أصغَر بيوم... أفهَم بسنة!

 

مفيد مسوح

 

مَن منا لم تتردد على مسمعه مئات المرات في أيام طفولته وشبابه عبارةُ "أكبر منك بيوم أفهم بسنة"؟! جميعنا استخدم العبارة نفسها، موجِّهًا النصح والإرشاد إلى أولاده أو أولاد الجيران أو الأصدقاء، أو حتى مَن حادثهم مصادفة! لقد تربينا وكبرنا ونَمَتْ معنا القناعةُ بأن خبرة الحياة تُثري المعرفة وترفع مستوى الإدراك، فتميِّز الأكبر سنًّا عن أولئك الأصغر بالفهم والحكمة والذكاء وحجم المعرفة، وبالتالي صحة الرؤية وصواب الرأي، وكنتيجة بديهية، إمكان البت في الأمور واتخاذ القرار السليم في وقته – على عكس الشباب: الأقل حنكة ومعرفة وقدرة على الاستيعاب والسرعة في التوصل إلى جواهر القضايا!

كذلك كانوا يقولون: "عندما يتكلم الكبار يسكت الصغار"، و"اللي ما عنده كبير يشتري"، و"عيش كتير بتشوف كتير"، إلخ؛ وفي معرض السخرية: "خذْ أسرارهم من صغارهم"، دلالةً على حالة غير طبيعية اطَّلع فيها الصغارُ دون وجه حق على "أسرار" الكبار أو تدخلوا في مسائل محظورة على من هم في سنِّهم.

ربما كان في الأمر شيء يسير من الصحة في شروط ما، في زمن كانت وسائله بسيطة والقدرات الذهنية للناس كذلك. كان الفارق بين المتعلم ونصف الأمِّي بسيطًا نسبيًّا مقارنةً مع حالنا اليوم. ومع هذا، كنت ترى بعض الحالات التي يضطر فيها الكبارُ إلى سماع تحليل الأصغر سنًّا وعرض معلوماتهم "الغريبة" على الكبار؛ غير أن هذا لم يكن يتعدى حجم المعرفة ونوعها، ولم يسمح بتبديل القاعدة المسلَّم بها دون نقاش، وهي أن المعيار الرئيسي للشخصية المعرفية هو السن!

وكجزء أساسي من الولاء الأبوي، لم يكن الأولاد يشعرون بالحرج أو يحتجون على هذه المقولة وما تستتبعه، لا بل كان الحديث عن "عبقرية" الكبار و"حكمتهم" الخارقة هاجس الأولاد الذي يستمر معهم إلى سنِّ الشباب. وهناك الكثير من الأوساط الشعبية البسيطة مازال يفتخر الأصغر سنًّا فيها بهذه القاعدة، التزامًا مطلقًا تجاه الأسن منهم، سواء كانوا إخوة أم آباء أم عمومة وخؤولة أم عمداء أسرة وشيوخ قبائل إلخ. والجدير بالذكر أن هذه القضية تخص الرجال فقط، ولا علاقة للنساء بها: فالمرأة غالبًا ما تستمد عناصر القوة في شخصيتها من موقع زوجها، حتى وإن كانت أصغر سنًّا من المحيطات بها!

أولادنا اليوم لا يقبلون هذه القاعدة – وهم على حق: لم يعد "الأكبر بيوم أفهم بسنة"! أحد الأولاد، وعمره اثنتا عشرة سنة تقريبًا، قفز مرةً غاضبًا من تحذيرُ جدته بضرورة إظهار الطاعة لأخيه (الذي يكبره بثلاثة أعوام تقريبًا)، والالتزام بما يقدِّمه له من نصح ومعلومات، وتقبُّل التنبيه والتحذير، وحتى العقوبة، مهما كان شكلها ودرجتها، فالتقط آلةً حاسبة، وانتهى بعد ثوانٍ إلى الاستنتاج المضحك الذي زال معه التوتر: كان الفارق بينه وبين أخيه يعادل مرحلةً حضارية كاملة! صرخ وهو يقهقه في فرح: "سنتان وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا تساوي 985 يومًا، تعادل عشرة قرون من الفرق في الفهم والإدراك!"

