|
حول
الثَّقافة العربيَّة وأسئلة التطوُّر
والمستقبل أغلب
المثقَّفين العرب لم يملكوا مشروعًا فكريًّا
محددًا ما هو المشهد
الثقافي العربي اليوم؟ وكيف يقرأ سيد يسين في
النتاجات الإبداعية العربية، روايةً وقصةً
وقصيدة؟ ماذا عن الحركة النقدية؟ وماذا أيضًا
عن الأجيال الأدبية والفكرية العربية
الجديدة؟ كيف يقوِّم سيد يسين هذه "الفوضى
الثقافية" التي تستلبنا على مستوى الوعي
والتصورات؟ وقبل أيِّ شيء، كيف استقبل
المثقفُ العربي ظاهرةَ العولمة وكيف تعامَل
معها؟ وأخيرًا، هل يعتمل في جوف الثقافة
العربية اليوم ردٌّ فكريٌّ جديد بحجم العولمة
وعودة الاستعمار؟ سيد يسين
يجيب، في هذا الحوار، عن مجموعة هذه الأسئلة،
مشيرًا في وضوح إلى مكامن الخلل في جسدنا
الثقافي وإلى إمكانية النهوض من هذا الغروب
المدوِّي! *
* * كيف تقرأ في
حركة النقد العربي وتطوُّره عبر أجياله
القديمة والحديثة؟ وهل في الإمكان الحديث عن
"نقد أدبي عربي" له سماته وخصوصياته، أم
أن كلَّ ما أُنتِجَ نقديًّا لا يتعدى كونه
نقلاً عن "الآخر الغربي"؟ سؤالك يثير قضايا بالغة
الأهمية. هناك، على الأقل، حركتان في النقد
العربي الحديث: الحركة الأولى تمثلت في جيل من
نقَّاد الأدب مارسوا ما يمكن تسميته بـ"النقد
الانطباعي"؛ وغالبية هؤلاء كانوا على
دراية وثيقة بإنجازات النقد الأدبي القديم،
غير أنهم اطلعوا اطلاعًا معقولاً على النقد
الأدبي الغربي في العشرينيات والثلاثينيات.
يحضرني، في هذا السياق، عباس محمود العقاد
وطه حسين، وفي مرحلة متأخرة، محمد مندور. من
المؤكد أن هؤلاء الثلاثة كانوا يعرفون التراث
النقدي العربي القديم معرفةً عميقة، لكنهم
تأثروا، في محاولاتهم النقدية الباكرة، ببعض
مدارس النقد الغربي، سواء في ذلك النقد
الأنكلوسكسوني لمن يعرف اللغة الإنكليزية،
مثل العقاد الذي كان ملمًّا بالإنكليزية
جيدًا، أو مثل طه حسين ومحمد مندور اللذين
كانا يتقنان الفرنسية. فلنأخذ محمد مندور كمثال:
بعد عشر سنين قضاها في فرنسا لم يستطع أن يكمل
دكتوراه الدولة هناك، وإنْ تأثر إلى حدٍّ
بعيد بالمنهج التاريخي المقارن للناقد
الفرنسي غوستاف لانسون، فترجم بعض أبحاثه إلى
العربية، وحاول أن يطبق مبادئه في دراساته
النقدية والتطبيقية. لكنه، حين عاد إلى جامعة
الإسكندرية، ووجد نفسه مضطرًا إلى كتابة
رسالة دكتوراه، كَتَبَها عن النقد المنهجي
عند العرب؛ وهذا الكتاب أنجزه خلال ستة
شهور فقط، مقدمًا فيه نظرية عبد القاهر
الجرجاني، مما يدل على عمق معرفته بالتراث
النقدي العربي. بعد هذا الجيل المؤسِّس، جاءت
أجيال أخرى أوغلت في دراسة النقد الغربي
الحديث، محاولةً، بصورة أو بأخرى، أن تطبقه
على الإبداع المصري والعربي. ومنذ الستينيات، جاء جيلٌ
جديد، حاول أن يطبق مبادئ المدرسة البنيوية
تطبيقًا آنيًّا ومتعسفًا، الأمر الذي أدى إلى
اغتراب القراء عن هذا النقد بسبب عدم فهمهم
للمعادلات الحسابية والرسوم البيانية التي
حاول فيها هؤلاء النقاد أن يقلدوا النقاد
البنيويين الغربيين، من دون فهم عميق للأصول
البنيوية؛ مما أدى، بدوره، إلى نشوء أزمة
حقيقية في النقد الأدبي. وهكذا ففي الإمكان
القول إن الإبداع الأدبي العربي يسبق بكثير
نقاد الأدب! وأخطر من ذلك حدثُ اختفاء
النقَّاد وانقراضهم، بحيث يندر أن تجد الآن
ناقدًا أصيلاً يستطيع أن يضيء النصَّ الأدبي
من دون تعثُّر. المعروف عنك
أنك أول مَن أضاء على حركة النقد الجديد في
أوروبا. فهل تعتبر نفسك ناقدًا أدبيًّا أم
باحثًا في علم الاجتماع الأدبي؟ أنا لست ناقدًا أدبيًّا،
وإنما أنا باحث في علم الاجتماع الأدبي، الذي
هو فرع ناشئ من فروع علم الاجتماع. وقد درست
هذا العلم في فرنسا حين غادرت مصر في العام 1964
للحصول على الدكتوراه في القانون. غير أني لم
أحصل على الدكتوراه في القانون، وإنما اتجهت
إلى دراسة علم الاجتماع، وتحديدًا علم
الاجتماع الأدبي، وأصدرت كتابي التحليل
الاجتماعي للأدب في العام 1973، مقدمًا فيه،
للمرة الأولى، نظريات لوسيان غولدمان ورولان
بارت – وكان هذا الأخير وقتذاك ناقدًا ناشئًا
يقود حركة النقد الجديد ضد مدرسة النقد
القديم التي كان زعيمها ريمون پيكار، الأستاذ
في جامعة السوربون، الذي أصدر كتابًا يسخر
فيه من النقد الجديد، وكان بعنوان نقد جديد
أم خدعة جديدة؟، فردَّ عليه بارت بكتابه
الشهير النقد والحقيقة. كذلك قدمتُ في
كتابي رائد النقد الفلسفي للأعمال الأدبية
رونيه جيرار، الذي ألف كتابًا شهيرًا بعنوان الكذب
الرومنطيقي والحقيقة الروائية، قدَّم فيه
نظريته الشهيرة في "الرغبة المثلثة"،
التي تحدث فيها عن أركان ثلاثة: الذات
والموضوع والوسيط. كتابي هذا كان أول كتاب
يصدر باللغة العربية في موضوع التحليل
الاجتماعي للأدب؛ ومن نقاشي مع أساتذة الأدب
قالوا لي إنهم تأثروا تأثرًا بالغًا بهذا
الكتاب لأنه قدم لهم نظريات لم يكونوا قد
اطلعوا عليها بعد. هل تعتقد أن
الأجيال الأدبية الجديدة استطاعت التحرر من
تأثير مرحلة الستينيات؟ وكيف تقرأ في نتاجات
هذه الأجيال، روايةً وقصةً وشعرًا؟ أحسن العناصر في الأجيال
الجديدة، في إمكاننا العثور عليها في الرواية
وفي القصة القصيرة؛ كذلك في الشعر، نجد نماذج
إبداعية تتجاوز، في بعض الأحيان، كتَّاب
الستينيات والسبعينيات – لا شك في ذلك. غير
أنه لا بدَّ أن نؤكد أن هناك تقدمًا في
الرواية وأن هناك إبداعًا في القصة القصيرة،
بينما هناك تخلف في الشعر. والسبب بسيط: لأن
الجيل الجديد من الشعراء، في محاولة منهم
للهروب من التأثير العميق لجيل الخمسينيات
والستينيات، لجأوا إلى كتابة الشعر تحت شعار
"الفن للفن"، وآمنوا بمبدأ أن الشعر لا
علاقة له بالقضايا الوطنية والقومية، وإنما
عليهم أن يكتبوا ما يطلقون عليه "الشعر
الخالص"، مركزين على الحالات الذهنية؛
وهم، في هذا المجال، غرقوا في استخدام الرموز
وأوغلوا في الغموض، مما أدى في النهاية إلى
اغترابهم عن قرائهم، فانصرف عنهم عشاقُ الشعر
الأصيل. هل تلمِّح
إلى الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر، أم أن
هذا النقد يطاول شعراء التفعيلة أيضًا؟ أنا لا أتكلم على قصيدة
النثر، بل أتكلم عن الذين يكتبون قصيدة
التفعيلة، خصوصًا أولئك الذين زعموا أنهم "جيل
بلا أساتذة"، بلا علاقة تربطهم مع صلاح عبد
الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل
وسواهم. أما عن قصيدة النثر، فقد قدمت أخيرًا
شهادةً عن أمل دنقل في الاحتفالية التي
نظَّمها "المجلس الأعلى للثقافة"، قلت
فيها إن جيلاً من الشعراء هربوا، يأسًا
وقنوطًا، إلى مملكة قصيدة النثر، بعد أن
كتبوا ولم يقرأ لهم أحد، وأنشدوا أشعارهم ولم
يستمع إليهم أحد، فذهبوا أخيرًا إلى قصيدة
النثر حيث لا أحد! المتابع
للنتاجات الفكرية العربية التي صدرت في العقد
الأخير يلاحظ أن غالبية المثقفين العرب
يعيشون تيهًا فكريًّا وإيديولوجيًّا، إذا صح
التعبير. بعضهم خلع عن رأسه شال الماركسية
الشائب، ليرتمي في أحضان الأصولية أو
الليبرالية، فيما بعضهم الآخر انتقل بسرعة من
جهة اليسار إلى جهة اليمين! ماذا عن هذه
التحولات، وكيف تقرؤها؟ سؤالك يثير مجموعة من
القضايا البالغة الأهمية. أنا فرَّقت، منذ
البداية، تفرقةً واضحة بين الكتَّاب الذين
لديهم مشروع فكري أصيل وبين كتَّاب آخرين
ليس لديهم مشروع فكري. وأقصد بكتَّاب الفئة
الأولى أولئك الذين لديهم مشروع فكري محدد
ومَن يمتلكون رؤية محددة إلى العالم – وتعريف
"رؤية العالم"، في التحليل الثقافي، هي النظرة
إلى الكون والمجتمع والإنسان. وعلى ذلك،
كنَّا نجد كتابًا عربًا ماركسيين أو إسلاميين
أو قوميين أو ليبراليين، مع أن الليبرالية
بالذات كادت أن تنقرض من أفق الكتابة العربية
طوال نصف القرن الماضي بحكم غلبة الماركسية
والاشتراكية والقومية والإسلامية على مجمل
فضاء الفكر العربي. لكن دعني أقول إن التحولات
لدى الفئة الأولى بالغة الصعوبة، بينما
التحولات لدى الفئة الثانية بالغة السهولة،
لأن الكاتب من هؤلاء لا يمكن له أن ينتقل من
اليسار إلى اليمين، أو العكس، من دون أن يعاني
مشكلات معرفية، أو حتى نفسية كبرى، بحكم أنه
في الأصل لم يكن يملك مشروعًا فكريًّا.
وإشارتك إلى هذه التحولات بالغة الأهمية.
أذكر أن الشاعر الكبير أدونيس كتب مقالاً
يعكس إعجابًا شديدًا بالثورة الإيرانية،
خصوصًا في مرحلتها الأولى، معتبرًا أن هذه
الثورة أثبتت أن الإسلام يمكن له أن يكون
ثوريًّا! وقد انتقده على هذا التحول عددٌ غير
قليل من الكتَّاب اليساريين، على الرغم من أن
أدونيس راجع نفسه لاحقًا بعدما اتضحت له
مثالبُ الحكم الديني المتطرف. في مصر، على سبيل المثال،
هناك حالة الراحل عادل حسين، الذي تحول من
ماركسي متشدد إلى إسلامي متشدد؛ وهناك أيضًا
حالة المؤرخ المصري الكبير طارق البشري، الذي
تحول من يساري معتدل إلى كاتب إسلامي معتدل.
وفي رأيي أن تحولات الكتَّاب ذوي المشارب
الفكرية المختلفة يمكن لها أن تكون أصيلة إذا
تمَّتْ نتيجة دواعٍ غير انتهازية، لأنه
من حق الكاتب أو المفكر أن يراجع مشروعه
الفكري، لاسيما بعد ظهور متغيرات جديدة أو
وقائع جديدة. لقد حدث ذلك في أوروبا بعد
الغزو السوفييتي للمجر، وبعد كشف خروشوف عن
جرائم ستالين في مؤتمر الحزب الشيوعي العشرين.
وقد أدى ذلك إلى استقالة أعداد كبيرة من
المفكرين الماركسيين من الأحزاب الشيوعية؛
وبعضهم تخلَّى تمامًا عن الفكر الماركسي، بل
إنه يسخر من ممارستها في الوقت الراهن! من
أشهر هؤلاء ريجيس دوبريه، صاحب الكتاب الشهير
ثورة في الثورة. والمعروف أن دوبريه حارب
في صفوف غيفارا وكان رفيق سلاحه، واعتُقِلَ
في سجون أمريكا اللاتينية، ولم يُفرَج عنه
إلا بعد تدخُّل فرنسي قوي. وفي السنوات
الأخيرة، تحول دوبريه تمامًا عن الماركسية،
وكشف عن ذلك في كتاب طريف، هو عبارة عن حوار
بينه وبين عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر
بعنوان لكي لا نستسلم، سخر فيه من
الماركسية ومن تعلُّق زيغلر حتى الآن
بمبادئها، على الرغم من التحول الجذري في
أوضاع العالم وسقوط الاتحاد السوفييتي. هل تعتبر أن
فشل الأحزاب العربية في إيجاد حلول اجتماعية
وسياسية واقتصادية لمجتمعاتنا العربية هو
الذي ساهم في هذا الصعود الصاروخي للتيارات
والحركات الأصولية؟ ماذا عن هذه الحركات،
وكيف تقرأ في مشروعها؟ لا شك أن فشل الأحزاب هو أحد
الأسباب الهامة التي أدت إلى صعود التيار
الأصولي الإسلامي. ولكن لا تنسَ أن هذا التيار
الإسلامي كان موجودًا في قوة على الساحة
العربية منذ الثلاثينيات. لقد نشأت حركة "الإخوان
المسلمين" في العام 1928، ودخلت هذه الحركة
في معارك دموية مع ممثلي الحكم الليبرالي في
مصر في الأعوام 1946 و1947 و1948. بعدئذٍ أُلغِيَتْ
حركة الإخوان في العام 1948، وقام الجهاز السري
باغتيال النقراشي باشا، وقام إبراهيم عبد
الهادي باشا بعد ذلك بحلِّ جماعة الإخوان
المسلمين. ومعنى ذلك أن التيار الإسلامي،
الذي كان موجودًا في الثلاثينيات
والأربعينيات، قَمَعَه بقوة ممثلو الحكم
الليبرالي. ثم دخل هذا التيار في معارك عنيفة
مع الحكم الناصري. ومعنى ذلك أن النظم
السياسية الليبرالية قبل العام 1952،
والاشتراكية بعد العام 1952، قد قمعت قمعًا
عنيفًا ذلك التيار الذي اضطر أن يدخل تحت
الأرض، إلى أن واتتْه الفرصةُ التاريخية بعد
الهزيمة في حزيران 1967، التي كانت مؤشرًا
مبكرًا على فشل التيارات أو النظم التي رفعت
لواء الاشتراكية، ليس فقط في تحقيق مشروعٍ
للعدالة الاجتماعية لا يصادر الحريات
الأساسية، ولكنْ أيضًا في الدفاع عن التراب
الوطني، كما حدث في العام 1967! لقد استقبل
المفكرون العرب ظاهرة العولمة بالكثير من
الخوف والحيرة والخشية، فاعتبر بعضهم أنها
ظاهرة سلبية سوف تلغي الخصوصيات والهويات
وتهمِّش الثقافات. كيف تقرأ في هذه الظاهرة،
وكيف تعرِّف بها؟ هناك تعريفات إيديولوجية
متعددة لظاهرة العولمة، بعضها تعريفات
يسارية، والأخرى تعريفات يمينية. التعريفات
اليسارية الإيديولوجية تقول في بساطة: إن
العولمة هي المرحلة الأخيرة من تطور
الرأسمالية العالمية. وربما يكشف عن هذا
الاتجاه الناقد الأدبي الأمريكي الماركسي
الشهير فردريك جيمسون – وله كتاب بعنوان ما
بعد الحداثة، باعتبار هذه المرحلة هي
المعبِّرة عن المرحلة المعاصرة للرأسمالية.
وهناك تيارات يمينية إيديولوجية تعرِّف
بالعولمة في ظلِّ فلسفة الليبرالية الجديدة،
معتبرةً أنها تفتح الأسواق وتوسع إطارات
التنمية على المستوى العالمي للدول كافة، بما
يحقق الازدهار الحقيقي للشعوب كافة. من جهتي، أرفض هذه
التعريفات اليسارية واليمينية، لأنها محملة
في الواقع بنظرات إيديولوجية متطرفة، وأتبنى
تعريفًا إجرائيًّا للعولمة يقول: العولمة
هي فتح الحدود أمام السلع والخدمات والأفكار
والبشر من دون قيود أو حدود. العولمة، في
رأيي، عملية تاريخية بالمعنى الدقيق،
وليست مفهومًا تحليليًّا؛ فهي ليست شعارًا
يمكن لنا أن نقبله أو نرفضه. وبحكم أنها عملية
تاريخية فهي، في الواقع، نتاج تراكم عالمي
طويل؛ وهي انتقال تدريجي ومؤكد من النظام
الرأسمالي العالمي، الذي بدأ، كما يقول عالم
الاجتماع الماركسي الشهير إيمانويل
فالرشتاين، اعتبارًا من القرن السادس عشر،
وتوسَّع باطراد منذ قرون، إلى أن أصبحت هناك
سوقٌ عالمية. والعولمة، أيضًا، هي نتيجة الثورة
العلمية والتكنولوجية، التي أصبح فيها
العلمُ، للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية،
عنصرًا أساسيًّا من عناصر الإنتاج. كذلك نشطت
ظاهرةُ العولمة بحكم الثورة الاتصالية
الكبرى التي تقع شبكة الإنترنت في القلب
منها والتي أدت إلى سهولة الاتصال بين أفراد
البشرية عمومًا، وبين الشركات ورجال الأعمال
خصوصًا، من خلال ما يسمَّى بـ"التجارة
الإلكترونية" التي يصل حجم تعاملاتها
السنوية إلى مليارات الدولارات. ورأيي في العولمة أنها فرص
ومخاطر: فهناك مخاطر كبرى من العولمة
المتوحشة في الوقت الراهن، التي يمكن لها، من
خلال أحكام "منظمة التجارة العالمية"
المجحفة بحقِّ الدول النامية، أن تُلحِقَ بها
أضرارًا اقتصادية شتى، قد تتمثل في تهميشها
وفي إقصائها. غير أنها أيضًا تتضمن فرصًا
كبيرة للدول التي تنجح في تطوير قواها
البشرية وتدريبها وفي تطوير التعليم فيها
ورفع مستواه، وتصوغ سياسات رشيدة للبحث
العلمي، وتبادر إلى تصميم برامج لتوطين
التكنولوجيا والارتقاء بجودة منتجاتها،
لتدخل في دورة التنافس العالمي. وإذا كانت
ماليزيا قد نجحت خلال عشرين عامًا نجاحًا
ساحقًا وأصبحت تصدِّر إلى العالم المتقدم
بملايين الدولارات، لماذا لا ننجح في العالم
العربي؟! إنه سؤال مشروع وهام، وذلك لأن
ماليزيا تبنَّت مشروعًا قوميًّا للتحديث
بمعناه الشامل، محدَّد الأهداف والمراحل،
وكانت ملتزمة بالتنفيذ، فنجحت نجاحًا هائلاً.
ومَن يقع في العالم العربي في فخِّ الهجاء
الأعمى للعولمة عليه أن يدرس تجربة ماليزيا
ليعرف أسرار نجاحها! سادت في
الآونة الأخيرة مقولةُ "النهايات": "نهاية
الفلسفة"، "نهاية الإيديولوجيا"، "نهاية
التاريخ"، إلخ. هل نحن نعيش حقًّا في عصر
النهايات؟ هذه نظريات إيديولوجية تهدف
إلى نشر وعي زائف. وأغلب أصحابها منظِّرون
للِّيبرالية الجديدة، وعلى رأسهم فوكوياما
في كتابه نهاية التاريخ وهنتنغتون في
كتابه صِدام الحضارات. نحن لسنا في "عصر
النهايات"، لكننا على وجه الدقة في عصر
الانقطاعات الكبرى. كلمة "انقطاع"
مستعارة من تاريخ العلم، حيث يتحدثون عن "القطيعة
المعرفية" أو "القطيعة التاريخية".
نحن في عصر القطيعة التاريخية بين المجتمع
الصناعي، الذي يذوي على تقاليده وممارساته
أمام أعيننا، فيما يتحقق أمامنا نموذجٌ حضاري
جديد يُطلَق عليه نموذج "مجتمع المعلومات
العالمي"؛ وهو نموذج حضاري متكامل، يلعب
فيه الاتصال والشفافية وحرية تداول
المعلومات أدوارًا رئيسية، وهو يتشكل
بالضرورة في إطار ديموقراطي. هذا المجتمع
المعلوماتي العالمي يتحول ببطء، ولكن في
ثبات، إلى ما يُطلَق عليه "مجتمع المعرفة". ومما له دلالة أنني هنا في
لبنان أحضر مؤتمر اللجنة الاستشارية لـتقرير
التنمية الإنسانية العربية الثاني، الذي
يُصدِره البرنامجُ الإنمائي للدول العربية
والذي تديره من مقر الأمم المتحدة في نيويورك
الدكتورة ريما خلف، وزيرة التخطيط الأردنية
السابقة. وموضوع التقرير هذا العام: "نحو
إقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية".
ومعنى ذلك أن نخبة الباحثين والمثقفين العرب
قد التفتوا جديًّا إلى ظاهرة "الانقطاع"
في التاريخ العالمي والتحول من المجتمع
الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي. ***
*** *** حاوَرَه:
حسين نصر الله عن
الكفاح العربي، 07/06/2004 |
|
|