|
آل پاتشينو... شيكسپير...
ما
تزرعه إيَّاه تحصد
1 لا شك أن مسرحية تاجر البندقية هي أكثر مسرحيات وليم شيكسپير إشكاليةً: فهي، من حيث الظاهر وكما قد تبدو لأول وهلة للمُشاهد و/أو للقارئ العادي، ملهاة مأساوية تحكي قصة تاجر غني من مدينة البندقية يدعى أنطونيو اضطرتْه الظروفُ أن يستدين لمدة ثلاثة أشهر، من أجل مساعدة الصديق الأقرب إلى قلبه باسانيو، الذي رغب في طلب يد فتاة ثرية جدًّا يحبها تدعى پورشيا، مبلغًا من المال قدره 3000 دوكة من الذهب من مُرابٍٍ يهودي يدعى شايلوك. شايلوك وافق على إقراضه المبلغ المذكور للمدة المحددة لقاء أن يأخذ "رطلاً من لحمه" في حال لم يتمكن أنطونيو من سداد القرض بانتهاء تلك المدة. ما حدث طبعًا كان أن حظي باسانيو بيد حبيبته وأن أنطونيو لم يتمكن من سداد دَينه في الوقت المحدد، الأمر الذي عرَّضه لملاحقة شايلوك الذي أصرَّ على استيفاء دينه بأخذ رطل من لحمه. وتُحل المشكلة في النهاية، بمساعدة پورشيا، لصالح أنطونيو ورفاقه، على حساب شايلوك الذي فقد نصف أملاكه وحُكِمَ عليه بأن يطوِّب ما تبقى منها بعد وفاته لابنته التي تركتْه وهربت كي تتزوج من المسيحي لورنتزو الذي أحبته؛ كما حُكِمَ عليه أيضًا باعتناق المسيحية، الدين السائد في البندقية في تلك الأيام. إشكالية هذه المسرحية تأتي من أنها تستند إلى خلفية دينية كانت سائدة في أوروبا وقتذاك، ألا وهي خلفية الصراع، المعلَن والمستور معًا، بين مسيحية مسيطِرة، تمثلها الكنيسة وتعكسها شخصيات "تاجر البندقية" وأصدقائه "الخفيفة"، وبين يهودية مهزومة ومشوَّهة تمثلها الشخصية المأساوية للمرابي شايلوك الذي بات اسمه في عقل العوام، حتى الساعة، مرتبطًا بجشع اليهود. وهذا ما جعل اليهود في مختلف أنحاء المعمورة، لفترات طويلة، يرفضون، من بين أعمال شيكسپير، هذه المسرحية تحديدًا؛ كما جعل عشاق شيكسپير العظيم يقفون حيارى أمام هذه الملهاة المأسوية السمجة، أو لنقل، كما تبدو ربما للوهلة الأولى. ولكن... 2 التساؤل يبقى، في نظر مَن يقرأ هذه المسرحية بمزيد من العمق، هو: هل كان هذا التصور "المعادي للسامية" هو ما أراد شيكسپير، المعروف بعمقه وإنسانيته، إيصاله إلى مشاهديه وقرائه؟ وهل استطاع شيكسپير، من خلال ما تضمنتْه ملهاتُه المأسوية من طرح، معالَجة مشكلة اجتماعية ودينية عميقة كهذه؟ لأنه، والحق يقال، بقيت هذه المسرحية، لسنين طويلة، موضع تساؤل كبير لم يُحسَم حتى الساعة ربما – حتى كان فيلم المخرج المرموق مايكل ردفورد والممثل العملاق آل پاتشينو (الذي لعب في هذا الفيلم دور شايلوك)، الذي أعاد طرح الموضوع من منظار جديد. وما أبرزه مايكل ردفورد في فيلمه هما الوجهان الأساسيان، المتعارضان والمتكاملان، لهذه المسرحية: 1. الوجه الأول، الأساسي والمسيطر، الذي هو الوجه المأساوي للمسرحية، المعبَّر عنه من خلال شايلوك الذي وضعه المخرج، في شكل مؤكد وفي منتهى الوضوح، في سياق الظروف المحيطة، ظروف الاضطهاد والعنصرية ومعاداة السامية التي كانت سائدة في تلك الأيام والتي ولَّدت هذه الشخصية الإشكالية؛ و... 2. الوجه الثاني، الذي قد يبدو كوميديًّا، وإن كان لا يقل عن الأول أهمية، البارز في المحكمة من خلال پورشيا، فيقدم، وإنْ ببعض الخفة، – ولأسباب سنحاول تلمُّسها، لأن المسرحية ملهاة في نهاية المطاف – تصور شيكسپير، في زمان سيطرة الكنيسة وتسلُّطها، للمَخرَج الإنساني الممكن من هذه الأوضاع الشاذة. 3 لأن المسرحية، إنْ أُخِذَتْ من منظار شايلوك، ليست "ملهاة" على الإطلاق! إنما هي مأساة إنسانية في منتهى العمق، مأساة تجسِّد العلاقة المشوهة بين المسيحية وبين رافضيها الذين شيطنتْهم، حيث:
طوال
قرون، تكبد اليهود، من جانب المسيحيين، مختلف صنوف التنكيل والإذلال التي لا يأخذها
معاصرونا بالحسبان. ففي روما، من العصر الوسيط حتى النهضة، كان أعيان الجالية
اليهودية، يوم انتخاب البابا الجديد، يُرغَمون على المرور في موكب أمام الحَبْر
الأعظم وعلى مخاطبته وهم يقدمون له نسخةً من التوراة: "نلتمس من قداستكم نعمة أن
نقدِّم لها كتاب شريعتنا"، فيرد البابا الجديد على عبارتهم بصوت جهوري ببضعة جُمَل
مزدرية، اختُصرت على كرِّ السنين في أربع كلمات: "شريعة ممتازة - عِرْق كريه"،
تليها غالبًا صفعةٌ على خدِّ كبير الحاخامات! وفي القرن السادس عشر، في العديد من
مدن الغرب الأوروبي، لم يكن يحق للجالية اليهودية أن تبقى مقيمةً إلا إذا قرأ
الحاخام على القوم المجتمعين بمناسبة عيد مسيحيٍّ نصًّا مُذِلاًّ يرضي السادية
الكامنة للجماعة. فحتى تنجو رعيتُه كان الحاخام يضطر على مضض إلى تمثيل هذه
الكوميديا الخبيثة – إذ كيف يجرؤ على الامتناع عن ذلك والحال هي هي في كلِّ مكان؟! هذا الواقع المأسوي واللاإنساني الذي عبَّر عنه، في منتهى الصدق والوضوح، الحوار الدائر بين شايلوك وأنطونيو حين جاء هذا الأخير مع صديقه باسانيو إلى شايلوك ليقترضا منه ما يلزمهما من مال، وحيث خاطب شايلوك أنطونيو قائلاً: شايلوك: سيدي أنطونيو، كم من مرة انتقدتَني في الريالتو على ما أعطيه من قروض وما أتقاضاه من ربا. لكنِّي لم أجبك إلاَّ بحركة من كتفي، لأن الصبر هو الشيمة المميِّزة لأمتنا. وقد نعتَّني بالجشع، وبالكلب المفترس، وبصقت على قبعتي اليهودية، وذلك فقط لأني، بكامل إرادتي، أتصرف بمالي كما أشاء. لكن يبدو أنك أصبحت الآن في حاجة إلى مساعدتي، وهذا جيد. لذلك أتيت إلى عندي لتقول لي: "يا شايلوك، نحن نريد مالاً." هذا ما تقوله لي الآن بعد أن تقيأت بمشروبك على ذقني، وبعد أن طردتني كالكلب الغريب الواقف عند عتبة منزلك. أتيت لتطلب منِّي مالاً! وأنا أتساءل هل يجب أن أجيبك: "وهل يملك الكلب مالاً؟ وهل بوسع كلبٍ أن يُقرِضَ ثلاث آلاف دوكة؟" أم أنه يجب علي أن أحييك منحنيًا كالعبد، وأقول لك بصوت خفيض خجول: "يا سيدي الجميل، لقد بصقت علي يوم الأربعاء الماضي، وركلتني في اليوم الفلاني، ونعتَّني بالكلب. لذلك، تقديرًا منِّي لمعاملتك الطيبة، سأقرضك هذا المبلغ من المال؟" فيجيبه "تاجر البندقية" بكلِّ صلف: أنطونيو: لأني مستعد أيضًا أن أنعتك بتلك الصفات، ومستعد أيضًا أن أبصق عليك وأركلك بقدمي. لذلك لا تقرضنا هذا المال كأصدقاء. فالصداقة لم تتطلب يومًا فعل مال عقيم تقدِّمه يدٌ صديقة. إنما أقرضني إياه الآن كعدوٍّ لك، عدوٍّ، إنْ نكث بعهده تجاهك، لك أن تطلب عقابه بكلِّ طيبة خاطر. لأن هذا هو جوهر القضية وجوهر المأساة التي أراد شيكسپير أن يعبِّر عنه في مسرحيته، الجوهر الذي عرف آل پاتشينو كيف يقدِّمه، جاعلاً من شايلوك البطل الحقيقي الوحيد لهذه الملهاة المأسوية التي لا تحمل اسمه (مع الأسف!). فهذا الظلم التاريخي هو الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، فخلق "شايلوك" ومَن يماثله لدى مختلف الشعوب ومن كلِّ الديانات. وقد نجح آل پاتشينو في ذلك، نعم، نجح إلى أقصى حدٍّ في إبراز ما يبدو أن شيكسپير أراد إيصاله فعلاً إلى مشاهديه وقرَّائه... فخلال المسرحية كلِّها، وخاصةً خلال ذروتها المأسوية المتمثلة بالمحاكمة، بدت جميع الشخصيات باهتةً وسخيفةً وسطحيةً أمام شخصية شايلوك التي أداها آل پاتشينو ببراعة فائقة. وحتى حين "انتصرت" هذه الشخصيات في نهاية المطاف، بدت جميعًا بلا رائحة ولا لون أمام شايلوك الذي جابهها وأدانها جميعًا حين قال: شايلوك: من أيِّ حُكم عليَّ أن أخشى، وأنا لم أتسبَّب في الأذية لأحد؟ أنتم لديكم العديد من العبيد الذين تستخدمونهم، كحميركم وكلابكم وبغالكم، للقيام بأقذر الأعمال. إنهم لكم لأنكم اشتريتموهم. هل أقول لكم أن تُعتقوهم أو أن تزوِّجوهم من وريثاتكم؟ لماذا تراهم يا ترى يرزحون تحت حمولاتهم؟ أعطوهم أسرَّةً ناعمةً كأسرَّتكم، ولتتذوق أحناكهم الأطعمة نفسها التي تتذوقون. ستجيبونني بأننا نملك هؤلاء العبيد. وأنا أجيبكم بأنني أملك هذا الرطل من اللحم الذي أطالب به. لقد دفعت ثمنه غاليًا، ولهذا تراني أطالب به. لذلك، إنْ لم تعطوني إياه، فعارٌ على قوانينكم! ولن تكون هناك أية قوة لمراسيم مجلس شيوخ البندقية – إني أنتظر منكم أن تعطوني حقِّي. أخبروني: هل سأحصل على حقِّي؟ ولكن... 4 لم لا نتفكر أيضًا في النهاية، في ذلك التسامح الذي يبدو وكأن شيكسپير ارتآه على لسان پورشيا مَخرجًا وحلاًّ افتراضيًّا ممكنًا لتلك المعضلة الإنسانية تحديدًا ولجميع مشاكلنا عمومًا؟ پورشيا: لأن أول ما يتصف به التسامح هو أنه لا يُفرَض فرضًا. لذا نراه ينهمر كالمطر الناعم من السماء على المكان الذي يتلقَّاه. وهذا ما يضاعف من بركته. فهو جيد لِمَن يقدمه وجيد لِمَن يتلقَّاه. إنه المقدرة الأكبر للقدير عل كلِّ شيء. لذلك تراه يزيِّن رأس الملك على عرشه أكثر مما يزيِّنه التاج. لأنه إن كان الصولجان يُظهِرُ القوة الزمنية للسلطان، رمز سلطته التي نُجِلُّ ورمز عظمتها، فإن التسامح يعلو على سلطة الصولجان، لأن عرشه قائم في قلب الملوك، ولأنه إحدى صفات الألوهة تحديدًا. وهذا ما يجعل عظماء هذه الأرض يقتربون أكثر من الألوهة عندما يتمكنون من الجمع بين التسامح وبين العدالة. لذلك تفكَّر جيدًا، أيها اليهودي، لأنه مهما كانت عدالة الحجة التي تقدِّمها، فإننا حين لا نطلب إلاَّ العدالة، لن يكون بوسع أيٍّ منَّا نيل الخلاص. [...] وقد يتساءل المشاهد هنا: لماذا، إنْ كان هذا هو "الحل" الذي ارتآه شيكسپير، كانت تلك النهاية السخيفة المتمثلة في انتصار "الأخيار"، المتمثلين بـ"تاجر البندقية" المسكين ورفاقه، على شايلوك "الشرير" الذي خسر المعركة، ففقد نصف ثروته وحُكِمَ عليه باعتناق الدين الذي رفضه آباؤه وأجداده؟ والجواب قد يكون، ربما، أن شيكسپير لم يكن يستطيع أن يمرِّر شيئًا آخر في ظلِّ سيطرة الكنيسة التي كانت مهيمنة أيامئذٍ. والبرهان على ما أذهب إليه من افتراض قد يكون، ربما أيضًا، أن الفيلم، كما قدَّمه مايكل ردفورد وآل پاتشينو، لم ينتهِ بمشهد شايلوك باكيًا وشاكرًا الله لأنه حافظ على حياته وأعطاه نعمة أن يصبح مسيحيًّا، بل بمشهد شايلوك واقفًا وحيدًا وهو ينظر في تحدٍّ إلى الجميع. *** *** *** [1] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "جذور العنف: مقاربة تحليلية نفسية"، معابر، آب 2007.
|
|
|