|
عاشق الشَّيطان إطلالة على طحالب
الحضارة إذا شئنا تجاوُز ظاهر
المشكلات، على مختلف مستويات نقاشها، فإننا
نكون أمام إحدى أعقد المشكلات وأصعبها، وهي
مشكلة التخلِّي عن الصيغ والنماذج الفكرية
المألوفة التي دَرَجْنا على استعمالها في
حياتنا اليومية وفي حواراتنا الفكرية، مع
أنفسنا أو مع الآخرين. لا
بدَّ من أن نشير، أولاً، إلى أن مشكلات الواقع
ليست، في جوهرها، سوى مشكلاتنا نحن.
فوعينا هو محدِّدها الأساسي؛ وبتصاعد هذا
الوعي يمكن لنا اكتشاف مستويات أعلى للفهم،
أي يمكن لنا المخاطرة بطرح نماذجنا الفكرية
المحببة من معادلة الفهم واستضافة مفاهيم
جديدة تُضاف، بدورها، إلى واقعنا اليومي
وتساهم في تغييره. الكتاب
الذي بين أيدينا[1] الآن هو كتاب
يبحث في أحد أهم المشكلات العالمية، وهي
مشكلة نالت من السجال والحوار المسمى بـ"حوار
الديكة" والصراخ والتنديد ما نالت، وقليلا
جدًّا ما تم تناوُلها خارج نطاق نتائجها. إنها
مشكلة الإرهاب! لا
يمكن لنا، وقد طُرِحَ هذا "الوثن"، إلا
أن نستذكر موقفًا خضنا فيه حوارًا حول
الموضوع، سواء على صعيد عام – وهو الأقل –
يُعنى بالإرهاب العالمي كعامل محوريٍّ في
سيرورة الدول وفي علاقاتها بعضها مع بعض ومع
شعوبها، أو – وهو الأعم – على صعيد أضيق
يُعنى بما هو ديني أو قومي أو محلِّي،
مستخدمين، في حال فعاليتنا، أحد أكثر النماذج
سهولة وخفة، وهو نموذج "الحل" الذي
غالبًا ما نكون مستعدين لطرحه تحت عناوين
مختلفة يجمعها قاسمٌ مشترك مع الإرهاب ذاته. لفهم
هذا لا بدَّ من الإشارة إلى أن مفردة "الإرهاب"
لم تتخذ صيغةً محددةً حتى الآن؛ وهو ما توضحه
روبن مورغان في الفصل الأول المعنون بـ"سياسة
الإنسان العادي: إضفاء الطابع الديموقراطي
على العنف"، عبر مناقشة العديد من الطروحات
النظرية الفكرية في المجالات السياسية
والعسكرية والأدبية. فالإرهاب – "سياسية
الملاذ الأخير" في أحد التوصيفات – ما يزال
عائمًا ومباحًا للاستخدام من قبل الجميع ضد
الجميع! تصل
مورغان في تحليلها السابق إلى ما يشبه زلزلة
فكرية، هي مبرِّر هذه المقدمة الطويلة
المفردة للدخول إلى عوالم الكتاب فتقول: "إن
الإرهابي هو التجسيد المنطقي للسياسة
البطريركية في عالم تقني" – مما يعني وضع
حضاراتنا الحالية، بكلِّ تاريخها ومنجزاتها
وثقافتها وطموحاتها المستقبلية، موضع تساؤل
عميق، توغلتْ فيه الكاتبةُ وناقشتْه،
إحصائيًّا وسياسيًّا وفكريًّا وأدبيًّا
وأسطوريًّا، وخرجت منه بما يشبه زلزلة فكرية
أخرى عندما تكلمتْ على الصورة الجانبية
الأخرى لبطل جوزف كامبل: البطل بألف وجه،
مبينةً أن هذه الصورة ليست سوى صورة الإرهابي
نفسه! وأعتقد أن في اختيار جوزيف كامبل أهميةً
كبيرة: فبطله ينتمي إلى أرقى مستوى لمعايير
التقييم الذكوري للبطل، الذي يمثل، بدوره،
تكثيفًا مهمًّا لمختلف الآراء والأفكار
والوقائع المرتبطة بالموضوع. يقوم
مفهوم البطل، كما نعرف، على فكرة القوة.
وضمن منظومتنا الحضارية، التي يمثل فيها هذا
البطل حلم كلِّ رجل وموضع شهوة كلِّ امرأة،
يكون العنف حتميًّا بالضرورة. فالعنف "يظهر
حين تكون القوة في خطر". والقوة في خطر
دائم، كما يبين لنا التاريخ والحاضر، لأنها
موضع منازعة بين السادة الرجال الذين يشكل
"الإشباع" لديهم هاجسًا ملحًّا لا سبيل
إلى مقاومته ولا سبيل إلى الظفر به. تنقلنا
مورغان في الفصل الثالث إلى استكمال دائرة
القوة عبر الدين والفلسفة وعلم الجمال،
مبينةً انحراف هذه العلوم الهامة عن طريقها
الأساسي، المتمثل في السعي إلى إدراك معنى
الحياة وجمالها، إلى تعميم "دعاية مسمومة
صاغتْها المؤسَّسات البطريركية: الموت في
سبيل الحب، ونكران الذات باعتباره أعلى درجات
الخير". لا
يفوتنا هنا التطابق بين المنظومة الدينية
ومنظومة القوة؛ كما لا يفوتنا التطابق الآخر
الخاص بالمرأة: فالمرأة، أداة الشهوة ولعنة
الرجل في المنظومة الدينية، هي هدف البطل
وعائقه في آن. ويمكن لنا تتبُّع هذا التوزع
الغريب لأدوار المرأة في أية ملحمة بطولية من
العالم الأسطوري أو من عالم الواقع. وقد أجادت
مورغان الكشفَ عن الرابط القوي بين الجنس
والعنف في العقل الذكوري، كما أجادت تعريةَ
لغة القوة، مبرزةً هيمنة فكرة الاختراق
الذكورية على موضوع العنف والسياسة، لتأخذنا
بعد ذلك، في استعراض ممتع للأدبيات الذكورية
ومقارنتها مع الأدبيات الأنثوية القليلة
التي تبحث في العلاقة بين العاطفة والعنف،
إلى مقطع جليل يلخص الفارق بين ما هو قائم وما
هو ممكن: [...] إنها الفكرة المفسِدة بأن
العاطفة تتطلب ضحية، وهي فكرة سادية تمامًا،
بارَكَها رجالُ الدين، وعقلنتْها فلسفةُ
الرجال، وجمَّلها فن الرجال، ومارستْها
سياسةُ الرجال. ومع ذلك، فقد كانت العاطفة أصلاً حول
الحدة في الحب: حب شخص آخر: "سيكون ذلك
تجددًا رومانسيًّا"، وحب فعل الخلق: "سيكون
ذلك انبعاثًا جماليًّا"، وحب إطلاق العنان
للأفكار: "سيكون ذلك نهضة فلسفية"، وحب
الحياة كلِّها على هذا الكوكب وحب المحيط
الحيوي نفسه: "سيكون ذلك تجديدًا سياسيًّا"،
وحب الروعة المتخيَّلة وغير المتخيَّلة
للكون: "سيكون ذلك إحياءً روحيًّا". ولا
يختلط علينا هنا الحب الوارد في هذا المقطع مع
المحبة الإلهية أو حب الله، كما هو معروف في
الأدبيات الدينية، الضحلة منها والمتفوقة
روحيًّا. فالتقسيم إلى حبٍّ بشري ومحبة إلهية
هو أحد مفرزات العقل الذكوري الذي يستبد به
هاجسُ التصنيف وهاجس "الكل أو اللاشيء". تُعَنْوِنُ
مورغان فصلها الرابع بـ"الرعب الرسمي: دولة
الرجل"، بعد أن مهَّدت في الفصول السابقة
للتلازم بين الدولة والعنف، أو كما عبَّرت
هانا أرندت في كتابها حول العنف: في صراع
العنف ضد العنف يكون تفوق الحكومة مطلقًا.
ونقرأ في مختارات تصدير هذا الفصل ما يعبِّر
في دقة عما أرادت مورغان لفت النظر إليه: الرجال العظام، والأمم العظيمة، لم
تكن متفاخرة أو مهرِّجة، بل كانت مدركةً لرعب
الحياة، وقد حصَّنت نفسها لمواجهته. (رالف
والدو إمرسون) جميع الدول تستند إلى العنف. (ليون
تروتسكي) لكن
الكاتبة لا تتوقف معنا عند هذا الحد فقط. فهي
تتابع، من خلال سرد ذاتي لواقع موضوعي، أزمة
العالم وأدوات هذه الأزمة، واضعةً إيانا
وجهًا لوجه أمام مأساة تدمير ذاتي تمس الكوكب
ككل، وأيضًا أمام هزلية المنطق القائم: إن الإرهاب يعزِّز الدولة. فإذا فشل
الإرهابيون فإن الدولة الحالية تكون أقوى
لأنها أسقطتْهم، وإذا نجحوا فإن إرهابيي
اليوم يصبحون سياسيي الغد الذي يشجبون
الإرهاب بقوة. وهو
ما يحيلنا إلى هانا أرندت مرة ثانية: [...] السبب الرئيس لاستمرار الحرب
لدينا ليس رغبة سرية في موت الجنس البشري، ولا
غريزة عدوانية يتعذر كبتها، ولا الأخطار
الاقتصادية والاجتماعية الجدية الملازمة
لنزع السلاح، وإنما الحقيقة البسيطة في أنه
ما من بديل لهذا الحكم النهائي في العلاقات
الدولية قد ظهر بعدُ على المسرح السياسي. "البديل"
الذي تحدثت عنه أرندت، ألحت عليه مورغان في
كتابها هذا، وهو: النساء كقوة سياسية عالمية. سيكون
الاستبدال الذي يقوم به العقلُ الذكوري
السائد عند التعامل مع فكرة بمثل هذه الجدة
استبدالاً هزليًّا! إذا إن المقصود ليس حضور
رايس عوضًا عن بوش، وليس التحسر على عدم
استلام ليلى خالد زمامَ الجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين، بل المقصود هو سيادة مفاهيم
جديدة نابعة تمامًا من الحس الأنثوي في
علاقته مع العالم ومع السياسة ومع الفكر؛
والمقصود هو رؤية التنوع الذي يميِّز مثل
تلك المفاهيم، ورؤية آلية الفعل ورد الفعل
عند طرفي البشرية: المرأة والرجل. لا
نقول جديدًا إذا قلنا "شهوة الحرب". لكن
الجديد هو سؤال: مَن المقصود بمثل هذا
التعبير؟ ولماذا لم تقم المرأة، على مرِّ
التاريخ، بمحاولة استرداد حقوقها عن طريق
العنف؟ لماذا لم يكن العدد الذي تمثله من
مجموع البشرية، والصفاء الذهني الذي تتصف به
خصوصًا، والعمق الفكري الذي لا يتجلَّى في
البعبعة الكلامية، بل في العمل، والقهر الذي
مورس عليها والذي لا ضرورة لاستعراضه هنا،
عوامل محرضة على الثورة الحمراء الممجَّدة؟!
ولماذا هي مستودع قيم مثالية وألوهية في
الذهن الذكوري ومباحة لأنواع التخريب في
واقعه كلِّها؟! إلى آخره من الأسئلة التي يحرض
عليها كتابُ مورغان، خصوصًا في الفصول
الأخيرة التي تستعرض فيها وهم القوة وخطورته،
وتستعرض مسيرتها كمناضلة يسارية سابقة مع
مختلف التمييزات المبطَّنة الهادفة إلى قمع
قوة الحياة داخل المرأة في أيِّ نضال ذكوري،
وتستعرض رحلتها بين المخيمات الفلسطينية،
مركِّزةً على واقع النساء الفلسطينيات،
وأخيرًا، تستعرض رؤيتها الأنثوية لنفسها
وللعالم. بحكم
سريع، قال لي أحد الأصدقاء عندما تصفَّح
الكتاب: إنه كتاب مُضلِّل! وبتأنٍّ
أقول: نعم، إنه لكذلك! *** *** *** [1]
روبن مورغان، عاشق الشيطان، بترجمة
خالد حداد، دار المدى، دمشق 2003.
|
|
|