|
الفلسفة البيئية 1 تخرج الفلسفة،
في الكتابين موضوع القراءة[1]،
من مركزيتها البشرية لتدخل مضمارًا جديدًا
فيه استنادات إلى الماضي، تأرجُحات بين ما
أفرزته الثقافة الإنسانية من تأكيد على
خصوصية الإنسان كنوع وبين ما أفرزه هذا
الإنسانُ وتلك الخصوصيةُ من تدمير لموائله
وموائل غيره، اقتراحات نحو فلسفة جديدة
مغايرة، اختلافات فكرية تضيء ذهن القارئ. وفي
المجمل، يضم الكتابان طيفًا هو من التنوع
والجدة ما أجَّل هذه القراءة عدة أشهر عن
موعدها المتوقع. يكتسب
الكتابان قيمتهما من كونهما يشكِّلان مرجعًا
فعليًّا للدخول إلى عالم الفلسفة
الإيكولوجية ecological
philosophy، حيث
يتمكن القارئ بعد قراءتهما من الإحاطة بمختلف
وجهات النظر والمقاربات المرتبطة بالموضوع –
خصوصًا مع حداثة الطرح على الصعيد العالمي،
أولاً، وعلى اللغة العربية، ثانيًا. وقد أشار
المترجم[2]
إلى نقطة هامة تتمثل في سؤال: ما هو التقدم؟
– وهو سؤال يبعثه الكتاب في نفس القارئ،
بالإضافة إلى أنه يحمل دعوةً واضحةً للمشاركة
في هذا الموضوع الحيوي الذي لا يُستثنى منه
أحد، خصوصًا مع وجود قاعدة بشرية ممتعة! – هي
التآخي في الأوقات الصعبة. يبحث
الكتاب الأول، بعد مقدمة المترجم ومدخل إلى
الفلسفة البيئية، في محورين أساسين هما:
الأخلاق البيئية والإيكولوجيا العميقة. أما
الكتاب الثاني فيتابع مع النسوية
الإيكولوجية ecofeminism
والاجتماعية الإيكولوجية social
ecology. ونظرًا لخصوصية
التنوع والكثافة في موضوع الكتابين، رأيت أن
يكون العرض على قسمين، يتناول أولهما (وهو
العرض الحالي) الكتاب الأول، فيما سأتناول
الكتاب الثاني في عرض لاحق. الفلسفة البيئية يذكر
مايكل زيمرمان في تقديمه للكتابين أنه يمكن
تقسيم الفلسفة البيئية إلى ثلاثة حقول: 1. الأول هو الأخلاق
البيئية، التي تركز على الالتزام الأخلاقي
والقانوني تجاه الكائنات الأخرى، وتجاه
النطاق الحيوي ككل، إلى جانب، وبالتوازي مع،
الالتزام الأخلاقي بين البشر تجاه بعضهم
بعضًا. 2. الحقل الثاني هو الإيكولوجيا
الجذرية، التي تتضمن، بدورها، جدلاً
واسعًا بين الإيكولوجيا العميقة deep
ecology،
التي تنتقد مفهوم "المركزية البشرية" anthropocentrism
وتعتبره أساس الأزمة البيئية، وبين النسوية
الإيكولوجية التي تعتبر أن البطريركية
والتراتبية، التي ترى النساء والأطفال
والطبيعة في منزلة أدنى، مترافقةً مع
الهيمنة، هما مسبِّبا هذه الأزمة. يجمع بين
هذين الاتجاهين نقدٌ واسع الطيف لمنتجنا
الثقافي التاريخي والآني. 3. الحقل
الثالث هو الإصلاحية المتمركزة بشريًّا.
والمنظِّرون لها يرون إمكانية كبح الممارسات
البشرية الجائرة عبر سنِّ تشريعات جديدة
وتغيير السياسة العامة وما إلى ذلك، دون
الحاجة إلى "ثقافة ثورية" أو إلى تبدلات
في النظرية الخلقية المتمركزة بشريًّا. الباب الأول: الأخلاق البيئية يبدأ
هذا الباب – وهو الباب الأول من الكتاب –
بمقدمة يشرح فيها ج. بايرد كاليكوت نشوء
الأخلاق البيئية، مركِّزًا على النزاع
النظري بين الأخلاق البيئية وبين تحرير/حقوق
الحيوان: إن الأخلاق التي يتبنَّاها معظم
البيئيين تتطلب الحفاظ على المنظومات
البيئية، وبالتحديد الأنواع النباتية، مهما
كان الثمن، حتى لو أدى ذلك إلى قتل الحيوانات
الثديية العاشبة المألوفة، بينما الأخلاق
التي يتبناها الناشطون في تيار تحرير/حقوق
الحيوان تفضِّل الحيوانات الثديية، حتى لو
أدى ذلك إلى المزيد من التدهور البيئي وتآكُل
التنوع الحيوي [...]
(ص 27) ومشيرًا
إلى أنه [...] من الناحية النظرية، إن الأكثر
أهمية بالنسبة إلى هدفنا هنا يتمثل في أن تيار
تحرير/حقوق الحيوان حرث أرضًا جديدة في
الفلسفة الخلقية عندما خطا إلى أبعد من حدود
الجنس البشري. (ص 27) تندرج
بعض مقالات هذا الباب تحت عنوان "الأنسنة"،
في حين تحاول مقالات أخرى التخلص منها. وقد
عبَّر كاليكوت عن هذا التناقض في تمييزه بين
المقاربات الفردية للأخلاق البيئية وبين
المقاربات الكلِّية؛ وهو ما يُعد وجهًا آخر
للمشكلة، ذلك أنه بمحاولة الأخلاق البيئية
توسيع الإطار الأخلاقي ليشمل الكوكب ككل،
تبدأ مشكلة الأخلاق/الحقوق بالظهور من خلال
إشكالية تعميم التجربة البشرية على الكوكب:
هل تمتلك الحيوانات حقوق البشر؟ وهو ما يقود
إلى سؤال: هل التجربة البشرية هي المقياس؟
وإذا كان الأمر كذلك، أليس التناقض بين "لارحمة"
الطبيعة وبين الرحمة النظرية–الأخلاقية في
المنظومة البشرية صارخًا؟ تسلسُل
المقالات في هذا الباب، وفي الأبواب الأخرى،
هو تسلسل مدروس في دقة تشي بالجهد المبذول في
إنجاز هذا المرجع الهام. هل هناك حاجة إلى أخلاق جديدة بيئية؟ (ريتشارد
سيلڤان) يبدأ
سيلڤان مقاله بنقد للبنية الأخلاقية
القائمة في مجملها، وبإظهار تعارُض هذه
البنية مع إمكانية صوغ أخلاق جديدة بيئية من
داخلها. فـ [...] النظرة الغربية المهيمنة لا
تنسجم مع أخلاق بيئية؛ فالطبيعة وفقًا لها
تُعدُّ ملكية حصرية للإنسان [...]. (ص 43) ذلك
أن نسخة الحرية الليبرالية تقوم على أن
الإنسان يفعل ما يشاء، شريطة عدم إيذاء
الآخرين أو إيذاء نفسه – وهو ما يسميه سيلفان
بـ"الشوڤينية البشرية الأساسية". إذن
الأخلاق المعدَّلة عن الأخلاق السائدة غير
كافية، بل المطلوب هو أخلاق جديدة. كل الحيوانات متساوية (پيتر سينغر) يستكمل
مقال سينغر طرح سيلڤان حول أخلاق جديدة
بيئية. ويبدو أن سينغر يشكِّل مفصلاً هامًّا
في الجدل الدائر حول الأخلاق البيئية
الجديدة؛ إذ إننا نلاحظ أن جزءًا كبيرًا من
مقالات هذا الباب تناقش آراءه، تحلِّلها
وتشجبها. يرى كاليكوت أن [...] الجاذبية الهائلة لأخلاقيات
تحرير الحيوان عند سينغر تصدر – ويا للمفارقة
– عن حقيقة أنه لم يأتِ بجديد فعليًّا. بل،
لقد طلب بكلِّ بساطة تطبيقًا متسقًا لنظرية
القيمة في المذهب النفعي الكلاسيكي القائلة
بأن اللذة خير والألم شر. (ص 30) يبدأ
سينغر مقاله بمناقشة فكرة المساواة ويرى أن [...] مبدأ المساواة بين الكائنات
البشرية ليس وصفًا للمساواة الفعلية
المزعومة بين البشر: إنه توجيه بالكيفية التي
يجب وفقها معاملة البشر. (ص 59) وهذا
ما يمهِّد له الطريق لتوسيع مفهوم المساواة،
بحيث يشمل الكائنات غير البشرية، معتمدًا على
معيار "الإحساسية" sentience،
وليس على معيار الذكاء أو القدرة العقلية أو
اللغة. يركز
سينغر على "النوعانية"، التي تلتقي مع
"الشوڤينية البشرية" الخاصة
بسيلڤان، ويقصد بها تفضيل النوع البشري
على الأنواع الحية الأخرى، ويرى أنها رديف
العنصرية racism
والجنسانية sexism
التي لم تتحرر البشرية منهما، فلسفيًّا على
الأقل، إلا منذ وقت قصير. يستكمل
سينغر فلسفته موضحًا، عبر أمثلة صريحة، كيف
يقع الباحث ضحية إيديولوجيا أو طريقة تفكير
إيديولوجية يرفضها. وهذا ما يشكِّل مفصلاً
حاسمًا في الفلسفة البشرية، خصوصًا مع تأكيده
على دور الفلسفة في نقد المسلَّمات. حقوق الحيوان وأخطاء الإنسان (توم
ريغان) يرد
ريغان في هذا المقال على سينغر، فيبدأ بسبر
فلسفي محوره: ما هي أسُس قيود عدم أذية
الحيوانات؟ لدينا، أولاً، التفسير الكانطي
القائم على "تحريم" أذية الحيونات خوفًا
من وصول الإنسان إلى أذية البشر؛ وثانيًا،
التفسير بالقسوة المستند، في أحد جوانبه،
على التفسير الكانطي؛ ثم ثالثًا، التفسير النفعي
القائم على مبدأي المساواة والمنفعة. يشرح
ريغان تناقُض مبدأي التفسير النفعي
الأساسيين، داحضًا حُجَج سينغر، لينتقل بعد
ذلك إلى مسألة حقوق الحيوان، مستندًا إلى
سؤال: هل للحيوانات الحق في عدم الأذى؟ (ص
85) يفترض
ريغان أن للكائن البشري نوعًا محددًا من
القيمة، يسميها "القيمة الأصلية"، بمعنى
أنها قيمة مستقلة منطقيًّا عن كون الفرد ذا
قيمة لشخص آخر – ضد المذهب النفعي. ثم يصل إلى
أن الفرد ذو القيمة له الحق في أن لا تتم
معاملته بأساليب تُنكِر عليه قيمتَه. هذه
القيمة، وفقًا لريغان، منبثقة عن كون الكائن
"حيًّا" أو يمتلك حياة؛ وبذلك يمكن
توسيعها لتشمل الكائنات الأخرى غير البشرية.
ويعلِّق كاليكوت على أطروحة ريغان بقوله: [...] الرد على أخلاق تحرير الحيوان
عند سينغر بالترياق الكلاسيكي المألوف الذي
يضاهيه – الحقوق (حقوق الحيوان في هذه الحالة).
(ص 30) حول الاعتبارية الخلقية (كينيث ي.
غودپاستر) ينطلق
غودپاستر من سؤال: عند تعميم قواعدنا الخلقية
المزعومة، ما هو نطاق التغير الذي يتراوح هذا
التعميم ضمنه؟ (ص 92) مناقشًا
أن الفلسفة الخلقية قد حددت المنطلق، لكنها
تكاسلت في تعيين خطِّ السير والغاية منه. وهذا
أحد أسباب عجزها أمام قضايا مثل قضايا
الأخلاق البيئية. يرى
غودپاستر أن معيارَي العقلانية والإحساسية
غير ضروريين للاعتبارية الخلقية moral
considerability، في مقابل أن
معيار "ما هو حي" being alive
يمكن أن يكون المعيار المطلوب. وهو
يميز بين الاعتبارية الخلقية وبين الحقوق:
فالحقوق شأن بشري؛ كما يميز بين "الاعتبارية
الخلقية" وبين "الأهمية الخلقية":
فالثاني تفضيلي، في حين أن الأول لا يخضع
للأولويات. التمييز الثالث هو بين أسئلة
المعقولية وبين أسئلة الجوهر المعياري، حيث
يجب الحذر من الإجابة على أسئلة المعقولية
بلغة الأجوبة الخاصة بالجوهر المعياري. بعد
أن يناقش غودپاستر معايير المنفعة
والإحساسية والعقلانية وصعوبة اعتماد أحدها
كمعيار للاعتبارية الخلقية، ينتقل إلى
مناقشة الاعتراضات الناشئة عن اعتبار معياره:
"ما هو حي"، كأساس للاعتبارية الخلقية.
يعلِّق كاليكوت على أطروحة غودپاستر بقوله: لكن من الواضح أن غودپاستر يحاكم
الأمور عقليًّا وفق الصيغة التي رسَّخها
كلاسيكيًّا بنتام وتوسَّع فيها سينغر. (ص
31) أخلاقيات احترام الطبيعة (پول و.
تايلور) يركز
تايلور على المنظومة الأخلاقية المتمركزة
حيويًّا biocentrism،
فيميِّزها عن المنظومات المتمركزة بشريًّا:
ففي حين ترى المنظومة المتمركزة بشريًّا أن
أفعال البشر تجاه الطبيعة تكون صحيحة أو
خاطئة وفقًا لمدى تناسُبها مع "خير"
الإنسان، ترى المنظومة المتمركزة حيويًّا
أنه تتعيَّن علينا التزاماتٌ أخلاقية تخص
مكونات الطبيعة في حدِّ ذاتها، باعتبارها
أعضاء في مجتمع الأرض الحيوي. وهو يرى، كما
عبَّر كاليكوت، أن: غاية [...] المتعضِّي الحي تتمثل في أن يصل
إلى مرحلة النضج ويتكاثر. (ص 32) وبحسب
وجهة نظر تايلور، فللمنظومة المتمركزة
حيويًّا أربعة مقومات أساسية، تتلخص في أن
الكوكب، في مجمله، منظومة عضوية تضم كائنات
هي مراكز غائية – في حدِّ ذاتها – للحياة،
وأن البشر مكوِّن من هذه المكوِّنات، ما يقود
إلى إنكار التفوق البشري. ويعلِّق كاليكوت: إن سينغر وريغان وغودپاستر وتايلور
يقدمون تنويعات على موضوعة نظرية مشتركة يمكن
لنا أن ندعوها النموذج الإرشادي القياسي
للفلسفة الخلقية التقليدية. [...] والاختلاف الرئيسي بين [نظرياتهم]
يكمن في اختيار الخاصية أو الصفة المانحة
للاعتبار الخلقي. (ص 34) وأعتقد
أنه يمكن استبعاد تايلور من قائمة كاليكوت:
ذلك أن تايلور، وإنْ ركَّز على أن الكائنات
الحية هي مراكز غائية للحياة في حدِّ ذاتها،
لكنه لم يعتبر ذلك صفةً مانحةً للاعتبار
الخلقي بقدر ما حاول بناء رؤية "نظرية"
فلسفية قوامها نقد المنظومة المتمركزة
بشريًّا كنقطة انطلاق نحو الأخلاق البيئية
الجديدة. تحرير الحيوان والأخلاق البيئية:
زواج باطل... طلاق سريع (مارك ساغوف) ينطلق
ساغوف من جدلية الأخلاق البيئية/الحقوق، ليصل
إلى أنه من الممكن أن [...] يحمي القانون البيئي حقوق
الحيوانات دون أن يحسِّن بالضرورة عافيتها أو
يحمي حياتها. (ص 135) يميز
ساغوف بين الخيرية والإيكولوجيا: فالعلاقات
في الطبيعة لا تقوم على التعاطف الخلقي، بل
على قانونها الخاص الذي يجب احترامه. فالصيد،
مثلاً، ليس عملاً خلقيًّا؛ إلا أنه من
الممكن، من وجهة نظر أخرى، أن يساهم الصيادون
في الهدف الإيكولوجي المتمثل في تنوع البيئة
الطبيعية وتكامُلها وأصالتها. وانطلاقًا
من سؤال: أليس القضاء على المعاناة في الطبيعة
رديف القضاء على الطبيعة؟ – خاصة حين لا
يتحول هدفه إلى "صيغة رياء لإرضاء محبِّي الكلاب
الصغيرة المدلَّلة" (ص
138) –
يقول ساغوف إنه من الطبيعي أن ننكر القسوة،
ولكن هذا أمر مختلف تمامًا عن محاولة تشكيل
أساس لأخلاق بيئية جديدة. تبدأ
في هذا المقال ملامحُ المنظومة الأخلاقية
المتمركزة حيويًّا بالتشكل عبر نقد الآراء
والمقاربات الفردية لها وتفنيدها. كما أننا،
كقراء، نشعر بقفزة على مستوى الفلسفة، تبدأ
من هذا المقال لتعود إلى آراء ليوپولد،
المُعتبَر أول من ناقش قضايا الأخلاق
البيئية، كخطوة إلى الخلف تمهيدًا لقفزة أخرى
إلى مستوى أعلى. أخلاق الأرض (ألدو ليوپولد) يُعَد
كتابُ ليوپولد A Sand County
(1949) إعلان بدء تشكيل الأخلاق
البيئية. والمقال المأخوذ من الكتاب يلح،
إجمالاً، على أن صون المجتمع الحيوي هو غاية
الأخلاق البيئية الجديدة وأن الإنسان كائن
مشارك في هذا الكوكب، وليس سيدًا عليه. ينتقد
ليوپولد الفكر النفعي في علاقة الإنسان
بالطبيعة، على الرغم من أن كتابه شكَّل،
لاحقًا، أحد أهم أسُس الجدل النفعي–الحقوقي
بين الأخلاقيين البيئيين (سينغر وريغان مثلاً): إن العقبة التي تجب إزالتُها من أجل
إطلاق السيرورة التطورية للأخلاق هي ببساطة:
التخلِّي عن التفكير في الاستخدام اللائق
للأرض وكأنه مشكلة اقتصادية حصرًا، واختبار
كلِّ مسألة بواسطة ما هو صائب أخلاقيًّا
وجماليًّا، إضافة إلى ما هو مفيد اقتصاديًّا.
يكون الشيء صائبًا عندما يميل إلى صون تكامل
واستقرار وجمال المجتمع الحيوي، ويكون
خاطئًا عندما يميل إلى عكس ذلك. (ص
163) إلا
أن ليوپولد، كما يشير كاليكوت، [...] خبير غابات بالممارسة وعالم في
إيكولوجيا الحياة البرية من حيث المهنة، لكنه
ليس فيلسوفًا. (ص 35) الأخلاق البيئية الكلِّية ومشكلة
الفاشية الإيكولوجية (ج. بايرد كاليكوت) يحاول
كاليكوت، كما عبَّر في مقدمة هذا الفصل،
تقديم نموذج إرشادي paradigm
نظري مختلف للمقاربة الكلِّية لأخلاق الأرض،
سعيًا وراء توسيع المركزية الحيوية. وهو
ينطلق في المقال من رؤية الأصل الدارويني
لأخلاق الأرض في مجمل النظريات ومن نقدها،
مركِّزًا على أن أخلاق الأرض يجب ألا تحلَّ
محلَّ الأخلاق الاجتماعية المتراكمة على
مدار التطور البشري، بل تكمِّلها وتضيف إليها.
وهذه الفكرة هي جوهر ما يطرحه ردًّا على اتهام
أخلاق الأرض بـ"الفاشية الإيكولوجية".
فالتزامات عضويتنا في المجتمع البشري يجب ألا
تتعارض، جوهريًّا، مع التزاماتنا حيال
المجتمع الحيوي بالكامل، وإن كنَّا نحتاج، في
بعض القضايا، إلى ترتيب للأولويات. تحدِّيات في الأخلاق البيئية (هولمز
رولستون الثالث) سعيُ
هولمز، كما كاليكوت، في توسيع مقنع وفلسفي
للمركزية الحيوية يبدأ من نقد المركزية
البشرية نقدًا فلسفيًّا عِبْرَ تعيين
العلاقة بين الطبيعي والثقافي: إن البشر، فقط البشر، هم الذات
والموضوع في الأخلاق. الطبيعة لاخلقية amoral؛
والمجتمع الخلقي يوجد ضمن البشر. (ص 185) وكذلك
من تأكيد الحاجة إلى أخلاق "بينْنَوعية" interspecific
تتجاوز النوع البشري في هيمنته، الظاهرة أو
المبطَّنة: لعل الإنسان هو القائس الوحيد
للأشياء. لكن هل الإنسان هو المقياس
الوحيد للأشياء؟ (ص 186) يقوم
الإنسان، حتى في محاولته توسيع الإطار
الأخلاقي ليشمل الحيوانات الأخرى، بتعميم
إيديولوجياته الخاصة. لنقل، مثلاً، مع هولمز: إن التعامل مع الحيوانات البرية بما
تقتضيه الشفقة التي لقَّنتنا إياها الثقافةُ
لا يقدِّر برية هذه الحيوانات حقَّ قدرها. (ص
190) فالأخلاق
البيئية لا تقتضي "أنسنة" الحيوانات، بل
القدرة على التعامل معها على ما هي عليه. وحول
الاعتبارية الخلقية عنده، كما عبَّر كاليكوت: [...] إلى القيمة الذاتية القاعدية
المتساوية للأشياء الحية، التي يمتلك كلٌّ
منها خيره الخاص، يضيف رولستون علاوة قيمية،
إذا جاز التعبير، للإحساسية وعلاوة قيمية
إضافية للوعي الذاتي. (ص 38) حقوق الحيوان والأخلاق البيئية:
اتحاد جديد (ج. بايرد كاليكوت) في
محاولة لإيجاد نقاط تلاقي بين المقاربات
الكلِّية والمقاربات الفردية للأخلاق
البيئية، يشرح كاليكوت تقارُب الفلسفة
الطبيعية والفلسفة الأخلاقية في سعيهما وراء
الوحدة والاتساق في النظرية. ولذلك فإن ثمة
مبررًا لتفضيل الوصول إلى وحدة نظرية في
الفلسفة الأخلاقية بين أخلاق عافية الحيوان
وبين الأخلاق المتمركزة بيئيًّا. هذا الهدف
هو ما يشكِّل دعامة مقال كاليكوت. وبمفرداته
ذاته: [...] تتمثَّل النقطة الأساسية [لدى
كاليكوت] في إظهار أننا
نستطيع ترسيخ طيف عريض من الأخلاق المقارنة،
المشتركة والمعقولة – الإنسان مقابل
الإنسان، الإنسان مقابل الحيوان، الإنسان
مقابل الطبيعة –، وذلك بواسطة فلسفة خلقية
ونظرية أخلاقية مشتركة. (ص
40) الباب الثاني: الإيكولوجيا العميقة يبدأ
هذا الباب بمقدمة كتبها جورج سيشِّنز يستعرض
فيها تاريخ الفلسفة الإيكولوجية في علاقتها
مع الواقع، وصولاً إلى التمييز الذي ابتكره
ووطَّده آرني نايس بين "الإيكولوجيا
الضحلة" و"الإيكولوجيا العميقة". الإيكولوجيا
الضحلة shallow
ecology تبحث في استنزاف
الموارد، التلوث، إلخ، أي فيما يتعلق بصحة
الإنسان ورخائه، في حين تتجه الإيكولوجيا
العميقة نحو البنية النفسية والروحية
للإنسان، متشابكةً مع علم النفس والفلسفة
الدينية، لتصنع مركبًا خاصًّا بها، يمكن
عنونته بجملة سقراط الشهيرة "اعرف نفسك". تقوم
الإيكولوجيا العميقة الخاصة بنايس على
دعامتين: الحكمة الإيكولوجية المتمركزة حول
"تحقيق الذات"، وبرنامج النقاط الثماني.
وسيتم التوسع في هذه الدعائم عِبْرَ استعراض
مقال نايس "حركة الإيكولوجية العميقة". الإنسان القابل للحياة (توماس بيرِّي) يتوجه
بيرِّي نحو نقد ثقافة الاستهلاك السائدة،
التي تدعمها المؤسساتُ الصناعية الكبرى،
مركِّزًا على العلاقة الحية بين الإنسان
والكوكب، بين الإنسان والطبيعة – هذه
العلاقة التي استُلِبَتْ لصالح قيم اجتماعية
وفلسفية حديثة، قوامها بخس قيمة المجتمع
الأوسع لصالح أنانية استهلاكية مرعبة.
وبمفرداته: إن خبرتنا بما هو سماوي، أي بعالم
المقدس، قد انحطَّت مع إحراز المال والقيم
النفعية الأولويةَ على القيم الروحية
والجمالية والعاطفية والدينية في موقفنا
تجاه العالم الطبيعي. (ص 256) يُحمِّل
بيرِّي مقاولي الصناعة القسط الأكبر من
المسؤولية عن الأزمة البيئية، عبر ترسيخهم
عالمًا رائعًا استهلاكيًّا ومتلافًا،
إنسانيًّا وبيئيًّا. حركة الإيكولوجيا العميقة: بعض
الجوانب الفلسفية (آرني نايس) يبدأ
آرني نايس بطرح مثال يشرح ضغط "السياسات
الإجمالية" الاقتصادية السائدة على بزوغ
سياسات بيئية حقَّة وعميقة، داعيًا الخبراء
خصوصًا إلى الجهر بدور الإيكولوجيا العميقة: إن دفاعًا جريئًا عن الاهتمامات
الإيكولوجية العميقة من قبل أولئك الذين
يعملون ضمن النطاق البيئي الضحل المتوجِّه
نحو الموارد لهو الإستراتيجية الأفضل
لاستعادة بعض القوة لهذه الحركة لدى الجمهور
العام، وبالتالي الإسهام، ولو بتواضع، في
تحويل التيار. (ص 568) يشكِّل
برنامج النقاط الثماني أحد دعامات
الإيكولوجيا العميقة. فما هو هذا البرنامج؟
يشرح نايس أن معارضة إحدى نقاط البرنامج أو
أكثر معارضةً شديدةً يعني الخروج من مجال
مناصرة هذه الحركة، أي: ترتبط نقاط البرنامج
بعضها ببعض ارتباطًا جوهريًّا. وهذه النقاط
الثماني هي:
لماذا
"العميقة"؟ يطرح نايس مقاربته بين
الإيكولوجيا الضحلة والإيكولوجيا العميقة
عبر عدة عناوين أساسية تمس الإيكولوجيا، منها:
التلوث، التعليم، عدد السكان، إلخ. ولتوضيح
الفارق سوف نأخذ مثال التلوث: ترى
الإيكولوجيا الضحلة إلى دور التقانة في تنقية
الهواء ونشر التلوث على التساوي، كما يُفضَّل
تصدير الصناعات الملوِّثة إلى البلدان
النامية؛ أما الإيكولوجيا العميقة فتقول
بتقييم التلوث على النطاق الحيوي ككل، وليس
فقط بحسب تأثيره على الجنس البشري. وبالتالي،
فإن الأولوية هي في العمل على إزالة الأسباب
العميقة للتلوث، وليس في العمل على محاولة حل
آثارها المباشرة. يمكن
لنا أن نقول إن الإيكولوجيا العميقة، كما
شرحها نايس فلسفيًّا وواقعيًّا، تنحو إلى
لاهوت جديد، يعيد المقدس إلى الطبيعة، ولكن
بناءً على ما أنجزه الجنس البشري حتى الآن.
وهي تتطلب تغييرًا جذريًّا في البنية النفسية
والروحية لإنسان العصر، تجاوُزًا لمفردات
"الأنا" ego
نحو "الذات" Self،
تفردُنًا يونغيًّا. وهذا ما يتلازم مع فلسفة
بيئية جديدة لا يكون الإنسانُ فيها مهيمنًا
على الكون، بل مشارك، في العمق، في سيروراته
وتحولاته وتنوعاته كلِّها. ونرى أن ما طُرِحَ
هنا، على جِدَّته، استكمال لمسيرة "دينية"
تاوية قديمة، لكنْ بمفردات إيكولوجية فلسفية
حديثة. جلاء انتقادات الإيكولوجيا العميقة (هارولد
غلاسير) انطلاقًا
من عنوان المقال، يستكمل الكتاب توضيح وجهة
نظر الإيكولوجيا العميقة عبر توضيح
الانتقادات العامة الموجهة إليها، حيث يبدأ
غلاسير من ثنائية "إيكولوجيا عميقة/إيكولوجيا
ضحلة"، ليوضح أن نايس لم يقصد أن تكون كلمة
"عميقة" سورًا يشير إلى فرع جزئي من
الإيكولوجيا، كما لم يقصد ازدراء الجانب
الآخر. يمر
غلاسير على مأخذ آخر هو القراءة الانتقائية
لأدبيات الإيكولوجيا العميقة – هذه
الانتقائية التي قد تقود إلى توكيدات خاطئة،
كالزعم بأن الإيكولوجيا العميقة "فاشية"
أو "ضد إنسانوية". أما المأخذ الثالث
والأهم فهو نتاج المأخذين السابقين. المناظرة ومثيلاتها بين الإيكولوجيا
العميقة والنسوية الإيكولوجية (ورويك فوكس) يستكمل
هذا المقال ما بدأه المقال السابق، لكنْ عبر
تحديد أدق، حيث تصبح الانتقاداتُ هنا
انتقاداتٍ من ضمن الفلسفة البيئية ذاتها، وهي
انتقادات النسوية الإيكولوجية والإيكولوجيا
الاجتماعية للإيكولوجيا العميقة. يرى
فوكس أن لانتقادات النسوية الإيكولوجية
أهمية كبيرة نظرًا للتحدي الذي تطرحه عليها: يؤكد النقاد النسويون للإيكولوجيا
العميقة أنها تتحدث عن "مركزية بشرية"
محايدة جنسانيًّا كجذر للهيمنة على الطبيعة،
في حين أن المركزية الذكورية هي الجذر
الحقيقي في الواقع. (ص
309) هذا
ما صاغه مايكل زيمرمان وتبنَّاه فوكس كتكثيف
لنقد النسوية الإيكولوجية للإيكولوجيا
العميقة. في المقابل، يقول جيم تشيني: إن التحدي الأساسي ليس في أن تركيز
الإيكولوجيين العميقين يتم على المركزية
البشرية، في حين أن المشكلة هي، في الحقيقة،
المركزية الذكورية؛ بل في أن الشأن الرئيسي
هو... أن الإيكولوجيا العميقة، بحدِّ ذاتها،
وبمعنى ما، متمركزة ذكوريًّا. (ص 310) يفنِّد
فوكس رأي تشيني، معتبرًا إياه مشاكسًا ويفتقر
إلى الوضوح والدقة، معتبرًا تكثيف زيمرمان هو
الأكثر جدية ووضوحًا[3].
ويرى فوكس أنه: ليس ثمة سبب – ماعدا العمى الفكري أو
الشوڤينية الصريحة فيما يتعلق بقضايا
متصلة بالجنس – يفسِّر لماذا لا ينبغي على
الإيكولوجيين العميقين أن يجعلوا المركزية
الذكورية موضع تركيز انتقاداتهم بدلاً من
المركزية البشرية. (ص
313) يتفق
الإيكولوجيون العميقون على أن الرجال كانوا
أكثر تورطًا من النساء في تاريخ التدمير
البيئي؛ لكنهم، في المقابل، يتفقون أيضًا على
أن البيض والرأسماليين، مثلاً، كانوا أكثر
تورطًا من الشعوب ما قبل الرأسمالية. إذن فهذه
تفاصيل غير جوهرية، "سطحية"، وتعني أن
هناك جذرًا واحدًا للمشكلة، يغفل الذين
يتوقفون عندها عن تفاعُل عوامل متعددة وكثيرة
أنتجت أزمتنا الحالية. هذا
فيما يخص انتقادات النسوية الإيكولوجية. أما
الإيكولوجيا الاجتماعية، التي تعتقد
بالمساواة الاجتماعية كأساس لحلِّ الأزمة
البيئية، فترى، على لسان مُلهِمها موراي
بوكتشين، أن من الممكن وجود مجتمع حميد
إيكولوجيًّا، لكنْ جائر جدًّا في علاقاته
الداخلية، مثل المجتمع المصري القديم. ويرد
فوكس بأن العكس وارد أيضًا. التعارض
بين الإيكولوجيا الاجتماعية والإيكولوجيا
العميقة ينصبُّ حول موضوع المركزية البشرية:
فالإيكولوجيا الاجتماعية تنتمي إلى تصنيف
مايكل زيمرمان الثالث في الفلسفة البيئية،
وهو الذي يرى بأن تنظيم علاقات البشر كفيل
بحلِّ الأزمة البيئية. وهذا موضوع الباب
الرابع والأخير من كتابَي الفلسفة البيئية. يفنِّد
فوكس انتقاد الإيكولوجيا الاجتماعية
للإيكولوجيا العميقة، المكثف في عنوان "كراهية
الجنس البشري"، بقوله إن الإيكولوجيا
العميقة لا تُعارض البشر، بل تُعارض التمركز
البشري – والفرق بينهما كبير. المركزية الإيكولوجية البرِّية
وحماية المنظومة البيئية العالمية (جورج
سيشِّنز) يعيد
سيشِّنز في هذا المقال روح الفلسفة إلى فصل
الإيكولوجيا العميقة، بعد الصراع التوضيحي
في المقالات السابقة، حيث يناقش، ما يحدث على
أرض الواقع انطلاقًا من مركزية بشرية تفترض
أن الطبيعة ملكٌ للإنسان وأن الغابة، مثلاً،
لا تُقيَّم إلا بمقدار فائدتها للبشر. ينتج عن
ذلك أنه بمقدار ما يمكن "تحسين" هذا
الغابة وزيادة مردودها عبر زراعة الأشجار
المتفوقة وراثيًّا، على سبيل المثال، فإن
قيمتها تتعاظم؛ ويترافق ذلك مع تَعَامٍ تامٍّ
عن تدمير تنوعها الحيوي وطبيعتها الأساسية. تحويل
الغابات إلى مزارع، بالإضافة إلى السياق
التعليمي الذي لم يعد يُخرِّج علماء غابات بل
مدراء مزارع، تحويل الموائل البرية إلى
متنزَّهات ترفيهية، من جهة، وعامل "إسكات
الضمير"، من جهة أخرى، هو في تزايد مستمر في
طول العالم وعرضه – هذا كله اقتضى ظهور فرع
جديد في الإيكولوجيا سُمِّي "بيولوجيا
الحفاظ" conservation
biology، الذي ينظر [...] في تطبيق النظرية
والمعرفة الإيكولوجية على جهود الحفاظ على
الطبيعة. (ص 332) تواجه
بيولوجيا الحفاظ معضلات واقعية صعبة، تتمثل
في رؤية مُفادها كفايةُ تأمين بعض المحميات
للحفاظ على الطبيعة. وهي رؤية تعوزها
الكلِّية، بالإضافة إلى ما تفرزه هذه الرؤية
من سياسات على أرض الواقع. لقد
دعا الإيكولوجيون والبيئيون، منذ العام 1967،
إلى "تسوير" zoning
على نطاق العالم، بهدف حماية البرية والأنواع
الحية فيها، كاقتراحٍ قد يكون السبيل الوحيد
للحدِّ من التأثير البشري المدمِّر على الأرض.
ولكي يكون المقترَح فعالاً يجب أن يترافق مع
ترميمٍ وإشرافٍ إيكولوجي–معرفي. *** *** *** [1] مايكل زيمرمان (محرِّر)، الفلسفة
البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا
الجذرية، بترجمة معين شفيق رومية، سلسلة
"عالم المعرفة" 332-333، طب 3، 2006. [2] راجع: معين رومية، "اخضرار
الفلسفة"، معابر، شباط، 2007. [3]
سنتوسع في هذا
الموضوع بعد قراءة باب "النسوية
الإيكولوجية" (الباب الثالث، الكتاب
الثاني)، حيث سيكون في إمكاننا إذ ذاك تشكيل
رأي أوضح بعد أن يكون القارئ قد اطَّلع على
أساسيات النسوية الإيكولوجية أيضًا.
|
|
|