا "يتمظهر"، بحسب هيدغِّر، إلا في اللغة وفي ما يسميه "فعل القول الأصلي، وهو الشعر". إلا أن هيدغِّر المأخوذ بالشعر الحقيقي ظل فيلسوفًا في نصوصه، ماعدا في هذه الشذرات والنص الآخر: فهو قد حاول عبرهما أن يتلبَّس صفة الشاعر–الفيلسوف انطلاقًا من لغته نفسها التي ضمَّت مفردات واشتقاقات فريدة وتعبيرات خاصة بها حمَّلها هيدغِّر معاني جديدةً ودلالاتٍ غير مألوفة.

فريدريش هولدرلن (1770-1843)

وقد لا يستغرب قارئ هيدغِّر شغفَه العميقَ بشعر فريدريش هُلدرلِن، الشاعر الألماني الكبير. فهو خصَّه بكتاب عنوانه (بالفرنسية) مقاربة هُلدرلِن (أو استضاءات)، علاوة على اعتماده قصائده في الكثير من نصوصه الفلسفية. وقد يكون أثر هُلدرلِن في هيدغِّر كبيرًا، وإنْ لم يظهر مباشرةً في الخطاب الفلسفي أو في النصوص. فالفيلسوف ارتكز كثيرًا على الرؤية الفلسفية في شعر هُلدرلِن الذي كان مصابًا بـ"الجنون" والذي قضى فترة من حياته في المصحَّات العقلية. وقد أخذ عنه هيدغِّر، كما يعلن، نظرية "الجذعين المتجاورين"، وهما الغناء والفكر، اللذان يتجاوران وينموان ويبلغان الكينونة. هنا لا يقلِّل هيدغِّر من صفة الغناء ولا من صفة الفكر، فلا ينتصر لأحدهما دون الآخر، بل يجعلهما جذعَيْ الشعرية. وهو لم ينطلق من هذه المقولة إلا ليرسِّخ العلاقة الجوهرية القائمة بين هذين القطبين. وعبر موقفه هذا، بدا هيدغِّر كأنه وارث العصر الرومانسي الألماني الذي مزج بين الفلسفة والشعر خير مزج، سواء نظريًّا أم إبداعيًّا. فشعراء هذا العصر الألماني المتميِّز (والطليعي دومًا) كانوا شعراء ذوي مزاج فلسفي. ويكفي ذكر غوته وهُلدرلِن ونوڤاليس وسواهم للتدليل على صحة ذلك.

أعاد هيدغِّر، إذن، إحياء "العصر الشعري للفلسفة" الذي أسَّس له الرومانسيون الألمان، لكنْ على طريقته ووفق رؤيته: فهو أصرَّ على ما يسميه "الطابع الحقيقي للشعر"، معتبرًا أيضًا أن الشعر الأصدق في العصر الحديث لا يمكن له إلا أن يكون "شعر الشعر". والشعر الحقيقي "المغنِّي" في هذا العصر ليس، بحسبه، الشعر الغنائي في معناه العام، بل الشعر "المفكِّر" الذي يمثل شعر هُلدرلِن مثاله الأعلى. ولن يتوانى هيدغِّر عن تسمية هُلدرلِن بـ"شاعر الشاعر"، لا لأنه يتساءل عن جوهر الشعر الغنائي كنوع أدبي أو يجعل من اللغة عالمًا مكتفيًا بذاته، وإنما لأنه، إذ يسائل جوهر الشعر، يضع فيه ما هو الأكثر جوهرية: كلمة الكينونة. وهذه الكلمة تظهر، يسأل الشاعر فيها الصدى ويقتفي أثره.

غلاف الترجمة الإنكليزية لكتاب هيدغِّر نشيد هولدرلن "إستر"

لعل ما يدفع إلى الكلام عن مفهوم "الشعرية" لدى هيدغِّر هو الدخول إلى عالم هذه الشذرات والنص ("طريق الحقل"). فهو حاول فيهما أن يترسَّم مواصفات الشاعر ومهمَّته وموقعه بين اللحظتين المتجاورتين (الشعر والفكر): فمهمة الشاعر الحقيقي أن يقول "جوهر الشعر" و"شعر الجوهر" في آنٍ واحد، أي "القصيدة الأصلية للكينونة". والشاعر القلق إزاء أية محاولة لـ"توضيع العالم" أو موضَعته يسير نحو "أثر المقدس"، وفي غنائه "يكرِّس كمال فلك الكينونة"، كما يعبِّر هيدغِّر.

في كتابه مقاربة هُلدرلِن[2] يتأمل هيدغِّر في اللغة انطلاقًا من شعرية هذا الشاعر الألماني الفذ ويرى أن "الشعر هو اللغة الأصلية لشعب تاريخي". ويصف قصيدة هُلدرلِن الشهيرة "كما في يوم عيد" بـ"شعر جوهر الشعر الأصفى". وفي كتابه مقالات ومحاضرات[3] ينطلق هيدغِّر من مقولة هُلدرلِن الذائعة: "الإنسان يسكن العالم شعريًّا"، ليقول: "الشعر هو القدرة الجوهرية للسكنى البشرية". وهو ينطلق أيضًا من سؤال وَرَدَ في قصيدة هُلدرلِن "خبز وخمر"، وهو: "لماذا الشعراء في زمن الضيق؟"، ليتحدث عن الضرورة التي تفرض على الشعراء في مثل هذا الزمن ("زمن الضيق") أن يقولوا "جوهر الشعر".

لم يقْصِر هيدغِّر مراجعَه أو مصادرَه الشعرية على هُلدرلِن، بل خصَّ غيورغ تراكل، الشاعر الألماني التعبيري، وشتيفان جورج وراينر ماريا ريلكه ببعض النصوص، واعتبر في كتابه توجُّه نحو الكلمة أن كلمات صديقه الشاعر الفرنسي رونيه شار "تشهد لنا على تجاوُر الشعر والفكر". وقد استعان أيضًا في كتابه مبدأ العلَّة بشذرة رهيبة من شذرات المتصوِّف و"الشاعر" الألماني أنغيلوس سيليزيوس، وهي: "الوردة من دون لماذا، هي تتفتَّح لأنها تتفتَّح، لا تهتم بنفسها، ولا ترغب في أن يراها أحد."

سعى هيدغِّر، إذن، في كتابة شذرات شعرية تميل إلى الفكر أو شذرات فكرية تميل إلى الشعر. وبدت بعض تلك الشذرات أقرب إلى ما يسميه بـ"الإشراقة العارفة" التي هي "مدخل إلى الأبدي"، كما يقول في "طريق الحقل". وهذا الكلام يذكِّر بـ"إشراقات" الشاعر الفرنسي رامبو الذي قال عنه الشاعر پول كلوديل إنه "وحده الذي أبصر الأبدية بعينيه المفتوحتين".

بعض الشذرات ينصهر شعريًّا، وكأنها قصائد مقطوفة قطفًا بصمتها وبياضها (راجع المختارات أدناه)، وبعضها الآخر يبدو قريبًا من منابت شعر "الهايكو" الياباني أو الشعر الصيني القديم (راجع المختارات أيضًا)؛ وهي تحتفل احتفالاً داخليًّا، روحيًّا وصوفيًّا، بالطبيعة وعناصرها. وثمة شذرات أخرى هي أفكار بارقة يتكثف فيها الفكر والكينونة والتأمل، وتبدو كأنها لحظات مشرقة في سماء الرأس. إنها، كما يقول هيدغِّر، وليدة "الشعرية المفكرة" التي "هي في الحقيقة مقياس الكينونة".

يستحيل اختصار "شذرات" هيدغِّر، المختصرة أصلاً، أو تفسيرها تفسيرًا منطقيًّا: فهي أشبه بالخواطر اللامعة التي تضيء الكثير من ظلمة العالم وتنير، في الوقت نفسه، بعض الجوانب الغامضة من فلسفة هيدغِّر، لكنْ من غير أن تشرح أو تستطرد. إنها رديفة "الخطر الحسن" الذي يتحدث هيدغِّر عنه، "الخطر الشافي" والكامن في "مجاورة الشاعر المغنِّي".

أما النص "طريق الحقل" فهو يجمع بين السيرة الذاتية والتأمل والشعر والترميز، وفيه القليل من السرد الذي يستعيد هيدغِّر عبره بعض المشاهد من طفولته أو مراهقته: "يمضي من بوابة حديقة القصر القديم... وعبر الجدار، يلاحقه الزيزفون العتيق..." أو: "عابرًا أطراف الغابة يلقي التحية على سنديانة عالية، تحتها مقعد خشن، مصنوع من الحطب...". يبدأ هيدغِّر نصَّه في صيغة ضمير الغائب (هو)، ثم يتحدث عن "الوالد" الذي كان يبحث في السنديانة التي سقطت تحت ضربة الفرَّاعة عن الحطب. ثم يتكلم عن الأولاد الذين كانوا يصنعون سفنهم من قشور السنديانة ويجعلونها تسبح في منبع المدرسة أو في الساقية.

ثم ينقلب النص إلى نصٍّ فلسفي، فيتكلم هيدغِّر على "الحقيقة الثابتة" التي تقف "عظتُها" عند "طريق الحقل". والطريق هذا قادر أن يقود القدم على "درب ملتوية في أبعاد الأرض القاحلة". وهو أيضًا يمثل "العون" عندما "تتوالى الأحجيات وما من مخرج". ويذكِّر الطريق هذا بالطريق الذي يسلكه الزارع أو الحصَّاد في لوحات الرسام ڤان غوخ. فهو (أي الطريق)، كما يقول هيدغِّر، "يبقى قريبًا من خطوة المفكِّر قربه من خطوة المزارع الذي يمضي في الصباح الباكر إلى الحصاد". ويمدح هيدغِّر في نصِّه السنديانة مديحًا فلسفيًّا: فنموها يعني "الانفتاح على أبعاد السماء والتجذُّر في عتمة الأرض". وهذا ما تقوله السنديانة لـ"طريق الحقل".

بذل الشاعر فؤاد رفقة الكثير من الجهد لترجمة الشذرات والنص إلى العربية. ولم تخلُ ترجمته، على بساطتها ولطافتها ورقَّتها، من بعض الاضطراب، سواء في نقل بعض المفردات والمصطلحات الهيدغِّرية الصعبة أصلاً والغامضة أو المبهمة، أم في تعريب بعض التراكيب اللغوية والتعابير. ويكفي أن يعود القارئ، مثلاً، إلى الترجمة الفرنسية لهذه الشذرات التي أنجزها أندريه پرِيو[4]، ليدرك كم أن الاختلاف جلي بين الترجمتين: فالترجمة الفرنسية أشد تماسكًا ومتانة، فيما الترجمة العربية أشد عفوية وبساطة. لكن المقارنة بين الأصل الألماني والنص المترجَم هي التي تحسم قضية هاتين الترجمتين وما تطرحان من أسئلة.

على أن ترجمة فؤاد رفقه لـ"الشذرات" والنص "طريق الحقل" تظل عملاً فريدًا، كونها تقدم للقارئ العربي صورة أخرى للفيلسوف الكبير، صورة الشاعر الكامن فيه والمشغوف بالقصيدة واللغة والكينونة التي يظهر فيها الفكر والشعر صنوين، على الرغم من اختلافهما ظاهرًا.

* * *

 

شذرات مختارة

 

مارتن هيدغِّر

 

فوق الجبال
عندما ضوءُ الصَّباح الباكر
هادئًا يتنامى...

*

صَوبَ نجمة أن نمضي، فقط هذا.

*

أمام شبَّاك الكوخ
عندما في العاصفة المقتربة
دولاب سرعةِ الريح يغنِّي...

*

تحت سماء ماطرةٍ مُنْفرجة
عندما فجأةً على ظلمة المراعي
شعاعُ الشمس يتسرَّب...

*

قبل بدايةِ الصيف بقليلٍ
عندما نرجسات منفردة، في المرج مختبئة، تُزهر
وتحت شجرِ القيقب وردة الجبل تضيء...

*

في خشب الكوخ
عندما الريحُ، متحولةً بسرعةٍ، تهدر
والطقس عابسًا يصير...

*

على الزهرة نهارَ الصيف
حين الفراشةُ تحطُّ،
أجنحتُها مغلقة، ومعها في ريح المروج تتأرجح...

*

حين ساقيةُ الجبل في سكينة الليالي
عن سقوطها على الصخور تحكي...

*

من منحدرات الوادي العالي
حين القطعانُ بطيئةً تسرح،
تَرِنُّ، وتَرِنُّ...

*

في مكانٍ من الغابة
عندما ضوء المساء
وامضًا يذهِّب الجذوع...

ترجمة: فؤاد رفقة

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[1] مارتن هايدغر، من تجربة الفكر/طريق الحقل، بترجمة وتقديم فؤاد رفقة، دار النهار، بيروت، 2004.

[2] Martin Heidegger, Erläuterungen zu Hölderlin Dichtung (1951).

[3] Martin Heidegger, Vorträge und Aufsätze (1954).

[4] Martin Heidegger, L'Expérience de la pensée (écrit en 1947), traduit par André Préau, Questions III, Paris, Gallimard, collection « Classiques de la philosophie », 1966.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود