|
في ضرورة التمييز بين ثقافة المقاومة
وثقافة الانتحار في تحليلهم
للمشكلات الاجتماعية، عادةً ما يركِّز أغلب
علماء الاجتماع على الشروط الاجتماعية–السياسية
التي تشكل، من منظورهم، مفتاح فهم أيِّ نظام
اجتماعي في أسلوب عمله وآفاق تطوره، أو
بالعكس، في انسداده وانحطاطه. والتركيز على
هذه الشروط يضفي أهميةً مركزيةً على العلاقات
الاجتماعية وعلى طبيعة الأسُس والقواعد التي
تقوم عليها، بما تتضمَّنه من تنويعات في
الهياكل الاجتماعية والطبقية وتوزيع الثروة
وأنماط ممارسة السلطة وتوزيعها. وهم يخالفون
في ذلك نزعة قوية معاصرة، نشأت مع تطور
الأنثروپولوجيا الثقافية، تؤكد على العوامل
الثقافية وتجعل من هذه العوامل – أي من أنماط
المعرفة والإيديولوجيات والأفكار والمذاهب
والتقاليد التي تمثلها ثقافةٌ ما، كما درج
على ذلك المحلِّلون الأمريكيون الثقافويون –
مفتاحَ فهم سلوك المجتمعات ومصائرها. وعلى
الرغم من أنني لا أعتبر الثقافة عاملاً
محدِّدًا رئيسيًّا، بحسب المصطلحات
الماركسية التقليدية للعوامل المحدِّدة فيما
يتعلق بالمستوى الأول من التحليل الاجتماعي،
أي مستوى إنتاج النظام، فإنني أعتقد أنه من
دون تحليل العوامل الثقافية لا يمكن لنا أن
نفهم عملية إعادة إنتاج أي نظام، وبالتالي
استمراره. فالواقع أن المجتمع لا يخضع في
بلورة نظامه لعامل واحد يُشتق منه جميعُ
العوامل الأخرى، ولكنه ثمرة تضافُر عوامل
مختلفة نوعيًّا؛ وبالتالي، فهو نظام مركَّب،
وفي الوقت نفسه معقد. وهذا يعني أنه لا يوجد
نظام اجتماعي–سياسي من دون نظام ثقافي. وليس
ذلك بمعنى أن الأول خاضع للثاني، ولا أن
الثاني خاضع للأول أو تابع له، بل بالعكس؛ فإن
لكلِّ نظام اجتماعي–سياسي نظامًا ثقافيًا
موازيًا له ومرتبطًا به، ولا يمكن إعادة
إنتاجه من دونه، على الرغم من أن الثقافة ليست
هي الحاضنة للنظُم ولا المولِّدة لها. النظُم
الاجتماعية–السياسية نُظُم تاريخية تولد في
سيرورات الصراع الجيوسياسية والاقتصادية
والتقنية الكبرى، وتتخذ أشكالها المختلفة
ونمط وجودها من السياقات الخاصة التي ترافق
ولادتها. لكنها، منذ ولادتها، تتمفصل مع
نُظُم ثقافية وتعمل على بنائها حتى تضمن
لنفسها الاستقرار والاستمرار، أي الصدقية
والشرعية والديمومة. لكن
بعكس ما درج عليه المحلِّلون الغربيون
والمستشرقون أيضًا، أعتقد أنه من الخطأ
مطابقة هذه الثقافة، التي تشكل شرطًا
لاماديًّا لإعادة إنتاج نظام العلاقات
الاجتماعية المادية، مع التراث أو الإرث
الثقافي الماضي، ومن باب أولى مع الأديان
والاعتقادات الكبرى التي يشارك فيها عادةً
عددٌ كبيرٌ من المجتمعات المتباعدة في
بنياتها واختياراتها وقواعد عملها. فالثقافة
المعنيَّة هنا هي مجموع الخيارات الثقافية
التي يدفع إليها، ويشجِّع عليها، نظامٌ
اجتماعي–سياسي معين، والتي تشكل، في
المقابل، البيئة اللامادية التي تضمن بقاءه.
وهذه الخيارات لا علاقة لها بالثقافة
التقليدية المفترَضة لأيِّ مجتمع أو شعب.
إنها تنبع من التأويلات التاريخية المتغيرة
التي يقوم بها المجتمع لهذه الثقافة وللتراث
المرتبط بها، بالإضافة إلى الاقتباسات
العديدة والحاسمة التي يستعيرها من الثقافات
الأخرى ومن عصور ثقافية متباينة، ليكوِّن
نظامًا ثقافيًّا منسجمًا مع النظام المجتمعي
القائم. والنظام
العربي الاجتماعي–السياسي القائم قد طور
ثقافة لا علاقة لها في الواقع بالإسلام، ولا
بالثقافة العربية الكلاسيكية، ولا حتى
بالثقافة المنبثقة عن عصر اليقظة العربية في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر – اللهم
إلا من حيث المظهر وحسب. إنها ثقافة جديدة
نشأت في العقود الماضية عبر المقاومات
المتعددة الأشكال ضد السيطرة الخارجية،
المتعددة الأوجُه والأشكال أيضًا. وهو ما
شكَّل جوهر تجربة العرب الجماعية التاريخية
في العصر الحديث. ففي
ردِّ فعله على هذه السيطرة، وفي موازاتها،
ولَّد المجتمع، على مستوى الأفراد والجماعة
ككل، نظامًا جديدًا من الاستعدادات
والتوجهات والتطلعات والتفاعلات ومبادئ
العمل والقيم والأفكار التي كونت ثقافة أو
نظامًا ثقافيًّا جديدًا يمكن لنا وصفه بأن
"ثقافة المواجهة" في أشكالها المختلفة
قيمتُه الرئيسية. لكن
من ثقافة مواجهة السيطرة هذه، وفي طياتها،
سوف ينشأ ما أسمِّيه ثقافة مضادة أو "ثقافة
الضد"، التي تدفع المجتمع إلى توجيه طاقاته
الفكرية والنفسية كلِّها لحماية الذات ودفع
الأذى عنها، بدل العناية بتجديدها وتثوير
أسُس بقائها. وهي، على العموم، ثقافة تبجيلية
للذات وتشهيرية بالآخر، تسيطر عليها القيمُ
والتوجهاتُ السلبية، وتفتقر إلى ملَكات
التفكير البنَّاء، المبدع، البعيد المدى،
حتى فيما يتعلق بمقاومة السيطرة الخارجية،
وتَغْلِبُ عليها الآلياتُ الدفاعية والميولُ
التبريرية وضعفُ الحساسية لكلِّ ما يُحيل إلى
الأخلاق والقانون والحق والجمال، في مقابل
نزوعها المتأصل إلى الرهان على القوة
والعنف. بمعنى
آخر، لقد سكَنَنا هاجسُ السيطرة الأجنبية،
حتى سمَّم حياتنا وأبعدنا عن الاهتمام ببناء
مجتمعاتنا نفسها من الداخل، فأصبحنا
مستلَبين لها، نقوم بإنتاجها في الواقع
المادي بقدر ما ننتجها في أذهاننا ونُشرِطُ
وجودَنا بها. لقد أمسينا رهائن هذه السيطرة
بقدر ما نجحت في أن تجعلنا دائرين في فلكها،
غير قادرين على تصور أنفسنا وتحديد هويتنا من
دونها أو بعيدًا عنها. بل لقد أصبحت هذه
السيطرة نفسها لا تستمر إلا بمقاومتنا ولا
تعيش إلا منها وبها، تمامًا كما لا تعيش
الحربُ المعلَنة ضد الإرهاب من دون إرهاب ولا
يمكن تبريرها إلا به. هكذا
أصبحنا ضحايا السيطرة التي نكافح ضدها بقدر
ما سمحنا لهاجسها بأن يسكننا ويحرمنا من فرصة
التحرر النفسي منها، أي التفكير المستقل
والأصيل النابع من مطالب أخلاقية ومدنية –
وهو شرط تكوين الذاتية الضرورية لأيِّ فعل
حرية بنَّاء ولأيِّ تحرر فعلي من السيطرة
الخارجية. والحال
أننا بقدر ما فقدنا هذه الذاتية بالانمحاء في
السيطرة ذاتها التي نحارب ضدها والتفكير من
خلالها وكردِّ فعل عليها، أي بقدر ما أصبحت
ثقافتنا نفسها ردود أفعال، فقدنا القدرة على
الفعل التحرري ولم نعد نعيش الحرية إلا
كفاحًا ضد السيطرة الخارجية، لا الحرية كشرط
تكوينيٍّ ومشروع لبناء ذات مستقلة فعلية.
وبقدر ما أصبحت ثقافتنا ردود أفعال على ثقافة
الخصم ورفضا لها وتصديًا لكلِّ ما يصدر عنها،
لم تعد لدينا في الواقع "ثقافة" بالمعنى
الحقيقي للكلمة، أي خيارات خاصة مستمَدة من
مشروع بنائنا الخاص وبناء ذاتيتنا المستقلة.
وهكذا أصبحت ثقافتنا هي رفض ثقافة الآخر
وقيمه، وفي ما وراء ذلك، التجرد من القيم
الثقافية ذاتها. الثقافة
المضادة التي أصبحنا حامليها أسوأ من التبعية
الثقافية، لأنها استلاب محض يغطِّي على نفسه
باسم "المقاومة" ويوهم نفسَه بأنه "حر"،
لا لأنه يملك شروط الحرية، بل لأنه يرفض "العبودية"
المفروضة عليه، في الوقت الذي يعيد فيه
إنتاجَها في ردود أفعاله نفسها. ولأننا فقدنا
الحرية التي لا ثقافة من دونها، وجعلنا من
حرية الآخرين وثقافتهم عدوًّا لنا، حكمنا على
أنفسنا بأن نعيش في فراغ يعادل شرط الهمجية
بقدر ما يعني غياب أيِّ معيار حقيقي وفعَّال
نُخضِعُ له أفعالَنا وسلوكَنا الفردي
والجماعي. والواقع
أن الغريزة، كما تتجسد في المصلحة الآنية
والمادية، هي التي تغلب في "ثقافة الضد"
على سلوك الفرد وتوجهاته، وهي التي تفسر
تأويلنا السلبي العبودي اللاأخلاقي الراهن
لعقائدنا الدينية وقيمنا التراثية وهويتنا،
حتى لو كان الخطاب الذي يرافقها يكرِّر إلى ما
لا نهاية كلماتٍ من نحو "الحرية" و"الاستقلال"
و"الهوية". بل إن هذا التكرار يعكس
تمامًا غياب الحرية والاستقلال والهوية، أي
غياب كلِّ ما يؤسِّس لثقافة ولمنظومة أخلاقية
مستدامة. الحل
ليس في ترك المقاومة أو إلغاء قيمها
والانصهار في المعتدي والمتسلِّط المتجبِّر،
الداخلي والخارجي معًا – فهذا هو الانتحار
بعينه –، بل في إخضاع برنامج المقاومة
لبرنامج بناء الذاتية. وهو ما يجعل من بناء
الحرية الشخصية، أي بناء الوعي والضمير
والإرادة عند كلِّ فرد، ومن وراء ذلك تأسيس
الفعل الأخلاقي، وتاليًا الثقافة، شرطًا لا
بدَّ منه للحرية الخارجية. من دون ذلك لن تكون
المقاومة إلا استهلاكًا للذات وإفقارًا
مستمرًّا للروح واستنفادًا لآخِر ما تبقَّى
لنا من قيم المدنية الموروثة وتراثها. لن
نتغلب على الغربيين المسيطرين بتبنِّي وسائل
همجية، حتى لو حقَّقنا انتصاراتٍ ماديةً
عليهم، تكلِّفنا أضعافَها من الناحية
المدنية والروحية، كما يدل على ذلك ما يحصل في
العراق من انفلات النزاعات الطائفية
والعشائرية والمذهبية. وهو ما يعني أنه ليس
هناك حل خارج إعادة بناء الثقافة والحياة
المدنية والأخلاقية التي لا تقوم دولةٌ من
دونها. ***
*** *** عن
Middle East Online،
21/09/2007 [*]
أستاذ علم
الاجتماع السياسي ومدير "مركز دراسات
الشرق المعاصر"، جامعة السوربون، باريس. |
|
|