|
وحــده يـعـلـم
نحتاج في هذا المقام إلى تأكيد معطًى، أو ما يشبه المعطى، لا نملُّ من تكراره والتشديد عليه، معطًى يرتبط بالعلاقة بين المفهوم والنصِّ الإبداعي – بين المفهوم كأداة إجرائية في خصوبتها ومرونتها في إمداد النصِّ الإبداعي بأشعتها الكفيلة بإضاءة جوانبه المضمَرة أو الخفية، وبين النص الإبداعي (ومنه الرواية على وجه الخصوص) في قابليته لأن يُقرأ على أكثر من صعيد بحسب تعدُّد مستويات القراءة. نقول ذلك ونحن في صدد مطاردة المعنى وترويضه، وبالتالي، ملامسة الحدود القصوى لإبداعية النصِّ الروائي في رواية وحده يعلم للروائية الجزائرية عايدة خلدون[1]، وردِّ ذلك كلِّه إلى العناصر النصِّية التي ساهمت في إنتاجه كدوالٍّ signifiants ذات مدلولات signifiés في ضوء معطيات التحليل السيميولوجي (الدلالي)، وذلك من خلال رصد كيفية تمفصُل جميع الحكايات التي تؤلِّف، مجتمعةً، الحكاية–الإطار، أي حكاية الساردة سطورة ووالدها وخثر وعمها البشير، والد خثر، وطرطوزة العطار ودوجة وحنان، ابنة الدرويش ماركس، ووالدتها البربرية والقاضي حميمد وغيرهم من "الفواعل السردية" (بالمعنى السيميولوجي للكلمة)؛ ومن بعدُ الإشارة إلى تغيُّر الأنظمة و"الأدوار العاملية" rôles actentiels، بتعبير جوليان غريماس. ذلك أن هذه الحكاية–الإطار كانت تعني في الرواية سرد إحدى المراحل المعيشة أو التي تتخيلها الساردة، وهي [...] المضمون أو سلسلة الأفعال والأحداث، بالإضافة إلى ما يسمى الموجودات أي الشخوص والإطار.[2] وهنا لا مناص من التمييز بين الحكاية، كإطار للقص، وبين الخطاب: الخطاب يعني الوسيلة التعبيرية التي يتم بها نقلُ المضمون إلى الآخرين. [...] بعبارة أخرى، الحكاية هي: "لماذا؟" والخطاب هو: "كيف؟"[3] ومعنى هذا أن كلَّ حكاية أو قصة مسرودة في هذه الرواية تشكل نوعًا من "الإخراج المسرحي" الوجودي لأحد أقوال سطورة، باعتبارها ساردةً ومسرودًا عنها في الآن ذاته، أو راوية–ممثلاً داخل الحكي يتنقل عبر الأزمنة والأمكنة ويلجأ إلى التدخل في سيرورة الأحداث ببعض التعليقات والتأملات. ولهذا فإن الراوية أو الساردة سطورة تشكل وابن عمها خثر الفاعلين الأساسيين عبر الفضاء النصي للرواية: فهما اللذان يؤمنان لهذه الحكاية أرضيةً سرديةً محسوسةً لا تمتلكها بقية الفواعل السردية – حتى لو استعرنا قاعدة التحليل البنيوي، منذ ڤلاديمير پروب إلى يومنا هذا، على اعتبار أن ڤلاديمير پروب، حين أراد تحليل الحكايات العجيبة fantastiques من وجهة نظر بنيوية، نبَّه إلى أن [...] الحكاية ليست دائمًا بسيطة، بل تحتوي على متتاليات حكائية وأنماط متعددة تتشابك فيها هذه المتتاليات.[4] من هنا فإن "المتتاليات الحكائية" في هذا النصِّ الروائي تقوم، إلى حدٍّ كبير، بالوظيفة نفسها التي يقوم بها كلُّ خطاب سردي، وهي الوظيفة المتمثلة في تنظيم معطيات الفعالية السردية من أجل فرض مبرِّر وجودها الفني؛ وهي التي تشكل أيضًا بمفردها وحدة سردية مستقلة ذاتيًّا، وفي الوقت ذاته، تحيط بجميع الوحدات السردية الأخرى وتؤطِّرها عن طريق عرضها في صورة مدوَّنات سردية جزئية. إذن فالأمر يتعلق بهيمنة الساردة سطورة وابن عمها خثر على البنية السطحية للسرد، باعتبارهما فاعلين أساسيين، في مقابل بقية الفواعل السردية المساعدة (والد سطورة، القاضي حميمد، الأمير، دوجة، حنان ابنة الدرويش ماركس، البشير والد خثر). وهكذا فقد أوكلت الساردة سطورة لنفسها، باعتبارها راوية–ممثلاً داخل الحكي، عدة "أدوار عاملية"، بحسب مفهوم غريماس السيميولوجي. فهي، أولاً، تظهر على هيئة "أنا خارج نصية"، باعتبارها ساردةً أو راوية، ثم "داخل نصية"، باعتبارها مسرودًا عنها أو ممثلاً داخل الحكي، منخرطةً وحاضرةً في مستويات الفضاء الروائي كافة – دون أن نهمل، بالطبع، الأدوار العاملية الأخرى لبعض الفواعل السردية، بما هي فواعل، وإن كانت أدوارها محدودة، إلا أن لها ما يبرِّر وجودها السردي عبر فضاء الرواية، مثل البشير، والد خثر، ووالد سطورة والأمير ودوجة وحنان، ابنة الدرويش ماركس، والقاضي حميمد، الذي لم يتعدَّ وجودُه كونَه علامة سردية واصلة سرعان ما تختفي بانقضاء الحديث عن أعراس القرية: دار القاضي أكبر وأجمل دار في القرية... البنادير تدوي في السماء... تمزِّق سكون الليل... القصبة بُحَّ صوتها... غدت شجية... عذبة... حزينة تترنم مع الأنغام بغناء جميل... ما نحصد ما نزرع ما نبيع الصارمية... نبيع عودي لزرق في جاه النايلية...[5] ليعاود الظهور مرة أخرى، لا كحدث مرويٍّ ولكن كصورة أو [...] ممثل حامل لدور عاملي يحدِّد وضعيةً داخل البرنامج السردي ولدور ثيمي يحدِّد انتماءه إلى مسار صوري.[6] وهكذا يتم التأكيد على هيمنة "الوحدة العاملية" unité actentielle، أي "العامل–السارد"، في مقابل العوامل المساعدة المذكورة آنفًا والمشار إليهم عن طريق ضمير الغائب من منظور نحوي يقابل ما يسمِّيه د. رشيد بن مالك [...] الفواعل التركيبية المسجلة داخل البرنامج السردي ببعض الأدوار العاملية المحدَّدة بوضعية ما داخل السلسلة المنطقية للسرد.[7] ولكي نميز تمييزًا أفضل كيف أن رواية وحده يعلم تساعدنا على فهم أدق وأصح لتمفصُل جميع الحكايات أو "المتتاليات الحكائية"، بتعبير ڤلاديمير پروب، التي تؤلِّف مجتمعةً الحكاية–الإطار، كما أشرنا آنفًا، يكفي أن نوضح المضامين الحقيقية للتشكيل المفرداتي أو المعجم اللغوي لعدد من الفواعل السردية التي تنتظم وتتشكل بحسب الدور العاملي لكلِّ ممثل على حدة: - الممثل الأول: طرطوزة العطار: "اشربوا من البحر وأنا كفيل بمعالجة الملح في بطونكم... أنا العطار."[8] - الممثل الثاني: القاضي حميمد: "اتركي السكير وستعيشين معي أحسن عيشة... الضاية وبن ربيح ستمسي عقودها بين يديك، بل الجلفة كلها إن أردت."[9] - الممثل الثالث: والد الساردة: "جئنا نفتح نوميديا ففتحت صدورنا ونعم الفتح المبين."[10] - الممثل الرابع: الأمير: "هذا الجمال معفى من اعتناق أيِّ دين... اكفري ما شئت... مسموح لك بالردَّة... فأنت استراحة المحارب."[11] - الممثل الخامس: والدة سطورة: "لقد أصبحت اليوم يا سطورة امرأة... تجنَّبي اللعب مع الذكور... لا تكلِّمي خثر ثانية... لا تجلسي معه وحدكما."[12] - الممثل السادس: حنان، بنت الدرويش ماركس: "إلى متى وأنت تمرِّغين أنوثتك في الطين؟ أعطي جسمك الجميل هذا حقَّه في الحياة."