* * *

حاوَرَني ابني ذات مرة:

-       هل جاءت القاعدة المكرِّسة لتفوُّق الأكبر سنًّا بالمصادفة؟

-       لا طبعًا... إنها موروث ثقافي مرتبط بالمجتمع الأبوي وقواعده الذكورية.

-       هل كانت لهذه القاعدة فوائد؟

-       أبدًا، إطلاقًا... لقد جعلت الجيل الأحدث مكبلاً، أسيرًا لمفاهيم الجيل الأقدم... لقد كرَّستْ عبوديةًً جيليةً حدَّت من إبداعات الأجيال الناشئة، وحصرت التطور والتقدم العلمي والاجتماعي والعطاء الفكري والفني ضمن حدود وجدران صلبة، وفقًا لقوالب ونصوص ثابتة لا يُسمَح بتغييرها البتة! كانت حجة الجيل الكهل مبنية على قربه من الأصالة مقارنةً مع الأحدث المتباعد.

-       أرى أن في هذه القاعدة مقاومةً للحرية ومحاربةً للتطور.

-       هو بالفعل كذلك! لك أن تتصور لو أن آلاف المبدعين والمبدعات والعلماء والفنانين عبر العصور كانت لهم الحرية المطلقة في عملهم وإبداعهم وعطائهم، بعيدًا عن الشروط الظالمة والقيود و"الخطوط الحُمْر"... كيف ستكون صورة العالم! لو أن الجيل الأقدم فسح المجال حرًّا لجيل الشباب للخلق والإبداع والتغيير والتطوير، دون التقيد القسري بنصوص وقواعد جيلهم المنسوخة – حرفيًّا وبمهارة – عن الأجيال السابقة... لو كانت القاعدة معكوسة منذ البداية، فأقرَّتْ، صراحةً وعن قناعة تامة، بأن الأصغر سنًّا أقدر على الاستفادة من منجزات الحضارة وعطاءاتها، فإن التحكم في سيرورتها، بالتالي، سيتم بأيديهم، لا بأيدي جيل الآباء، ولكان مستوى التطور الحضاري وانتشار الثقافات الإنسانية أرفع وأعمق وأكثر جوهريةً، ما كان سيجد انعكاساتِه حتمًا على العدالة الاجتماعية ومستويات المعيشة والسلم والحرية!

-       لقد قرأت أدبيات وطنية وتاريخية كثيرة تربط الإخلاص للوطن بالتفاني في الحفاظ على الهوية والانتماء القومي أو الديني وعلى تراث الأجداد أكثر مما تهتم لما نفعله الآن أو لما يجب أن يفعله القادمون!

-       صحيح. وهذه أيضًا إحدى صور الثقافة الأبوية: فالتراث يشمل المنجزات الفكرية والعمرانية والاقتصادية وثوابت حاجة الآخرين إليك. في المجتمعات البدائية أخذت هذه العناصر صفة الملكية، وتحددت معها درجةُ الثراء. لذا طالب الآباء أبناءهم بضرورة الحفاظ عليها بعدهم، فأصبح الإخلاص لهذا الميراث معيارًا للوطنية. وكلما كانت قيمة الميراث أكبر وامتداده أوسع، ازدادت درجة الولاء للمورِّثين. في كثير من الأحوال، كُرِّس النظرُ إلى الآباء المورِّثين كأنصاف آلهة، لا بدَّ أن يولِّيهم الأبناء المورَّثون!

* * *

تعالوا نقارن مرونة أبنائنا عند تشغيلهم أجهزة حديثة، إلكترونية أو ميكانيكية، بما هي الحال عند أيٍّ منا: سنجد دون شك أن قدرة الابن أو البنت على الاستيعاب والتمكن من معرفة الوظائف ومراحل التشغيل وخطواته أكبر بكثير مما هي عليه عند الأب! ربما حاول بعضهم تبرير هذا الواقع الذي يتعرض له كثير جدًّا من الآباء وتفسيره تفاديًا لاضطرارهم إلى الإقرار بأن قدرات أبناء هذا الجيل ستجعلهم يتجاوزوننا بسرعة فائقة. لقد قمت شخصيًّا بتعيين ابني "مديرًا فنيًّا" لشؤون التكنولوجيا في البيت منذ أن دخل سن المراهقة، وها أنا ذا أقر بأنني حصدت نتائج طيبة.

