|
نحو تحليل ثقافي
للتطرُّف الإيديولوجي إذا كان
التطرفُ الإيديولوجي، مثله في ذلك مثل
العولمة، ظاهرةً "تملأ الدنيا وتشغل الناس"،
إلا أنه ينبغي في الواقع أن نركِّز على التطرف
الإيديولوجي الذي يُنسَبُ إلى الإسلام –
زورًا وبهتانًا. وهذا التركيز المطلوب على
الظواهر المتعددة للتطرف الإيديولوجي
الإسلامي يجد مبرِّره في تحول هذا التطرف في
العقود الأخيرة إلى إرهاب عابر للقارات! –
بمعنى أنه لم يكتفِ بتوجيه ضرباته إلى
الأنظمة السياسية الحاكمة في بلاد عربية أو
إسلامية محددة، على أساس أنها تمثل الطغيان
الذي ينبغي مواجهتُه بالانقلاب عليه
باستخدام الوسائل كلِّها، بما في ذلك قتل
المدنيين الأبرياء، ولكنه وسَّع من نطاق
رؤيته الإرهابية ليضع في دائرة أهدافه الغرب
عمومًا، باعتباره يمثل "الكفر" و"الانحلال". وربما
تعبِّر "نظرية الفسطاطين" التي صاغها
أسامة بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة"، عن
هذه الرؤية خير تعبير. فهناك في العالم، كما
يزعم، فُسطاطان: "فُسطاط الكفر"، ممثلاً
بالغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، و"فُسطاط
الإيمان"، وعلى رأسه الدول الإسلامية، بعد
الانقلاب على أنظمتها السياسية المستبدة
وتطبيق الشريعة الإسلامية فيها. ولعل
الاهتمام العالمي المتزايد بالتطرف
الإيديولوجي والإرهاب الإسلامي يجد مبرِّره
في أحداث 11 أيلول، حين وجَّه تنظيم "القاعدة"
ضرباتٍ إرهابيةً مؤثرة إلى مراكز القوة
الأمريكية، بالإضافة إلى أحداث إرهابية أخرى
وقعت في إسبانيا وإنكلترا، ناهيكم عن الأحداث
الإرهابية التي وُجِّهَتْ ضد السعودية
والمغرب والجزائر وغيرها من البلاد. ومعنى
ذلك أن المساحة العالمية للتطرف الإيديولوجي
والإرهاب احتلها التطرف والإرهاب
الإسلاميَين، بعدما خلت الساحة من الإرهاب
الألماني والإيطالي والياباني الذي ساد من
خلال منظمات إرهابية معروفة خلال عقدَي
الستينيات والسبعينيات. المواجهة الثقافية للتطرف ولعل
السؤال الرئيسي الذي ينبغي إثارته الآن هو:
كيف نواجه التطرف؟ هناك إجابة تقليدية تتمثل
في استخدام الوسائل الأمنية والأدوات
السياسية. وهو منهج عقيم، في تقديرنا، لأنه
ليس بالأمن وحده يُجابَه الإرهاب. وهناك
إجابة أخرى نتبنَّاها، تتمثل في منهج
السياسة الثقافية التي تقوم على أساس تحليل
ثقافي عميق لظواهر التطرف والإرهاب. ولو
أردنا أن نعدِّد مفردات المنهج الأمني
والسياسي (وهو منهج ضروري، لكنه ليس كافيًا)
لوجدناها تتمثل في عديد من الأساليب: من بينها
سياسة تدمير شبكات التطرف والإرهاب من خلال
أجهزة الأمن والقانون، وإثارة الانقسامات
بين مختلف الجماعات الإرهابية تحت شعار "فرِّق
تسد"، وعزل العناصر المتطرفة وإفساح
المجال للعناصر المعتدلة حتى يسود خطابُها في
المجتمع، مع تركيز على "الوسطية". ولعل
أبرز هذه المفردات هو المواجهة العنيفة
الحاسمة مع العناصر المتطرفة والإرهابية
لاستئصالها من المجتمع. وإذا
كانت هذه الوسائل يمكن لها أن تكون متفاوتة
الفعالية على المدى القصير، إلا أنها لا تصلح
لمواجهة التطرف والإرهاب على المدى الطويل،
لأن هذه الظاهرة عادة ما تعبِّر عن "رؤى
للعالم"، لها جذور في الثقافة، من خلال
تأويلات منحرفة للنصوص الدينية، بالإضافة
إلى أنها تعبير بليغ عن التأخر السائد في
المجتمعات العربية والإسلامية، نتيجة
لارتفاع معدلات الجهل والأمِّية بين
الجماهير العريضة، وبسبب انحياز شرائح من
النخب المثقفة للتفسيرات الدينية المتطرِّفة
لأسباب شتى. وفي تقديرنا أنه لا بدَّ من إجراء
تحليل ثقافي معمَّق لظاهرة التطرف والإرهاب،
تمهيدًا لاقتراح سياسات ثقافية فاعلة،
قادرة على مواجهة هذه الظواهر على المدى
الطويل. ولو
أجرينا هذا التحليل الثقافي، لاكتشفنا أن في
مقدمة الأسباب اختراق الجماعات المتطرفة
نظام التعليم بكلِّ مؤسَّساته. فقياداتها
على وعي دقيق بأن التنشئة المبكرة على التطرف
الإيديولوجي يجعل من التلامذة والطلبة، حين
يشبون عن الطوق، أدواتٍ طيِّعةً يمكن لهم
تجنيدها في شبكات الإرهاب المحلِّية
والقومية والعالمية. ويساعد على هذا الاختراق
أن التعليم في البلاد العربية والإسلامية
يقوم على التلقين وتقوية الذاكرة، ولا يقوم
على النقد ولا على الحوار بين الأفكار. في
عبارة موجزة، النظام التعليمي يبذل جهده
كلَّه لصوغ العقل الاتباعي، ويتجنب صياغة
العقل النقدي. ولعل
هذا الاتجاه السلبي العقيم تشجِّعه تشجيعًا
مباشرًا وغير مباشر الأنظمةُ السياسية
العربية والإسلامية المستبدة، لأن العقل
الاتباعي تسهُل السيطرةُ عليه، في حين أن العقل
النقدي متمرد بطبيعته. ومع ذلك، فإن
المفارقة التاريخية تؤكد أنه حتى البلاد التي
ساعدت السلطة فيها على تخليق العقل الاتباعي،
نشطتْ فيها الجماعاتُ الإرهابية التي
استهدفت السلطة نفسها، باعتبارها طاغية
وكافرة! فإذا
أضفنا إلى ذلك ازدواجية أنظمة التعليم،
حيث نجد تعليمًا مدنيًّا في جانب وتعليمًا
دينيًّا خالصًا في جانب آخر (مثاله البارز
التعليم الأزهري في مصر، والمدارس الإسلامية
في پاكستان)، أدركنا أن هذه
الازدواجية أحد أسباب التطرف الإيديولوجي.
فالتعليم الديني، كما يمارَس فعلاً، يساعد
على بلورة رؤى للحياة تتسم بالانغلاق، ويغلب
على دراساته النقل، وليس العقل.
والتعليم الديني التقليدي أكثر استعدادًا
لقبول الخرافات التي تُنسَبُ إلى مصادر دينية
ولتصديقها، وهي ليست كذلك. بالإضافة إلى آلية
التأويل المنحرف للنصوص الدينية التي
تطبِّقها الجماعات المتطرفة والتي تضفي
الشرعية الدينية على أهدافها وأساليبها
الإجرامية، ومن بينها تحليل أموال المسلمين
وتشريع قتلهم، سعيًا وراء تحقيق هدفهم
الأسمى، وهو الانقلاب على الدول العَلمانية
وتأسيس الدول الدينية التي تقوم على الفتوى،
وليس على التشريع، تحت رقابة الرأي العام،
بواسطة مجالس نيابية منتخَبة في سياق نظام
ديموقراطي، يقوم أساسًا على الانتخابات
الدورية وتداوُل السلطة وحرية التفكير
والتعبير والتنظيم وسيادة القانون. وقد
لاحظنا في السنوات الأخيرة في العالم العربي
خطورة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في نشر
الفكر المتطرف نشرًا مباشرًا أو غير مباشر. بل
إن بعض المنابر والأصوات الليبرالية
واليسارية تدافع عن حق الجماعات المتطرفة في
الوجود السياسي، مع أن فكرها "الانقلابي"
لا يمكن له بتاتًا أن يحترم مبادئ
الديموقراطية. وإذا أضفنا إلى ذلك القنوات
الفضائية الدينية التي تنشر الفكر المتطرف من
خلال التأويلات المنحرفة للنصوص الدينية،
بالإضافة إلى نشر الفكر الديني الخرافي،
أدركنا عمق التأثير الذي تُحدِثُه في
الجماهير العريضة. ويمكن
القول إن الخطاب الرسمي للسلطة العربية
أحيانًا ما يغازل المشاعر الدينية للجماهير،
من خلال المزايدة المؤسفة على فكر الجماعات
المتطرفة، سعيًا لتأكيد شرعيتها السياسية
المفتقَدة. وفي سياق التحليل الثقافي، لا
يجوز أن نتجاهل ظاهرة الإحباط الجماعي
للجماهير العريضة نتيجة الفشل الحكومي
الذريع في إشباع الحاجات الأساسية للجماهير،
وانتشار الفساد، وغياب المحاسبة. ومما
لا شك فيه أن ما يُفاقِمُ من ظواهر التطرف
الإيديولوجي تهافُت الخطابات الليبرالية
والعَلمانية وعجزها عن الوصول إلى الجماهير
العريضة من خلال خطاب سياسي وثقافي سهل
التناول، قادر على إقناع الناس والتأثير في
اتجاهاتها وسلوكياتها. وأيًّا
ما كان الأمر، فإن مما يزيد من خطورة التطرف
الإيديولوجي أنه يقوم على دعامتين: النقد
المطلق للغرب، باعتباره كتلة واحدة، لا
تمايُز بين جوانبها المتعددة، وباعتباره "أصل
الشرور" في العالم، من جانب؛ ومن جانب آخر،
تضخُّم الذات المَرَضي الذي ينزع إلى أن
المسلمين فقط، بمفردهم، هم الذي سيُصلحون من
حال البشرية! *** *** *** عن
النهار، 24 نيسان 2007 [*] مفكر
وكاتب مصري.
|
|
|