|
فلسـفـة التَّـأويـل هيرمينوطيقا لغوية
العام 1900، الذي شهد وفاةَ فريدريش نيتشه، شهد ولادةَ أشهر فلاسفة الهيرمينوطيقا في العصور الحديثة: هانس غيورغ غادامير. وفي كتاب فلسفة التأويل، الصادر لدى مؤسسات ثلاث[1]، نقع على مختارات باهرة من الدراسات التي قدَّمها غادامير كمدخل إلى الفكر التأويلي.
عندما كتبتُ أن الوجود الممكن فهمه وإدراكه هو اللغة، ينبغي أن نفهم من هذا التصريح أن الوجود (ما هو كائن) لا يمكن فهمه في صورته الكلِّية والشاملة، بحيث إن كلَّ ما تحمله اللغة يحيل دومًا على ما وراء (أو فوق) العبارة نفسها. فالصحيح أن ما عبر عنه الفيلسوف لا يكتفي بنقل إرادة التعبير وبتثبيتها بالكتابة، بل يسعى إلى الاتفاق حول – أو الانسجام مع – الشيء عِبْر التواصل والحوار. تتوزع كلمة "هيرمينوطيقا" hermeneutics (فن التأويل)، كما هي الحال مع الكلمة المشتقة عن الإغريقية hermeneuein، التي تمفصلتْ مع لغتنا العلمية، في المستويات المختلفة للتفكير. وتدلُّ هذه الكلمة على ممارسة فكرية دليلها الآلية أو الفن. وهو ما يستحضره تشكيلُ اللفظ الذي يدلُّ على "التقنية". يتخذ "الفن" هاهنا دلالةَ الإعلان والتراث والتفسير والتأويل، مثلما يشتمل على فن الفهم كأساس له ودعامة. ويعتقد غادامير أن مشكل الهيرمينوطيقا لا ينحصر في المشكل المنهجي للعلوم الإنسانية، ولا ينجم عن المناقشات الحالية حول الطرق والأساليب العلمية في التفكير والتفلسف، بل هو مشكل إنساني ينصبُّ حول قدرات الوجود الإنساني. فالاختلاف الذي نقيمه بين العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة غير مُرْضٍ من الجانبين: لا يرضي علماءَ اليوم حَصْرُ هذه العلوم في حلِّ المشكلات (المعرفية) بواسطة قانون النسبوية relativism؛ إذ يؤكد هؤلاء العلماء أن مشكلة اللغة، أو المشكل الألسُني، في الحقول الأساسية للنظرية الحديثة، هو أيضًا مشكل ذو أهمية فائقة، ويشغل مكانةً رئيسية في المناقشات الفكرية المعاصرة.
هـ.غ. غادامير غادامير، الذي تأثرتْ تأويليَّته بالمنهج الديكارتي في بُعدها الإپستمولوجي، استقلَّ المنحى الأونطولوجي والفني والفلسفي لديه عن صرامة المنهج، عِبْر إدراجه للتصورات المسبقة التي كانت محلَّ شكوك وتحفُّظات في المنهج الديكارتي، الذي أسَّس لفكرة العالم في العصور الحديثة، المبنية على البداهة واليقين. ولأن الشك الديكارتي يستسلم، في نهاية المطاف، لوضاحة المنهج وبداهة الفكرة، قام غادامير بتجنيد الشكِّ النيتشوي الراديكالي. وبدلاً من الاستناد إلى بداهة الوعي المفكِّر نفسه، يستند غادامير إلى فكرة أستاذه هيدغِّر حول التناهي الإنساني، التي تظلُّ فكرةً محوريةً وجوهرية في تأويليته. تأثير هُسِّرل وهيدغِّر، الذي وجد في فلسفة غادامير المفاتيح الأساسية في بناء فلسفته التأويلية، كان واضحًا في مساره الفكري، حين درس على يديهما الفلسفة في فرايبُرغ، في وقت لم يكن يرى حوله سوى الحضور القوي للكانطية الجديدة والوضعية positivism في المجال العلمي. وقد أقامت ترجمتُه لأفلاطون الدليلَ القاطع على نفوره من "الموضة الجامعية" في عصره. الفهم الذاتي الذي تمارسه العلوم الإنسانية، في مقابل النموذج العلمي البحت الذي تتمتَّع به العلوم الدقيقة والطبيعية، بقي المشكل الرئيسي الذي شغل غادامير، الوفي للمنحى الأونطولوجي الذي رسمه هيدغِّر، والمتمثل خصوصًا في مسألة اللغة، والتناهي الذاتي الذي تكشف عنه التجربة التاريخية وهيرمينوطيقا الفهم – فهم الذات على وجه الخصوص؛ وهو ما سمَّاه هيدغِّر "المنعطف الأونطولوجي الحاسم" في تجربة الفهم الذاتي. وهذا ينمُّ عن المشكل الذي طرحتْه العلوم الإنسانية، في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، كما عالجها وقدَّمها، من وجهة نظر تاريخية وإپستمولوجية، فيلهِلم دلتاي. لتوضيح معنى التأويل التاريخي، انطلق غادامير من الإخفاق الذي مُنِيَتْ به النزعةُ التاريخية، أو التاريخانية، كما هي الحال لدى دلتاي، منبِّهًا إلى الأبعاد الأونطولوجية الجديدة عند هُسِّرل وهيدغِّر: لا يمكن للمعرفة التاريخية أن توصف بنموذج المعرفة الوضعانية، لأنها في حدِّ ذاتها عبارة عن تطوُّر يتمتع بخاصيات الحدث التاريخي كلِّها. في تأخُّر هائل، محتشم، على ما يقول مترجم الكتاب محمد شوقي الزين في مقدمته، نكتشف هذا البحر التأويلي الكبير، الذي أثمر، ولا يزال، مؤلَّفاتٍ وأعلامًا في التأويل المعاصر، أمثال الإيطالي فاتيمو والأمريكي دورتي والفرنسي ريكور. *** *** *** عن النهار، السبت 17 حزيران 2006 [1] هانس غيورغ غادامير، فلسفة التأويل، بترجمة وتقديم محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي والدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت 2006.
|
|
|