|
الجســـر كان يسير في
طريق طويل، وكان رأسه مرفوعًا في اتجاه خطِّ
الأفق البعيد. ومع ذلك، استطاع أن يلمح، عن
بُعد، جماعةً كبيرةً من الناس تمشي في
الاتجاه ذاته. أحس
في داخله أنه يرغب رغبةً شديدةً في الوصول
إليهم. لذا راح يغذُّ السير متلهفًا لذلك. لم
ينتبه، وهو يمشي، إلى وجود جسر يصل بين طرفَي
الطريق. كان مسرعًا، وينظر إلى الأفق الممتد
أمامه. وفي لمحة، تهوي رجلُه اليمنى في فراغ!
يخفض رأسه قليلاً، وينظر إلى الأسفل. يرى
الجسر، ويرى رجله معلقةً في فراغ الصدع الذي
يشقه إلى نصفين. يحاول أن يتوازن، مستجمعًا
قواه كلَّها كي لا يسقط. كان جهدًا معذِّبًا! حين
أفاق فجأة، على شعور بالخوف والألم والقلق،
وجد نفسه مرميًّا على أرض الغرفة. نهض
على مهل، وهو يتحسَّس موضع الألم في الجانب
الأيمن من جسمه. جلس على طرف السرير، وأخذ
يفكر في الحلم. لكنه لم يلبث أن نفض رأسه، وراح
يتهيأ للخروج. وقبل أن يترك غرفته، تناول دفتر
مذكراته، وسجَّل مشهد الحلم، ثم غادر البيت
قلقًا متوجسًا. حين
خرج من الجامعة وانطلق إلى الشارع الواسع،
المزين على جانبيه بأشجار تعرَّت من ملابسها
إلى حين في انتظار أردية جديدة، تنفَّس
الصعداء وهو ينظر إلى السماء ويراقب الغيوم
الرمادية التي بدأ يتفرق بعضها عن بعض،
مفسحةً في المجال لنور باهت من أشعة الشمس
المتوارية. هبَّت نسمات تحمل شيئًا من
البرودة دغدغت صفحة وجهه ورقبته، فأحس
بالانتعاش ورقص فؤاده. ارتسمت على شفتيه
ابتسامةُ ارتياح، وراح يتمتم، وهو يُدخِل
يديه في جيبَي معطفه الأنيق: "لم يكن هناك
من داعٍ لكلِّ ذلك الشعور بالقلق والتوتر قبل
بدء الندوة. فهاأنذا في النهاية أحقق نجاحًا
هنأني عليه الجميع!" واتسعت ابتسامته مع
سريان قشعريرة لذيذة في جسمه الذي تفتحت
مسامه على الخارج. "وإذن فقد استطعت أن
أتجاوز معنى الرسالة التي حاول الحلم أن
يبلِّغني إياها. لقد نجحت في تواصلي مع
الآخرين... نعم نجحت، ووصلت الصدع المكسور –
هكذا، بجهدي وتصميمي!" كان يجزم أنه استطاع
أن يفسر الحلم بمثل هذه السهولة! وأشرق وجهه،
وهو يعبُّ من النسمات التي تحمل نداوة الشتاء. تذكر
الندوة وهو يتلذَّذ بإحساسه بالسعادة. قال
لنفسه، بعد أن استعرض في ذهنه كلَّ ما حدث قبل
ساعتين: "كانت مداخلات زملائي جيدة أيضًا."
حاول أن يكون منصفًا! كانت
الندوة حول أهمية النظام العَلماني ودوره في
تطوير المجتمعات، وكان الجميع قد هيأ لها قبل
موعدها بزمن نظرًا لأهمية طرح مثل هذا
الموضوع في هذا الوقت بالذات. "نحن نعيش في
مرحلة تمر فيها مجتمعاتنا العربية بنكسة
مَرَضية تجرُّها باتجاه هاوية السلفية
والأصولية والتحجر الضاغط على الأفكار
والسلوك أمام تفتُّح العالم الآخر، وعصرنته،
ودخول البشرية عالم القرن الواحد والعشرين،
بما يحمله من انطلاق هائل للمعرفة، متجاوزًا
تخوم هذا الكوكب إلى رحابة الكون الواسع." استعاد
في ذهنه ما ذكرته زميلته شروق في مداخلتها.
راح يهز رأسه معجبًا. "كلام جميل!" مدَّ
يده وداعب أوراق شجرة كانت ما تزال متشبثة
بغصنها، غير عابئة بسياط الشتاء. ابتهج
للملامسة. "النظام العَلماني هو الذي سيحرر
مجتمعاتنا. سيحرر المرأة، وسيحرر الرجل على
حدٍّ سواء، لأنه سيحرر العقول من شوائب
الماضي. ومتى تحررت العقول، انتظم كل شيء."
راح يكرر ما قاله في مداخلته وقد سرح بصرُه،
الذي أضفى عليه الارتياح لمعانًا خاصًّا، فوق
رصيف الشارع من غير أن يتوقف على شيء بعينه.
كان فكرُه في تلك اللحظة مشغولاً باستعراض
عناوين الكتب والأبحاث التي قرأها خلال
دراسته للعلوم السياسية حتى مرحلة الدراسات
العليا التي يقوم على إتمامها الآن. "ياه!
العَلمانية، العدالة الاجتماعية، المساواة...
أين نحن من هذا كلِّه، وإلى أين نسير؟!"
هزَّ رأسه مرارًا، أسفًا وحسرة وخيبة أمل. فجأة،
احتل صفحةَ مخيلته وجهُ شروق، احتلها بشكل
كامل وطاغٍ. توقف عن المشي كأن أحدًا ما قد لجم
خطواته. لكنه ما لبث أن تابع وهو يقول لنفسه:
"الحق يُقال إن مداخلتها كانت جيدة..."
فكر قليلاً، ثم تابع: "وربما أفضل من
مداخلتي." وامتعض قليلاً. "إنها تطرق
دائمًا هذا الموضوع في كلِّ ندوة، في كلِّ
اجتماع، في كل حديث... وعي الفرد لذاته، ولما
حوله، هو الذي سيحرره من القيود كلِّها،
وسيجعله يطالب بتطبيق هذه النظم في مجتمعاتنا...
إنها في الحقيقة تدعو إلى ثورة، ثورة حقيقية
في كيان الفرد. ولكن!..." صمت، وراح يفكر
مليًّا. توالتْ
أمام ذاكرته الأحداثُ من غير أن يستجلبها
عمدًا. راح يتذكر كيف بدأت علاقته بشروق. كانت
زميلته على مقاعد الدراسة. شعلة من التوقد
والانطلاق، وخليط من الجدية والمرح في آنٍ
معًا. كانت شروق تجيد تمامًا رسم الخط الفاصل
بينها وبين الآخرين، فلا تجعل الواحد يبدأ
حيث يجب أن ينتظر، ولا تدعه يسترسل حيث يجب أن
يكف. كانت شروق شمس الكلية سطوعًا، ووضوحًا،
وعطاء. أحبها
وائل من غير أن يدري كيف حصل ذلك، ومتى، لكنه
لم يصارحها بمشاعره إلا بعد مضي سنتين على
وجودهما على مقعد واحد. كان خائفًا، من غير أن
يعي تمامًا مصدر خوفه ذاك، إلى أن وضعته شروق
أمام ذاته دفعةً واحدة، حين قالت له بعد أن
أصغت إلى بوحه بمشاعره: "هل تعرف لماذا لم
تصارحني بمشاعرك منذ زمن بعيد يا وائل؟ لأنك
تخاف على صورتك أمام الناس... أنا فتاة من بيئة
متواضعة، مختلفة تمامًا عن برجك العاجي
الذي تعيش فيه. لذا فنحن لا نستطيع، يا صديقي،
أن نبدأ معًا. لنبقَ صديقين، فهذا أفضل لكلينا."
قالت جملتها هذه، وانسحبت أمام دهشته
واستغرابه اللذين باحت بهما عيناه
المنفتحتان على آخرهما. تمتم،
وهو يهز رأسه، ويتابع المشي. "أنا أعيش في
"برج عاجي"؟!... أنادي بالعَلمانية
والعدالة الاجتماعية والمساواة، وأعيش في
"برج عاجي"؟!... هراء! كل ما قالته شروق
هراء. ومع ذلك، ففي النهاية هي الخاسرة!"
وعبَّ من النسمات المنعشة. كان منتشيًا، على
الرغم من الذكرى التي داهمته فجأة، ولم يحس
بمرور الوقت إلا حين رأى نفسه يسير فوق رصيف
الشارع الذي يسكن في إحدى عماراته الفخمة. حين
وصل إلى السوبرماركت القريب من عمارته، تمهل
قليلاً، ملتفتًا جهة اليمين. راح بصره يستطلع
الموجودين في الداخل. تساءل في سرِّه للحظة:
"هل ذلك الطفل المشاكس موجود في المحل، أم
تراه ذهب لتوصيل طلبية ما؟" تابع سيره وهو
يفكر: "هل من المعقول أن يكون هنالك طفل
أكثر مشاكسة من هذا الملقب بالـ"معلم محمود"؟!
والأدهى من ذلك كلِّه أن الجميع يطلق عليه هذا
اللقب وهو ما يزال في التاسعة من عمره! ولكن
مَن سمَّاه هكذا، ولماذا؟ هذا ما لم أعرفه حتى
الآن..." توالت
الصور أمام عينيه، و"المعلم محمود" يطلق
تعليقاته الاستفزازية أمام كلِّ زبون يدخل
السوبرماركت أو يخرج منه. ورأى بعين ذاكرته
مدى جدِّية صاحب المحل في مراقبته كي يضمن
وجوده دائمًا. فقد كان غالبًا ما يغافله،
فينسرق خارجًا، ثم يعود حين يحلو له ذلك.
ووقتذاك لا تهمه تعنيفات معلِّمه ولا تهديده
ولا وعيده. كان يتحداه بنظراته الثاقبة: "إذا
لم تكن راضيًا عني فافصلني عن العمل كي ترتاح!"
تذكَّر وائل أن صاحب المحل أقسم أمامه مرارًا
بأنه سيفصل "المعلم محمود" لكثرة شكاوى
الزبائن من سلاطة لسانه واستفزازاته لهم
بادعائه معرفة كل شيء، ولأنه ضبطه مرارًا
يسرق بعض الأشياء في أثناء انشغاله بزحمة
الزبائن. لكنه لم يفعل ذلك حتى الآن. تمتم في
سرِّه: "لا شك أنه يشفق عليه... لقد أخبرني
يومًا أنه يتيم الأب، وأن أمَّه تعاني من مرض
في ظهرها يُقعِدها عن العمل. ثم إنه، كما سمعت
من الجيران، تنقَّل في محالٍّ كثيرة لعدم رضا
أصحابها عن سلوكه، حتى استقر هنا. وربما يعتقد
صاحب المحل أن تحمُّل مثل هذا الطفل اليتيم
سيسجَّل له حسنةً عند ربِّه!" ولج
وائل باب العمارة، وفكره ما يزال مشغولاً
بسيرة "المعلم محمود"، وقطع مسافة
المدخل حتى الدرجة الأولى التي تقود إلى فوق.
هنا توقف فجأة، وراح يحملق في المشهد الذي
أمامه. بدا متفاجئًا، مدهوشًا، وبان في نظرته
الكثير من الاستهجان والغضب. وفي لحظة، خرج
صوته محشرجًا: "ما هذا يا ولد؟! تدخن وأنت ما
تزال طفلاً! هل ترى في هذا السلوك شيئًا من
الأخلاق؟! طبعًا لا. ومع ذلك فأنت تدخن هنا في
مدخل العمارة، وربما تفعل هذا كثيرًا في
مداخل عمارات أخرى... بل حتمًا تفعل هذا دائمًا...
يا حرام! ألا تعرف أن التدخين مضرٌّ بالصحة،
ومضرٌّ بالأخلاق أيضًا حين يكون المدخن طفلاً
مثلك؟ ألا يوجد شيء آخر تفعله أفضل من التدخين
يا... يا "معلم محمود"؟!" قال
جملته الأخيرة بشيء من التهكم، بينما كان "المعلم
محمود" ما يزال يدخن، وهو يرمق وائلاً
بنظرة غير مبالية. وقبل أن ينهي وائل جملته
الأخيرة تمامًا، انطلق صوت "المعلم محمود"
صاخبًا: "هيه... يكفي، يكفي! هل أنهيت
محاضرتك؟ عرفنا الآن أنك رب الفهم!" يصمت
قليلاً ليلتقط أنفاسه بعد أن أخرجه وائل عن
طوره، ووضعه في حالة دفاع عن النفس، على الرغم
من محاولته الظهور بعكس ذلك تمامًا. ثم يتابع
بعد حين، وهو يهز رأسه ويرمي وائلاً بنظرة
استخفاف: "هل نسيت أنك تدخن يا أستاذ؟ أم
أنك تحب أن تلقي مواعظك على الآخرين فقط؟ عِظْ
نفسك أولاً، ثم تعال إلي!" كان
وائل يتحدث مع "المعلم محمود" عن مضار
التدخين والسلوك السيئ بالحميَّة ذاتها التي
تحدث بها منذ ساعتين خلال الندوة عن فوائد
النظام العَلماني. وفي الحقيقة، فقد كان
يستعرض في الحالتين مقدرته الفكرية
والكلامية ليس غير. ويبدو أن "المعلم محمود"
التقط فيه هذا الجانب بسخريته الواضحة. كان
يحدس، غير واعٍ، أن شخصًا مثل وائل لن ينهاه
عن شيء بدافع الحب أو الغيرة على المصلحة. يرى
وائل أن هذا الطفل المشاكس بدأ ينصب الفخاخ
له، فيقرر إنهاء الجدال والانسحاب صاعدًا
باتجاه الدرج. حين
أمسك بدفتر المذكرات مرة أخرى، كان الوقت
عصرًا، وقد نهض من قيلولته. لقد اعتاد أن
يدوِّن في هذا الدفتر أحداثًا مهمة وجميلة في
حياته. ولقد كانت ندوة هذا الصباح حدثًا
جميلاً في نظره، حدثًا أظهر أهميته وفعاليته.
دوَّن في الدفتر كلَّ شيء، من بداية الندوة
حتى نهايتها. خلاصة ما قاله زملاؤه، وما قاله
هو. أحاسيسه وانفعالاته قبل بدء الندوة، في
أثنائها، وبعدها. وأخيرًا دوَّن حُكْمَه على
كلِّ ما حدث وكلِّ ما قيل، ثم وضع تاريخ اليوم. شبك
يديه خلف رأسه، وراح يفكر. سرح ذهنه قليلاً.
وفجأة احتل تاريخ اليوم صفحة ذاكرته. عاد
فأرخى يديه، واستقام في جلسته: "يا إلهي! في
مثل هذا التاريخ، منذ عشرين سنة، حدث شيء رائع!"
راح يستعيد المشهد. كان قريبًا من باب البيت
حين فتحه والده ودخل عائدًا من رحلة عمل إلى
الخارج. وقتئذٍ لم يستطع والده احتضانه
تمامًا لكثرة أكياس الهدايا التي كان يحملها
بين يديه. وحين أخرج من الكيس الكبير ألواح
وعلب الشوكولاته التي جلبها معه ملأت كميتها
مساحة طاولة الطعام الكبيرة. وقتذاك بقي وائل
الطفل يأكل منها مدة شهرين كاملين. علت
وجهَه علامةُ ارتياح وهو يستعيد الذكرى
الجميلة. ثم أحس فجأة بشهوة إلى التهام قطعة
من الشوكولاته، وبدأ اللعاب يتحرك في فمه،
وتحت لسانه. هبَّ فجأة، وقال لنفسه: "سأنزل
إلى السوبرماركت، وأشتري علبة." لم
ينتبه، وهو ينزل الدرج ويخرج من العمارة، أن
الدفتر ما يزال في يده. فكر متسائلاً، في شيء
من الضيق، قبل أن يصل المحل: "هل سأرى ذلك
الجنِّي مرة أخرى اليوم؟" أراد أن يقفل
راجعًا، لكن لعابه كان يتحرك في فمه بشدة. قال
في نفسه مستغربًا: "هل من المعقول أن أصغِّر
عقلي إلى هذا الحد؟!" وولج باب المحل. اتجه
مباشرة، قبل أن يستطلع الداخل، إلى الزاوية
التي رُتبت فيها علب وألواح الشوكولاته. وقف
أمامها وراح يتأمل. اشتهى جميع الأنواع
المرصوفة في عناية، لكنه احتار في انتقاء نوع
فاخر يلبِّي شهوته العارمة ويخفف من تدفق
لعابه في فمه. كانت حيرته تشبه تلك الحيرة
التي أحس بها يوم وقف في بيته أمام طاولة
الطعام التي تكدَّست فوقها العلب. ولأنه كان
في عالم آخر مختلف لم ينتبه إلى مَن كان يقف
إلى جانبه منذ حين. فاجأه الصوت القوي، فانتفض
على وقعه: "هيه... هل ستبقى هكذا واقفًا مثل
أبي الهول لا تعرف ماذا ستنتقي؟!" التفت
إلى جهة الصوت بردة فعل سريعة، لا ليتأكد من
صاحبه – فقد عرف لتوه أنه "المعلم محمود"
– ولكن ليرميه بنظرة حمَّلها ضيقه
ولامبالاته. عاد فالتفت إلى الواجهة وظل
يحدِّق كأنه لم يسمع شيئًا. خطرت في باله فكرة:
"سأعلِّم هذا المشاكس الغرَّ أصول
المشاكسة الحقة!" استدار نحوه، ورمقه بشيء
من التحدي. "تعال... انتقِ لي أنت ما تشتهيه
في هذه اللحظة. ساعدني... يا أخي... بمعرفتك!"
صمت "المعلم محمود" إلى حين، ثم قال
بلهجة لامبالية: "لا أعرف." انبسطت
أسارير وائل. لقد وجدها فرصةً للنيل
والتشفِّي من هذا المدَّعي الصغير. "غير
معقول! ألا تقول دائمًا إنك تعرف كلَّ شيء،
وجوابك، كما أعلم، جاهز لكلِّ أمر؟!" لاذ
"المعلم محمود" بالصمت مرة أخرى. لكن
وائلاً لم يتركه. أراد أن يُجهِزَ عليه
ليلقِّنه درسًا لا ينساه، فانتهره قائلاً:
"يبدو أنك سكتَّ تمامًا! أين هو جوابك
الجاهز، ها؟!" أدار
"المعلم محمود" وجهه إلى الجهة الأخرى.
ولأول مرة يسمع وائل نبرة صوته المنكسرة: "لا،
أنا لا أعرف، لأني لم أعرف حتى الآن طعم أي نوع
منها." وذهب مسرعًا باتجاه الباب. انتفض
وائل، لكنْ بطريقة مختلفة هذه المرة. كان كمن
ينتفض على وقع سوط لسعه على حين غرة. قال بصوت
خفيض، كأنه يهمس أو يهذي: "طفل عمره ثماني
سنوات، مشاكس وجريء إلى حدِّ الوقاحة،
والجميع يلقبه بـ"المعلم محمود" ويحسب
للسانه حسابًا – ولا يعرف طعم الشوكولاته؟!"
بدأ نظره يزوغ، وراحت الأشياء تبدو أمامه غير
واضحة المعالم. وفي صعوبة استطاع أن يجد طريقه
نحو الباب. لم
يذهب وائل إلى البيت. أحس بحاجة إلى الركض،
فراح يركض بقوة مجتازًا شارعًا تلو الآخر،
حتى رأى نفسه أخيرًا فوق الرصيف المطل على
البحر. وقف في نقطة معينة، وراح ينظر أمامه.
غاب نظره خلف صفحة الماء المرئية. ومن قلب
المياه ظهر الجسر الذي رآه في الحلم. كانت
الصورة جلية، واضحة، لامس معناها أعماقه
الخفية، فعرف أن الصدع الذي رآه في الجسر ما
هو إلا هذا الشرخ القائم بينه وبين عالم
الواقع، بينه وبين الناس الذين يعيش بينهم
دون أن يراهم، بينه وبين الذين يلتقي بهم
ويصادقهم ويتحدث إليهم، دون أن يحس بهم أو
يعرفهم معرفة حقة. ولاح أمامه وجه شروق. كانت
شفتاها تنفتحان لتقولا: "أنت تعيش في برج
عاجي يا وائل، ولا ترى ما حولك... لذا فنحن لا
نستطيع أن نبدأ معًا." رأى وجه "المعلم
محمود". كانت عيناه منكسرتين مثل صوته: "أنا
لا أعرف لأني لم أعرف حتى الآن طعم أي نوع منها." أحس
بالصَّغار وبالدونية. راح العرق ينضح من
مسامه باردًا ولزجًا. مدَّ يده في بطء إلى جيب
سترته وأخرج سيجارة وضعها بين شفتيه. وحين
أخرج القداحة من الجيب الآخر ليشعلها، انتبه
إلى أن يده اليسرى كانت تمسك بدفتر مذكراته
طوال الوقت. قرَّبه من وجهه، وراح يحدق فيه.
أحس بغربته عنه، بأنه يراه للمرة الأولى. قدح
حجر النار، وبدلاً من أن يشعل السيجارة،
قرَّبها من الدفتر الذي راح يحترق على مهل، في
الوقت الذي أخذ شعور براحة عميقة يتسلَّل إلى
كيانه الذي كان يتابع المشهد.
12 نيسان 2007 *** *** *** تنضيد:
نبيل سلامة
|
|
|