[13] ويمكن لنا أن نطيل في الحديث ونسهب في رصد الملفوظات السردية، خاصة تلك التي يخضع فيها السردُ لمقتضيات المواد اللغوية الحاملة له، أو ما يسميه غريماس "المستوى السطحي للسرد". هذه الوحدات السردية المذكورة دليل واضح يعمل على إبراز آليات اشتغال المعنى. وبشكل عام، فإن المعجم اللفظي لهذه الوحدات السردية يظل على مستوى التعيين الحرفي، أي يظل مفهومًا عائمًا لا يعمل على توليد مجازات حية أو استعارات دالَّة على تملُّك الساردة للبنية الروائية أو تحكُّمها فيها، من سرد ووصف ولغة وفضاء وتخييل وغير ذلك، أي عناصر التشكيل الروائي مجتمعة – باستثناء بعض الإشارات المحدودة عن الزمان والمكان ومصادر التأويل والمحاكاة القرآنية والاستثمار الجيد للموروث الشعبي – ولا على توليد بعض المعاني الحافة التي تحيل إليها بواطنُ معرفة الساردة بأشكال اللغة وتمظهُراتها على مستوياتها الدلالية والتركيبية وغير ذلك من الصيغ والاستملاكات الجمالية والبنائية الهادفة إلى تأثيث النص الروائي بمختلف أدوات الكتابة الإبداعية الراهنة في تحولاتها الجذرية التي لا تستكين للجاهز والمطلوب، ولا تقبل بالتسليم الأعمى المطمئن للتصورات المادية الخارج نصية، بل تذهب إلى صنع فراداتها في التجربة الخاصة، بما لها من قوة الاستبصار التي لا تختزل تمفصُلات الحكي في بنية أحادية ولغوية ودلالية للمعنى، بل تُقاس بتعدُّد الصيغ والأساليب والرؤى كي تحرِّر القارئ من ظلال المعاني الإجبارية التي يفرضها عليها بعضُ السرود الروائية كـ"متعاليات نصية"، بتعبير جيرار جينيت. زبدة القول إن الكاتبة تتعامل مع القارئ كما لو أنه متلقٍّ سلبي لا يزال في طور التمدرُس. وعليه، فإن ما وقفنا عليه في هذه القراءة المحدودة، وإن كان فتح لنا بعض المنافذ على معانٍ ودلالات متعددة، إلا أن الصرامة التقشفية للقراءة السيميولوجية في صورتها السردية، كما صاغ غريماس وكورتيس وتلامذتهما حدودَها وأسئلتَها وقوانينَها المتسمة بالدقة والصرامة، أجبرتْنا على ترك هذه المنافذ دون النظر إليها من زوايا أخرى أو عبر بوابة أكثر انفتاحًا، كزاوية "سيميولوجيا التأويل"، مثلاً، لما لها من قدرة على قراءة النصِّ الإبداعي في أبعاده المختلفة. فلذلك قال الناقد جان ستاروبنسكي: إن النصَّ الإبداعي عبارة عن مادة علائقية تترك نفسها تسكن من خلال فعل القراءة. [...] أي النص يحرِّض على احتفال الرغبة. [...] إنه انطلاق صور وعمل إجباري للفكر والأحلام لا تحدُّه قراءةٌ على الإطلاق.[14] *** *** *** [1] عايدة خلدون، وحده يعلم، رواية، دار الكرز، القاهرة، 2005. [2] خليل رزق، تحولات الحبكة: مقدمة لدراسة الرواية العربية، مؤسسة الأشرف للنشر والتوزيع، بيروت، 1992؛ ص 19. [3] المصدر نفسه، ص 19. [4] حميد لحميداني، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، طب 3: 2000؛ ص 26. [5] عايدة خلدون، وحده يعلم، ص 26. [6] رشيد بن مالك، قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص (عربي–فرنسي–إنجليزي)، دار الحكمة، الجزائر، 2000؛ ص 16. [7] المصدر نفسه، ص 16. [8] الرواية، ص 16. [9] الرواية، ص 53. [10] الرواية، ص 39. [11] الرواية، ص 87. [12] الرواية، ص 30. [13] الرواية، ص 73. [14] جان ستاروبنسكي، "اعتبارات حول الحالة الراهنة للنقد الأدبي"، بترجمة فاروق وادي، مجلة فصول، القاهرة، مارس 1982؛ ص 103.
|
|
|