بدوي الجبل في الذكرى
الـ25 لرحيله
التعبير الشعري الصارخ والصوت
المدوِّي في وجه الاستعمار والاستبداد
پول
شاوول
بدوي
الجبل (1905-1981)، أكبر شاعر
سوري كلاسيكي، وارث الديباجة الشعرية
العربية العريقة، لاسيما العباسية، ووارث
القصيدة–الموقف، والقصيدة الفصل، والقصيدة–
الصوت الصارخ في وجه الاستبداد، والقهر،
وظواهر الفساد، ونتاج الهزائم، ومظاهر
التخلف، والمهلِّل لمعارك التحرير
والاستقلال، والموقع الوطني المتين. بدوي
الجبل، نتذكَّره اليوم، بعد ربع قرن من رحيله
– رحيل عزَّ على كثير من الشعراء، والأحرار،
والمدافعين عن الحرية والكرامة.
بدوي
الجبل، كأنه مازال معنا اليوم، في قصائده
السياسية، المدوِّية، الجريئة، وفي قصائده
الاجتماعية والغزلية. مازال بيننا، اليوم،
كأنه لم يغادر. بل كأنه، في صلب همومنا،
وهواجسنا، ونوازعنا، في الخلاص من ميراث
سياسي، وإيديولوجي، تحول عبئًا ثقيلاً على
الشعب العربي.
مازال
"بدوي الجبل" ذلك الضمير الشعري الحي، في
قلوبنا، وعقولنا – ذلك الضمير الذي ظل "مستقلاً"،
على الرغم من كلِّ ما تعرَّض له من ضغوط،
وترهيب، وطمس – وصلتْ إلى حدِّ حذفه من
أنثولوجيتين شعريتين، حيث بحثنا عن اسمه ولم
نجد له أثرًا! لكن عندما بحثنا في ذاكرتنا،
ومشاعرنا، ووعينا، وجدنا له الحيز الرحب،
والبصمات، والعبرة، والسبيل.
بدوي
الجبل، اشتعلت حياته بالهموم، والتهبت
بالهمم. كان ضميرًا حيًّا، حساسًا، يقظًا،
شغوفًا. ما افترقت الكلمة عنده عن الحريق
العام، ما افترقت الكلمة عن الفعل، القصيدة–الفعل،
التي تحفر في وجدان الجموع، وتحرك عواطفهم،
وتدفعهم إلى التوغل أكثر فأكثر في المخاطرة
والموت والتضحية.
بهذه
القصيدة–الفعل (وهنا القصيدة أكثر من أداة)،
واجه بدوي الجبل مرحلة من أكثر المراحل
التباسًا عند الشعوب العربية، مرحلة الخروج
من الاستعمار التركي والدخول في دوامة
الاستعمار الغربي (الفرنسي–الإنكليزي)،
بكلِّ بشاعته وتنكيله؛ ومن بعدُ، بعد مراحل
التحرر والجلاء، الدخول في الصراعات العربية
الداخلية، والأزمات الاجتماعية، وصولاً إلى
نكسة 1967، وباقي النكسات غير المعلَنة، وباقي
النكسات التي "انتصر" فيها العرب!
في
هذه الفترات، كان بدوي الجبل يحاول أن يجعل من
القصيدة رديف الموقف، في حوار لا ينتهي، في
تآلف وانسجام وتوحد. كأنه أراد بذلك أن يجعلها
في قلب الموقف، في صميم الحدث، تنبع منهما،
ولا تفارقهما، تؤرخ لحركتهما من الداخل: من
داخل الشاعر، ومن داخل المعطيات. من هنا، يمكن
القول إنه، إذا قيل إن "الشعر ديوان العرب"،
فإن شعر بدوي الجبل "ديوانه"، وتاليًا،
ديوان مرحلة تمتد من وطنه سوريا لتدرك
أوطانًا عربية أخرى، كما كافح وسعى وحلم بها:
موحَّدة، مرصوصة، مرصوفة في وجه الاستعمار،
على مختلف أشكاله وصوره.
إن
هذا الاتجاه التاريخي يسجل، في ما يسجل،
وبالنبرة العالية، شريطًا طويلاً، مسَّه
شاعرنا بالشعر، سواء طال هذا التاريخ إلى
المناسبات الوطنية أو القومية أو الاجتماعية
أو الشعرية أو سواها. لقد كان نوعًا من الخطاب
السياسي الوجداني، الحاد، المحرض، القاسي،
الملحاح، ليكون، بذلك كلِّه، معبرًا عن ضمير
أمَّة تمزِّقها الأحداث الكبرى والصغرى.
وبدوي
الجبل، من ضمن هذا الهاجس الوطني والقومي
المحرض، استرسل في بثِّه في مجمل أغراضه، من
رثاء إلى هجاء (ويسميه "حقدًا" على
الاستعمار والشر)، وحتى إلى الغزل. إنه الشعر
السياسي بامتياز. أوليس من هذا القبيل رثى
شخصيات سورية وعربية، كرياض الصلح وسعد الله
الجابري وإبراهيم هنانو وفارس الخوري ويوسف
العظمة؟ أوليس من هذا القبيل تصدى للفرنسيين
بعدما اقتحموا دمشق إثر معركة ميسلون
واستشهاد وزير الدفاع آنذاك يوسف العظمة؟
أوليس من هذا القبيل، أيضًا، أن بدوي الجبل
عندما "راح الفرنسيون في العام 1939 يغرون
العلويين والدروز والجزيرة الفرنسية
بالانفصال"، ظل "هو وإخوانه يذودون عن
الوحدة"؟ أوليس من هذا القبيل أنه يكون قد
شارك – وإن مشاركة إعلامية – في ثورة الجيش
العراقي على الإنكليز؟ وبالتأكيد، دفع بدوي
الجبل ثمن مواقفه، بدخوله مرات عديدة إلى
السجن على أيدي الفرنسيين، إلى كلٍّ من لبنان
والعراق وجنيف وروما وڤيينا؟ في هذه
المعارك السياسية كلِّها، كانت القصيدة
سلاحه، يقارع بها، ويؤجج الضمائر والنفوس.
وهذا
ما عنينا به القصيدة–الموقف، القصيدة–الفعل،
القصيدة التي تنضم إلى الحدث لتغير معطياته.
وكم نفتقد، اليوم، هذه القصيدة، على الرغم من
كلِّ ما يُستمطَر علينا من كلام سياسي
ونظريات في الالتزام وفي النضال!
الالتصاق
بالتراث
النبرة
العالية (أو الخطاب الوجداني) التي أشرنا
إليها، يقال عنها باللغة المعهودة "المنبرية"،
أي القصيدة التي تواجه بالصوت وبالجسد
الجماهير، في علاقة تآلف وانسجام كبيرين
بينهما، تصل إلى حدِّ التواطؤ. هذه القصيدة
كانت، إلى حدٍّ كبير، من العلامات الشائعة في
تلك المرحلة، وكان لها أربابها. في العراق:
الجواهري والزهاوي، وفي مصر: البارودي وأحمد
شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران، وفي لبنان:
الأخطل الصغير وأمين نخلة وشبلي الملاط وسعيد
عقل (إلى حدٍّ ما). المنبرية هذه، أو قصيدة
الأذن (وأعم قصيدة الجسد)، بما هي دخول في حدث،
فإنها دخول كذلك في "المناسبة". من هنا
فهي استمرار للتقليد الشعري العربي الموروث،
وإن اختلف المقصد، سواء كان خليفة أو قائدًا
أو أميرًا أو ملكًا، وصار قضية أو جمهورًا،
لكن بقي هذا المقصد واحدًا، من حيث ارتهانه
بالحدث الخارجي، وارتهانه بردود الفعل
المباشرة، الموظَّفة، والمقنَّنة. إنه الفعل
الجماهيري، قبل كل شيء، فعل الموجود في
الموجود. على هذا الأساس، كان على الشعر أن
يلعب اللعبة البعيدة عن خطر الانفصال عن
الموروث الثقافي والاجتماعي والجماهيري،
اللعبة المضمونة، في توثيق اللغة الشعرية
بالحساسية العامة، اللعبة التي تصل وتلحم،
فلا تكسر أو تفجِّر أو تغامر.
لكن،
على الرغم من كلِّ شيء، قد لا يصح التعميم،
بهذه الطريقة القسرية، تعميمًا مطلقًا، مهما
بدا هذا التعميم مشاعًا، في المضمون وفي
الإطار وفي التعبير. فمنبرية بدوي الجبل، في
مردودها الشعري، تختلف عن منبرية الجواهري (وإن
التقت عمقًا في الخطاب الوجداني)؛ كما تختلف
عن منبرية سعيد عقل ذي الضربة التي تتجاوز
الموروث في عموده الخليلي إلى تطعيمه بنكهة
رمزية، شكلية، معمارية ("ڤاليرية")،
تطول إلى البيت الشعري أكثر مما تطول إلى
البنية؛ كما تختلف عن منبرية أمين نخلة،
المطعَّمة بـ"پرناسية"، تجعلها من صياغة
نظيفة منحوتة، وإنْ في مستوى المفردة فحسب؛
كما تختلف عن منبرية أحمد شوقي وخليل مطران
ذات الغنائية المموَّهة بالرومانطيقية، وإنْ
في درجات غير متساوقة، باعتبار أن القصيدة
عند خليل مطران تنمو في حركتها، وعند أحمد
شوقي تتراكم في رصفها.
بين الشاعر والسياسي
لكن
ما يمكن أن نشير إليه أن تلك الحقبة، لئن
وسمتْها المنبرية–المناسبية، من ضمن تعميم
النموذج الموروث، فقد كانت هناك ملامح قصيدة
جديدة، تتميز وترتبط بالموروث بقدر ما ترى
إلى تجاوُزه، خصوصًا تلك التي اغترفت من
الرومانطيقية والرمزية، بعيدًا عن الالتصاق
بالحدث الخارجي المباشر. وبذلك ارتفع صراع
بين شكلَي الموروث: المحافظ والطليعي. أو لا
يمكن التذكير بكتابات جبران وإلياس أبي شبكة
وصلاح لبكي وسعيد عقل (في "قدموس" و"المجدلية"،
و"بنت يفتاح")، حيث اتجه الشعر إلى بناء
عمل، إلى قصيدة مستقلة عن جاذبية الحدث،
طالعةً من جاذبية أسئلة الداخل، ميتافيزيقية
كانت أو اجتماعية أو جمالية، أي قصيدة تحمل
مناسبية السؤال، لا مناسبية الجواب، ممهِّدة
لطلوع قصيدة السؤال: القصيدة الناقصة، قصيدة
القلق الإنساني والشكلي، قصيدة التناقضات،
في عضوية النمو وفي صفاء المعمار، أي قصيدة
الالتباس.
بدوي
الجبل، لم ينفصل الانفصال التام عن هذه
القصيدة–السؤال، لأنه، على الرغم من ارتباطه
بالوجدان العام، قدَّم، إلى حدٍّ كبير،
القصيدة ذات المعمارية العربية الضاربة في
جذور التراث وفي حواشي الديباجة العربية
الممتدة من أبي تمام والشريف الرضي والبحتري
والمتنبي، وصولاً إلى ابن زيدون وإلى الحسن
بن مكزون السنجاري، المتصوف العلوي. وهؤلاء
كلهم، لاسيما أبو تمام والبحتري، من الذين
تملَّكهم هاجس "اللعبة الشكلية"، أو
الذين واجهوا القصيدة بوعي جمالي عميق، سبق
أية تجربة شعرية غير عربية آنذاك. نقول هذا من
دون أن ننسى شعراء آخرين سابقين لهؤلاء،
افتتنوا بالشكل واحتفلوا به، كلبيد وزهير
والأخطل (الكبير).
وبدوي
الجبل، على الرغم من انضمامه إلى الحساسية
العامة، أدرك سرَّ الاحتفال بالشكل، أدرك كيف
أن القصيدة لا تبقى من دون هذا الاحتفال.
ولهذا، انضم إلى الاحتفال، بحسٍّ، مهما بدا
عارمًا، حمل بذور الأناقة، والتفنن، واللعب.
من هنا، نفهم كيف أن بدوي الجبل وسعيد عقل
بدوا، بالنسبة إلى المحدثين، أليفين،
وعائليين، وكيف أنهما أثَّرا في بعض منهم،
كأدونيس مثلاً. فمن يقرأ قصائد أدونيس،
وخصوصًا "قالت لي الأرض"، التي أوردها
ناقصةً في أعماله الكاملة التي صدرت عن
"دار العودة"، أو "قصائده الأولى"
التي نشرها في الصحف والمجلات السورية ولم
يضمها إلى دواوينه، يكتشف إلى أيِّ مدى أثَّر
فيه بدوي الجبل وسعيد عقل، في جوانبهما
الشكلية والتطريبية والبلاغية الموروثة
السائدة.
لكن
هذا الاحتفال بالشكل لا يأتي معارضةً، أو
تجاوُزًا، أو ضربًا في مغامرة، أو توغلاً في
رؤيا شكلية جديدة. إنه الاحتفال بنموذج
الماضي، بقيم النموذج الماضية، بديباجتها
وأصولها وينابيعها. كما أن الاحتفال هذا لا
يخرج على مألوف المضمون، أو على المضمون
عمومًا. أي أن بدوي الجبل قلما انساق في لعبة
شكلية مجانية، أو بالغ في إتقان فنِّي خالص.
إنه، بكلِّ بساطة، أبقى "ماوية" المضمون
(وجدانًا كان أو فكرة أو إحساسًا) في التعبير؛
بل ونقول أكثر: كان المضمون أحيانًا، يسابق
التشكيل، فيسبق، خصوصًا في المقدمات
الحِكَمية والتأملية أو في الطلعات
الخطابية، لا يردفها قالب غنائي أو فنِّي
تمامًا. كما كان دائمًا السباق بين الشاعر
والسياسي قائمًا، منذ بواكيره الشعرية حتى
آخر ما نَظَم.
لا يرتزق ولا يتنازل
واليوم،
بعد ربع قرن على رحيله، هل يبقى؟ تبقى الثمار،
وتذكارات الثمار، والزهر، وتذكارات الزهر.
يبقى أننا مازلنا نعود إلى مجاري الينبوع
الشعري المتأصل، نعود لنغرف، ملء اليدين، ملء
الفم، وملء الوجه، من فيض هذا الينبوع، مهما
بدا أن المساري شطَّت، أو أننا شططنا، أو
ابتعدت أو ابتعدنا...
يبقى
أننا نقرأ، أبعد من قصيدة بدوي الجبل، بدوي
الجبل نفسه، أبعد من كلماته، ما خلَّفه الرجل
الفارس، الإنسان الشهم، أعمق من مساحته
الشعرية، مهما اتسعت: نقرأ الشاعر، لا يهادن
ولا يتقلَّب، لا يلتف بالشعارات ولا يرتزق،
لا يتنازل، ولا يتواطأ، ولا يطأطئ رأسًا!
كيف يَغْشَى الوغى ويظفرُ فيها
حاكمٌ مُتْرَفٌ وشعبٌ فقيرُ
محنة العُربِ أُمَّةٌ لم تهادنْ
فاتحيها وحاكمٌ مأجورُ
* * *
عن
المستقبل،
الخميس 4 أيار 2006، العدد 2255
مختارات من شعر بدوي
الجبل
من وحي الهزيمة
إلى
أبطال تشرين التحرير الذين حلمتْ بهم هذه
القصيدة، كما حلم بهم الوطنُ المنكوب، فكانوا
له ولها فجرين من ثأر وأمل.
رملُ سيناء
قبرنا المحفورُ
وعلى القبر أنكرٌ ونكيرُ
كبرياء الصحراء مرَّغها الذلُّ
فغاب الضحى وغار الزئيرُ
لا شهيد يُرضي الصحارى وجلى
هارب في رمالها وأسيرُ
أيها المستعيرُ ألف عتاد
لأَعاديك كل ما تستعيرُ
هدَّك الذعر – لا الحديد ولا النار –
وعِبء على الوغى المذعورُ
أغُرورٌ على الفرار؟! لقد ذاب
حياءً من الغُرورِ الغرورُ!
القلاع المحصَّنات – إذا الجبن
حماها – خَوَرْنَقٌ وسديرُ!
لم يُعانِ الوغى "لواءٌ" ولا عانى
"فريقٌ" أهوالَها و"مُشيرُ"
رُتَبٌ صنعة الدواوين: ما شارك
فيها قرُّ الوغى والهجيرُ
وتطير النسور في زحمة النجم
وفي عشِّه البُغاث يطيرُ
جَبُنَ القادة الكبار وفرُّوا
وبكى للفرار جيشٌ جَسورُ
تركوه فوضى إلى الدور، فيحاء،
لقد ضمَّتِ النساءَ الخدورُ!
هُزِمَ الحاكمون – والشعب في
الأصفاد – فالحكم وحده المسكورُ
هُزِمَ الحاكمون – لم يحزن الشعب
عليهم، ولا انتخى الجمهورُ
يستجيرون! والكريم لدى الغمرة
يلقى الردى ولا يستجيرُ!
* * *
لا تسلْ عن
نَميرها غوطةُ الشام
ألحَّ الصدى وغاض النميرُ
وانسَ عطر الشآم، حيثُ يقيم
الظلم تنأى... ولا تُقيم العطورُ
أطبِقوا... لا ترى الضياءَ جفوني
فجفوني عن الضياء ستورُ
بعض حريتي السماوات والأنجم
والشمس والضحى والبدورُ
بعض حريتي الملائكُ والجنة
والراحُ والشذا والحبورُ
بعض حريتي الجمال الإلهي
ومنه المكشوف والمستورُ
بعض حريتي، ويكتحل العقل
بنور الإلهام، والتفكيرُ
بعض حريتي، ونحن القرابين
لمحرابها، ونحن النذورُ
بعض حريتي، من الصُّبح أطيابٌ
ومن رقَّة النسيم حريرُ
ثم أملى الطغاة أن يبغض النورُ
علينا ويُعشقَ الديجورُ
* * *
نحن أسرى، وحين
ضِيمَ حِمانا
كاد يقضي من حزنه المأسورُ
كل فرد من الرعية عبدٌ
ومن الحُكم كل فرد أميرُ
ومع الأسْرِ نحن نستشرف الأفلاك
والدائراتِ كيف تدورُ
نحن موتى! وشرَّ ما ابتدع الطغيان
موتى على الدروب تسيرُ
نحن موتى! وإن غدونا ورحنا
والبيوت المزوَّقات قبورُ
نحن موتى، يُسِرُّ جارٌ لجار
مستريبًا: متمى يكون النشورُ؟
بقيت سُبَّة الزمان على الطاغي
ويبقى لنا العُلى والضميرُ
* * *
سألوا عن
ضَنَايَ، محض تَشَفٍّ،
هل يصحُّ المعذَّب الموتورُ
أمن العدل، أيها الشاتم التاريخَ،
أن تلْعَنَ العصورَ العصورُ؟
أمِنَ النبل، أيها الشاتم الآباء،
أن يشتم الكبيرَ الصغيرُ
وإذا رفَّتِ الغصون اخضرارًا
فالذي أبدع الغصونَ الجذورُ
اشتراكية؟! وكنز من الدرِّ
وزهوٌ ومنبر وسريرُ
اشتراكية تعاليمها: الإثراء
والظلم والخنا والفجورُ
اشتراكية! فإنْ مرَّ طاغٍ
صُفَّ جندٌ له ودوَّى نفيرُ
كل وغد مصعَّر الخدِّ، لا سابور
في زهوه ولا أردشيرُ
يغضب القاهرُ المسلَّح بالنار
إذا أنَّ أو شكا المقهورُ
يُنكر الطبعُ فلسفاتِ عقول
شأنهنَّ التعقيد والتعسيرُ
كل شيء مُتمِّم لسواه
ليس فينا مستأجَر وأجيرُ
بارك الله في الحنيفية السمحاء
فيها التسهيل والتيسيرُ
* * *
ورقيبٍ على
الخَيالِ... فهل يسلَمُ
منه المسموع والمنظورُ؟
عازفٍ عن حقائق الأمر لؤمًا
وكفى أن يُلفَّق التقريرُ
فيُجافي أخٌ أخاه ويشقى
بالجواسيس زائر ومزُورُ
لصغار النفوس كانت صغيراتُ
الأماني وللخطير الخطيرُ
يندُرُ المجد – والدروب إلى المجد
صِعابٌ – ويكثُرُ التزويرُ
عَلِموا أنه عسير فهابوه
– ولا بدع – فالنفيس عسيرُ
محنة الحاكمين جهل ودعوى
جبنٌ فاضح ومجدٌ عثورُ
نهبوا الشعب، واستباح حمى المال
جنونُ النعيم والتبذيرُ
كيف يغشى الوغى ويظفر فيها
حاكمٌ مترف وشعبٌ فقيرُ
مزَّقوه، ولن يُمزَّقَ، فالشعبُ
عليم بما أرادوا خبيرُ
حكموه بالنار، فالسيف مصقول
على الشعب، حدُّه مشهورُ
محنة العرب أمَّةٌ لم تهادن
فاتحيها وحاكمٌ مأجورُ
* * *
هتكوا حرمة
المساجد لا جنكيز
باراهم ولا تيمورُ
قحموها على المصلِّين بالنار
فشِلْوٌ يعلو وشِلْوٌ يغورُ
أمعنوا في مصاحف الله تمزيقًا
ويبدو على الوجوه السرورُ
فُقِئتْ أعينُ المصلِّين تعذيبًا
وديسَتْ مناكِب وصدورُ
ثم سيقوا إلى السجون – ولا تسأل –
فسجَّانها عنيف مريرُ
يُشبعُ السوطَ من لحوم الضحايا
وتأبى دموعهم والزفيرُ
مؤمن بين التين من الفولاذ
ممزق، معصورُ
هتفوا باسم أحمدٍ، فعلى الأصوات
عطر وفي الأسارير نورُ
هتفوا باسم أحمد، فالسياط الحمر
نعمى وجنة وحريرُ
طرْفُ أتباع أحمدٍ في السماوات
وطَرْفُ الطاغي كليل حسيرُ
* * *
عِبرة للطغاة
مصرعُ طاغٍ
وانتقام من عادل لا يجورُ
المصلون في حمى الله يرديهم
مُدلٌ بجنده مخمورُ
جامعٌ شاده على النور فحلٌ
أموي معرق منصورُ
لم ترعَ فيه قبل حكم الطواغيت
طيورٌ ولا استبيحت وكورُ
مطلق النار فيه، في الجمعة الزهراء
شِلْوٌ دامٍ وعظمٌ كسيرُ
والذي عذَّب الأُباة رأى التعذيبَ
حتى استجار مَن لا يجيرُ
قدماه لم تحملاه إلى الموت
فزحف على الثرى لا مسيرُ
وخزتْهُ الحراب وهو مسوق
لرداهُ، محطم مجرورُ
ويجيل العينين في أخوة الحكم
وأين الحاني وأين النصير؟
كل فرد منهم لقتل أخيه
يصدر الرأي منه والتدبيرُ
وغدًا يذبح الرفيقَ رفيقٌ
منهم والعشير فيهم عشيرُ
يأكل الذئب، حين يردى، أخاهُ
ويعض العقُور كلبٌ عقورُ
* * *
ارجعوا للشعوب
يا حاكميها
لن يُفيد التهويلُ والتغريرُ
صارحوها... فقد تبدلت الدنيا
وجدَّت بعد الأمور أمورُ
لا يقود الشعوب ظلم وفقرٌ
وسبابٌ مكرَّر مسعورُ
والإذاعاتُ! هل تخلعت العاهرُ؟
أم هل تقيأ السكِّير؟!
صارحوها... ولا يُغَطِّ على الصدق
ضجيجٌ مُزورٌ وهديرُ
واتقوا ساعة الحساب إذا دقَّت
فيوم الحساب يومٌ عسيرُ
يقف المتهمان وجهًا لوجه
حاكم ظالمٌ وشعبٌ صبورُ
كلُّ حكم له – وإنْ طالت
الأيام – يومان: أول وأخيرُ
كلُّ طاغٍ – مهما استبدَّ – ضعيف
كل شعب – مهما استكان – قديرُ
وهبَ اللهُ بعضَ أسمائه
للشعب: فهو القديرُ وهو الغفورُ
1968
** ** **
(مقاطع)
كافور
كافور قد جُنَّ
الزمان وإليك آلَ الصولجانُ
خجل السرير من الدعي وكاد يبكي الأُرجوانُ
أينَ الأهلَّة والكواكبُ والشوامخُ
والرعانُ؟
الهاشميون انطووا وأمية كانوا فبانوا
كافور جمِّعْ حول عرشك كلَّ مَن حقدوا وهانوا
مجد البغي تعافُ بهرجَه المخدرة الرزانُ
حرِّكْ دُماك، فإن أردت قسوًا وإن آثرت لانوا
الخاضعون لما تشاء، وما دروه وما استبانوا
الناعمون على اليهود، على رعيتك الخشانُ
للعَفِّ تخوينٌ بدولتهم وللصِّ ائتمانُ
* * *
أشبعتَ بالخطب
الجياعَ فكلُّ هادرة خوانُ
حفل السماط ومن فرائدك الموائد والجفانُ
خُطَبُ الرئيس هي الكرامة والعلى، وهي الضمان
هي للجياع الطيبات، وللعراج الطيلسانُ
هي للحفاة النازحين لبانة وهوى وحانُ
خطب مصبغة، وتُعرَفُ من مباذلها القيانُ
من كلِّ عاهرة وتحلِفُ أنها الخودُ الحصانُ
ألحِنْ وكرِّر ما تشاء فإنها الخُطبُ الحسانُ
وإذا رطنت فإنها عرباء خالصة هجانُ
كافور قد عنتِ الوجوه فكيف لا يعنو البيانُ؟
* * *
الفكر من صرعى
هواكَ ومن ضحاياكَ الحنانُ
يُغْني الشام عن الكرامة والنعيم المهرجانُ
حشدت لطلعتك الجموعَ فهون الخبر العيانُ
هتفوا فبين شفاههم وقلوبهم حرب عوانُ
غرثى ويتخم من لحوم الأبرياء الخيزرانُ
عضتْ ظهورَهم السياطُ، فكل سوط أفعوانُ
الراكعون الساجدون عنَوْا لوجهك واستكانوا
الجائعون وزرعهم لكَ والمناهل والجنانُ
القاطفون كرومهم ولك السلافة والدنانُ
الحاضنون شقاءهم ولك المتارف والليانُ
الظامئون ويومهم شرسُ الهواجرِ أضحيانُ
المالكون قبورهم لما عصفت بهم فحانوا
لك عذرة العرس الحزين فما تعز ولا تُصانُ
ولك الظلال فبعض جودك إن يفيئهم مكانُ
ودماؤهم لك والبنون فما الأباطح والرعانُ
ولك العبادة، لا لغيرك، والتشهُّد والأذانُ
كافور أنت خلقتهم كونوا – هتفت بهم – فكانوا
كافور من بعض الإماء زبيدةٌ... والخيزرانُ
مروان عبد من عبيدك لا يُزان ولا... يُشانُ
للسوط جبهته إذا استعلى وللقيد البنانُ
يا مكرم الغرباء والعربيُّ محتقر... مُهانُ
تاريخ قومي في يديك يُدانُ حسبك ما يُدانُ
زوَّرته وسطا على الأقداس أرعن أُلعُبَانُ
ما عفَّ في الموتى هواه ولا الضمير ولا
اللسانُ
يا عبقري الظلم فيه لك ابتداع وافتنانُ
** ** **
(مقاطع)
لبنان والغوطتان
من
قصية أُلقِيَتْ في جونية اللبنانية لمناسبة
تكريم شاعر القطرين خليل مطران.
لي موطن في رُبى
لبنان ممتنع
ولي بنو العمِّ من أبنائه النُّجبِ
إن فاتهم معقل يوم الوغى أشِبٌ
بنوا من السمر صرح المعقل الأشِبِ
ولو مشى الموت في شهباء معلمة
مشوا إلى الموت في الهندية القضُبِ
لبنان والغوطة الخضراء ضمَّهُما
ما شئت من أدبٍ عالٍ ومن نسبِ
ما في اتحادهما – تالله – من عجبٍ
هذا الفراق لعمري منتهى العجبِ!
للخُلف في الناس أنواع وأغربها
خُلفُ الشقيقين من قومي بلا سببِ
كل الربوع ربوع العُرب لي وطنٌ
ما بين مبتعدٍ منها ومقتربِ
للضاد ترجع أنسابٌ مفرَّقة
فالضاد أفضل أم برةٍ وأبِ
تفنى العصور وتبقى الضاد خالدة
شجًى بحلق غريب الدار مغتصبِ
** ** **
(مقطع)
بدعة الذل
إلى
روح إبراهيم هنانو.
عاصِفٌ باده
الربى ودُخانُ
أين منك الشقيقُ والأقحوانُ
أين منك الربيعُ ينفحُ بالعطر
وأين السُّلاف والنُدمانُ
بُورك الفردُ حين يدْمى فُؤادٌ
عبقري أو حين تدمى بنانُ
مُحيتْ أشهُرُ الربيعِ فلا أيار
من دهرنا ولا نيسانُ
لا شقيق النعمان في غوطة الشام
ولا عطره ولا النعمانُ
يعرف الفجر أن دمعي أصفى
من نداه ويعرف الريحانُ
هب ندى الفجر كالدموع صفاءً
أين منه البلوى وأين الحنانُ
يعرف الطيب أن دمعي أذكى
منه عطرًا وتعرف الأردانُ...
تعرف الراح أن دمعي سُلافٌ
وجفوني كؤوسُها والدنانُ
أخرستْني الشآمُ تُحفرُ للقبر عليها
الطيوب والأكفانُ
يا لها ميتة ومن صور الموت
هُمود الإباء والإذعانُ
إنه الموت لا اختلاف عليه
فعزاءً بالشام يا مروانُ
لم تُميِّز محببًا من بغيض
في الدُّجى لا تُميَّز الألوانُ
* * *
بدعة الذل حين
لا يذكر الإنـ
سانُ في الشام أنه إنسانُ
بدعة الذل أن يصاغ من الـ
فرد إله مهيمن ديَّانُ
أيها الحاكمون ما ضاعت الحجَّة
منكم ولا انطوى البرهانُ
حق هذي النفوس أن تُرفَع
الأصنامُ فيها وتُعبَد الأوثانُ
* * *
يا لها دولة
تعاقَب فيها
كالجناة العُقول والأذهانُ
أين حُريتي فلم يبقَ حرًّا
من جهير النداء إلا الأذانُ
سُبَّة الدهر أن يحاسَب فكر
في هواه وأن يُغَلَّ لسانُ
الضحى والشجاع حلفا كفاح
ما احتمى بالظلام إلا جبانُ
حرنُوا والشعوب في موكبِ السَّبقِ
ومن شيمة الهجين الحِرانُ
يعثُر الدهرُ والشعوب وتشقى
بالمناكير أمَّة وزمانُ
قُبروا في المهود ما سُلَّ سيفٌ
في رداهُم ولا تعرَّى سنانُ
لم تنلهُم يد المنية ظلمًا
وُلدوا قبل أن يحين الأوانُ
سائلوا زحمة العواصف لما
رُجَّتِ الأرضُ أين كنَّا وكانوا
وسلوا ظلمةَ السجون فلن
ينبئ عنهم سجنٌ ولا سجَّانُ
كتبَ المجدُ ما اشتهت غُرَرُ المجدِ
ونحن الكتاب والعنوانُ
نحن تاريخ هذه الأمَّة الفخم
ونحن المكان والسكانُ
شرفُ الشوط بالمجلِّي من الخيل
ويخزى بغيرهِ الميدانُ
من غوالي دموعنا الخمر والعطر
ونُعمى دمائنا الأُرجوانُ
قد سقينا من قلبنا الموتَ حتى
نَبَتَ الضَّربُ في الربى والطعانُ
تخجلُ الخيل بالذليل إذا صالت
ويشقى سرجٌ ويشكو عِنانُ
يتلوَّى على الحبال فنونًا
أوزيرٌ في الدِّستِ أم بهلوانُ؟
أنِسُوا منه بالنعومة واللينِ
– ولا بدع أنه أفعوانُ
ليس خلف البرود إلا هباء
فاحكُم الناس أيها الطيلسانُ
ما على الحكم وهو مرعى وماء
أن تعود الخماصُ وهي بِطانُ
يُظلِمُ القلب لا مروءة فيه
فهو كالقبر مُوحش حرَّانُ
كيف تسمو القلوب لولا المُروءات
وتغفو على المُنى الأجفانُ؟!
حسبوا ضحكة الشعوب ارتياحًا
واللَّظى حين يضحك البركانُ
لا يهين الشعوب إلا رضاها
رضي الناس بالهوان فهانوا
ما لَشُمِّ الذُرى تغضُّ من الذلِّ
فأين النسور والعقبانُ؟!
* * *
يا وزيرًا
يُطِلُّ بعد وزيرٍ
والعُلى في ركابه والزمانُ
ربَّ نُعمى تضيع منا إذا
زرت ولا ضجةٌ ولا ديدبانُ
وإذا فُتَّ أعيُنَ الناس دلاً
فلمن صاغ حُسنك الرحمنُ
أي بدع في المهرجانات يُصنعن
فحق المُتوج المهرجانُ...
ولمن تحشد الجموع؟ فهل زار
ولاياتِ مُلكه الخاقانُ
لكم لا لقيصرٍ أو لكسرى
رُصِّع التاجُ وازدهى الإيوانُ
1950
** ** **
عيد الجلاء
الزغاريد! فقد
جُنَّ الإباء
من صفات الله هذي الكبرياء
بأبي العزلاء في غمرتها
آلة الحرب جراحٌ ودماء
بنت مروان اصطفاها ربها
لا يشاء الله إلا ما تشاء
هي في غسان بأس وندى
وهي في الإسلام فتح وبلاء
جمرة الحقِّ فسبحان الذي
صاغ هذا الجمر من ظلٍّ وماء
الأديم السمح عطر ورؤى
ربما أغفى عليه الأنبياء
وعلى كلِّ مكان جِدَّةٌ
تأسر العين ونعمى ورُواء
خالف المشهد فيها جاره
فِلذات الحسن شتَّى غرباء
كلُّ حسنٍ بدعة مُفردة
ليس بين الحسن والحُسن إخاء
تندر الأشباهُ مما اختلفت
صور الحسن وتَخفَى النظراء
الورود الحمر ذكرى وهوى
وطيوفٌ من جراح الشهداء
نفحة الصبح على غوطتنا
خبر عنهم وأطياب المساء
حملت زغردة العرس لكم
فانتشى الأفق ولم يصحُ الهواء
أيها الدنيا ارشفي من كأسنا
إن عطر الشام من عطر السماء
شُهداء الحقِّ في جنَّتهم
هزَّهم للشام وجدٌ ووفاء
تضحك "الربوة" في أحلامهم
هل عن الربوة في عدن غناء
كُلما هبت صبًا من "دُمَّر"
رنَّح الجنة طيب وغناء
خيلاء الحق في عدن لكم
يغفر الله لقومي الخُيلاء
واعذروا عدنًا على غيرتها
إنها والشام في الحسن سواء
1946
*** *** ***
|