الضَّـوءُ المُـضَـاءُ بِـذَاتِـه

قـدِّيـسَـةٌ شَـاعِـرةٌ مِـنْ كَـشْـمِـيـر

لالِّـشْـفَـري

 

"ارقصي، لالاَّ، وليس ما يكسوكِ

غير الهواء،

غنِّي، لالاَّ، متدثِّرةً بالسماء.

انظري إلى هذا النهار الساطع:

أية ثياب في وسعها أن تكون

أبهى أو أقدس؟!"

– لالِّـشْـفَري

 

قليلون هم الكشميريون، هندوسًا ومسلمين، الذين لم تألف مسامعُهم واحدةً من حِكَمِها أو مقولاتها الأثيرة التي تحفل بها قصائدُها والتي أضحت على مرِّ الزمن أمثالاً سائرة.

إنها لالاَّ (1320-1391)، أشهر شاعرات لغة أهل كشمير المحكية القديمة. أشعارها الشفهية التي أنشدتْها على قارعة الطرقات خلال القرن الرابع عشر لم تفارقْها الروحُ أبدًا، وواصل قلبُها النبضَ في الذاكرة الجماعية لأهل تلك البلاد، صادحًا بلغاتٍ ثلاث: الكشميرية والهندوستانية والسنسكريتية. وعدا عن اسم "لالاَّ"، الذي يعني "محبوبة" بلغتها الأصلية، عُرِفَتْ هذه الشاعرة بألقاب أخرى عدة، منها: لالاَّ فاكهِيانا ("الشاعرة لالاَّ")، لالِّـشْـفَري ("السيدة لالاَّ")، لالاَّ يوگِـشْـفَري ("ربة اليوگا لالاَّ"، وهو لقبها بالسنسكريتية)، لال دِدْ ("الجدة لال")، ماي لال دِدِّي ("الأم لال")، وغيرها.

عاشت لالاَّ خبرة الزواج لفترة وجيزة من حياتها؛ إذ سرعان ما ضاقت روحُها بنمطية العيش ورتابته ضمن هذا الارتباط التقليدي، فتحررتْ من أسْره، لتنقطع إلى تحصيل الدروس والتعاليم الروحية على گورو (شيخ مرشد) هندوسي. إبان تلك المدة، راحت لالاَّ تجول في المناطق الريفية لتلك البلاد، منشدةً قصائدها في الطرقات وهي ترقص في أسمال ممزقة أو عاريةً تمامًا[1].

روايات وأقاويل عدة، معظمها من نسج المخيلة الشعبية، تناقلتْها الألسنُ عبر العصور حول طبيعة حياة لالاَّ الغرائبية، منها ما هو فكاهي، كحكاية الأمسيات التي كانت تقضيها في ضيافة حَمَاتها الشريرة التي كان من عادتها أن تضع لها حجرًا تحت وجبتها من الرز المطهو كي توهمها بأنها تحظى بحصة كبيرة من الطعام! ومنها ما هو أُعجوبي، كحكاية لقائها بوليِّ المسلمين الشهير آنذاك سيد علي الحمداني، الرجل الذي يُعزى إليه الفضلُ في هَدْي أهل كشمير إلى الإسلام.

تقول الحكاية إنه بينما كانت لالاَّ تتجول عاريةً في إحدى الدروب، وقع نظرُها على الحمداني، وللتوِّ انكشف لها مقامُه الروحي، فطفقت تعدو في اتجاه أحد مخابز البلدة صائحةً: "لقد رأيت رجلاً!" وما إن ولجتْ باب المخبز حتى قفزت في فرنه الملتهب لتلتهمها نيرانُه الشرهة في ثوانٍ. وآنَ بلغ الولي المخبزَ باحثًا عنها، انبثقت لالاَّ فجأة من الفرن، مسربلةً في ديباج أخضرَ باهر من إستبرق الجنة!

كولِمان باركس، أحد المترجمين الذين نقلوا بعض قصائد لالاَّ إلى الإنكليزية، عمد في إحدى دراساته إلى إجراء مقارنة بينها وبين جلال الدين الرومي، معتبرًا أنهما على طرفَي نقيض: ففي حين أن أشعار الرومي مُسرِفة، فياضة، جياشة المشاعر، وممتلئة حيوية، فإن أشعار لالاَّ مُقتصِدة، متزنة، وقورة، ورابطة الجأش. كذلك فإن التعقيد والغموض اللذين يشوبان بعض أشعار الرومي، تقابلهما بساطةٌ صارمة ووضوحٌ مفرط في أشعار لالاَّ. ولعل باركس لم يجانب الحقيقة فيما ذهب إليه: فالمتأمل في أشعار كلٍّ من الصوفيين الكبيرين سيجد أنه إذا كانت أشعار الرومي أشبه بمخيلة وردة تتحرك في كامل بتلاتها فإن أشعار لالاَّ أشبه بخلاصة عطر مستقطَر من خاطر تلك الوردة. إنها أشعار تتنفس في الجذور.

لالاَّ في صورة شعبية هندية مستغرقةً في تأمل شيفا، وأمامها رمز الإله: اللِّنگَم–يوني، ولوج الذكَر في الأنثى، رمز وصال شيفا وشكتي، الإله والنفْس.

انتسبت لالاَّ إلى طريقة اليوگا الشيفاوية الكشميرية، حيث احتفت بالإله شيفا، شيخ اليوگانيين قاطبة، المتجسِّد في القمر، الذي كان يمثل لها الحقيقة المُطلقة الوحيدة التي كانت تسعى إلى تحقيقها من خلال تماهيها واتحادها به في مقام منتهى التجلِّي – حتى إن بعضهم قال إن رقص لالاَّ ما هو إلا انعكاس للغة جسد شيفا نفسه!

شيفا نَـتََراجا، "ملك الراقصين".

آمال نوَّار

* * *

 

الضوءُ المُضاء بذاته

الروح كالقمر، جديدة ومتجددة دومًا.

كذلك رأيتُ المحيط خلاقًا في استمرار.

وبما أني طهَّرتُ الذهنَ منِّي والجسم،

فأنا، لالاَّ، أيضًا جديدة،

في كلِّ لحظة جديدة.

 

معلِّمي لقَّنني شيئًا واحدًا:

احْيي في الروح!

آنَ تم لي ذلك

شرعتُ أطوفُ عاريةً

ورحتُ أرقص.

*

تدثَّرْ بالكفاف من الملبس، ما يُبقيكَ دافئًا.

اقتَتْ بالكفاف من الطعام، ما يقيكَ وخزة الجوع.

وفي ما يخصُّ ذهنك،

دعْه يجتهد ليدركَ مَنْ أنتَ،

وما المُطلق، وأن هذا الجسم

سيغدو يومًا

طعامًا لغربان الغاب.

*

أولئك ذوو موهبة المشي في الهواء،

أولئك القادرون على إخمادِ نارٍ،

تجميدِ مجرى،

أو الحظو بحليبٍ من بقرة خشبية،

هم مشعوذو شوارع، ليسوا أكثر!

*

الزهَّاد يرتحلون من مزارٍ إلى مزار

سعيًا وراء الذي يتأتى

من ارتياد الروح وحسب.

 

تفكَّرْ في اللغز الذي تجسِّده!

حين تُمعن النظر انطلاقًا من ذلك،

العشبُ الغضُّ يبدو أنضر

وهو غير مستوٍ تمامًا،

وحتى أكثر اخضرارًا إلى الأبعد.

اثبَتْ هنا.

*

تأملْ من منطلق الأبدية.

لا تلزم حدود عقلكَ.

أفكاركَ مثل طفل يتململُ

قرب ثدي أمِّه، مضطربًا خائفًا،

وهو بقليلٍ من التوجيه

يمكن له الاهتداء إلى مسلك الشجاعة.

*

ثمة أولئك النائمون الذين هم أيقاظ،

وآخرون أيقاظ يبدون نيامًا.

ومِمَّن يستحمُّون في بِرَكٍ مقدسة

ثمة مَنْ لن يطَّهروا أبدًا.

وهناك آخرون

تَصرِفُهم شؤونٌ منزلية عادية

عن القيام بأيِّ عمل.

*

دعْهم يكيلون لعناتهم!

إنْ كنتُ في الباطن على صلة

بما هو حقيقي،

فروحي ستظلُّ ساكنة صافية.

 

أوَتظن أن شيفا يأبه لما يقول الناس؟!

إذا ذرورٌ من رماد تناثرتْ على مرآة،

استخدمْها لصقلها!

*

الشهرة ماءٌ محمول في سلَّة.

احبسْ الريحَ في قبضتك،

أو أوثِقْ فيلاً بشعرةٍ واحدة.

هاتان مأثرتان تجعلانك شهيرًا!

*

لطِّفْ من حِمْل العُذوبة التي أنوء بها،

عُقدة الحبل تنغرز في كتفي.

هذا النهار تمادى في لامعناه،

أشعر أني لا أستطيع المضي.

 

آنَ كنتُ ومعلِّمي، سمعتُ حقيقةً

آلمتْ فؤادي كأنها قَرْح:

الألم الرقيق الناجم

عن رؤية شيءٍ عشقتُه كوهم.

 

القطعان التي رعيتُها رحلتْ.

أنا راعية، حتى من دون ذكرى

لما يعنيه تسلُّق هذا الجبل.

أشعر أني في منتهى الضياع.

 

هذا ما كانت عليه حالُ روحي،

إلى أن وجدتُني في حضرةِ قمر!

– هذه المعرفة المُستجدة

بكيفية توحُّد الأشباه.

 

فيا صاحبي الطيِّب،

كلُّ شيء هو أنتَ،

وأنا أرى الإله فقط.

 

الآن، الأشكال والحركات المُبهجِة

باتت شفافة،

أنظرُ من خلالها، فأُبصِرُني

في صفتي المُطلقة.

وهنا تكمن الإجابة على لغز هذا الحلم:

أنتَ تفارق كيما نحن الاثنان

نستطيعَ الإتيان برقصة واحدة!

*

جئتُ إلى هذا الكون المولود، المُنبعث أبدًا،

ووجدتُ الضوءَ المُضاء بذاته.

إذا ما ماتَ أحدهم فهذا لا يعني لي شيئًا،

وإذا ما متُّ أنا فهذا لا يعني شيئًا لأحد.

خيرٌ أن نموت،

وخيرٌ أن نعمِّر طويلاً.

 

الموت والولادة حَدَثان يعتملان

في باطنِ وعي الفرد،

لكن أغلب الناس يسيئون فهم

اللعبة الجوهرية للطاقة الخلاقة،

وكيف، ضمن ذلك،

هذان هما حَدَثٌ واحد.

*

لالاَّ، جُبْتِ أماكن كثيرة

سعيًا لإيجاد زوجك!

الآن، بعد لأْيٍ، داخل جدران

هذا الجسم البيت، في مقام القلب،

ها أنتِ تكتشفين أين يحيا!

*

الشمس: الـتشاكرا[2] الأدنى للحيوية

اختفى. ثم الـتشاكرا الأعلى: القمر.

مُستغرِقًا في المُطلق، فكري تلاشى.

إلى أين الأرض والسماء ارتحلتا الآن؟!

أتُراهما متواريتان في العدم

مثل صديقين يتنزهان على الأقدام؟!

*

بعض الناس زهدوا في منازلهم،

آخرون في صوامعهم.

هذا الزهد كلُّه بلا طائل

إنْ لم تكن واعيًا في الباطن.

 

نهارًا وليلاً،

كُنْ فَطِنًا مع كلِّ نَفَس،

واحْيَ هناك.

 

معلِّمي، أنت الإله بنظري!

اكشفْ لي المعنى الدفين لنَفَسَيَّ الاثنين:

الأول الحار والآخر البارد.

 

"في حوضك، قرب السرَّة،

يكمنُ مصدرُ حركاتٍ حيوية عدة

تُدعى الشمس، مدينة الضياء.

وبينما حيويتك تتصاعد من تلك الشمس،

فإنها تروحُ تسخن،

وفي فمك تلتقي بالجدول المُنحدِر

عبر يافوخ ذاتك العليا، الذي هو بارد

ويُدعى القمر أو شيفا.

هذا المزيج الجاري، نشعرُ به على التناوب

حارًّا وباردًا."

*

ما هي العبادة؟

مَنْ هو هذا الرجل وهذه المرأة الآتيان بالزهور؟

أي صنوف الزهور ينبغي إحضارها؟

وأي ماء جداول ينبغي سكبُه فوق التماثيل؟

 

العبادة الحق في السريرة تقام:

"فليكن ذاك رجلاً"، وبفعل الرغبة،

"لتكنْ تلك امرأة"،

وليكن لهذين الاثنين الخيار

في ما سيقرِّبانه.

 

ثمة سائل يمكن إفرازه

من تحت قناع الوجه،

رحيقٌ إلهي، حينما يتصبَّب

يمنحُ النفسَ انضباطًا وقوة.

ليكنْ ذاك هو سيلكَ المقدس.

ليكنْ نشيدُ عبادتكَ صامتًا.

*

كنتُ مشبوبةَ العاطفة،

ممتلئة صَبابة،

أبحثُ في كلِّ مكان.

لكن اليوم الذي فيه

الكائنُ الحقُّ وَجَدَني،

كنتُ في بيتي.

*** *** ***

الترجمة عن الأمريكية: آمال نوار


 

[1] يقول فريتيوف شووُن: "العري المقدس – الذي لا يلعب دورًا هامًّا عند الهندوس وحسب، بل وعند حُمْر الجلود – يتأسس على التقابل القياسي بين "الظاهر" و"الباطن": الجسم إذ ذاك يُرى بوصفه "القلب مستظهَرًا"، والقلب، من ناحيته، "يمتص" الإسقاط الجسماني، إذا جاز لنا القول. "الأطراف تتماس." في الهند يقال إن العري ييسر إشعاع اللطائف الروحية، وكذلك إن عري المرأة خصوصًا هو تجلٍّ لِلاكشمي [من التجليات المؤنثة الميمونة للإله]، وبالتالي، لأثر ميمون على المحيط. والعري، في صورة عامة، يعبِّر عن العودة إلى الجوهر، إلى الأصل، إلى النموذج الأصلي، وإذن، إلى الحالة السماوية، ويفعِّل هذه العودة بالقوة: "ولهذا، عاريةً، أرقص"، كما كانت تقول لالاَّ يوگِـشْـفَري، القديسة الكشميرية العظيمة، بعد أن وجدت الذات الإلهية في قلبها. هناك في العري قطعًا لَبْس فعلي بسبب من طبيعة الإنسان العاطفية. لكن هذه الطبيعة الهوائية ليست هي العامل الوحيد؛ فهناك أيضًا موهبة المشاهدة التي تستطيع أن تحيِّدها، كما هي الحال مع "العري المقدس" حصرًا. بالمثل، ليس إغراء المظاهر هو العنصر الوحيد؛ إذ إن هناك أيضًا الشفافية الميتافيزيائية للمظاهر التي تسمح بإدراك الماهية النموذجية الأصلية من خلال خبرات الحواس: حين رأى القديس نونُّوس القديسة پيلاجيا تنزل عاريةً تمامًا إلى حوض المعمودية شَكَرَ الله على أنه لم يودِع الجمالَ البشريَّ إمكانية السقوط وحسب، بل وإمكانية التوجه إليه تعالى أيضًا." (المحرِّر)

[2] تشاكرا كلمة سنسكريتية، وهي في المعتقد الهندوسي ورياضة اليوگا الروحية اسم واحدة من عُقَد (أو عجلات) سبع تشكِّل مراكز الطاقة الأساسية في جسم الإنسان اللطيف وتصطف تصاعديًّا من أسفل العمود الفقري حتى قمة الرأس، حيث هناك، في الـتشاكرا الأعلى، يتم الاتحاد بالإله.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود