ذاكرةُ العناصر
الألم كمادَّة وذاكرة وحقيقة جسديَّة

 

شومان محمد زينو

 

"بشرية" الألم في نظر نزيه أبو عفش، في كتابه ذاكرة العناصر[*]، هي التي ترتفع بـ"المتألم" إلى مستوى التألُّه، تُجَوْهِرُ الألمَ وتجعل الحياةَ جديرةً به كتجربة يخوضها الإنسانُ وهو يدرك أن "الحياة ممر طويل إلى الموت" (ص 137).

والشاعر، بضميره الشقيِّ وإحساسه "الألمي"، تُلازِمُه "الخشبة" والأوتاد وإكليل الشوك ولا يترجَّل. يتماهى والعناصر، يشغله التفكيرُ في "أحزان النبات، ألم الطائر، شقاء البذرة، صداع الحلزون، وحيرة الأتان الخجول". وهو يرى أن الألم لغة الله "الرسمية" وخطابه الأزلي:

فكِّر الألم/ فتكتشف اللغة الرسمية/ لجدِّك الحزين: الله. (ص 13)

كما أنه (أي الألم) مفتاح الوجود للشاعر، بل مقياس الحضور في الحياة. هو المصوِّب والمنبِّه والنافخ في أذن الغافل عنه:

الآلام تنبِّهني بلا هوادة/ إلى أننَّي/ ما أزال/ داخل الحياة. (ص 121)

وفي مكان آخر:

تألَّم أمام عين الله/ تألم عاليًا وقل:/ ما أضعفني! (ص 135)

وما يجب ألا يفوتنا، في سياق هذه المحاولة للاقتراب من رؤية أبو عفش الشعرية والفكرية، هو ذلك المنحى التشاؤمي للشاعر الذي يلامس أحيانًا حدَّ الشك في المعدن البشري نفسه. ففي قصيدة "أحفاد قابيل" يقول:

إذا تقول "أحبك"... أتحسَّس قلبي/ وإذ تقول "أخي"... أشمُّ في ندائك العطوف/ طلاوة السمِّ في اللقمة/ ولسعة الرصاصة في الظهر. (ص 171)

يذهب أبو عفش في هذا القول مذهبًا متطرفًا، كأنه يقطع أية إمكانية في شأن الشراكة في الحياة، ويدفع بالارتياب إلى أقصاه، بحيث يصير حتى التلفظ بكلمة "أحبك" مدعاة للشك وترقُّب الغدر والعداوة.

نحن متيقنون أن باستطاعة أبو عفش الزجَّ بأسبابٍ وأسبابٍ لا حصر لها لتبرير هذا الموقف الصارم من خيانة صديق، أو مما أصاب منظومةَ الأخلاق والقيم من عطب أدى إلى اهتزاز داخلي. ولكن هذا التحول السلبي، كمثال، هل هو شرط أو برهان كافٍ لتغيير النظرة كليًّا إلى الإنسان، حتى بلوغ حدود الكفر به واعتبار الوجود شرًّا خالصا؟! لنستمع إليه في نصِّ "پورتريه":

وأمضي ما تبقَّى من فصول حياتي/ أقصد كلَّ حياتي/ داخل أسوار جهنم باذخة/ أدعوها بيت الدابَّة/ وتدعوها الدابَّة وطن الإنسان. (ص 170)

فالحياة في منظور أبو عفش "مجرد جحيم" لا سبيل إلى الخروج منها. إنها تكرار يومي لفعل العذاب والألم، وقصاص واجب على الإنسان، ربما لأنه اختار الوجود والاستمرار تكفيرًا عن "خطيئته" الأصلية التي لا تعرف الزوال.

ويدهشني ولعُ أبو عفش باشتقاق المعاني التي لا تنضب من ألفاظ تتكرر، دائمًا، في نصوصه: الحياة، الموت، الألم، القبر. لنستمع إليه:

لا/ ليست كنيسة ولا بيت حياة/ الأرض: قبركم وقبري. (ص 169)

إنه يسعى في جِدٍّ ودأب إلى استحضار كلِّ ما يصل إليه خيالُه من صور معبِّرة عن سطوة الموت، التي نقع عليها في الكثير من المقاطع والأبيات:

شراب عيدنا دمٌ مطيَّب بعويل دم/ وقلوبنا على أمل وعلى غير أمل/ تنخلع في ماراتونات لا يفوز فيها غير الموت/ ... ونأمل! (ص 126)

أو:

إلى الأمام أيها الناس الشجعان، سُعاة بريد الموت. (ص 117)

أو:

كل ما في الأمر/ في مواظبتنا على الألم/ نعيش المزيد والمزيد/ من سنوات موتنا. (ص 123)

أو:

الموت/ ليس ما ينتظرنا في نهاية الطريق/ بل هو: ما سبق أن مشيناه. (ص 141)

أو:

الأمل موت مقلوب. (ص 142)

ونضيف إلى هذه الشواهد قولاً آخر أشد قتامةً وتفجعًا ورعبًا:

سبع وخمسون سنة/ وأنا منهمك، بلا هوادة،/ في حياكة قميص موتي. (ص 143)

ويمكن لنا أن نقتطع أيضًا من نصٍّ آخر:

فيما أنا أنا الذي أنت/ أتزحلق إلى هاوية هذا الموت/ أرى:/ الحياة نعمة مسروقة. (ص 83)

ورؤية الموت كامنة حتى في الوردة، كما في قوله:

لا تبتسم/ فخلف هذه الوردة/ أشم رائحة الموت. (ص 50)

لم يكن التمثُّل بهذه النماذج التي تفيض "مادة" الألم عن طاقتها اللغوية إلا للتساؤل عما يُسقِطُ "قلوبنا" دائمًا في سباقات الحياة، ليبقى الموت هو الفائز الأوحد؟! ولماذا استرهان الحياة في مشروع معروف النتائج سلفًا؟ – ومصيره الخسران المحتوم!

والمقلق أن أبو عفش لا يتوقف عند تخوم التمرد أو التبرم أو الغضب، بل هو يتخطَّى ذلك كلَّه ويطأ أرض الشكِّ المطلق. فمن العبث أن يعود مصطلح "التبرم"، مهما مططنا حقلَه الدلالي، قادرًا على حشر قلق أبو عفش الوجودي في قالب ما، وهو شاعر "العري" الداخلي، الاستبطاني، "السرائري"، الذي يأبى الانكماش داخل قشرة المعتقدات، أو الشعارات، أو المصطلحات:

تحت قشرة التآخي الكوني/ لسلالات الديكة والتماسيح والأرانب/ ينكشف عطشُ الفولاذ وشذوذُ الدم/ ونهمُ ميليشيات أبناء الرب/ لاحتكار عضوية "نادي العراة" السماوي/ ... تنكشف السكين/ وينكشف أن: كلانا آخر/ كلانا قابيل/ وكلانا ذبيحته. (ص 41)

تتبدى في هذا الانكشاف مأساة الذات–النقيض، التي تعبِّر عن رؤية الشاعر القَدَرية، الأوديپية، التي تعيدنا إلى الخطيئة، أصل الميثولوجيا. وبذلك تبرز "الضدية" كمصدر أزليٍّ لصراع قائم على الإثم وشهوة القتل: فأية حياة هذه التي تقوم على حتمية الصراع القابيلي–الهابيلي مدى الدهر؟! – مع أن النتيجة هي، كما يحسمها الشاعر، هزيمةٌ لإرادة الإنسان، وأنه "سيخلد الشر"، وتستمر اللعبة محكومة بشروطها العبثية من دون أيِّ تغيير في موازين القوى:

لستَ شقيقي ولا صاحبي ولا شريك حياتي/ كلانا "آخر"/ كلانا مجرد آخر. (ص 43)

وفي نصٍّ آخر بعنوان "دعاء الفريسة"، يصور أبو عفش رضوخ الضحية واستسلامها المتناهي للجلاد، ويسوِّغ لها أن تكون أكثر قدرةً على النسيان و"أسهل ذوبانًا في معدة الموت" وفي "أمعاء شقيقي الصياد". ولعلنا، في تقصِّينا لمظاهر العبث في شعر أبو عفش، نكتشف مقدار المرارة والاحتجاج طي مقاطع من مثل:

من خشية الموت أتودد إلى الموت/ ونزعًا من الأحلام/ أطلب رأفة المستقبل وأتوسل إلى النسيان/ و... وحدي/ حلم مقبور/ وصيحة يابسة. (ص 100)

أما الشك الذي هو الركن الثالث من أركان الثالوث الرؤيوي لأبو عفش، بعد الألم والموت، فهو يتمظهر في مستويين: أحدهما أرضي، بشري، والآخر سماوي، إلهي، ديني. الأول يختزن قنوط الشاعر من قدرة الإنسان على صنع مصيره وتحقيق أحلامه وعدم ثقته بمثل هذا المسعى للخروج من "كهفه" أو "عزلته" أو "قفصه"؛ وهو ما يتجلَّى في هذه الصرخة الشعرية:

اجعلوا الجدار عاليًا، أو: اجعلوا النفق عميقًا لأن: الإنسان هاربًا من أقفاص نفسه/ يريد أن يحتمي بعتمة النسيان. (ص 51)

وفي "سورة: موتوا"، يجتاح غضبُه أولئك الذين يقفون حاجزًا بين الإنسان وذاته، ويُفرِغون المفاهيم والقيم من مضامينها الإنسانية، فتنطفئ الحياةُ مع استتباب مناخ القطيعة والخواء الداخلي:

ما أبغضكم رعاة/ وما أتعسكم قديسين، موتوا لتضحك الحياة. (ص 66)

في تعبير آخر، يأخذه الندم إلى حدِّ الانتقام، وتغيير المسلك المناقبي، والتبرؤ حتى من هويته وكينونته:

نادم على أنني "أنا"/... نادم على خدٍّ أدرتُه طواعيةً وغفرانًا/ إذ كان عليَّ أن أدير نصلاً/ أو قبضة/ أو طاحونة مسدس. (ص 104)

أما الشك الديني، فيمكن التدليل عليه من خلال المقطع التالي:

ما جدوى الله (الله أو سواه)/ إذا كان لا أحد يستطيع/ بين الزناد والهدف/ أن يوقف طلقة الرامي! (ص 148)

وآخر:

والكل يسأل، الكل يسأل:/ أما من إله "فوق".../ يطل برأسه من شقوق هذه السماوات القاحلة ويشفق؟! ما من إله؟! (ص 76)

تجربة أبو عفش هي في العمق الإنساني، في المدى الوجودي الذي يخترق التعريفاتِ المحدودةَ كلَّها، ويتجاوز المعالم الجغرافية، بما لا يقاس، ولا تحده الأنظار. ومن ذلك، كشاهد على ما نقول:

حين السماء/ هي السقف الإقليمي لرعاة الماشية/ والأوطانُ مرسومةٌ بشهوات أقدام الحالمين/ وحدود الممالك/ محمولة على أجنحة العصافير (ص 14)
حين الجميع يحصدون ماء الغيمة/ ويقتسمون هدايا التراب/ ويتهادون لقمة الصداقة وضحكة القلب.
(ص 15)

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] نزيه أبو عفش، ذاكرة العناصر، دار المدى، دمشق: 2005.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود