|
"حطَّاب الأشجار
العالية"... حطَّاب الألم واللَّوعة قراءة في شعريَّة
محمَّد الماغوط يتداخل النصُّ الشِّعري اعتمادًا على تداوُليةِ
ما يجري في الفضاء المحيط وعلى الدخيلة
الغائرة لمنتِج النص. ولا يُنتَج النصُّ الحقيقي
كتداوُليةِ حِرَفيةٍ تفتقر إلى الحميمية
وتنأى، في عديد الأحيان، عن الصدق الروحي، بل
كحاجة يتطلبها السؤالُ السرمدي للإنسان: "لماذا
أنا هنا؟" فمن هذا السؤال تنبثق جموعُ
الاستفهامات المتلاحقة بحثًا وتفصيلاً،
وقوفًا وتعلُّلاً، لأن النصَّ تمخُّضٌ
روحيٌّ يُنتِج روحًا لها قابلية الإرهاص
والتأجج، وفيها حتمية الاستمرار ورهزة
البقاء. وإذا كان
شعرنا العمودي القديم والمتقدِّم عبر الحقب
جاء، في معظمه، انثيالاً وتدفَّق سيلاً من
صور وتعبيرات يقولها مَن أراد القول ويبوح
بمفرداته مَن هوى البوح، وإذا رأينا إلى
شعراء يتجيَّشون، – نقلت الذاكرةُ الجمعية
أسماءهم ونصوصهم، فيما اندثر الكثيرُ منهم
ومن إفاضاتهم، – فإن شعر اليوم ليس كذلك: ليسَ
من اليُسر قولُه، ولا من البساطة الكتابةُ
بكلمات سيُقال عنها شعرًا. إنه أقسى من ذلك
وأعقد: دروبه أكثر مطبَّات، والتواءاتُه أكثر
شراكًا. يدخلها المستسهلُ فيتعثر في أول
الخطى، ويلجها المستهينُ فينكفئ مطعونًا
بالتلكؤ والخيبة: "أصبح الشعر صراعًا لا
هوادة فيه مع الكلمات والمعاني، كما أصبح
جهادًا وتعذيبًا للقوى العقلية من أجل الوصول
إلى مرحلة الإدراك"[2]،
كما يشير إلى ذلك جيمس مكفارلن – هذا إذا
تناولنا شعرنا المتوارَث الذي بنى صروحَه على
هيكلية الوزن والقافية، وراكَمَ وجودَه
قرونًا متعاقبة، – فما بالك بالوافد الجديد
الذي لا يتجاوز أكثر من نصف قرن؟! – وأقصد به
الشعر المنثور، أي ما تجمعتْ الأصواتُ
واقتربتْ من التوافق على تسميته بـ"قصيدة
النثر"، – وهو في حاجة إلى ذائقة خاصة:
ذائقة تخرج عن إطار المتوارَث بقصد التعلُّم
الذي هو حاجة، حتى لو كان ذلك صعبًا بدعوى
أن الذائقة مجبولة على متوارَث مهيمن، له
رنينه وموسيقاه الغائران في أعماق طبقات
التذوق. والمتلقِّي،
في مسعاه لاغتراف ما يُشيع الرغبةَ ويحقِّق
فعل الشغف وارتشافه، لا بدَّ أن يهيِّئ
ذائقتَه لتحويل المشهد النثري إلى صرح قصيدي
شعري يتساوق وتكيُّف الذائقة، يتماهى وغرضَ
النص – إذْ [...]
ينبغي أن يكون في داخل كلِّ قارئِ شعرٍ قارئُ
نثر. والجهد المبذول في جعل نصٍّ شعري قصيدةً
يتطلب زيادةً في الطاقة تفيض عن إفشال
التأويلات النثرية. وإذا لم يُجهِد القارئُ
نفسَه في مشهد نثريٍّ فلن تحضر القراءةُ
الشعرية. والمهارة التي يتطلبها التأويل
الشعري تتضمن اهتمامًا قويًّا بالمعنى
النثري، مقرونًا بالاستعداد للاندفاع وراء
المعنى الشعري لتوليد معانٍ جديدة.[3] إن هذا
التأويل يتطلب فهمَ توجُّهات خالق النصِّ
الشعري في التعبير، حيث القراءة لا تنظر إلى
الشاعر مُرتِّبَ مفرداتٍ وبانيَ لبناتٍ
فحسب، بل عارضُ كيان، ومُلهِمُ أفكار، ووسيطُ
أزمان عبر نصِّه الذي يمكن لنا أن نطلق عليه
مصطلح "الميتاوسيط". وحين يقف
الشاعر ليمسك بعنف اللحظة كي تمنحه التأمل،
تتهاوى سدودُ القوافي كلُّها، وتهرب من إزائه
البحور والتفعيلات. يتوارى الجَّلَد، فيلجأ
إلى المفردة يستحثُّها لجلب قريناتها من
المفردات في حالة أشبه بالدمع الدفيق أو
النحيب الصارخ؛ فتتجلَّى – أي المفردات –
مدًّا أبديًّا من بوحٍ وسَواقيَ جرَّارةً من
صور حُسِبَ لها حسابُ الرفض وخُشيَ منها خشية
الارتداد هروبًا من تهمة التساهل التي قد
يوصَم بها المتلقِّي القارئ به. ذلك أن "أعظم
خيانة يرتكبها الكاتبُ هي أن يصوغ الحقيقةَ
الصعبةَ في عبارة رخيصة"، كما يقول راندل
غاريل. فالتساهل هو ما ولَّدَ الهباء الذي
نلمسه في كثير من النثريات، سواء على مستوى
الصحف والمجلات أو على نواصي الكتب التي
يُعلَن عن إصدارها، فتتدفق هشةً، خاويةً،
مُبتلاةً بالفراغ، وإنْ جاهرتْ بامتلائها،
يلاحقها التقزُّم، وإنْ أظهرتْ اعتدادًا
بعلوِّ القامة. إذْ ما يبقى هو ما يهز دخيلةَ
القارئ ويهشِّم لديه استقرار البحيرة
الراكدة في فضاء روحه المتشوِّقة، المنتظرة
لحجر الرجرجة والانتباه. إن الشعر ممارسة
وجدانية لا يبقى أثرُ فعلها وتأثير
حفرياتها إلاَّ عندما تكون فاعلةً وذات تأثير
وتجيء من منهل الأعماق المتلظِّية بشواظ
العنف الذاتي المتوالد إما من سادية محتدمة
وإما من مازوخية مؤثِّرة تدفع بالذات إلى
الهتاف صراخًا، ليخرج صداها متسللاً من
منعطفات الأعماق إلى فضاءات الذوات
المتصالبة عيونها، تطالع الآتي بما يحمله على
أكتافه من إفضاءات. هكذا يترك الناص أثرَه
ويطبع مؤثراتِه، فيأتي النص محمَّلاً
بالدلالات. محمد الماغوط (1934-2006) هكذا نرافق
الماغوط في تصرُّفه مع المفردات وفي محاكاته
مع جملة الطروحات[4]: الذين
ملئوا قلبي بالرعب/ ورأسي بالشيب المُبكِّر/
وقدحي بالدموع/ وصدري بالسعال/ وأرصفتي
بالحفاة/ وجدراني بالنعوات/ وليلي بالأرق/
وأحلامي بالكوابيس... وحرموني
براءتي كطفلٍ/ ووقاري كعجوز/ وبلاغتي
كمتحدِّث/ وصبري كمستمع/ وأطيافي كأمير/
وزاويتي كمتسوِّل/ وفراستي كبدوي/ ودهشتي
كمسافر/ وحنيني كعائد... ثم
أخذوا سيفي كمحارب/ وقلمي كشاعر/ وقيثارتي
كغجري/ وأعادوا لي كلَّ شيء وأنا في الطريق
إلى المقبرة – ماذا
أقول لهم أكثر ممَّا يقوله الكمانُ للعاصفة؟ هذا السؤال
المحمَّل بالاستطالة، المتمخِّض عن أسئلة
تضج بالهتاف، المثقل بعبير الآه الشفيف، لا
مناص من أن يزرع في أرض إبحار المتلقِّي متعةَ
الألم اللذيذ ليحصد مرارة النشوة الباكية.
فمن السؤال تأتي الصورة لترسم بريشة الكلمات
جِرار الحسرات مليئة بـ"كافات التشبيه"
– التشبيه الذي يخلق هوَسًا عُذريًّا بمعنى
الكلمة ومفهوم العبارة – تشبيه العذوبة التي
تشبه الرغاوي، المتأجج في صناعة الخيال
المتناسل. تشبيه يتوالى، وصورٌ تتتالى،
وتماوجٌ روحي يتضام ودفقةَ الشقاء، وسؤالٌ
يُدرك جوابَه المرسل: فكل ما أفضى به وعَرَضَه
بألوان فائرة وفاقعة، ساخنة ونارية، باردة
وخامدة، أو جامدة ومحايدة، لا تعدو أن تكون
عَرَضًا لا غير، لأن الإجابة تنبثق من رحم
السؤال، فيتمخض صريحًا وواضحًا، على الرغم من
أنه يتلفَّع بنداء علامة الاستفهام التي هي
خاتمةٌ للرد، لأن صراخه لا يغدو سوى هباءً
يضيع في خضمٍّ أهوج، أو عزف كمان يبعث ألمًا
يضيع في جنون عاصفة لا تأبه: "ماذا أقول لهم
أكثر ممَّا يقوله الكمانُ للعاصفة؟" لقد قدَّم
بودلير قصائدَه النثرية بنفَسٍ سردي؛ رأى
فيها قدرةً على تقبُّل الابتغاء وحاضنةً
حنونًا تُشبع الفضول. سرد يُنتج حكايةً نثرية
بأكسِسْوارات شعرية؛ عطر رومانسي يقاتل
المألوف، ويخرج عن نطاق التقبُّل المعهود –
حتَّى إن أغلب نصوصه صُفِعَتْ بقرارات الرفض
وووجِهتْ بشتائم الاحتجاجات. انطلق من رغبة
استقلال الخيال دون ترك الواقع والتنكُّر له،
دون احتساب الواقع مرفوضًا، لا وجود له في ذات
الشاعر؛ أي أنه مَزَجَ الداخليَّ المتألم
الجريح بالخارج الرمادي المُرهق، التعيس،
ورأى أن [...]
نتاج الخيال يتأتَّى عن نوع حقيقيٍّ من
الألم؛ وهو ليس ألم الحياة اليومية المؤقت
العابر، الناتج عن فقدان الطمأنينة أو الحرب
والحب، بقدر ما هو العذاب الداخلي العميق
الدائم الذي نَكْبِتُه عادةً ونخفيه تحت ستار
النسيان المقصود.[5] وإذْ نُعرِّج
على نصوص محمد الماغوط نستشف عدم انفصالها عن
هذا التوصيف: فهي تقدِّم ترجمةً للمعاناة
والإرهاصات والتأجج الجَّوَّاني المحتدم
الدفين بسردٍ أقرب إلى الحكاية، تترافق فيها
أبجديةُ الواقع المتجسِّد بأوقيانوساته التي
تشي ببارقة أو بصيص من لهب يطلق ضوءَ البهجة
وإشعاع انشراح النفس. بإزاء هذه التهالُكات،
ينكفئ الشاعرُ صوب العودة إلى مناشئ البراءة؛
لكنها براءة مريضة عليلة، يرهقها اصفرارُ
الحال، وبُعد الأمل، وسدود اليأس التي تمنع
أية موجة فرح من الوصول إلى بيت البراءة: كان
بيتنا غايةً في الاصفرار/ يموت فيه المساء/
ينام على أنين القطارات البعيدة/ وفي وسطه/
تنوح أشجار الرمان المظلمة العارية/ تتكسَّر
ولا تُنتج أزهارًا في الربيع. حتى
العصافير الحنونة/ لا تغرِّد على شبابيكنا/
ولا تقفز في باحة الدار. مقتطَع من نص
"الليل والأزهار" لا يكتمل إلاَّ بتجسيد
ماهيَّته كحلٍّ لأحجية الحال ولغز الموقف؛
مقتطَع يُحسَب في القراءة التأويلية كخطاب
موجَّه إلى المتلقي أو إلى الذات. إنه يلملم
فحوى الروح ليعطي للبوح معنًى ويمنح تغريدةً
لحنجرةٍ غرِّيد، لكنها حنجرة مبحوحة بفعل
الألم وتأثير الفحوى. يتوجَّه بعد منتصف النص
نحو "ليلى"، فنكتشف أننا خُدِعْنا
بحسباننا أنه يهمس إلينا بإفضاءاته وأن "ليلى"
هي المتلقية الوحيدة الذي يقرع لها طبول نثر
أسراره: وكنتُ
أحبُّكِ يا ليلى/ أكثر من... والشوارع الطويلة/
وأتمنى أن أغمس شفتيك بالنبيذ/ وألتهمك
كتفاحة حمراء على منضدة/ ولكنني لا أستطيع أن
أتنهد بحرية/ أن أرفرف بكِ/ فوق الظلام
والحرير. إنَّهم
يكرهونني يا حبيبة/ ويتسرَّبون إلى قلبي
كالأظافر/ عندما أريد أن أسهر مع قصائدي في
الحانة. إن بوح الشاعر
يعرض الحصار الذي يحس به: فهو محاصَر بكلِّ
المعيقات والمعرقلات؛ أرضه ملغَّمة
بالمطبَّات وبشعور أن مَن يضادِدونه
يكرهونه، ليس بدافع المنافسة والمواجهة
الحِرَفية، بل بدافع البغض المبرمج. فهم
يدخلون إلى قلبه متسلِّلين، بأظفار غيظهم
ومخالب الإضرار به، حتى وإنْ آثر الاختلاء
بنفسه وابتغى الاستحمام بقصائده في حانة
التماهي مع رضاء الروح ونقائها، حتى وهو يلج
نصَّ "تبغ وشوارع": ففيه بقايا شكوى،
وتقديم لوم، وخطابٌ من عتاب لا ينقطع. إن النص الذي
يسفح كلماتِه على رخامة تتبُّع القارئ لا
بدَّ أن يبث بخور القلق في مسارات التلقِّي،
فيثير في فضاء هذا الأخير تخلخُلاً وإرباكًا
يهز الجدران ويدفع أرض الرخاء إلى الإمادة.
وعند ذاك، يؤدي هذا النص فعلتَه في استقرار
القارئ – القارئ الذي يحس أنه بإزاء شيفرات
سحرية، إنْ وَضَعَ أصابعَه على مجسَّاتها
قادتْه أصابعُ السحر إلى مدلولاتٍ تُزعزِعُ
لديه قناعةً كانت متكرِّسة، فيقوده النص إلى
حتمية بناء قناعة جديدة. أي أن نصَّه الذي
قرأه وأجرى مقارباتِه المتداخلة معه آلَ إلى
نصٍّ آخر سيتمخَّض كنتاج للقراءة وفعل
للتداول. إن نصَّ البوح والشكوى والعتاب يبقى
مُكرَّسًا لـ"ليلى"، الأنثى التي قد
نجدها شيفرةً للمفردة أو القصيدة أو الروح،
أو هالةً للوهم ودوائر الحزن؛ وقد تكون فم
احتجاج على الذات المبتلاة بالمازوخية
والجَلْد المتواصل. ولنقر، افتراضًا، كما هو
الزبَد الراغي على السطح، أن النص موجَّه إلى
أنثى اقترن اسمُها بـ"ليلى" – ليلى قيس
بن الملوح، أو قيس بن ذريح، أو قيس الرقيات –
جاءت لتأخذ حيِّزًا في جسد النص، فيتقابل في
مضمار النص وجهان: أحدهما يطلق الصوت
بالكلمات، والآخر يغترف الكلماتِ بالصمت.
وإذا كان الوجه الأول ظاهرًا يمثله الشاعر/الباث،
فإن الثاني لا وجود له إلاَّ في مخيلتنا. وكل
قارئ يخلق قسماتِ ذلك الوجه ويمنحه صفةَ
الحياة ليتلقَّى سمعًا ونظرًا: شعرُكِ
الذي ينبض على وسادتي/ كشلال من العصافير/
يلهو على وسادات غريبة/ يخونني يا ليلى/ فلن
أشتري له الأمشاط المذهَّبة، بعد الآن. إن "الخيانة"
في عتاب الباثِّ ليست في ضمير "ليلى"
ودخيلتها، بل في ظاهرها – وهو "الشَّعر"،
الذي كان يتباهى بانسيابيته "كشلال من
العصافير"، ينتفض عليها، فلا يخضع
لإرادتها، ومن جرَّاء المؤثرات الخارجية،
يمارس اللهو والعبث على وسادات غيره! هذا ما
أنجزه المرسل، ويغمر سهوب أعماقه بالأسى،
فيرثي زمن العَفاف والحب العذري، لاسيما أن
المُخاطَب هو "ليلى"، مَعلَم الحبِّ
العذري وبيرق النزاهة. والشاعر يقدِّر، على
الرغم من الألم، المحفِّزاتِ والأسبابَ التي
حَدَتْ بالشعر – "شلاَّل العصافير" –
إلى اختيار غيره: سامحيني
أنا فقير يا جميلة/ حياتي حبرٌ ومُعلَّقات
وليل بلا نجوم/ شبابي باردٌ كالوحل/ عتيق
كالطفولة. طفولتي
يا ليلى... ألا تذكرينها؟ كنتُ مهرِّجًا/ أبيع
البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين/ ألعب
الدَّحَل/ وآكل الخبز في الطريق/ وكان أبي لا
يحبني كثيرًا/ يضربني على قفاي كالجارية/
ويشتمني في السوق. وبين
المنازل المتسلِّخة كأيدي الفقراء/ ككلِّ
طفولتي/ ضائعًا... ضائعًا/ أشتهي منضدةً وسفينة...
لأستريح/ لأبعثر قلبي طعامًا على الورق. إذًا هذا هو
الفقر الذي ولَّد عدم التكافؤ، فأنتجَ
انحرافَ شَعر ليلى إلى غير وسادته الراقصة،
على أديم جفافها أشباح الفقر وضعف الحال
وتعذُّر تحقيق المُراد. إن الشاعر "فقير":
فهو لا يملك غير الحبر الذي يثير امتعاض مَن
يمتلك عين التطلُّع لاغتراف ملذَّات المحيط
وحيازة البذخ والأبهة والمظهر المثير
والأناقة الباعثة على تصالُب العيون
اندهاشًا وإعجابًا به وبحاشيته! أجل، ماذا
تجني الذات الراعشة باتجاه كسب الضوء
والإشعاع من ليل بلا نجوم، وشباب معتم وبارد
كالوحل؟! – ناهيكَ عن طفولةٍ خرساء عتيقة،
هربت من دروبها حورياتُ الانطلاق وبناتُ
الحبور وملائكةُ الفرح. وفي الشباب، كانت
البطالة والتثاؤب مِن لا عمل، ولا إنتاج، ولا
أبواب تنده بكفِّ الحنان، في عائلة نشأ
ربُّها على أبجدية الوصف الذي يستعرضه الابن:
أب مقموع ومُعاقَب بالفقر والتهميش، مليء
بالغضب. فأين يصب الجام المحتشد؟! مرةً كتبتُ
قصةً ولم تُنشَر، ثم ضاعت بين محطات الترحال
عن أبٍ تضطهده الأيامُ في مجتمع يقسو عليه
بسياط البطالة والفقر وعار عُهر وَرِثَه عن
أمٍّ ارتكبت الفواحش. فكانَ إنْ اشترى فأسًا
وجذوع أشجار يابسة، رماها في فناء بيته
الخلفي، حين يعود متألمًا، وتثير غضبَه
الزوجةُ البائسة أو الأولاد المقموعون؛ ومن
أجل ألا يرتكب جريمة في حقِّهم لحظة الغضب
يتَّجه إلى حيث الجذوع اليابسة، يمسك بالفأس،
ويروح يبدِّد حنقَه وانفعالاتِه الجامحة
بتكسيرها، حتى يسقط منهكًا، لكنْ مرتاحًا،
فيعود للزوجة والأولاد ببساطة ربِّ الأسرة
الحنون. ويمكن لنا
تخيُّل الماغوط – بل نحسبه – أبَ الكلمات،
يضاجعها كما يشتهي، ويجلدها بسياط حزنه كما
يروم. كلماته بيده، وموهبته لا تقبل التحجيم.
إنها تبغي الانفجار؛ وهي دومًا في إرهاص.
لذلك، في كثير من المواقف النصيَّة، تتمرَّد
عليه وتنتثر، فتتبعثر نصوصًا لا قدرة له على
كبحها أو إيقافها أو حتى تأخير اندفاعها. ومن
هنا نرى نصوصَه كما لو كانت لا تمت إلى شخصه،
بسلوكه وعلائقه والتزاماته. هكذا تغدو
الحال في عديد التجارب الإبداعية لخلاَّقين
دخلوا حومة الإبداع باعتزاز وجودهم كماسكي
صولجانه، ثم خرجوا من حلبته وهم كما لو كانوا
غرباء عنه! ألم يقل ماتيس، رائد تيار الوحشية
في الفن التشكيلي: "نحن لا نستطيع أن نكون
أسياد إبداعنا. إن الإبداع هو الذي يوجِّهنا." *** *** *** [1]
روائي وناقد عراقي. [2]
مالكولم برادبري وجيمس مكفارلن،
الحداثة،
ج 1، ص 76. [3]
روبرت شولتز،
السيمياء
والتأويل،
بترجمة سعيد الغانمي،
ص 82. [4]
نصوص الماغوط مأخوذة مما هو
منشور منها في
"كتاب في جريدة"
بعنوان حطاب الأشجار العالية. [5]
والس فاولي،
عصر
السريالية، بترجمة
خالدة سعيد، ص 22.
|
|
|