ولكن هل يقتصر الأمر على مسائل الكومبيوتر وبرامجه والإنترنت والتلفون الجوال والكاميرا الرقمية والصوتيات والمرئيات والآلات الموسيقية والكهربائيات والسيارة إلخ؟ لا، فالأمر يتعدى هذا الحد بكثير!

القناعة بأن أبناء الجيل الأسبق أكثر إدراكًا وعلمًا وأقدر على محاكمة الأمور من أبناء الجيل الأحدث قناعة خاطئة، رجعية، تقوم على أُسُس مقوماتها قصر النظر والتمسك المتزمت بمفاهيم الأبوية الباطلة. هذه القناعة تعادل التصور بأن السيرورة الحضارية تتقهقر! الآباء أصحاب هذه الذهنية يرفضون الاعتراف للتكنولوجيا والتقدم العلمي والتنوع المعرفي بتأثيرها العميق والجوهري على القدرات العقلية والذهنية للجيل الشاب؛ وهم، إذ يستندون إلى معايير تميِّز متعلِّمي الحقب الماضية ومثقفيهم عن أشباه المثقفين أو متوسطي التعليم في تلك الأيام، كحفظ المعلقات وقصائد العرب في عصورهم القديمة أو النصوص الدينية والتفسيرات وأخبار الغزوات والفتوحات وغيرها من الأحداث التاريخية أو حفظ معادلات الفيزياء والكيمياء والرياضيات وقوانينها إلخ، فإن ذلك لا ينفي القدرات الكبيرة لأبناء الجيل الشاب، ضمن أُطُر التخصص، على التحليل والربط والاستقراء في مجالات تتعدى التكنولوجيا لتشمل قضايا التاريخ والفكر والفلسفة والسياسة والاقتصاد، وحتى القراءة والكتابة وأشكال الإبداع الفني.

لو فكَّر كل فرد بأنه ابنٌ لجيل ما مفصول عن الذي مضى ومعزول عن اللاحق المتمثل بالأبناء، لاستمرت كارثةُ التخلف ولما تمكَّن أبناء الجيل الشاب من فرض إضافاتهم الحضارية. أما إذا اقتنعنا بأن الفواصل بين الأجيال شفافة إلى درجة الامتزاج الفكري والحضاري، لضمنَّا سيرورة حضارية متصلة، يتحول فيها صراعُ الأجيال إلى تفاعُل إيجابيٍّ يلعب فيه الفرد دور المبدع، الناقل لإبداعات السابقين والمطور لها بآنٍ واحد. في بيئة من هذا النوع، سيستخدم الشباب طاقاتِهم في التطوير والتحسين، دون قيود أو مخاوف وبعيدًا عن ضوابط صارمة تفرضها مفاهيمُ جيل لم يعد يعيش بينهم!

وبعكس ما كانت عليه السياسات الأبوية، التي كانت من أهم أسباب النزاعات والحروب المدمرة، والمتمثلة برسم الآباء خطط الأجيال التالية وبرامجها وبتحديد أولوياتها وأهدافها انطلاقًا من انتماءاتهم الفكرية والقومية، فإن تحديد متطلبات المجتمع وبرامجه سيكون مهمة أبناء اليوم، وليس آباء الأمس. وبالمنطق نفسه، سيترك هؤلاء الأبناء لأبنائهم حريةَ تكوين مجتمع الغد وتطوير عناصره وقوانينه وثقافته.

هكذا فقط ستتوفر الحرية الكاملة لأبناء المجتمع لتطويره ولتحديد طموحات تتناسب مع قدراتهم ورغباتهم. وهكذا سيبتعد أبناؤنا عن الاختباء وراء خطابات الفخر بآبائهم وأغانيه وشعاراته إخفاءً لعجزهم. وبهذا ستكون لهم الحرية المطلقة للإبداع، بعيدًا عن قيود توارثتْها الأجيال بحجة الحفاظ على الموروث القيِّم وخصوصية الشخصية والانتماء، وستزول أشكال الاضطهاد وذهنية قمع الآخر المبنية على ثقافة التعالي والفوقية والتميز العرقي والجنسي والديني، لأن السلفية وحدها هي السبب في بقاء أشكال التمييز كافة. أما الأجيال الشابة، المتطلعة إلى الأمام في حيوية وإيمان بالمساواة، فإنها، بتحررها من الانتمائية الأبوية وقيودها الصارمة، سترمي جانبًا ثقافات التعصب والتميز والفوقية هذه.

سيكون لهذا الانقلاب الكبير والجذري في مفاهيم الناس وحركة المجتمع أثره البالغ على العلاقة بين السلطة والناس: فأبناء عصر التكنولوجيا المتقدمة، المتحررين من قيود الأبوة المطلقة ومفاهيمها، لن ينظروا من بعدُ إلى الحكومات والأحزاب والقادة والمفكرين على أنهم جهات أو أناس "خارقين"، لهم الجلال والقدسية، وأن عليهم، كرعية، إبداء الطاعة المطلقة لهم. الأبناء سيتعاونون بعضهم مع بعض على إجراء عمليات فرز مرن يصنف الناس تبعًا لوظائفهم والحاجة الاجتماعية إليها، ولن تكون المناصب الحكومية والحزبية فرصًا للتظاهر والعنجهية وتحقيق المكتسبات الشخصية، بل مجرد "وظائف" محدَّدة المهمات. وهنا ستُلغى حتمًا عادةُ توريث الحكم واستغلاله، وستزول أشكال الصراع على اعتلاء سدَّته بزوال المغريات، وستزول الفرص غير المتساوية وتزول مصطلحاتها (رزق، حظ ، فهلوة)، وستختفي عادة التلميح والانتقادات المبطنة للقيادات الكهلة و"الديناصورات" بانتقالهم في الوقت المناسب إلى حالة التقاعد، متمتعين بالاحترام والاعتبار والمزايا أيضًا، وسيفرز المجتمع قياداتٍ شابةً، حيويةً، متجددةَ الدم، تعبِّر قوتُها عن قوة أفراد مجتمعاتها، ولن تكون بالضرورة من "ذوات الدم الأزرق، صاحبة الحق الإلهي في الملك والتحكم في الخلق". كذلك ستأخذ المرأة حتمًا مكانتها الطبيعية في المجالات كافة دون أي حذر أو قيود. وطبعًا سيحل العمل الجماعي محلَّ العمل الفردي، وستزول أهمية "العبقريات" و"الجهابذة" و"الصناديد" و"فلتات عصورهم"!

في عصر التقدم الهائل والسريع للتكنولوجيا ودخولها إلى سائر مجالات الحياة اليومية، لا مكان بعدُ للتفاخر بالأجداد وأمجادهم والتباهي بشدة التمسك بمفاهيمهم البالية. لم يعد أحد في حاجة إلى هذه "الأمجاد" التي لا تغْني محتاجًا ولا تُشبِع جائعًا ولا تحل مشكلة. والمكان الوحيد لما ورثناه من أجداد الأمس وآبائه هو أقفاص المتاحف المحترمة ورفوفها التي ستستقبل تلقائيًّا منجزاتِ أبناء اليوم عندما تنسخها ابتكاراتُ أطفال الغد.

ويجب ألا يقلقنا هذا الانقلاب أبدًا. فموقع الآباء لن يكون في خطر. والمسألة هي تغير في اتجاه الولاء ينسجم مع الشروط البديهية للتطور لا أكثر. بكلمة أخرى، هي ثقة في الأحفاد بدلاً من الولاء للأسلاف. ففي حين أثبتت تجاربُ الشرق في التمسك دون جدال بالولاء للأسلاف تراجُعًا في المكانة الحضارية أدى إلى حالة الإحباط التي نحن عليها، ستؤدي ثقتنا في أولادنا (إن هم حظوا بجميع مقومات الحرية) إلى ضمان مواكبة السيرورة الحضارية والمساهمة في تطويرها بالطرق السلمية والعادلة مساهمةً فاعلة، لا مستهلِكة وحسب. وستبقى لنا، نحن الآباء، مكانتنا الكبيرة لدى الأجيال القادمة – وأفرادها آباء بدورهم – بقدر ما نمهِّد لهم الطريق إلى المعرفة وحرية التفكير والتغيير والتطوير واختيار ما يناسب عصرهم.

لقد انكسرت قاعدةُ العلاقة الطردية بين الوعي وكمية الأيام المعيشة وصُحِّحَتْ في اتجاه العكس. فوجب، إذن، أن نعلنها دون تردد: "أصغر منك بيوم أفهم منك بسنة"!

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود