الرِّسَـالَـة الوُجُـودِيَّـة

 

محيي الدين بن عربي

 

وأيُّ الأرض تخلو منكَ حتَّى * تعالَوا يطلبونكَ في السـماءِ
تراهم ينظرون إليك جَهْـرًا * وهُمْ لا يبصرون من العَماءِ
– الحسين بن منصور الحلاَّج

 

فمتى عرفتَ نفسَك ارتفعتْ أنانيتُك، وعرفتَ أنكَ لم تكن غيرَ الله.
– محيي الدين بن عربي

 

تقديم
التصـوُّف والحُـلُولـيَّة

لا نظنُّنا نغالي إن قلنا بأن الإسلام ككل محتوى في عقيدة التوحيد: فإثبات وحدانية الله وعدم الشرك به هو من عامة المؤمنين المحور الواضح البسيط الذي تدور عليه حياتُهم الدينية. أما الخاصة من أهل الباطن، فالتوحيد منهم هو الباب الذي ينفتح على الحقيقة الذاتية: فكلما أمعن عقلُ المتصوف، على هَدْي من بصيرته، في سَبْرِ ظاهر البساطة العقلانية للوحدانية الإلهية، تبيَّن له أن هذه البساطة أعمق غورًا وأشد تعقيدًا – إلى أن يبلغ به الأمرُ حدًّا يتعذر بعده التوفيقُ بين مختلف أوجُه التوحيد بالعقل الخطابي discursive reason وحده؛ إذ إن تفكُّره في هذه الأوجُه بالغٌ لا محالة بمَلَكة التفكير حدودَ استيعابها القصوى، وبذلك يتاح للعقل أن يختبر حالَ جَمْع[1] يتعدى كلَّ تصور شكلاني. في عبارة أخرى، فإن للكشف فيما يتعدى الصور وحده أن يرقى إلى الوحدانية.

المفهومُ المركزي الذي يتخلَّل مذهبَ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي كلَّه هو وحدة الوجود. ومازال الجدلُ دائرًا حول ما إذا كان يقصد بهذا المصطلح وصف عقيدة توحيدية لا يوجد بمقتضاها إلا الواحد وحده. بيد أن الإجابة بالإيجاب عن هذه المسألة لا تشير إلى نقلة حاسمة في الإلهيات الإسلامية، لأن ابن عربي لم يفعل، في الواقع، غير الدفع بمذهب المتكلِّمين الأشاعرة حتى أقصى مداه؛ إذ إن إصرار الأشعري على قدرة الله الكلِّية وهيمنته على الكون ينطوي، منطقيًّا، على أن الله هو خالق الأفعال، وبالتالي، الفاعل الأوحد[2]. لذا ترانا لا نجانب المنطق إنْ قلنا، قياسًا على ذلك، وعلى غرار ابن عربي، بأن الله هو الموجود الأوحد.

في كتابه الأشهر فصوص الحكم، يتكلم الشيخ الأكبر على التحقق الروحي بوصفه "تخللاً" متبادلاً بين الله والإنسان. فالله، إذا جاز القول، يتخذ الصورة البشرية: فمن منظور أول، يكون اللاهوت محتوى الناسوت، حيث الثاني "إناء" للأول، على حدِّ عبارته[3]؛ ومن منظور آخر، يُمتص الإنسانُ في الحق الذي يستهلكه تمامًا. في عبارة أخرى، يكون الحق حاضرًا في دخيلة الخلق (الإنسان)، ويكون الخلق ممحوقًا[4] في الحق. إنما لا بدَّ من فهم هذا الكلام من منظور مخصوص يتصل بالتحقق الروحي: فابن عربي، إذ يضع هذين النسقين من تخلُّل الله للإنسان وتخلُّل الإنسان لله جنبًا إلى جنب على التوازي، يدقِّق في "الفص الإبراهيمي":

اعلم أنه ما تخلَّل شيءٌ شيئًا إلا كان محمولاً فيه. [...] فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلقُ جميعَ أسماء الحق، سمعَه وبصرَه وجميعَ نسبه وإدراكاته. وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمعُ الخلق وبصرُه ويدُه ورجلُه وجميعُ قواه [...]. ثم إن الذات لو تعرَّت عن هذه النسب لم تكن إلهًا. وهذه النسب أحدثتْها أعيانُنا: فنحن جعلناه بمألوهيَّتنا إلهًا، فلا يُعرَف حتى نعرف. [...] فإن بعض الحكماء وأبا حامد [الغزالي] ادَّعوا أنه يُعرَف الله من غير نظر في العالم – وهذا غلط. نعم، تُعرَف ذاتٌ قديمة أزلية، لا يُعرَف أنها إله حتى يُعرَف المألوه – فهو الدليل عليه. ثم بعد هذا، في ثاني حال، يعطيك الكشف أن الحقَّ نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيَّته، وأن العالم ليس إلا تجلِّيه في صور أعيانهم الثابتة[5] التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوَّع ويتصوَّر بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها – وهذا بعد العلم به منَّا أنه إلهٌ لنا. ثم يأتي الكشف الآخر، فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضًا، ويتميَّز بعضنا عن بعض.[6]

في "التخلل" الأول، يكشف الله عن نفسه بوصفه الذات التي تعرف من خلال ملَكات الإنسان الإدراكية وتفعل عبر ملَكاته العملية؛ أما في "التخلل" الثاني، المعاكس للأول، فيتحرك الإنسان، إذا جاز القول، في أبعاد الوجود الإلهي التي، فيما يخصه، تُستقطَب بحيث تُقابِلُ كلَّ ملَكة أو صفة بشرية صفةٌ من الصفات الإلهية. وهذا معبَّر عنه في الحديث القدسي المشهور:

وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبُّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها.

كثيرًا ما التبست مذاهبُ المشرق الباطنية جميعًا (كما وبعض مذاهب الغرب) على الباحثين الغربيين "البرانيين"، وعلى "المتغرِّبين" من أبناء الشرق أيضًا، بمذهب الحلولية pantheism. غير أن الحلولية لا تصادَف في الواقع إلا في حالة عدد من الفلاسفة الأوروبيين وبعض الشرقيين ممَّن تأثروا بالفكر الغربي في القرن التاسع عشر. فالحلولية قد نشأت عن النزعة الفكرية عينها التي تفتَّقت، أولاً، عن المذهب الطبيعي naturalism، ومن بعدُ، عن المذهب المادي الحديث. يقول سيد حسين نصر:

أما ما أغفله النقَّاد ممَّن يتَّهمون الصوفيين بـ"الحلولية" فهو الفرق بين التوحيد الذاتي بين الوجود الظاهر ومبدئه الوجودي وبين عينيَّتهما واستمرارهما الجوهري. وهذا المفهوم الأخير مُحال عقلاً، ويتناقض مع كلِّ ما قاله محيي الدين [بن عربي] والصوفيون الآخرون في خصوص الذات الإلهية.[7]

فالحلولية، كما يتبين، لا تتصور العلاقةَ بين المبدأ الإلهي والعالم إلا من منظور الاستمرارية الجوهرية أو الوجودية – وهذا غلط ينبذه كلُّ مذهب باطني نقلي بما لا لبس فيه ولا إبهام[8].

فلو كانت ثمة استمرارية تجوِّز المقارنةَ بين الحق والخلق، بين الله والكون المتجلِّي، على نحو ما يُقارَن بين الغصن وجذع الشجرة الذي يتفرع منه الغصن، لكانت هذه الاستمرارية، أو لنقل، هذه "الذاتية" المشتركة بين الحدَّين، إما متعيِّنة بمبدأ أعلى لا تتميَّز عنه، وإما متعالية هي نفسها عن هذين الحدَّين اللذين تشد واحدَهما إلى الآخر وتكتنفهما جميعًا بمعنى ما، وبالتالي، لما كان الحق إذ ذاك هو الحق. لذا يصح، إلى حدٍّ ما، القولُ بأن الحق هو عينه هذه الاستمرارية أو هذه الأحدية، على ألا تُتصوَّر باعتبارها "خارجه"، وذلك لأن

[...] الحق لا ضد له، ولا ند له، ولا ينتسب إلى أين، [...] ليس بعَرَض فيحتاج إلى حامل يقوم وجودُه <عليه>، ولا بجوهر فيشارك الجواهر في حقيقة الجوهرية.[9]

وهو منزَّه عن كلِّ شيء متجلٍّ، لكنْ دون إمكان وجود شيء "خارجه" أو "سواه"، كما يؤكد صاحب الرسالة الوجودية[10]:

[...] كان ولا بَعْد معه ولا قبل، ولا فوق ولا تحت، ولا قُرْب ولا بُعْد، ولا كيف، ولا أين ولا حين، ولا أوان ولا وقت ولا زمان، ولا كون ولا مكان، وهو الآن كما كان.
هو الواحد بلا وحدانية، وهو الفرد بلا فردانية. ليس مركَّبًا من الاسم والمسمَّى: هو الأول بلا أولية وهو الآخِر بلا آخِرية، وهو الظاهر بلا ظاهرية وهو الباطن بلا باطنية
[...]. فلا أول ولا آخِر ولا ظاهر ولا باطن إلا وهو بلا صيران. [...] – فافهم هذا لئلا تقع في غلط الحلولية.
لا هو في شيء، ولا شيء فيه، لا داخلاً ولا خارجًا.
[...] لا يراه إلا هو، ولا يدركه إلا هو، ولا يعلمه إلا هو بنفسه، وبنفسه يعرف نفسه؛ يرى نفسه، لا يراه أحدٌ غيره.
حجابه وحدانيته، فلا يحجبه شيء غير حجابه. وجوده وحدانيته، تستَّر بوحدانيته بلا كيفية.

يقول سيد حسين نصر معلِّقًا على هذا المقبوس:

من الصعب أن يُتهَم بالحلولية مَن يذهب إلى هذا الحدِّ في تأكيد تعالي الله. إن ما يريد ابن عربي أن يثبته هو أن الوجود الإلهي متميِّز عن مظاهره وأنه متعالٍ عنها؛ إلا أن المظاهر ليست منفصلة من كلِّ وجه عن الوجود الإلهي الذي يكتنفها بوجه ما.[11]

فإذا عَرَضَ لبعض أهل الباطن من الصوفية أن يستعملوا صورة استمرارية "مادية" تعبيرًا عن الوحدة الجوهرية للأشياء، تمامًا كما يشبِّه الأدڤيتيون الهنود الأشياء بآنية تختلف من حيث الشكل لكنها جميًعا مصنوعة من الصلصال[12]، فإنهم على بيِّنة من قصور مثل هذا التشبيه. ناهيكم أن هذا القصور، البيِّن تمامًا، يدفع بعيدًا بالخطر المتمثل في قراءة القوم في أيِّ شيء أكثر من إشارة أو رمز. أما فيما يخص الإشارة نفسها، فإن مسوِّغها يتأسس على التناظُر المعكوس القائم بين الوحدة الجوهرية للأشياء – وكلها "مصنوع من العلم" – وبين وحدتها "المادية" التي لا تمت بصلة إلى أية نظرية "سببية" (بالمعنى الكوني للكلمة)، اللهم إلا أن يُعتبَر الحق العلة الأولى أو "السبب الأول"، فيكون بذلك "مسبِّب" كلِّ شيء.

ويحسن بنا هاهنا أن نضيف بأن الصوفي المتحقق لا ينزع أبدًا إلى تقييد الحقيقة بأيِّ نسق من أنساقها (كالاستمرارية الذاتية)، ولا في أية مرتبة من مراتبها (كالوجود المحسوس أو الوجود العقلي)، دون الأنساق أو المراتب الوجودية الأخرى؛ بل إنه، على العكس، يتعرف إلى مراتب للحقيقة لا عدَّ لها، ولا تقبل القَلْب، بحيث يجوز القول في النسبي إنه واحد ومبدأه[13]، أو حتى بأنه "عين" مبدئه، على الرغم من القول بأن الأصل مبطون في فرعه غير صحيح من منظور المبدأ الذي لا وجود لسواه، كما تلح الرسالة الوجودية مرارًا وتكرارًا. من هنا لا يصح أخذ قول فريد الدين العطار

سأقولُ لكم ما لم يُقَلْ:
أيُّ الأسرار بقي محتجبًا
<بعد أن> رأيت وجه الحبيب جهرًا؟
ها أنا ذا أشي بسرِّ الأسرار الخفية:

اعلمْ، أخي، أن النقش هو النقَّاش

على محمل الحلولية؛ وإنما مؤدَّاه أن الموجودات كلَّها، منظورًا إليها من حيث حقيقتُها الذاتية، هي الحق، من دون أن يكون الحق هو "عين" هذه الموجودات[14] – وهذا، لا بمعنى أن حقيقته تستبعدها، بل بمعنى أن حقيقتها في مرأى من كماله والعدمَ سيَّان[15]. وهكذا يكون وجود السواء، في نظر ابن عربي، هو "بطون الحق في الخلق والخلق في الحق"[16].

إن الأحدية، التي تغيب فيها الكثرةُ الوجودية أو تنعدم، لا تتناقض البتة وفكرةَ عدد غير محدود من مراتب الوجود: فهاتان الحقيقتان، على العكس، وثيقتا الصلة إحداهما بالأخرى. وهذا ينجلي حالما يُنظَر في الكمال الإلهي "من خلال" كلٍّ منهما: إذ ذاك فإن الكامل، إنْ صحَّ التمثيل، "يضيق" أو "يتسع" بحسب ما يُنظَر إليه إما في تعيُّنه المبدئي، أي الأحدية، وإما في انعكاسه الكوني، أي طبيعة الوجود الذي لا تنضب تجلياتُه ولا تني تتعيَّن. يدل على ذلك قول الشيخ الأكبر:

يا خـالـقَ الأشـياءِ في نفسـه * أنـتَ لِمَـا تخـلقُـه جـامـعُ
تخلقُ مـا لا ينتهـي كـونُه فيـ * ـك فأنـتَ الضـيِّقُ الواسـعُ[17]

إن هذا المنظور يمكِّننا من فهم أن مذهب التوحيد عند الصوفية (وهو بالدقة، على الرغم من الاختلاف في التسمية، مذهب "اللاثنوية" الڤيدنتي الهندي عينه) لا صلة البتة بينه وبين أية "وحدانية" monism فلسفية بالمعنى المعاصر، كما يحاول أن يزعم بعضُ منتقدي العارفين من الصوفية، كابن عربي وعبد الكريم الجيلي. فكما يقول سيد حسين نصر:

إن اصطلاح "الوحدانية الوجودية" monisme existentiel ليس تعريفًا مناسبًا [بوحدة الوجود] أيضًا، لأن "الوحدانية" [...] تفترض نظامًا فلسفيًّا فكريًّا يقابل مثلاً الثنوية، ولفظة "وجودية" تخلط بين الاستمرار الذاتي بين الأشياء ومبدئها وبين الاستمرار الجوهري، أو بين النظرة الأفقية والنظرة العمودية.[18]

وإن رأي هؤلاء النقاد لمما يزيد من دهشتنا، على اعتبار أن منهجية مذهب الصوفيَّين المذكورَين إنما تقوم على إبراز الأضداد الأونطولوجية القصوى وعلى النظر في الأحدية لا بالاختزال المنطقي العقلاني للعالم، بل بالجمع كَشْفًا بين الأضداد والنظائر في الخبرة الصوفية المباشرة[19]. يتابع سيد حسين نصر:

[الأحدية] مركز الدائرة التي يوجد الكل فيها الذي يقف العقلُ أمامه حائرًا. فهي تشتمل على اجتماع "الأضداد" الذي لا يمكن أن يُرَدَّ إلى مقولات العقل البشري أو إلى وحدانيةٍ تنعدم معها الفوارقُ الوجودية ويُغفَل الوضعُ المتعالي الذي يحتله المركزُ بالنسبة إلى كلِّ المتناقضات التي تنحل جميعًا فيه.[20]

أخيرًا، نترك المقال للشيخ الأكبر نفسه:

لو علمتَه لم يكن هو، ولو جهلكَ لم تكن أنت. فبعلمه أوجدك، وبعجزك عبدتَه. فهو هو لِهُوَ، لا لك، وأنت أنتَ لأنتَ ولَهُ. فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك. الدائرة، مطلقةً، مرتبطة بالنقطة؛ النقطة، مطلقةً، ليست مرتبطة بالدائرة؛ نقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة. كذلك الذات، مطلقةً، ليست مرتبطة بك. ألوهية الذات مرتبطة بالمألوه [أنت] كنقطة الدائرة [في ارتباطها بالدائرة].[21]

ديمتري أڤييرينوس

* * *

مراجع

-        ابن عربي (محيي الدين)، اصطلاح الصوفية، بتحقيق گوستاڤ فلوگل (نسخة بالأوفست ضمن كتاب التعريفات للشريف الجرجاني)، بيروت، 1985.

-        ابن عربي (محيي الدين)، الفتوحات المكية، بتحقيق وتقديم عثمان يحيى، السفر الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972.

-        ابن عربي (محيي الدين)، فصوص الحكم، بتحقيق وشرح أبو العلا عفيفي، بيروت، ب.ت.

-        الإسكندري (ابن عطاء الله)، الحكم العطائية، بضبط وتقديم إبراهيم اليعقوبي، دمشق/بيروت، 1985.

-        الجيلي (عبد الكريم)، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، القاهرة، 1981.

-        السهروردي الإشراقي، هياكل النور، بتقديم وتحقيق وتعليق محمد علي أبو ريان، القاهرة، 1957.

-        الحلاج (الحسين بن منصور)، الديوان، يليه كتاب الطواسين، صنعَه وأصلحَه كامل مصطفى الشيبي، كولن، 1997.

-        شنكرَ، معرفة الذات، حلقة الدراسات الهندية 4، بيروت، طب 1: 1997.

-        الكاشاني (عبد الرزاق)، اصطلاحات الصوفية، بتحقيق وتقديم وتعليق عبد الخالق محمود، القاهرة، طب 2: 1984.

-        الكلاباذي (أبو بكر محمد)، التعرف لمذهب أهل التصوف، بتحرير عبد الحليم محمود، بيروت، 1980 (نسخة بالأوفست عن طب القاهرة، 1960).

-        نصر (سيد حسين)، ثلاثة حكماء مسلمين، بترجمة صلاح الصاوي ومراجعة وتنقيح ماجد فخري، بيروت، 1986.

-          Schuon, Frithjof, Islam and the Perennial Philosophy, tr. J. Peter Hobson, Preface by Seyyed Hossein Nasr, World of Islam Festival Publishing Company Ltd, 1976.

* * *

 

الرسالة الوجودية
في معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم
"مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه"
للسيد الإمام العالم المحقِّق صاحب الشريعة والحقيقة
محيي الدين أبي عبد الله محمد بن العربي
الطائي الحاتمي الأندلسي

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين

في معنى قول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم –: "مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه"

الحمد لله الذي لم يكن قبل وحدانيته قبلُ إلا والقبل هو، ولم يكن بعد فردانيَّته بَعْدُ إلا والبَعْد هو. كان ولا بَعْد معه ولا قبل، ولا فوق ولا تحت، ولا قُرْب ولا بُعْد، ولا كيف، ولا أين ولا حين، ولا أوان ولا وقت ولا زمان، ولا كون ولا مكان، وهو الآن كما كان.

هو الواحد بلا وحدانية، وهو الفرد بلا فردانية. ليس مركَّبًا من الاسم والمسمَّى: هو الأول بلا أولية وهو الآخِر بلا آخِرية، وهو الظاهر بلا ظاهرية وهو الباطن بلا باطنية؛ أعني أنه هو وجود حروف "الأول" وهو وجود حروف "الآخِر"، وهو وجود حروف "الباطن" وهو وجود حروف "الظاهر". فلا أول ولا آخِر ولا ظاهر ولا باطن إلا وهو بلا صيران. هذه الحروف وجوده، وصيران وجوده هذه الحروف. – فافهم هذا لئلا تقع في غلط الحلولية.

لا هو في شيء، ولا شيء فيه، لا داخلاً ولا خارجًا. ينبغي أن نعرفه بهذه الصفة، لا بالعلم ولا بالعقل، ولا بالفهم ولا بالوهم ولا بالعين، ولا بالحسِّ الظاهر ولا بالعين الباطن ولا بالإدراك. لا يراه إلا هو، ولا يدركه إلا هو، ولا يعلمه إلا هو بنفسه، وبنفسه يعرف نفسه؛ يرى نفسه، لا يراه أحدٌ غيره.

حجابه وحدانيته، فلا يحجبه شيءٌ غير حجابه. وجوده وحدانيته، تستَّر بوحدانيته بلا كيفية. لا يراه أحدٌ غيره: لا نبي مرسل، ولا ولي كامل، ولا مَلَك مقرَّب يعرفه. نبيُّه هو، ورسوله هو، ورسالته هو، وكلامه هو: أرسلَ نفسَه بنفسه من نفسه إلى نفسه، لا واسطة ولا سبب غيره، ولا تفاوُت بين المرسِل والمرسَل به والمرسَل إليه. وجود حروف الثناء وجوده لا غير، لا ثناؤه ولا اسمه ولا مُسمَّاه.

ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم –: "عرفت ربِّي بربِّي، مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه."[22] وقال – صلى الله عليه وسلم –: "عرفت ربِّي بربِّي." أشار – صلى الله عليه وسلم – بذلك أنك لست أنت، <بل> أنت هو بلا أنت: لا هو داخل فيك ولا هو خارج منك، ولا أنت خارج منه ولا أنت داخل فيه؛ ولا بذلك أنك موجود وصفتك هكذا أبدًا: غني به. إنك ما كنت قط ولا تكون، لا بنفسك ولا فيه ولا معه، ولا أنت فانٍ ولا موجود. أنت هو، وهو أنت، بلا علَّة من هذه العلل. فإن عرفتَ وجودك بهذه الصفة فقد عرفتَ الله. – وإلا فلا.

وأكثر العُرَّاف أضافوا معرفة الله – تعالى – إلى فناء الوجود وفناء الفناء[23] – وذلك غلط وسهو واضح: فإن معرفة الله – تعالى – لا تحتاج إلى فناء الوجود ولا إلى فناء فنائه، لأن الشيء لا وجود له، وما لا وجود له لا فناء له؛ فإن الفناء بعد إثبات الوجود. فإذا عرفت نفسك بلا وجود ولا فناء فقد عرفتَ الله. – وإلا فلا.

وفي إضافة معرفة الله – تعالى – إلى فناء الوجود وإلى فناء فنائه إثباتُ الشرك، لأنك إذا أضفت معرفة الله إلى فناء الوجود وفناء الفناء، كان الوجود لغير الله ونقيضه – وهناك شرك واضح، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه"، ولم يقل: "مَن فني عن نفسه عرف ربَّه." فإن إثبات الغير يناقض فناءه، وما لا يجوز ثبوتُه لا يجوز فناؤه. وجودك لا شيء، واللاشيء لا يُضاف إلى شيء، لا فانٍ ولا غير فانٍ، ولا موجود ولا معدوم. <أنت> الآن كما كنتَ معدَمًا قبل التكوين. فالآن الأزل، والآن الأبد، والآن القِدَم. فالله هو وجود الأزل ووجود الأبد ووجود القِدَم؛ فإنه بلا وجود الأزل والأبد والقِدَم لم يكن كذلك ما كان وحده لا شريك له. وواجب أن يكون وحده لا شريك له: فإن "شريكه" هو الذي يكون وجودُه بذاته، لا بوجود الله؛ ومَن يكن كذلك لم يكن محتاجًا إليه، فيكون إذًا ربًّا ثانيًا – وذلك محال: فليس لله شريك ولا ندٌّ ولا كفؤ. ومَن رأى شيئًا مع الله أو من الله أو في الله – وذلك الشيء يحتاج إلى الله بالربوبية – فقد جعل ذلك الشيء أيضًا شريكًا يحتاج إلى الله بالربوبية. ومن جوَّزَ أن يكون مع الله شيءٌ يقوم بنفسه، أو يقوم به، أو هو فانٍ عن وجوده أو عن فنائه، فهو بعدُ ما شمَّ رائحة معرفة النفس، لأن مَن جوَّزَ أن يكون موجودًا سواه، قائمًا به، فيه يصير فانيًا في فنائه، فتسلسل الفناء بالفناء، – وذلك شِرْك بعد شِرْك، وليس بمعرفة النفس، – هو مُشْرِك، لا عارف بالله ولا بنفسه.

فإنْ قال قائل: "كيف السبيل إلى معرفة النفس وإلى معرفة الله؟"، فالجواب: سبيل معرفتها أن تعلم وتتحقق أن الله – عزَّ وجل – كان ولم يكن معه شيء، وهو الآن كما كان. فإنْ قال قائل: "أنا أرى نفسي غير الله، ولا أرى الله نفسي"، فالجواب: أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – بـ"النفس" وجودَك وحقيقتك، لا النفس المسمَّاة بـ"الأمَّارة" و"اللوَّامة" و"المطمئنة" [يوسف 53، القيامة 2، الفجر 27]؛ بل أشار بـ"النفس" إلى ما سوى[24] الله جميعًا، كما قال – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم أرِني الأشياء كما هي": عبَّر بالأشياء عما سوى الله – سبحانه وتعالى –، أي عرِّفْني ما سواك لأعلم وأعرف الأشياء أيَّ شيء هي: أهي أنت أم غيرك، أهي قديم باقٍ أم حادث فانٍ؟ فأراه الله – تعالى – ما سواه نفسَه بلا وجود ما سواه، فرأى الأشياء "كما هي"؛ أعني الأشياء ذات الله – تعالى – بلا كيف ولا أين.

واسم الأشياء يقع على النفس وغيرها من الأشياء. فإن وجود النفس ووجود الأشياء سيَّان في الشيئية: فمتى عرف الأشياءَ عرف النفس، ومتى عرف النفسَ فقد عرف الربَّ، لأن الذي يظن أنَّـ<ـه> سوى الله ليس هو سوى الله. ولكنك لا تعرف وأنت تراه، ولا تعلم أنك تراه. ومتى يكشف لك هذا السر، علمتَ أنك لست ما سوى الله، وعلمت أنك كنت مقصودًا، وأنك لا تحتاج إلى الفناء، وأنك لم تزل ولا تزال، بلا حين ولا أوان، كما ذكرنا قبل. جميع صفاته صفاتك، وترى ظاهرَك ظاهرَه وباطنَك باطنَه، وأولك أولَه وآخِرَك آخِرَه، بلا شك ولا ريب؛ وترى صفاتِك صفاتِه وذاتَك ذاتَه، بلا صيرورتك إيَّاه وصيرورته إيَّاك، ولا بقليل ولا بكثير.

"كلُّ شيء هالكٌ إلا وجَهه" [القصص 88]، بالظاهر والباطن، يعني: لا موجود إلا هو؛ ولا وجود لغيره فيحتاج إلى الهلاك. و"يبقى وجهُه" [الرحمن 27] يعني: لا شيء إلا وجهه. فكما أن مَن لم يعرف شيئًا، ثم عَرَفَه، ما فني وجودُه بوجود آخر، ولا تركَّب وجودُ المُنكِر بوجود العارف، ولا تداخَل بالأثر. <هنا> يقع الجهل: فلا تظن أنك تحتاج إلى الفناء؛ فإن احتجت إلى الفناء فأنت إذًا حجابه – والحجاب غير الله؛ فليزم غلبةُ غيره عليه بالدفع عن رؤيته له. – وهذا غلط وسهو.

قد ذكرنا قبل أن حجابه وحدانيته وفردانيَّته لا غير. ولهذا أجاز للواصل إلى الحقيقة أن يقول: "أنا الحق" وأن يقول: "سبحاني". وما وصل واصلٌ إليه إلا ورأى صفاتِه صفاتِ الله، وذاتَه ذاتَ الله، بلا كون صفاتُه ولا ذاتُه داخلاً في الله أو خارجًا منه قط، ولا أنه فانٍ من الله أو باقٍ في الله، <أو> يرى نفسه أنْ لم يكن له <وجود> قط لأنه كان ثم فني؛ فإنه لا نفس إلا نفسه، ولا وجود إلا وجوده. وإلى هذا أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: "لا تسبُّوا الدهر، فإن الله هو الدهر"، ونزَّه الله – تبارك وتعالى – عن الشريك والند والكفؤ.

ورُوِيَ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن الله – تعالى – قال: يا ابن آدم، مرضتُ ولم تَعُدْني، وسألتكَ ولم تُعطِني": أشار إلى أن وجودَ السائل وجودُه، ووجودَ المريض وجودُه. فمتى جاز أن يكون وجودُ السائل وجودَه ووجودُ جميع الأشياء من المكوَّنات من الأعراض والجواهر وجودَه، ومتى ظهر سرُّ ذرة من الذرات، ظهر سرُّ جميع المكوَّنات الظاهرة والباطنة؛ ولا نرى الذرين سوى الله، بلا وجود الذرين، اسمهما ومسمَّاهما، بل اسمهما ومسمَّاهما ووجودهما كلهما هو، بلا شك ولا ريب.

ولا ترى أنه – تعالى – خلق شيئًا قط، بل ترى "كلَّ يوم هو <في> شأنٍ" [الرحمن 29] من إظهار وجوده وإخفائه بلا كيفية، لأنه "هو الأول والآخِر والظاهر والباطن وهو بكلِّ شيء عليم" [الحديد 3]: ظهر بوحدانيته وبَطُنَ بفردانيَّته، وهو الأول بذاته وقيوميَّته وهو الآخِر بديموميَّته. وجود حروف "الأول" هو ووجود حروف "الآخِر" هو، ووجود حروف "الظاهر" هو ووجود حروف "الباطن" هو؛ هو اسمه وهو مسمَّاه.

وكما يجب وجودُه يجب عدمُ ما سوى: فإن الذي تظن أنه سواه ليس سواه، – تَنَزَّه أن يكون غيره، – بل غيرُه هو، بلا غيرية الغير، مع وجوده وفي وجوده، ظاهرًا وباطنًا.

ولِمَنِ اتصف بهذه الصفة أوصافٌ كثيرة لا حدَّ ولا نهاية لها. فكما أن مَن مات بصورته انقطع جميعُ أوصافه عنه، المحمودة والمذمومة، كذلك مَن مات بالموت المعنوي[25] ينقطع عنه جميعُ أوصافه، المذمومة والمحمودة، ويقوم الله – تعالى – مقامَه في جميع الحالات، فيقوم مقامَ ذاته ذاتُ الله – تعالى – ومقامَ صفاته صفاتُ الله – تعالى –. ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "موتوا قبل أن تموتوا"، أي اعرفوا أنفسكم قبل أن تموتوا؛ وقال – صلى الله عليه وسلم –: "قال الله تعالى: لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبُّه، فإذا أحببتُه كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا"، إلى آخره، فأشار إلى أن مَن عرف نفسه يرى جميع وجوده، ولا تغيرًا في ذاته ولا صفاته. ولا يحتاج إلى تغيُّر صفاته، إذ لم يكن هو وجود ذاته، بل كان جاهلاً بمعرفة نفسه. فمتى عرفتَ نفسَك ارتفعتْ أنانيتُك، وعرفت أنك لم تكن غير الله[26]. فإنْ كان لك وجود مستقل، لا يحتاج إلى الفناء ولا إلى معرفة النفس، فتكون ربًّا سواه. فتبارك الله – تعالى – أن يوجَد ربٌّ سواه.

ففائدة معرفة النفس أن تعلم وتحقِّق أن وجودك ليس موجودًا ولا معدومًا، ولست كائنًا ولا كنت ولا تكون قط. ويظهر لك بذلك معنى "لا إله إلا الله" [الصافات 35]: إذ لا إله غيره، ولا وجود لغيره؛ فلا غير سواه، ولا إله إلا إيَّاه. فإن قال قائل: "عطَّلتَ ربوبيتَه"، فالجواب: لم أعطِّل ربوبيته لأنه لم يزل ربًّا – ولا مربوب – ولم يزل خالقًا – ولا مخلوق –، وهو الآن كما كان. أترى خلاقته وربوبيته لا تحتاج إلى مخلوق ولا إلى مربوب: فهو بتكوين المكوَّنات كان موصوفًا بجميع أوصافه، وهو الآن كما كان. فلا تفاوُت بين الجهة والقِدَم: فوحدانية الجهة مقتضى ظاهريته، ووحدانية القِدَم مقتضى باطنيَّته. ظاهرُه باطنُه وباطنُه ظاهرُه، أولُه آخِرُه وآخِرُه أولُه، والجميع واحد والواحد جميع. كان صفته "كلَّ يوم هو في شأنٍ"، وما كان شيء سواه، وهو الآن كما كان. ولا موجود لما سواه بالحقيقة، كما كان في الأزل والقِدَم. "كل يوم هو في شأن"، ولا شيء موجود: فهو الآن كما كان. فوجودُ الموجودات وعدمُها سيَّان – وإلا لَلَزِمَ طيران طار لم يكن في وحدانيَّته، وذلك نقص. – وجلَّت وحدانيته عن ذلك.

ومتى عرفت نفسَك بهذه الصفة، من غير إضافة ضدٍّ أو ندٍّ أو كفؤ أو شريك إلى الله – تعالى – فقد عرفتَها بالحقيقة. ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم –: "مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه"، ولم يقل: "مَن أفنى نفسَه فقد عرف ربَّه." فإنه – صلى الله عليه وسلم – علم ورأى أن لا شيء سواه، ثم أشار إلى أن معرفة النفس هي معرفة الله – تعالى –، أي اعرف نفسك، أي وجودك أنك لست أنت، ولكنك لا تعرف؛ أي اعرف أن وجودك ليس بوجودك ولا غير وجودك: فلست بموجود ولا بمعدوم، ولا غير موجود ولا غير معدوم. وجودُك وعدمُك وجودُه بلا وجود ولا عدم، لأن عينَ وجودك وعدمك وجودُه، ولأن عينَ وجوده وجودُك وعدمُك.

فإنْ رأيتَ الأشياء بلا رؤية شيء آخر مع الله – تعالى – وفي الله أنها هو، فقد عرفتَ نفسَك. فإن معرفة النفس بهذه الصفة هي معرفة الله – بلا شك ولا ريب ولا تركيب شيء من الحدث مع القديم وفيه وبه. فإن سألك سائل: "كيف السبيل إلى وصاله؟ – فقد أثبتَّ أن لا غير سواه، والشيء الواحد لا يصل إلى نفسه"، فالجواب: لا شكَّ أنه في الحقيقة لا وَصْل ولا فَصْل، ولا بُعْد ولا قُرْب، لأنه لا يمكن الوصال إلا بين اثنين: فإن لم يكن إلا واحد، فلا وَصْل ولا فَصْل. فإن الوصال يحتاج إلى اثنين متساويين: فهما شبهان، وإن كانا غير متساويين فهما ضدَّان؛ وهو – تعالى – منزَّه أن يكون له ضد أو ند. فالوصال في غير الوصال، والقُرْب في غير القُرْب، والبُعد في غير البُعد، فيكون وَصْلٌ بلا وَصْل، وقُرْب بلا قُرْب، وبُعْد بلا بُعْد.

فإن قيل: "فهمنا الوَصْلَ بلا وَصْل. فما معنى القُرْب بلا قُرْب والبُعْد بلا بُعْد؟"، فالجواب: أعني أنك، في أوان القُرْب والبُعْد، لم تكن شيئًا سواه، ولكنك لم تكن عارفًا بنفسك ولم تعلم أنك هو بلا أنت. فمتى وصلتَ إلى الله – تعالى –، أي عرفتَ نفسَك بلا وجود حروف العرفان، علمتَ أنك كنت إيَّاه، وما كنت تعرف قبل أنك هو أو غيره. فإذا حصل العرفان، علمتَ أنك عرفت الله بالله، لا بنفسك.

مثال ذلك: هَبْ بمعنى أنك لا تعرف بأن اسمك محمود أو مسمَّاك محمود – فإن الاسم والمسمَّى في الحقيقة واحد –، وتظن أن اسمك محمد، وبعد أحيان عرفت أنك محمود، فوجودك باقٍ، واسم محمد ومسمَّى المحمود ارتفع عنك بمعرفتك نفسك أنك محمود. (ولم تكن محمدًا إلا بالفناء عن نفسك، لأن الفناء يكون بعد إثبات وجود ما سواه؛ ومَن أثبت وجودَ ما سواه فقد أشرَكَ به – تبارك وتعالى.) فما نقص من المحمود شيء، ولا محمد فني في المحمود، ولا دخل فيه ولا خرج منه، ولا حلَّ محمود في محمد. فبعدما عرف المحمودُ نفسَه أنه محمود، لا محمد، عرف نفسَه بنفسه، لا بمحمد، لأن محمدًا ما كان، فكيف يعرف به شيئًا كائنًا؟ فإذن العارف والمعروف واحد، والواصل والموصول واحد، والرائي والمرئي واحد. فالعارف صفتُه والمعروف ذاتُه، والواصل صفتُه والموصول ذاتُه، والصفة والموصوف واحد.

هذا بيان "مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه": فمَن فهم هذا المثال علم أنه لا وَصْل ولا فَصْل، وعلم أن العارف هو والمعروفَ هو، والرائي هو والمرئي هو، والواصل هو والموصول هو. فما وصل إليه غيرُه، وما انفصل عنه غيرُه. فمَن فهم ذلك خلص من شَرَك الشِّرْك. – وإلا فلم يشم رائحة الخلاص من الشرك.

وأكثر العُرَّاف الذين ظنوا أنهم عرفوا نفوسهم وعرفوا ربَّهم، وأنهم خلصوا من غفلة الوجود، قالوا إن الطريق لا تتيسَّر إلا بالفناء وبفناء الفناء، وذلك لعدم فهمهم قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم – ولظنِّهم أنهم – بمحض الشرك – أشاروا طورًا إلى نفي الوجود، أي فناء الوجود، وطورًا إلى الفناء، وطورًا إلى فناء الفناء، وطورًا إلى المحو، وطورًا إلى الاصطلام[27] – وهذه الإشارات كلها شِرْك محض: فإن مَن جوَّز أن يكون شيءٌ سواه ويفنى بعده، وجوَّز فناءَ فنائه، فقد أثبت شيئًا سواه؛ ومَن أثبت شيئًا سواه فقد أشرك به – تعالى –. – أرشدهم الله وإيَّانا إلى سواء السبيل.

شعر

ظنـنتَ ظـنـونًـا بأنَّـك أنـتَ * ومـا أن تكـونَ ولا قـط كنـتَ
فـإنْ أنـت أنـتَ فـإنَّــك ربٌّ * وثـانـي اثنـيـن، دَعْ ما ظننتَ
فـلا فـرق بيـن وجـوديـكمـا * فمـا بـانَ عنك ولا عنـه بِنْـتَ
فإن قلتَ – جهلاً – بأنَّـك غيـرَه * حَسُنْتَ، وإنْ زال جـهـلُك كُنـتَ
فوصـلُك هَجْـرٌ وهجـرُك وَصْـلٌ * وبُعدُك قُـرْب – بهـذا حَـسُـنْتَ
دَعِ العقـلَ وافهمْ بنـور انكـشـ * ـافٍ – ليلى تفوقُ ما عنه وصفتَ
ولا تُـشْـرِكْ مــع الله شـيـئًا * لئـلاَّ تهـونَ – فالشـرك هُـنْتَ

فإنْ قال قائل: "أنت تشير إلى أن عرفانك نفسَك هو عرفان الله – تعالى –، والعارف بنفسه غير الله، وغير الله كيف يعرف الله وكيف يصل إليه؟"، فالجواب: مَن عرف نفسَه علم أن وجوده ليس بوجوده ولا غير وجوده، بل وجودُه وجود الله بلا صيرورة، وجودُه وجود الله بلا دخول، وجودُه في الله ولا خروج منه. ولا يكون وجودُه معه وفيه، بل يرى وجودَه بحاله: ما كان قبل أن يكون، بلا فناء، ولا محو، ولا فناءِ فناء. فإن فناء الشيء بقدرة الله – تعالى –؛ وهذا محالٌ واضح صريح. فتبيَّن أن عرفان العارف بنفسه هو عرفان الله – سبحانه وتعالى – نفسُه، لأن نفسه ليس إلا هو. وعنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بـ"النفس" الوجود. فمَن وصل إلى هذا المقام، لم يكن وجودُه في الظاهر والباطن وجودَه، بل وجودُه وجود الله، وكلامُه كلام الله، وفعلُه فعل الله، ودعواه معرفة الله هو دعواه معرفة الله نفسَه بنفسه. ولكنك تسمع الدعوى منه، وترى الفعل منه، وترى غير الله كما ترى نفسَك غير الله، بجهلك بمعرفة نفسك. فإن "المؤمن مرآة المؤمن": فهو بعينه، أي ينظره؛ فإن عينَه عينُ الله، ونظرَه نظرُ الله بلا كيفية: لا هو هو بعينك أو علمك أو فهمك أو وهمك أو ظنك أو رؤيتك، بل هو هو بعينه وعلمه ورؤيته. فإنْ قال قائل: "إنِّي الله، فإن الله يقول: إنِّي الله"، فالجواب: لا هو، ولكنك ما وصلتَ إلى ما وصل إليه؛ فإنْ وصلتَ إلى ما وصل إليه، فهمتَ ما يقول، وقلتَ ما يقول، ورأيتَ ما يرى.

وعلى الجملة، وجودُ الأشياء وجودُه بك، بلا وجودهم. فلا تقضِ في شُبهة، ولا تتوهمنَّ بهذه الإشارات أن الله مخلوق. فإن بعض العارفين قال: "الصوفي غير مخلوق"، وذلك بعد الكشف التام وزوال الشكوك والأوهام. وهذه اللقم لمَن له خَلْقٌ أوسع من الكونين؛ فأما مَن كان خَلقُه كالكونين فلا توافقْه، فإنها أعظم من الكونين.

وعلى الجملة أن الرائي والمرئي، والواجِد والموجود، والعارف والمعروف، والموحِّد <والموحَّد>، والمدرِك والمدرَك واحد: هو يرى وجودَه بوجوده، ويعرف وجودَه بوجوده، ويدرك وجودَه بوجوده، بلا كيفية إدراك ورؤية ومعرفة، وبلا وجود حروف صورة الإدراك والرؤية والمعرفة. فكما أن وجوده بلا كيفية، فرؤية نفسه بلا كيفية، وإدراكه نفسه بلا كيفية، ومعرفة نفسه بلا كيفية.

فإنْ سأل سائل وقال: "بأيِّ نظر تنظر إلى جميع المكروهات والمحبوبات؟ فإذا رأينا، مثلاً، روثًا أو جيفة أنقول هو الله؟"، فالجواب: تعالى وتقدَّس حاشا ثم حاشا أن يكون شيئًا من هذه الأشياء! وكلامنا مع مَن لا يرى الجيفةَ جيفةً والروثَ روثًا، بل كلامُنا مع مَن له بصيرة وليس بأكْمَه. فمَن لم يعرف نفسه فهو أكْمَه وأعمى؛ وقبل ذهاب الأكْمَهية والعَمى، لا يصل إلى هذه المعاني ولا هذه المخاطبة مع الله – لا مع غير الله ولا مع الأكْمَه. فإن الواصل إلى هذا المقام يعلم أنه ليس غير الله. وخطابنا مع مَن له عزم وهمَّة في طلب العرفان وفي طلب معرفة النفس، ويطرُؤ في قلبه صورة في الطلب واشتياق إلى الوصول إلى الله – تعالى –، لا مع مَن لا قصد ولا مقصد له.

فإنْ سأل سائل وقال: "قال الله تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير" [الأنعام 103]، وأنت تقول بخلافه، فما حقيقة ما تقول؟"، فالجواب: جميع ما قلنا هو معنى قوله: "لا تدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصارَ"، أي ليس أحدٌ في الوجود، ولا بصر مع أحد يدركه. فلو جاز أن يكون غيرُه، لجاز أن يدركه غيرُه. وقد نبَّه الله – سبحانه وتعالى – بقوله: "لا تدركه الأبصار" على أن ليس غيره سواه، يعني لا يدركه غيرُه، بل يدركه هو. فلا غيره إلا هو: فهو المدرِك لذاته لا غير؛ فلا تدركه الأبصار، إذ <ما> الأبصار إلا وجوده. ومَن قال إنها لا تدركه لأنها مُحدَثة، والمُحدَث لا يدرِك القديم الباقي، فهو بعدُ لم يعرف نفسه. إذ لا شيء ولا الأبصار إلا هو. فهو يدرك وجودَه بلا وجود الإدراك وبلا كيفية لا غير.

شعر

عـرفـتُ الـربَّ بالـربِّ * بلا نَـقْـصٍ ولا عـيـبِ
فـذاتــي ذاتُـه حــقًّا * بـلا شــكٍّ ولا ريــبِ
ولا صـيران بينـهـمـا * فنفسـي مظـهـرُ الغيبِ
ومنـذ عـرفتُـه نفسـي * بـلا مَـزْجٍ ولا شَــوْبِ
وصـلتُ وَصْلَ محبـوبـي * بـلا بُـعْـدٍ ولا قُــرْبِ
ونلـتُ عطـاءَ ذي فيـضٍ * بـلا مـنٍّ ولا سَــلْـبِ
ولا فـنـيـتْ له نفـسي * ولا يـبـقــى لـه ذوب

فإنْ سأل سائل وقال: "أنت أثبتَّ الله وتنفي كلَّ شيء، فما هذه الأشياء التي تراها؟"، فالجواب: هذه المقالات مع مَن لا يرى سوى الله شيئًا. ومَن يرى شيئًا سوى الله فليس لنا معه جواب ولا سؤال؛ فإنه لا يرى غير ما يرى. ومَن عرف نفسَه لا يرى غير الله، ومَن لم يعرف نفسه لا يرى الله – تعالى –؛ وكل إناء يرشح بما فيه. وقد شرحنا كثيرًا من قبلُ، وإنْ نشرح أكثر من ذلك فمَن لا يرى لا يرى ولا يفهم ولا يدرك، ومَن يَرَ يرَ ويفهم ويدرك. فالواصل تكفيه الإشارة، وغير الواصل لا يصل، لا بالتعليم ولا بالتفهيم ولا بالتقرير ولا بالعقل ولا بالعلم – إلا بخدمة شيخ فاضل وأستاذ حاذق وسالك ليهتدي بنوره ويسلك بهمَّته ويصل به إلى مقصوده، – إنشاء الله تعالى.

وفَّقنا الله لما يحب ويرضى من القول والفعل والعلم والعمل والنور والهدى، إنه على كلِّ شيء قدير وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلَّى على سيدنا محمد وآله وصحبه المحبِّين وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

في بيان الطريق وبيان السالك والمسلوك إليه وبيان علاماتها

ابتداؤها السلوك، وانتهاؤها الأول في انتهاء السلوك وابتدائها الآخر. فإن لم تفهم هذه الإشارة ما شممتَ رائحة التوحيد. وأصل المقصود وجود الدائرة المدوَّرة، لا خارجها ولا داخلها. ابتداء الدائرة انتهاؤها، وانتهاؤها ابتداؤها. والدائرة طريق السير في الوجود. في معرفة النفس، الوجودُ هو المنزل سعةً. تبتدئ الطريق، ولكنه لا يعرف ولا يعلم، ويرى وجوده غير الله. فمتى وصل نفسه، أي وجوده، بلا شك ولا ارتياب، تبيَّن له سعةً أنه كان واصلاً في الابتداء أو موصولاً، ولكنه لا يعرف الوصول. ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه." والنبي – صلى الله عليه وسلم – عرف في الابتداء، وسلك الطريق بالمعرفة. ولهذا ابتداؤه انتهاءُ الصدِّيقين، وانتهاءُ الصدِّيقين ابتداؤه، لأنهم عرفوا الأسرار في الانتهاء. – وشتَّان بين مَن تقدَّم في الابتداء ومَن تقدَّم في الانتهاء. فابتداء العشق وجود المقصود وشوق إرادة المقصود. العشق هو والشوق أنت. ابتداءُ العشق الشوق، وانتهاء <الشوق> العشق. – فافهم ذلك.

ليس في المقام مقام أعلى وأجل في الابتداء من العشق، لأن جميع ما ذكرناه – وجود العشق، واسم العشق، وصورة العشق ومعناه – <هو> العشق ومقصود العشق. والدائرة، وجميع ما داخلها وخارجها، <هي> العشق: أعني العشق المعرَّى من العشق واسمه. – فافهم.

الشوق وجودُه، واسمُه ليس بمُحدَث ولا بقديم، بل هو هو، بلا حَدَثان. وقِدَمُ الشوق يصير في الابتداء عشقًا. وصاحب الشوق، متى وصل إلى الانتهاء، يرى شوقه عشقًا، ويعرف أن شوقه كان وجود العشق، ولكنه لم يعرفه، ويرى جميع المكوَّنات وجودَ العشق والمعشوق والعاشق، ولا يرى بينه وبين جميع المخلوقات تفاوُتًا، ويرى جميع المخلوقات وجودَه، ولا يرجِّح نفسه بالوَصْل على مَن لم يشم رائحة الوصول قط. ولا فرق بينه وبين الحيوانات والجمادات، وبين الشيء وضده؛ وهذه صفة مَن يكون وجوده الموصول، لا صفة الواصل والوصال والوَصْل، ولا صفة العاشق والعشق، بل صفة المعشوق، لأن التفاوت بين هذه الأشياء يكون في نظر مَن ليس له نظرٌ بعدُ. وأما مَن له نظر فلا تفاوُت بينها، بل الجميع سواء عند الله. – والله أعلم بالصواب.

تمَّت الرسالة الوجودية بعون الله – تعالى –
و<منَّة> منه وكرمه ولطفه؛ وبالله التوفيق؛
والحمد لله وحده؛ وصلَّى الله
على سيِّدنا محمد وآلِه
وصحبه وسلَّم.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] "الجمع: شهود الحق بلا خلق." (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية، ص 62)

[2] See: Frithjof Schuon, Islam and the Perennial Philosophy, pp. 118-21.

[3] ابن عربي، فصوص الحكم، "فص حكمة مهيَّمية في كلمة إبراهيمية"، ص 84. بالمثل، يقول الحلاج (الديوان، ص 26):

سبحانَ من أظهرَ ناسـوتُه * سرَّ سَنا لاهـوتِه الثاقـبِ
ثم بَدا في خَلْقِـه ظـاهرًا * في صورة الآكل والشـاربِ
حتى لقد عـاينَـه خَلْقُـه * كلحظةِ الحاجبِ بالحـاجب
ِ

[4] "المحق: فناء وجود العبد في ذات الحق [بحيث] لا يرى وجودًا إلا للحق." (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية، ص 96)

[5] "العين الثابتة: هي حقيقة الشيء في الحضرة العلمية؛ ليست موجودة، بل معدومة، ثابتة في علم الله [...]." (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية، ص 143-4)

[6] فصوص الحكم، "فص حكمة مهيَّمية في كلمة إبراهيمية"، ص 81-2. بمقدار ما يُتخلَّل الإنسانُ بالروح الإلهي، يعرف العقلُ الإنساني الأشياءَ كلَّها في أعيانها؛ لكن هذه المعرفة الذاتية على الإجمال تتمايز على التفصيل بمقدار ما ينخلع نورُ العقل على الأشياء المفردة.

[7] سيد حسين نصر، ثلاثة حكماء مسلمين، ص 138. راجع أيضًا مناقشة نصر (ص 138-9) لمصطلحَي "الحلول" panentheism (ر. نيكلسون) والتصوف "الطبيعي" mystique naturelle الذي أطلقه جاك ماريتان على التصوف الإسلامي وغيره من المذاهب الباطنية المشرقية (ويقابله عنده التصوفُ المسيحي "الفائق للطبيعة" surnaturelle). وجلي بالطبع أن موقف ماريتان وأشياعه من المفكرين الكاثوليك هو خير وسيلة لاستبعاد مذهب ذي خاصية عالمية، تنطوي الثقافاتُ جميعًا على شيء من بقاياه مازال حيًّا، وإنْ يكُ محفوظًا في بنى نقلية ثابتة قد تبلغ حدَّ الجمود أحيانًا كثيرة. إن هذا المذهب يجد في الإنسان تفتحَه النهائي عبر سيرورة تحقُّق منهاجُها وشكلُها ملازمان لكلِّ طريقة باطنية نقلية، أيًّا كانت، دون أن يقتضي هذا بالضرورة اطلاعَ جميع السالكين في الطريقة على المضمون العميق للمذهب. وهذه السيرورة الخاضعة لقوانين دقيقة للغاية ومتشابهة (مهما يكن الصعيد الذي تختص به) هي سيرورة المُسارَرة initiation.

[8] من الأسباب التي أوقعت المستشرقين في التباس وحدة الوجود بالحلولية، على ما يبدو لنا، اشتمالُ كلمة "وجود" العربية على معنيَي الأيس esse ("الكينونة") والوجود existentia، حيث إن كلمة "وجود" تتضمن معنى الكينونة أيضًا. من ذلك أن "الكينونة المطلقة" Absolute Being هي الوجود المحض في مذهب الصوفية. من هنا لا يُتصوَّر في الإلهيات المشرقية وجودٌ منفصل عن الكينونة أو الأيس. والفعل الثلاثي وجد يتضمن كذلك معنى "الإيجاد"، كما يتضمن بصيغة المبني للمجهول (وُجِدَ) معنى الوجدان، وبذلك يشير إلى تكافؤ معنيَي الكينونة والمعرفة (الوجدان) في "عينهما"، أي مبدئهما. يقول السهروردي القتيل في ذلك: "معرفةُ الشيء عينُ وجوده"، ويقول ابن عربي عن الوجود إنه "وجدان الحقِّ [أي معرفته] في الوجد" (اصطلاح الصوفية، ص 287)

[9] السهروردي، هياكل النور، الهيكل الرابع، الفصل الأول، ص 60.

[10] مهما يكن من أمر صحة نسبة هذه الرسالة إلى صوفية آخرين، فإنها تمثل قطعًا خلاصةً لمذهب الشيخ الأكبر في وحدة الوجود وذروةً له.

[11] ثلاثة حكماء مسلمين، ص 141.

[12] يقول الحكيم الهندي شنكراتشاريا: "الذات [آتما] هو حقًّا هذا الكون كله، وما من شيء آخر سوى الذات. يدرك اليوگي الذاتَ في كلِّ شيء كحال الصلصال من الجِرار، إلخ." (معرفة الذات، ف 48، ص 67)

[13] نقصد بكلمة "مبدأ" هنا العلَّة الأونطولوجية المستقلة عن معلولاتها.

[14] يقول شنكرا: "ليس كمثل برهمن شيءٌ من الكون؛ ولا يوجد شيءٌ إلا وهو برهمن. فإذا بدا أن أيَّ شيء سوى برهمن موجود فهو وهم، كالسراب في الصحراء." (معرفة الذات، ف 63، ص 71)

[15] يقول ابن عطاء: "الأكوان ثابتة بإثباته وممحوَّة بأحدية ذاته." (الحكم العطائية، الحكمة 141، ص 51)

[16] اصطلاح الصوفية، ص 297.

[17] فصوص الحكم، "فص حكمة حقِّية في كلمة إسحاقية"، ص 88.

[18] ثلاثة حكماء مسلمين، ص 139.

[19] يقول ابن عربي: "قال الخراز – رحمه الله تعالى، وهو وجه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه – بأن الله لا يُعرَف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها: فهو الأول والآخِر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره." (فصوص الحكم، "فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية"، ص 76-77) بالمثل، فإن الكاشاني (اصطلاحات الصوفية، ص 94) يسمِّي "الهوية المطلقة التي هي حضرة تعانُق الأطراف" بـ"مجمع الأضداد".

[20] ثلاثة حكماء مسلمين، ص 141.

[21] ابن عربي، الفتوحات المكية، السفر 1، ف 315، ص 212.

[22] أغلب الظن أنه ليس بحديث، بل هو كلام يُنسَب إلى يحيى بن معاذ الرازي. لكن ابن عربي لا يأبه كثيرًا لإسناد الحديث، بل يعوِّل على خبرته الروحية للتأكد من صحة معناه، يقول: "قد صحَّ لدينا تحققًا."

[23] بحسب الكلاباذي، الفناء "هو الغيبة عن الأشياء رأسًا" و"حال مَن لا يشهد صفتَه، بل يشهدها مغيَّبةً بمغيِّبها" (نقلاً عن أبي القاسم فارس)؛ و"الفاني"، بحسب الكلاباذي أيضًا، مَن "يغيِّبه [الله] عن رؤية صفته [...]، فلا يبقى فيه إلا ما مِنَ الله إليه، ويفنى عنه ما منه إلى الله، فيكون كما كان: إذ كان في علم الله قبل أن يوجِدَه [...]." وفناء الفناء هو أن "يؤخذ العبدُ من كلِّ رسم كان له وعن كلِّ مرسوم، فيبقى في وقته بلا بقاء يعلمه، ولا فناء يشعر به، ولا وقت يقف عليه، بل يكون خالقُه عالمًا ببقائه وفنائه ووقته [...]." (التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 125-7)

[24] "السوى: هو الغير، وهو الأعيان من حيث تعيُّناتها." (الجرجاني، التعريفات، ص 128)

[25] "الموت: باصطلاح القوم، قمع هوى النفس؛ فإن حياتها به، ولا تميل إلى لذاتها وشهواتها ومقتضيات الطبيعة البدنية إلا به. وإذا مالت إلى الجهة السفلية جذبت القلب، الذي هو النفس الناطقة، إلى مركزها، فيموت عن الحياة الحقيقية العلمية التي له بالجهل. فإذا ماتت النفس عن هواها بقمعه، انصرف القلبُ بالطبع والمحبة الأصلية إلى عالمه: عالم القدس والنور والحياة الذاتية التي لا تقبل الموت أصلاً." (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية، ص 105)

[26] مع ذلك، فإن الذات الفردية للإنسان المتحقق تبقى حتمًا على نحو ما؛ لكنها لا "تبقى" إلا بمعنى أن هذا الكائن الذي مازال يحمل اسم "إنسان" لا يشعر بأنه هو "نفسه" إلا بتخلل العقل الإلهي إياه. فلو لم يبقَ فيه شيءٌ من الذات الفردية بمعنى من المعاني لما وُجِدَ تواصُل ذاتي رابط ما بين خبراته البشرية. على أن العلاقة بين الحقيقة وبين ما تبقَّى من فردية الإنسان المتحقق روحيًّا من أعسر الأمور فهمًا: ففي الإنسان الذي بلغ هذه المرتبة من الكمال لا تعود الحقيقة "محتجبة" بشيء، في حين أن الوعي الفردي بالتعريف حجاب، وهو غير موجود إلا بمقدار ما يعكس النورَ الباهرَ للعقل الإلهي.

[27] "الاصطلام: نعت وَلَهٍ يَرِدُ على القلب، فيسكن تحت سلطانه." (ابن عربي، اصطلاح الصوفية، ص 292)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود