بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

إپستمولوجيا جديدة

أو موت فلسفة العلم

 

جمال نصَّار حسين

 

هل نحن حقًّا في حاجة إلى إپستمولوجيا جديدة؟ أم أن بوسعنا الاكتفاء بما بين أيدينا من معطيات إپستمولوجية، فلا ضرورةَ، بالتالي، للبحث عن بديل عنها؟ سؤال مشروع – ومشروعيته هذه قد اكتسبها بسبب من عجزٍ كامن في صُلب المنظومة المعرفية للإپستمولوجيا المعاصرة – هذا العجز الذي تجلَّى أيَّما تجلٍّ في عدم تمكُّنها من الخروج من حالة الركود المعرفي التي أوصلتْها إليه وأوقعتْها في مستنقعه محاولاتُ غالبية فلاسفة العلم المعاصرين، بما جَعَلَها تضاهي، مبنًى ومحتوى، بعضًا من أكثر نظريات الرياضيات الحديثة تعقيدًا وانجرافًا عن الملموس والمحسوس وانغماسًا في فضاءات التنظير الافتراضي. فلقد ابتعدت الإپستمولوجيا المعاصرة عن الواقع الفلسفي، لتنزوي بعيدًا عن الخوض في مجاهله ولتنشغل عنه بإقامة موديلات افتراضية استغنتْ بها عن هذا الواقع، الذي كانت انطلاقتها أول مرة تستهدفه، إلا أنها، بسبب من سوء تعامُل غالبية فلاسفة العلم المعاصرين معها، ضلَّتْ طريقها عنه، وحادت عن مسارها، وانحدرت إلى متاهات الافتراض والنمذجة المتعالية عن المحسوس والملموس، مكبَّلةً بقيود لا فكاك لها منها.

يظن العلم النظري المعاصر، الذي كان له "الفضل" في إيصال الإپستمولوجيا المعاصرة إلى حالها البائسة اليوم، أن منظومته المعرفية قادرة على التعامل مع وقائع الوجود كما ليس بمقدور أيِّ علم آخر تسنَّى للإنسان، على امتداد الزمان، نظمُه والإحاطةُ به والوقوعُ عليه! فالوجود، كما يراه هذا العلم، واقعٌ لا محالة تحت متناول يديه؛ وهو، لذلك، لن يكون عاجزًا على الإطلاق عن التوغُّل داخل هذا الوجود تعمُّقًا يطال مفرداتِه المختفيةَ بعيدًا عن أنظار الإنسان وأجهزته المختبرية. وهذا التعمُّق العلمي، النظري بالضرورة، الذي يتوهَّمه العلمُ المعاصر تغلغلاً في بواطن الوجود، يتيح له الوقوع على مُكوِّناته الأولية – هذه المكوِّنات التي ليس بوسع هذا العلم أن يتيقَّن من وجودها الحق داخل مادة الوجود، حتى ولو استعان بكلِّ ما بين يديه من تقنيات جبارة! لذا فالعلم النظري المعاصر، إذ يقول بوجود مُكوِّنات لهذا الوجود لا قدرة لأحد سواه على التعامل المعرفي الصائب معها، فإنه لا يبرهن على صحة هذا القول بجعْل السامع لقوله هذا مُلزَمًا بالأخذ به على أنه الحق الذي لا ريب فيه، وذلك مادام ليس بمقدور العلم التجريبي–الاختباري تزويده بكلِّ ما يحتاجه لتقديم البرهان الكافي هذا.

إن العلم التجريبي–الاختباري عاجزٌ عن رفْد العلم النظري المعاصر بما يُمكِّنه من البرهنة على صواب ما تقول به منظومتُه المعرفية بخصوص وقائع هذا الوجود وأحداثه. إلا أن العلم النظري المعاصر لم يأخذ بنظر الاعتبار هذا العجْز، الكامن في صُلب البِنْية المعلوماتية للعلم التجريبي–الاختباري، عن تقديم ما يؤيد ادعاءاتِه، بل راح يروِّج بيننا لخرافة مُفادها أن هذا الوجود واضح كلَّ الوضوح لناظريه بوقائعه وأحداثه، التي بوسع الإنسان وأجهزته الحديثة الإحاطة بها، وبمكوِّناته التي لا قدرة لغير منظومته المعرفية على النظر إليها بعين التأويل والتفسير. لذا فلا حقيقة خلاف ما يقول به هذا العلم، ولا واقع إلا الذي نجح هذا العلم في استيعابه وقولبته داخلاً من القوالب الجاهزة لمنظومته هذه. فالواقع هذا واقعٌ في قبضة العلم النظري المعاصر الذي استطاع بعين نظرياته أن يُبصر جوانبه المستخفية عن أعين الإنسان وأجهزته. إن "الواقع العلمي" هو "الواقع الحقيقي" بامتياز، كما يتوهم هذا العلمُ النظري الذي بين أيدينا ويظن ونحن في مستهل الألفية الميلادية الثالثة.

ولكن كيف السبيل إلى تجاوُز هذا المأزق المعرفي الذي تسبب فيه بعضٌ من فلاسفة العلم المعاصرين وأمثالهم من المشتغلين بجانب من مباحث العلم النظري المعاصر؟ إن مسيرة نشوء هذا المأزق المعرفي وتطوره واستفحاله قد ابتدأت منذ اللحظة التي قرر فيها مَن سبق بيانُ صفتهم من فلاسفة علم وعلماء نظريين الاقتصارَ على جانب يسير فقط من طيف ظواهر الوجود، مستبعدين بذلك قسمًا كبيرًا من هذا الطيف بحجة أنه لا يمكن إخضاعُه لمبضع التجربة ودورق الاختبار!

وكان أن ولد ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ"الظواهر الخارقة" – هذه الظواهر المسكينة التي لم يكن لها من ذنب سوى أنها استعصت على القوالب النظرية الجاهزة التي توهَّمها العلمُ النظري المعاصر واسعةً سعةَ الوجود بقضِّه وقضيضه! لذا فليس من سبيل لإخراج الإپستمولوجيا المعاصرة، المحاصَرة داخلاً من تلافيف هذا المأزق المعرفي العسير، إلا بصياغة إپستمولوجيا رديفة تعمل على التأسيس لإپستمولوجيا جديدة، وذلك بأن تأخذ بنظر الاعتبار ما تم استبعادُه وإقصاؤه من ظواهر الوجود، للسبب المذكور آنفًا، وليُصار، من بعدُ، إلى إدماج هذا المُبعَد والمستثنى وتوليفه داخل منظومة تنتظم الوجود بكامل ظواهره.

هذه "الإپستمولوجيا الرديفة" التي ستمهِّد لظهور إپستمولوجيا جديدة بديلة، بوسعنا أن نصفها بأنها الإپستمولوجيا التي ستتم صياغتُها بتدبُّر ما تم إقصاؤه ونفيه من ظواهر الوجود. ولأنها كذلك، فليس من غير المناسب أن نطلق عليها تسمية إپستمولوجيا الخوارق. وقد يبدو مصطلح "إپستمولوجيا الخوارق" لأول وهلة غريبًا بعض الشيء! إذ تستدعي كلمة "إپستمولوجيا" إلى الذهن كلَّ ما له علاقة بذلك المبحث من نظرية المعرفة ذي الصلة بتقصِّي وسائط المعرفة والإدراك وإمكانية الوصول إلى الحقيقة بشأن ما يحدث في هذا الوجود وماهية المعارف المستحصلة بوسائل التنظير والتجريب، على اختلاف مقارباتها المعرفية؛ كما أن كلمة "خوارق" تستدعي إلى الذهن كلَّ ما يتصل بما يتجاوز المعرفة الحالية من نظريات سائدة صيغت لتفسِّر الكمَّ الأكبر مما يحدث حولنا من ظواهر وتجارب. إلا أن الفحص الدقيق عن كلتا الكلمتين مُفْضٍ بنا، لا محالة، إلى استبيان حقيقة مؤداها أن هذين المصطلحين، – "الإپستمولوجيا" و"الخوارق"، – إذا ما تشاركا لنحت مصطلح آخر جديد هو "إپستمولوجيا الخوارق"، فإن ذلك أمر مسوغ ومشروع معرفيًّا مادامت "الخوارق" ظواهر تحدث كما تحدث غيرها من ظواهر الوجود التي تم الاصطلاحُ على الإشارة إليها بأنها ظواهر "غير خارقة". إذ ما الذي يميز الظواهر "الخارقة" عن غيرها من ظواهر الوجود "غير الخارقة" إن لم يكن استعصاؤها على ما تأتَّى لنا الوصولُ إليه من أنساق تفسيرية قَوْلَبْنا داخلاً منها ظواهر الوجود الأخرى "غير الخارقة"؟ وهاهنا مربط الفرس: فليس هناك من تناقض حقيقي بين المصطلحين – "الإپستمولوجيا" و"الخوارق" – مادامت الإپستمولوجيا هي وسيلتنا المعرفية لمقاربة الخوارق بغية استكناه طبيعتها المميزة لها التي تجعل منها ظواهر تند عما تحقَّق لنا الوقوعُ عليه من ضابط رابط يجمع بين ظواهر الوجود الأخرى.

إن الوقت قد حان لإيلاء الخوارق ما تستحقه من اهتمام معرفي من لدُنَّا، لعل أول مفرداته إرجاعها إلى حومة نظرية المعرفة ليتبدى لنا ما بمستطاع هذه النظرية أن ترفد به المشروعَ العلمي الساعي إلى دراستها، بحثًا فيما يميزها، واستقصاءً لأمدائها، وتدبُّرًا في الآفاق التي بوسعنا أن نبلغها إذا ما نحن وُفِّقنا إلى الإلمام بمعارف جديدة هي وسيلتنا الوحيدة لجعل الخوارق في متناول يد التنظير الصائب، المستند إلى منظومة معرفية جديدة، وذلك بالانطلاق من خطِّ شروع فكري جديد يتجاوز خطوط الشروع السائدة. إن خطوط الشروع هذه ينبغي أن يُستخلَص منها كلُّ ما هو جدير بالإبقاء عليه وطرح كل ما هو جدير بأن يكون بائدًا، لانتفاء الحاجة إليه، مادامت الأيامُ قد برهنت لنا، بما لا يقبل الشك، أننا لم نصل انطلاقًا من منطلقات كهذه إلا إلى التوغل عميقًا داخل ظلمات الجهالة وغيبيات التنظير غير الصائب الذي جاءنا به العلمُ النظري متجليًّا في أكثر صوره إيغالاً في الابتعاد عن الواقع وعن الحقيقة، كما تقودنا إليها نظرياتُه المعاصرة التي يريدنا واضعوها أن نصدق معهم ما يتوهمون بخصوص قدرتها على الإحاطة المعرفية الكاملة بمفردات هذا الوجود قاطبة!

إلا أن عجْز العلم النظري عن تفسير ما يحدث في الظواهر الخارقة لكفيلٌ بردِّ هذه المزاعم ودحْض ما تقول به من هيمنة معرفية مطلقة على الوجود بظواهره كلِّها جميعًا. فلو صح هذا الذي يقول به العلم النظري، أما كان يجدر بمنظومته المعرفية ألا تُعْرِضَ عن هذه الظواهر لعجْزها عن تفسير ما يحدث فيها بدلالة المفردات المُكوِّنة لهذه المنظومة؟! إن عدم قدرة العلم النظري المعاصر على استيعاب الظواهر الخارقة لبِنيته المعرفية داخلاً من قوالبها، تفسيرًا وتأويلاً يُتيحان له إدراج هذه الظواهر مع باقي ظواهر الوجود، لَهو الدليل القاطع بأنه علمٌ يدعي لنفسه ما لا يملك حقًّا، إذ يقول بأنه العلم الوحيد الذي بوسعه أن يصف ما يحدث في الوجود كما يحدث حقيقةً! وهذا العجْز المعرفي بيِّن واضحٌ لناظرَي كلِّ مَن لم ينشغل بالادعاءات عن مطالبة مُدَّعيها بتقديم البيِّنات التي ليس لها إلا أن تؤيده فيما يدعي.

والآن، هل هناك من علمٍ نظريٍّ جديد ليس له أن يشاطر العلمَ النظري الذي بين أيدينا الولاءَ للباطل على حساب مجافاة الحق والانشغال بالأوهام على حساب الفرار من الحقيقة؟ وهل لهذا العلم النظري، الجديد لا محالة، أن يكون إلا عدوًّا لكلِّ "الآلهة" التي استقدمها العلمُ النظري المعاصر من خيالاته، متوهمًا أنها آلهة الوجود؟!

إن السبيل الوحيد لاستكناه السمات المميِّزة لهذا العلم النظري الجديد يكمن في وضع نظرية معرفة جديدة تؤسِّس لهذا العلم على أساسٍ معرفيٍّ جديد يتجاوز السلبيات التي تميَّزت بها مسيرةُ العلم النظري منذ بداياته حتى الآن. ونظرية المعرفة الجديدة هذه، من جديد، يجب عليها أن تراجع إخفاقاتِ العلم النظري المعاصر مراجعةً يتكفل بها جانبُها الإپستمولوجي وبالشكل الذي يُفضي بنا إلى تجنب الوقوع في تلك المزالق التي لا قيامَ للعلم الجديد إلا بتجنُّبها.

وهكذا يتبين لنا أن لا قيام لنظرية المعرفة الجديدة هذه إلا في ظلِّ علم جديد يتفوق على العلم النظري المعاصر، منهجًا ومحتوى، ويكون تفوُّقه هذا دافعًا وحافزًا ليُصار إلى صياغتها وفق ما يقتضيه من ضوابط فلسفية جديدة سوف تتكفل بأن تنأى به عن أن يكون مصيرُه ذات يومًا مصيرَ العلم النظري السائد. إن السبيل إلى وضع نظرية معرفة جديدة سوف يبيِّنه العلمُ الجديد هذا، وذلك بأن يوضِّح ما يجب عليها أخذُه من ركام نظرية المعرفة السائدة، وبالتالي، ما ينبغي عليها التخلي عنه منها. لذا فكل حديث في خصوص العلم الجديد مُفْضٍ بنا، لا محالة، إلى تلمُّس الأسُس الواجب وضعها ليستقيم عليها، من ثمَّ، البناءُ المعرفي لنظرية المعرفة الجديدة. وهذا يصح، وينسحب بالضرورة، على فلسفة هذا العلم الجديد – هذه الفلسفة، الجديدة لا محالة، التي لن يكون بوسعنا أن نستبين ملامحَها الفكرية وضوابطَها المعرفية إلا بعد قيامنا بكلِّ ما من شأنه أن يُجلِّي طبيعةَ العلم الجديد ومحدداتِه وآفاقَه.

إن فلسفة العلم الجديدة لن يُعجِزها أن تستبقي من فلسفة العلم المعاصرة ما يمكِّنها من الإفادة الحكيمة مما هو صائب ويستحق التضمين والتوليف في البُنيان المعرفي الجديد لنظريتها الإپستمولوجية، متخليةً، في الوقت عينه، عن كلِّ ما يعوق ارتقاءها وخلوصها إلى واقع معرفي جديد يتفجَّر أجوبةً وحلولاً من بعد هذا العقم المعرفي السقيم الذي ميَّز الإپستمولوجيا المعاصرة وهي تلف وتدور حول المضمون ذاته، وإنْ تباينت أنماطُ مبناه وبِنيته الخارجية وتعددت.

وإن الإصرار على العلم الجديد، استقصاءً لأمدائه وتحديدًا لمنهجه وتقيُّدًا بمحدداته، لهو قمين بجعل فلسفة العلم المعاصرة يُكتب لها عمرٌ جديد، فتنجو من موت محقق ينتظرها وهي في رمقها الأخير تنازع وتُحتضَر. إن هذه الفلسفة المحاصَرة داخلاً من أسوار التنظير الافتراضي قد شارفت على الفناء، وهي في طريقها المحتوم إليه ما لم تبادر إلى القيام بانتفاضةٍ أخيرة تثور بها على واقعها وتستعين على ذلك بما بوسع العلم الجديد أن يمدها به من مقوِّمات النجاة والحياة – هذه المقوِّمات التي لا سبيل أمامها للحصول عليها إلا بقبولها أن تستظل بنور هذا العلم القادر وحده على الانطلاق بها خارج هذه الأسوار، بعيدًا عن أية محدِّدات خانقة لا بدَّ من كسر طوقها قبل الانعتاق الكامل والتحرر التام.

فإذا كان العلم النظري الذي بين أيدي علماء حضارتنا الحالية قد توهم "الواقعَ العلمي" الذي نَسَجَه من وحي خَباله، ظانًّا أنه "الواقع الحقيقي"، فهل للعلم الجديد من كلمة يقولها بهذا الخصوص، وذلك مادام هذا العلم جديدًا ولا صلةَ وصْلٍ تربطه بـ"الماضي العلمي" إلا ما كان من هذا الماضي مشهودًا له من قِبل العلم التجريبي–الاختباري بأنه حقٌّ لا ريب في انتمائه لجُملة الحقائق التي لم ينسجها الإنسان من وهم خياله؟

وإذا كان ما بين أيدينا اليوم من علم لا يمكن أن نوفِّيه حقَّه، فنصفه إلا بأنه علمٌ واقعيٌّ خيالي، فإن العلم الجديد لا بدَّ أن يكون، بالضرورة، علمًا واقعيًّا حقيقيًّا! فالعلمُ المعاصر مزيجٌ من علمٍ "واقعي"، هو هذا العلم التجريبي الذي هو السبب في تميُّز حضارتنا بهذا التفوق التقني الذي جعل منها أكثر الحضارات الإنسانية تعقيدًا، ومن علم "خيالي"، هو هذا العلم النظري الذي ما عاد علينا إلا بكلِّ ما من شأنه أن يُقيِّد حركتَنا على أرض الواقع بقيود النظريات والنماذج التفسيرية. فالعلم النظري المعاصر عاجزٌ عن استيعاب الكثير جدًّا من الظواهر الخارقة لمنظومته المعرفية، وهو لا يرى في عجْزه هذا ما يُحتِّم عليه وجوبَ العودة عن غيِّه بالرجوع إلى الواقع، تدبُّرًا لظواهره كلِّها جميعًا دون استثناء أو تمييز. إن كلَّ ما يراه هذا "العلم"، إذ ينظر إلى هذه الظواهر وهي تستعصي عليه تفسيرًا لها بمنظومته النظرية، لن يجعل منه يتنازل عن إصراره على التعامل مع الواقع كما تُحتِّم عليه هذه المنظومةُ من وجوب الإعراض عن أية ظاهرة ليست لها المقدرة على استيعابها داخلاً من قوالبها الضيقة.

لذلك كان لا مفرَّ للعلم النظري من أن يقف حجر عثرة في وجه التقدُّم العلمي على أرض الواقع مادام هذا "العلم" عاجزًا عن ترك الواقع يقود الباحثَ عن الحقيقة إلى حيث تقع ظواهرُه الخارقة للمنظومة النظرية للعلم هذا. لذلك فإن على العلم الجديد أن يكون "واقعيًّا" بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة، هذا إذا ما هو أراد حقًّا أن يكون علمًا صادقَ الوصف لما يحدث من وقائع وظواهر في هذا الواقع.

إن "واقعية" العلم الجديد تُلزِمه بوجوب العودة إلى أرض الواقع من بعد تمام تحرُّره من كلِّ القيود التي يرزح تحت نيرها العلمُ المعاصر اليوم. وهذه العودة إلى الواقع عودةٌ لا بدَّ منها مادام العلم، أولاً وقبل كلِّ شيء، علمًا بالوقائع، لا تُقيِّده عنها أوهامٌ لا تنتمي إلى الواقع. لذا فإن العودة إلى الواقع لن تتم إلا بالرجوع عن كلِّ ما من شأنه أن يُحتِّم علينا من وجوب الإعراض عن أية ظاهرة أو حَدَثٍ أو واقعة تحدث على أرض الواقع لا لشيء إلا لتناقضها والأسُسَ المعرفية التي أقام عليها العلمُ النظري بنيانه التفسيري بعيدًا عن الواقع وأحداثه. وهذه العودة إلى الواقع هي، بالتالي، عودةٌ إلى الظواهر الخارقة كلِّها مادامت هذه الظواهر أحداثًا تُشارك غيرَها من الظواهر غير الخارقة تكوين هذا الواقع. لذا فإن العلم الجديد علم لا يخجل من الانشغال بالظواهر الخارقة مثلما لا يخجل من انشغاله بغيرها من ظواهر لا تخرق العادة والمألوف كما تخرقهما هذه الظواهر. فالعلم الجديد هو علم الظواهر الخارقة، وهو أيضًا علم الظواهر غير الخارقة، وذلك مادام علمًا واقعيًّا يُعنى بالظواهر الواقعية جميعًا، ومادامت هذه الظواهر هي مادة هذا الواقع ولَبِنَات بنائه.

والآن، إذا كانت "واقعية" العلم الجديد تُحتِّم عليه هذه العودة إلى الظواهر المنسية، فكيف يكون هذا العلم واقعيًّا فحسب إذا ما كانت هذه الظواهر بالضرورة متجاوِزة للواقع، على الرغم من انتمائها إليه، وذلك لتحقُّق انتمائها إلى واقع آخر ليس لواقعنا، الذي لا نعرف غيره، من وسيلةٍ للتعرُّف إليه إلا بما يتعرف به إليه هذا الواقعُ الآخر والذي دُرِجَ على تسميته بـ"عالَم الحقيقة المفارِقة" realm of Transcendental Reality؟ فالظواهر الخارقة أو الغامضة أو النادرة أو الاستثنائية أو غير المألوفة هي ظواهر تنتمي إلى واقعين أو عالمَين: فهي تنتمي إلى هذا الواقع مادامت "أرض الواقع" هي الأرض التي تشهد وقوعَها وحدوثَها وظهورَها؛ وهي أيضًا لا تنتمي إليه مادام هذا الواقع عاجزًا عن استيعابها بالكامل كما يستوعب غيرها من الظواهر التي تتميز بواقعيتها المفرطة – هذه الواقعية التي تتجلَّى في انتفاء الحاجة إلى استقدام ما يتجاوز هذا الواقع وذلك ليتسنى لنا فقه ما يحدث فيها. إن هذا "اللاانتماء" المطلق إلى الواقع، بالانتماء إلى واقعَين في الوقت نفسه، هو الميزة التي تفردت بها الظواهرُ النادرة عن غيرها من ظواهر الواقع المنتمية إليه بالكامل.

لِنَعُد الآن إلى الظواهر الخارقة للمألوف الذي اعتدنا أن نراه الواقعَ، – كلَّ الواقع، – فلا نُصدِّق معه بوجود واقع آخر يجب افتراض وجوده تعليلاً لحدوث ما يحدث من خَرْقٍ له تقوم به هذه الظواهرُ الغامضة كلَّ حين وآخر! لقد تعرفنا إلى هذه الظواهر في وجهها الثنائي التكوين – هذا الوجه الذي تحتَّم عليها أن تتفرد به دون غيرها من ظواهر الواقع شائعةِ الحدوث، وذلك بسببٍ من انتمائها الثنائي آنف الذكر إلى واقعَين، لا واقعًا واحدًا فحسب، كما هي الحال مع الظواهر غير الخارقة. إن العلم الجديد واقعي، كما تبيَّن لنا قبل قليل؛ وهذا ما يُحتِّم عليه وجوب الانشغال بظواهر الواقع كلِّها جميعًا دون استثناء أو استبعاد. وهذا الانشغال بالواقع، على ما هو عليه واقعًا لا حقيقة، كفيلٌ بجعْل العلم الجديد علمًا حقيقيًّا بالمعنى الذي أسبغتْه عليه صلتُه بعالَم الحقيقة – هذا العالَم الذي لا بدَّ من افتراض وجوده مادام ليس بمستطاع العالَم كما نعرفه (الواقع هذا) أن يُعلِّل ما يحدث في الظواهر الغامضة من خَرْقٍ بيِّن لمألوفاتنا ومعارفنا عنه.

فحتى يكون بمقدور العلم الجديد، الواقعي بالضرورة، أن يتعامل مع هذه الظواهر الواقعية–الحقيقية (ثنائية الواقع) بما يتناسب وانتماءها إلى واقعَين، يتحتَّم القولُ بهما لتحقُّق يقيننا بانتفاء أيِّ وجود لها ما لم تكن ذات صلة بهذا الواقع المنظور وبواقع آخر غير منظور، على الرغم من واقعيته، فإن هذا العلم لا بدَّ أن يلجأ إلى عالَم الحقيقة – هذا العالَم الذي لا قدرة لغيره على التعليل الصائب لما يحدث في هذه الظواهر الثنائية (ثنائية الانتماء لواقعَين، ثنائية الواقع). وهذا ما يجعل من العلم الجديد علمًا حقيقيًّا مادامت لهذه الظواهر التي يدرسها صلةٌ بالحقيقة كما ليس في الإمكان استبيانها على ما هي عليه حقيقةً دون ولوغ في الأسباب – هذه الأسباب التي لن يكون أبدًا في مقدوره أن يتجاوز الحدود المعرفية التي خُلِقت بها هي وظواهر الواقع (أحادية الانتماء إليه) على حدٍّ سواء.

إذًا فالعلم الجديد واقعيٌّ لفرْط انشغاله بهذا الواقع، بأحداثه و"ظواهره الواقعية". وهو، لفرْط واقعيته هذه، قد أصبح مُلزَمًا بدراسة ظواهر لا تنتمي إلى هذا الواقع انتماءَ ظواهره الواقعية إليه. وهذا ما جعل منه، بالتالي، عاجزًا عن الاستمرار في دراستها، على ما هي عليه واقعًا بانتمائها إلى واقعَين مختلفين في الوقت ذاته، دون اللجوء إلى عالَم الحقيقة – هذا العالم الذي هو هذا الواقع الآخر كما لا نعرفه ولن نعرفه. إن واقعية العلم الجديد تكفل له النجاح في دراسة الظواهر الواقعية (أحادية الواقع بعبارة أكثر دقة وتحديدًا!) دون أن يلجأ إلى عالَم الحقيقة، مادام هذا العالَم لم يتدخل تدخلاً مباشرًا في أحداث هذا الواقع بظواهره فاقدة الانتماء إلى غيره واقعًا، ومادام ليس بوسعه أن يتطاول على ما لعالَم الحقيقة من سلطة خفية لطيفة على ظواهره (إذ ما كان لهذه الظواهر أن تحدث لولا سابق هيمنتها المطلقة عليها)، ليكون له أن يعرف شيئًا حقيقيًّا يخص هذا التواجد لانهائي الغموض والإلغاز.

إلا أن العلم الجديد سوف يكون مُلزَمًا باللجوء إلى عالَم الحقيقة استنجادًا به، وذلك ليُعينه على فهم ما يحدث، واقعًا لا حقيقةً، في الظواهر ثنائية الانتماء إلى واقعَين، أحدهما منظور والآخر غير منظور؛ إذ لا قدرة لغير عالَم الحقيقة على معرفة ما يجري فيها واقعًا وحقيقة. إن ظواهر الواقع أحادية الانتماء إليه هي ظواهر العلم التجريبي–الاختباري كما نعرفها مادةً للعلوم التقليدية التي بين أيدينا. وهذا ما يجعل من العلم الجديد ملزَمًا بأن يكون نسخة أخرى من العلم التجريبي–الاختباري مادام ذلك يُمكِّنه من فهم "واقع" ما يحدث في الظواهر الواقعية – هذه الظواهر التي هي مجال عمل العلم التجريبي–الاختباري كما نعرفها حتى هذه اللحظة. إلا أن العلم الجديد مُلزَمٌ، أيضًا، بوجوب أن يكون علمًا "حقيقيًّا" بالمعنى الذي يستدعيه وجوبُ التجائه لمَن يملك حقًّا أن يقول الحق بشأن ما يحدث، واقعًا لا حقيقةً، في الظواهر ثنائية الواقع.

والآن لِنعُد إلى هذا الواقع من بعد ما تسنَّى لنا الوقوع على ما للعلم الجديد من جديدٍ يقوله بخصوص الهوية الحقيقية لهذا الواقع ووجهه الحقيقي. فثنائية انتماء الظواهر الخارقة للعادة إلى واقعَين قد تأتى لهذه الظواهر أن تتفرد بها وذلك بسببٍ من تشارُك هذين الواقعين في إحداثها. وهذان الواقعان أحدهما هو واقعها الذي هو مفردة من مفردات واقعنا هذا، والآخر هو واقع آخر غير منظور. وهذا الواقع الآخر هو المسؤول عن حدوث هذه الظواهر، وذلك على قدْر تعلُّق الأمر بالطاقة الفيزيائية التي يتطلَّبها حدوثُها هذا.

إن انتماء الظواهر الخارقة إلى واقعَين في الوقت نفسه هو السبب في الغموض الذي يميزها عن ظواهر الواقع. وهذا الانتماء المزدوج إلى واقعَين في الوقت نفسه يجعل من واقعنا المألوف عاجزًا عن تعليل ما يحدث في هذه الظواهر من خَرْقٍ للمنظومة النظرية لعلمنا المعاصر – هذه المنظومة التي لا قدرة لها على التعامل المعرفي مع أية ظاهرة من ظواهر الوجود إلا استنادًا إلى ما تُمليه عليها نظرياتُها الواقعية–الخيالية! فنظريات العلم الذي بين أيدينا "واقعية" لدورانها حول معظم ظواهر هذا الواقع المنظور فحسب؛ وهذه النظريات هي بعدُ "خيالية" لعجْزها عن أن يكون لها وجودٌ دون وساطةٍ من "موجودات" خيالية لا وجود لها إلا في ذهن العلماء النظريين. لذا فإن على العلم الجديد أن يُقرَّ بهذه الثنائية المُميِّزة للظواهر الخارقة، انتماءً إلى واقعين مختلفين في الوقت ذاته، إذا ما هو أراد أن تكون له القدرة على التعامل المعرفي الصائب معها كما لا يستطيع ذلك العلمُ النظري المعاصر.

والآن، ماذا بخصوص هذا الواقع الآخر المتشارك مع الواقع المعتاد في إحداث الظواهر الخارقة للمألوف الذي اعتدناه؟ إن ما جعلنا مُلزَمين بوجوب القول بثنائية انتماء هذه الظواهر إلى واقعين مختلفين في الوقت ذاته هو، مرة أخرى، عجْز واقعنا عن التسبُّب في حدوثها، وذلك على قدْر تعلُّق الأمر بالطاقة الفيزيائية المسؤولة عن هذا الحدوث. فمادام الواقع الذي نعيش لا قدرة له على التعليل الفيزيائي لحدوث الظواهر الخارقة للمعتاد الذي ألِفناه فإن المنطق يُحتِّم ضرورةَ وجود واقع آخر غير هذا الواقع، هو المسؤول عن هذا الحدوث مادام العلمُ النظري عاجزًا عن جعْلنا نُصدِّق معه بانتفاء وجود هذه الظواهر عجْزَه عن جعلنا نُشاركه الظن الواهم بأن نظرياته قادرةٌ، في حال قُلنا بوجود ظواهر خارقة كهذه، على تفسير ما يحدث فيها والتعليل الصائب لكيفية حدوثها.

والآن، هل للعلم الجديد أن يكون "أكثر واقعية"، فيُحدِّد لنا جوانب الوجود التي يكفيه منها أن يكون واقعيًّا (مقتصرًا على الواقع المنظور) وجوانبه التي لن يحيط هذا العلم بها ما لم يكن "حقيقيًّا" (متصلاً بعالَم الحقيقة)؟ إن معظم الظواهر التي يدرسها العلم التجريبي–الاختباري لا تتطلَّب أكثر من الانشغال بها ملاحظةً واختبارًا وتجريبًا فحسب. فظواهر علم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا غير البشرية، كما والكثير جدًّا من ظواهر العلوم الأخرى، هي ظواهر أحادية الانتماء الواقعي، وذلك مادام هذا الانتماء معنيًّا بهذا العالَم، بواقعَيه، المنظور منهما وغير المنظور. فهذه الظواهر لا تنتمي إلى واقع آخر في الوقت ذاته الذي تنتمي فيه إلى هذا الواقع المنظور الذي هو مجال دراسة العلم التجريبي–الاختباري.

أما الظواهر التي تنتمي إلى واقعَين في الوقت ذاته فهي تلك التي في الإمكان ملاحظة تحلُّقها حوالى الإنسان. فهذا الإنسان كائنٌ عجيب جدًّا: إذ لا ينتمي صادقَ الانتماء للواقع الذي يعيشه، وذلك بشهادة عجْز هذا الواقع عن تعليل غوامض مفردات الظاهرة الإنسانية وعجْز هذا الإنسان عن التكيُّف مع واقعه كما تتكيف باقي الكائنات البيولوجية معه.

إذًا فالعلم الجديد يكفيه أن يكون واقعيًّا إذا ما كانت الظواهر التي يروم دراستها أحادية الانتماء الواقعي، فلا تنتمي إلى واقع آخر غير هذا الواقع المنظور. وهذا يعني أن العلم الجديد يكفيه أن يكون علمًا اختباريًّا–تجريبيًّا مادامت ظواهره لا تنتمي إلى غير هذا الواقع المنظور. أما إذا ما انتفت أحاديةُ الانتماء هذه لتحقُّق انتماء الظاهرة قيد الدرس إلى هذا الواقع في الوقت ذاته الذي تنتمي فيه إلى واقع آخر غير منظور، فإن العلم الجديد لن يكفيه أن يكون علم اختبار وتجريب فحسب، وذلك لأن هذين لن يكفلا له أن يحيط علمًا بالواقع الآخر الذي لا قدرة لهما على التعامل العلمي معه بمفردات أحادية الانتماء الواقعي، هي جميع مفردات منظومته المعلوماتية التي تسنَّى له نظْمُها من مادة الواقع المعتاد. فحتى تكون للعلم الجديد القدرةُ على الإحاطة المعرفية الصائبة بما يحدث في الظواهر ثنائية الانتماء إلى واقعين في الوقت نفسه، فإن ذلك يتطلب ضرورةَ أن يأخذ بعين الاعتبار ما للواقع الآخر من تميُّز وتفرُّد ليس له أن يتغاضى عنهما ماداما صفتين مُلازمتين لهذا الواقع.

إن الظاهرة الإنسانية لم يكن لها أن تتميز عن الظواهر البيولوجية عمومًا لولا ثنائية انتمائها إلى واقعين مختلفين، وذلك بخلاف غيرها من الظواهر البيولوجية أحادية الانتماء الواقعي. فماضي الإنسان لم يتشكل من مفردات واقعية منظورة فحسب، وإلا لكان هذا الواقع الذي بين أيدينا قادرًا على التعليل الصائب للظاهرة الإنسانية كما نعرفها. لكن الظواهر الغامضة التي تحدث بوجود الإنسان لا يمكن لها أن تكون إلا ثنائية الانتماء الواقعي، وذلك لعجْز هذا الواقع المعتاد عن تعليل غموضها الذي يأبى أن يفارقها فتحدث من دونه. لذا فإن العلم الجديد هو العلم الوحيد الذي بوسعه أن يستوعب الظاهرة الإنسانية وما يستتبع وجودَها من ظواهر أخرى تُشاركها الانتماء إلى واقعين في الوقت نفسه. والعلم الجديد، بعدُ، قادر، بانتمائه هو الآخر إلى واقعين معرفيين مُختلفين صادقَ الانتماء، على التعامل المعرفي الصائب مع أية ظاهرة لا تنتمي كلَّ الانتماء إلى هذا الواقع المعتاد.

إن فكَّي العلم الجديد لهما أن يجعلا منه علمًا بالظواهر جميعًا، ما كان منها أحادي الانتماء الواقعي وثنائيَّه. وهذا العلم هو بحق العلم الصائب الوحيد الذي بوسع الإنسان أن يستعين به على الإحاطة بظواهر الوجود، كلها جميعًا دون استثناء أو تمييز، إحاطةً معرفية ما شاء له الله أن يحيط بها علمًا! وهذا العلم الجديد يستدعي، من بين ما يستدعيه، وجوبَ أن يُصار إلى صياغة نظرية معرفة جديدة يتكفل جانبُها الإپستمولوجي بالتعامل مع المستجدات التي تمخض عنها تأسيسُ هذا العلم الجديد.

إذًا، فالعلم الجديد، وبنظرية معرفة جديدة مواكبة له، قادرٌ على مدِّ يد العون إلى كثير من مباحث العلم المعاصر، النظرية منها والتجريبية، وعلى انتشال فلسفة هذا العلم من ركودها قبل أن يبلغ بها سوءُ الحال ما يجعلها تستحق الدفن في مقابر التاريخ من بعد أن أدى بها هذا الركود إلى حالة موت سريريٍّ لا شفاء لها منها! إن نظرية المعرفة الجديدة هذه قادرة على تحديد الكثير من سمات المرحلتين الراهنة والقادمة من مسيرة العلم المعاصر. وسوف يتكفل جانبُها الإپستمولوجي بتبيان ملامح الوجه الجديد الذي يجب على فلسفة العلم الجديد أن تتمظهر به من بعد أن تنزع عن وجه العلم المعاصر الأقنعة التي حجبتْ عنه المقدرةَ على النظر الصائب إلى ظواهر الوجود ليراها، هذه المرة، دونما تأثير من حجاب، وبغضِّ النظر عن السبب الذي اضطُر لوضعه لأجله، واقعيةً لانتمائها لهذا الواقع، أو واقعيةً–حقيقية إذا ما استلزم الأمرُ لفهمها وجوبَ اللجوء إلى واقع آخر ثانٍ يتعالى عن هذا الواقع ويتسلط عليه طاقةً وقوة.

إن الواقع غنيٌّ بظواهر بمقدورها أن تجعل من حضارتنا الحالية الحضارة الإنسانية الأعظم إذا ما نحن بادرنا إلى التخلِّي عن قيودنا التي كبَّلَنا بها العلمُ النظري المعاصر ليكون بمقدورنا، من ثمَّ، أن ننشغل بهذه الظواهر كما تستحق من عظيم اهتمام وكبير تفرُّغ. إن العلم النظري المعاصر لن يقودنا بعيدًا عن الواقع، فنهجر هذه الظواهر النادرة الثمينة لمجرد عجْزه عن التهامها بفكَّي نظرياته ونماذجه التفسيرية فحسب، ولكنه يدفع بنا أيضًا إلى خَبالٍ مطبق بجعلنا نشاركه خيالاتِه وأوهامَه التي خُيِّل إليه معها أنه قادرٌ على وصف حقيقة ما يحدث على أرض الواقع من أحداث وظواهر ووقائع!

إن ما تقدَّم تفصيلُه وبيانُه يوضح أن فلسفة العلم الجديدة، بقيامها على أساسٍ من العلم الجديد، لن تكون الثمرة الوحيدة لإقلاع كهذا بعيدًا عن ظُلُمات العلم النظري المعاصر، انعتاقًا من أسر موديلاته التفسيرية وانفكاكًا من قيوده التنظيرية. فالطريق إلى فلسفة العلم الجديدة هو ذاته الطريق إلى حضارة جديدة واعدة، هي بانتظارنا إذا ما نحن بادرنا إلى تحجيم دور العلم النظري في الحضارة السائدة حاليًّا وقمنا بالانطلاق بعيدًا عنه، محلِّقين صوب آفاق معرفية جديدة سوف يتكفل العلمُ الجديد بمدِّها أمام أعيننا، وذلك لتتسنَّى لنا العودة، من بعدُ، إلى أرض الواقع الغني بظواهره النادرة التي سوف تفتح لنا أبوابَ الارتقاء إلى هذه الحضارة الجديدة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود