حوارٌ حضاريٌّ بنَّاء!

سردٌ موجزٌ لوقائع تعود إلى 123 عامًا ولا علاقة لها قطعًا بما يجري اليوم في العالم عامةً وفي عالمنا العربي والإسلامي خاصةً

أكرم أنطاكي

 

في 29 آذار 1883، ألقى المفكر والمؤرخ الفرنسي الكبير إرنست رينان، الذي كان يومذاك في ذروة مجده وشهرته، محاضرةً هامةً على مدرج جامعة السوربون في باريس بعنوان "الإسلام والعلم"[1]؛ وقد نُشِرَتْ هذه المحاضرةُ في اليوم التالي على صفحات دورية تدعى صحيفة المناظرات[2].

إرنست رينان (1823-1892)

كان السيد جمال الدين الأفغاني، النهضوي والمصلح الإسلامي الكبير، مقيمًا آنذاك في العاصمة الفرنسية، فاضطلع على محاضرة رينان وعلَّق عليها ناقدًا برسالة بعث بها إلى رئيس تحرير صحيفة المناظرات؛ وقد نشرت الصحيفةُ رده[3] في 18 أيار 1883.

جمال الدين الأفغاني (1838-1897)

في محاضرته حول "الإسلام والعلم"، شرح إرنست رينان لمستمعيه ما كان يعتقده من أن مجتمعًا يحكمه الإسلام هو مجتمع مغلق في وجه العلم والفلسفة. وقد ركَّز في شكل خاص على الحقبة الممتدة بين ما يسميه بـ"اضمحلال الحضارة القديمة"، أي القرن السادس للميلاد، وبين ما يدعوه "ولادة العبقرية الأوروبية" في القرنين الثاني والثالث عشر، مبينًا أنه كان يوجد قطعًا خلال تلك الحقبة، في البلدان التي فتحها الإسلام، حِراك فلسفي وعلمي واسع وعميق: فقد برزت آنذاك أسماء كبيرة جدًّا، كالفارابي وابن سينا وابن رشد. لكن هذا الحراك، الذي يوصف خطأً بـ"العربي"، لم يكن "عربيًّا" إلا من حيث اللغة وحسب: فينبوع المعرفة التي قدَّمها كان في الواقع يونانيًّا، ومعظم أولئك الفلاسفة والعلماء الذين عبَّروا عن أنفسهم بالعربية لم يكونوا من أصول عربية، بل كانوا أطباء وعلماء مسيحيين سريان وفرس وإسبان وغيرهم، عبروا عن أنفسهم بلغة كانت في الواقع مقيِّدة لهم لأنها (ويقصد هنا العربية) لا تنسجم جيدًا مع العلوم والفلسفة بمقدار ما تنسجم مع الشعر والخطابة.

ويتابع رينان فكرته، فيقول إن علوم تلك الأيام لم تكن "إسلامية"، كما أنها لم تكن بالطبع عربية: فالإسلام كان دائمًا في صراع مع العلم ومع الفلسفة؛ وإن كانت هناك علوم وفلسفة في "البلدان الإسلامية" خلال تلك الحقبة الممتدة ما بين القرن السادس والقرن الثاني عشر، فلأن الإسلام كان آنذاك، بحسب رينان، ما يزال ضعيفًا في البلدان التي فتحها، كما أن الشك كان راسخًا بعدُ في الأعماق. أما حين قويت شوكةُ الإسلام وغدا يتكئ على جماهيره الشديدة الإيمان، فقد قام بمكافحة الفلسفة وتدمير الحركة العلمية. وعند ذاك، سيطر الحكم المطلق للشريعة، كما لم يعد ممكنًا الفصلُ بين ما هو روحي وما هو زمني. وأخيرًا، يستدرك رينان فيقول إنه يوجد طبعًا للإسلام، كدين، نواحيه الجميلة؛ لكنه كان، في شكل عام، مضرًّا جدًّا بالعقل البشري، ودغمائيَّته هي التي تمنع الشرق اليوم من الانفتاح على العلوم وعلى الفلسفة، كشرط ضروري لأيِّ تقدم.

أما الأفغاني فقد ركَّز، في رده على رينان، على نقطتين أساسيتين هما:

-       أولاً: رأيه بأن الديانة الإسلامية متناقضة مبدئيًّا مع تطور الفلسفة والعلوم؛ و

-       ثانيًا: رأيه بأن الشعوب العربية غير مهيأة لتقبُّل الميتافيزياء والفلسفة والعلوم.

فانتقده، بلباقة العالِم وأدبه، مؤكدًا أن رينان لم يميِّز بين الدين الإسلامي في حدِّ ذاته وبين طبيعة الشعوب التي اعتنقته. فإن أصبح الإسلام في نهاية الأمر – كما هي حاله اليوم – معيقًا للتقدم، فلأنه لا يختلف في ذلك عن غيره من الأديان. لذلك، فإن الشعوب الإسلامية، حين ستتحرر من نير حُكم الشريعة الدينية، ستتمكن حتمًا، كغيرها من الأمم، من الانخراط في درب التقدم، ذلك لأن هذه الشعوب هي تمامًا كالشعوب الغربية التي لم يمنعها إيمانُها المسيحي، على الرغم من تشدُّده وتعصُّبه آنذاك، من التقدم.

ويضيف الأفغاني أنه ليس في وسع أحد إنكار التفوق الفكري للشعوب العربية، مبينًا السرعة الكبيرة التي استوعبت بها تلك الشعوبُ العلومَ اليونانية والفارسية خلال الحقبة التي يتحدث عنها رينان؛ وهي سرعة لا تضاهيها إلا السرعة التي تمَّتْ بها الفتوحاتُ العربية الإسلامية، حيث أعطت هذه الشعوب العلومَ التي اقتبستْها عن غيرها تألقًا لم تعرفه من قبل. كذلك – يتابع الأفغاني – كان يوجد في الواقع علماء عرب أكثر بكثير ممَّن يعددهم رينان: فالرهبان السريان، مثلاً، كانوا في معظمهم عربًا نصارى من الغساسنة، موضحًا لرينان، في هذا الخصوص، الحقيقة القائلة بأن كون المرء ليس من أصول عربية لا ينفي عروبته ولا ينتقص منها أبدًا، وخاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ما يميِّز الأعراق البشرية بعضها عن بعض هو لغتها وحسب. لذلك فإنه لا يمكن نفي واقع وجود حضارة "عربية" كانت متميزة في يوم من الأيام. وما نشهده اليوم، كأمر واقع، من انحطاط لهذه الحضارة إنما سببه أن الدين الإسلامي قد أضحى أداةً بيد الجهالة والطغيان. فالصراع بين الدين وبين الفلسفة والعلم أمر معروف تاريخيًّا، وهو لا يقتصر فقط على البلدان والشعوب الإسلامية. فالفلسفة والعلوم لا تتفهمها إلا النخبة، بينما تجد العوام – وخاصةً في عصور انحطاطها – ملاذًا لها في الدين.

وأتفكر، وأنا أقرأ هذه الوقائع التي استقيتها من كتاب يقص سيرة الكاتب النهضوي جرجي زيدان[4]، أن رينان والأفغاني، بغضِّ النظر عن الخلافات الفكرية العميقة بينهما، كانا يتناقشان بكلِّ تحضُّر، وأن مضمون نقاشهما لم يكن حول أهمية الفلسفة و/أو صحتها، أو عدمها في حال تعارُضها مع الإيمان. فكلاهما كان يؤمن – وهذا لا ريب فيه – بتفوق المجتمعات التي يقودها العقل والفكر الحر. فالسيد الأفغاني، كعالِم وكشيخ مسلم، كان قابلاً للفكرة القائلة بأنه يمكن لأيِّ دين، بما في ذلك الإسلام، أن يصير عائقًا في وجه التقدم. وخلافه مع رينان حول هذا الموضوع كان حول ما طرحه هذا الأخير (من منظور قد يكون عنصريًّا) من أن هذه الإعاقة هي خاصية إسلامية وعربية.

انطلاقًا من هنا، يصبح جوهر الخلاف مركَّزًا حول نقطة واحدة فقط، ألا وهي القدرة الخلاقة للشعوب غير الأوروبية، ومن بينها، خاصةً، الشعوب العربية والإسلامية، على التعامل البنَّاء مع العلوم ومع الفلسفة. والمشكلة التي تستوجب الحل تصبح، في هذه الحالة، هي: كيف يمكن لهذه الشعوب أن تتجاوز واقع انحطاطها وتخلفها الحاليين؟

فقد كان رينان يعتقد أن تلك الحقبة، الأكثر ازدهارًا بالنسبة للعالم العربي والإسلامي على الصعيدين العلمي والفلسفي، مضت إلى غير رجعة، كما يشهد على ذلك في العصر الحديث واقعُ انحطاط جميع البلدان التي تحكمها الشريعة الإسلامية وتخلُّفِها!

أما الأفغاني فكان يعتقد بأن هذا الانحطاط – الذي يعترف به كأمر واقع – إنما هو شيء مؤقت وقابل للتغيير. وما يؤكد صحة ما يذهب إليه هو عينه تلك الحقبة التي استشهد بها رينان: حين كانت البلدان التي حَكَمَها الإسلام هي الأرقى والأكثر تقدمًا في العالم آنذاك. مما يؤكد بأن الإسلام لم يكن حينذاك أكثر تعصبًا من غيره من الديانات، لا بل كان أكثرها رقيًّا وتسامحًا.

لم يتخلف الدين الإسلامي إلا حين صار – وهذه مازالت مصيبته اليوم – أداةً بيد السلاطين وأزلامهم من رجال الدين والسياسة الذين شوَّهوا – ومازالوا يشوهون – وجهه الحقيقي ويستغلون جهالةَ الرعاع لمآربهم الخاصة.

*** *** ***


[1] L’islamisme et la science.

[2] Le Journal des débats.

[3] في وسع الباحث الاضطلاع على النص الفرنسي الكامل لمحاضرة رينان في أعماله الكاملة، الجزء الأول، دار Calman-Lévy، 1947، ص 944-960؛ كما في وسعه الاطلاع على النص الكامل لردِّ السيد الأفغاني بعنوان "الرد على الماديين"، مترجَمًا من العربية إلى الفرنسية، لدى "المكتبة الشرقية"، باريس.

[4] Anne-Laure Dupont, Ģurgi Zeidan (1861-1914) : Écrivain réformiste et témoin de la Renaissance arabe.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود