|
دور القوميَّة في تقوية المجتمعات الحرَّة أو في تقويضها[*]
لو أمكن لدون كيخوتي أن يعرف نفسه... [...]
الحضارة الحقيقية هي التي تجعل الإنسان حرًّا أكثر فأكثر [...] المتمدِّن الحقيقي هو الذي يكون كذلك في داخله، لا في خارجه، في الذات، لا في الموضوع. شري آتمانندا
مَن يعتبر نفسه حرًّا يصبح حرًّا، ومَن يعتبر نفسه مقيدًا يبقى مقيدًا. أشتفاكرا
منذ أقدم العصور، واجَه العالمُ القديم قضيةَ القومية وتأثيرَها على مصير الحرية ضمن المجتمعات الحرة. فمنذ الألفية الأولى قبل المسيح، أو حتى قبل هذا العهد من التاريخ، تعرف الشرق إلى مشكلات قومية. فـ"خطيئة كنعان الأصلية"، كما أطلق عليها أحد المؤرخين الغربيين، انتشرت انتشارًا واسعًا على الشاطئ الفينيقي الذي كان يشكل التتمة الطبيعية للشاطئ الإغريقي في آسيا الصغرى، بلاد عوليس. وكان من نتيجة ذلك الانتشار أنْ تعدَّدت الجمهورياتُ الشقيقات المستقلات، فكانت الحاضرات التجارية التي حملت أسماء بيبلوس وبيريت وصيدون وصور... أجل، صور التي أسَّست قرطاجنة الشهيرة وأوْجَدَتْها. وليس من قبيل المصادفة، إذن، في هذا القطاع من العالم، الجديد–القديم في آنٍ واحد، الواقع في هذا المربع الشامل لسوريا وبلاد ما بين النهرين وما حولهما، والمرتكز على امتدادات الأقاليم العربية في آسيا وأفريقيا، حيث يتم تقرير مصائر النفط – نقول: ليس من المستغرب أن يشهد العالمُ الحديث تياراتِ القومية والانعزالية والإقليمية التي تهز العالم العربي وتحدوه إلى رفض كل مساومة مع إسرائيل وكل تحالف مع أوروبا. وبين هذه التيارات، تبدو نزعةٌ، مغرضة، متطرِّفة ربما، لكنها ضئيلة الشأن، تستنهض العالمَ العربي لمقارعة الغرب نفسه. فاستنادًا إلى الأحداث المعقَّدة التي تخض بلداننا في الشرق، سأحاول أن أبيِّن المقوِّمات الأساسية لقضية القومية، على أن أطرحها فيما بعد على صعيد أرفع نسبيًّا، حيث يجدر بنا، في النهاية، أن نعالج القضية من ذلك المنظار. مركَّب النقص والقومية المتطرِّفة
كل شيء يولد من ضدِّه وعكسه، كما ينبثق الظلامُ من النور، ويصدر الفرحُ عن الحزن، وكما يولد الامتلاءُ الروحي من فراغ النفس وتجرُّدها.
سيظل مركَّب النقص يلعب دورًا كبيرًا في حياة البشر، من غير أن يؤثر إيجابيًّا على حياة الإنسان في المجتمع، مادمنا لم نتوصل بعدُ إلى إدراك عوامله الخفية وأسبابه العميقة. و"مركَّب النقص" هذا يتجلَّى في نوع من الحيرة والارتياب والكف عن النمو – وهي ظاهرات تميِّز المجتمعات المغلقة أو المتخلفة اقتصاديًّا. ويتفق لهذا المركِّب أحيانًا أن يتحول، تحت تأثير الخطباء السياسيين المحرِّضين، إلى نقيضه، أي إلى مركَّب المجد والعظمة الجماعية، والتعصب القومي الذميم، والطموح اللامحدود إلى إرادة السيطرة والقوة. وهذه القومية المشدِّدة على ذاتها، ذات النزعة العدوانية، هي بالطبع "النتاج الپسيكولوجي النفسي الطبيعي لهذه الترَّهة الدونكيخوتية". وإذ ذاك تكون الطريق معبَّدةً ومهيأة لظهور شتَّى السِّجالات والزندقات السياسية والاجتماعية، أو حتى الأنظمة التوتاليتارية التي لم تشكِّل منذ عهد جنكيز خان، وحتى قبله على الأرجح، ظاهرةً جديدة في جوهرها وروحها. إن الفرد الذي أُطلِقَتْ قواه الداخلية الغامضة والمظلمة من عقالها، ففقد بذلك الرقابةَ على نفسه، وسيطر عليه وهمُ إمكان تحقيق ذاته خارج ذاته، يندفع في نفسيَّته المجهَدة، المشدودة وراء الجاذب اللاعقلي الذي يُبعِده عن مركز انطلاقه ومحور نفسه، كما تندفع تمامًا إرادةُ المسحور وتستسلم لرغبات الساحر. فمأساة ذلك الإنسان الذي أُخرِجَ عن نطاق ذاته هي أنه بعد عجزه، إلى حدٍّ كبير، عن استكمال حركة الاندماج والنزعة إلى التماهي identification اللتين تحرِّكانه وتسموان به على صعيد التحقيق الشخصي، أضحى يتوهم، في نشوة شَطَطه العاطفي المحض، أي اللاواعي، أنه قد يجد نفسه في نوع من التماهي الخارجي يقابل هذا التوتر الداخلي العاطفي الشديد ويسير بحذائه، أو أنه يقترب من الوحدة بمقدار ما يزداد هياجُه ويشتط به سحرُ الصوفية الاجتماعية وتستيقظ من سباتها الحياةُ النفسانية الكامنة في الأعماق التي تتمثَّل فيها قوى النفس المظلمة – هذه القوى التي لو أُفرِجَ عن طاقتها الكامنة المدَّخرة لأضحت إمَّا أداةً للارتقاء بالإنسان تمكِّنه من تحقيق كيانه، وإمَّا وسيلة لتجلِّي أعمال التخريب والهدم، أو تجسيدًا للذهنية المتَّصفة بالبدائية. لقد بلغت ظاهرةُ السيطرة المطَّردة للجماعية collectivisme وتدخُّل الدولة وآلية الإنسان المعاصر التي أوجدتْ نفسيةً فريدة من نوعها من حدَّة التأثير حدًّا جَعَلَها أحد الأسباب الحقيقية لظاهرة الأنظمة التوتاليتارية في مختلف وجوهها: من النازية، إلى الفاشية، فالشيوعية – وهي كلها، في الجوهر، ثمار الشجرة الواحدة عينها. ولعل هذه الظاهرة هي أيضًا المصدر الرئيس لأزمة الإنسان وأزمة الديموقراطية وأزمة المدنية في هذا "العصر الذهبي" المزعوم! وإذا استهللنا الموضوع بتوطئة ميتافيزيائية فذلك لكي ندلِّل على أن معضلة القومية لا يمكن لها أن تتلقى من ذاتها حلاًّ صحيحًا وحاسمًا؛ إذ إن الجماهير، في مجموعها، لن تتوصل إلى بلوغ الهدف المنشود. وكل ما يمكن تحقيقه، ربَّما، هو الاحتراس والتحصُّن ضد نتائج هذا الشعور القومي والتوصُّل إلى الاعتدال في مظاهره (وهذا ليس بالحلِّ الحقيقي) على صعيد المؤسَّسات الدولية، بإيجاد جهاز رقابة دولي، يكون بمثابة وحدة أو اتحاد دول عالمي ويلعب بالنسبة إلى الأمم الدورَ الذي تلعبه الدولةُ بالنسبة إلى المواطنين. إن العالم العربي، فيما يخص قضية القومية، لا يختلف عن الشرق بوجه عام: فهو يشكو من مركَّب النقص الذي تشكو منه أوروبا والولايات المتحدة والكتلة السوفييتية. غير أن هذا المركب قد تحوَّل في الغرب إلى غير هذا الاتجاه، من نزاع طبقي، وصراع في سبيل النفوذ العالمي، وتَسابُق على التسلح الذري، وأزمة ثقة وخوف بين المعسكرين المتخاصمين، وظهور المذاهب التوتاليتارية أو الديموقراطية أو الاستعمارية، ومحاولات رسولية شتى، وحتى هذا الاستعمار الجديد الذي يستهدف غزو الطبيعة – عمقًا، لا مساحة – والذي نجد مثالاً عليه في الولايات المتحدة. لقد تورَّط مركَّب النقص في الشرق بعيدًا في القومية بسبب الشعور بالحرمان والاستصغار الذي يحس الشرق أنه مسؤول عنه في أعقاب التقهقر والجمود اللذين تميَّز بهما عهدُ الانحطاط فيه طوال عدة قرون. أوليس الشعور بالمسؤولية أو بالإثم الخفي هو قرين الانحراف العقلي، الفردي والجماعي أيضًا في أكثر الأحيان؟ وهذه المسؤولية يتحسَّسها الشرق حيال المدنية الحديثة التي يشعر أنه حُرِمَ منها، على غرار الطفل الذي يود الحصول على الألعوبة التي يؤثر ويحب! لقد خلقت المدنيةُ الآلية الحديثة مركَّب النقص الخفي – هذا الذي يحس به الشرقي في نفسه تجاه الغرب – وزادت في نموِّه وحدَّته، وذلك لأن المدنية الغربية أضحت – بفضل أهمية مظاهرها المادية العديدة، وقدرتها اللامتناهية، ولعبة سحرها المتعدد الوجوه والانعكاسات، والأمل الذي غذَّتْه بتطورٍ وقدرةٍ للإنسان لا حدَّ لهما – المثلَ الأعلى الذي ينبغي على كلِّ فرد، كما يجب على كلِّ أمة، أن تبلغه – وإلا استُصغِرَتْ معنويًّا في المجال الدولي، واحتقرتْها سياسيًّا كلٌّ من الكتلتين الشيوعية والرأسمالية. فتسمية البلدان العربية بـ"البلدان المتخلفة اقتصاديًّا" قمينة بأن تذكِّر الشرقيين بمنزلتهم في العالم! – ولاسيما أن المقياس المعمول به ليس قيمة الإنسان، كما كان الأمر في سائر المدنيَّات السالفة – عهد ما كان عِباد برهمن والطاو يؤلِّفون الفئة المسيطرة التي تسمو على الملك، وعهد طبقة الفرسان في العصور الوسطى المسيحية التي كانت الصورة والمثل اللذين يُقتدى بهما، – بل لقد أضحى المحك هو كمية الإنجازات المادية. ويزيد المعضلة حدةً انحطاطُ المؤسَّسات والحضارات المعروفة بالشرقية التي، لو قُيِّض لها أن تستمر، لكانت منعت الشرق من أن يحذو حذو الغرب تمامًا ويتبع "مثله العليا"، مقلِّدًا إياه تقليدًا حرفيًّا أعمى، مأخوذًا بأوهامه وآثاره التي هي إلى رؤيا مار يوحنا الحبيب أقرب. وإني كشرقيٍّ تغرَّب وألمَّ، في الآن نفسه، بالحكمة الآسيوية التي لا تتغير ولا تتبدل عِبْر العصور المتحوِّلة، أستطيع أن أدرك، نوعًا ما، عناصرَ المعضلة وأحيط بها، فأقول: المدنية الحديثة، بوصفها تستهدف الأغراض أو المُدْرَكات وتوفِّرها أكثر مما تستهدف الذات المدرِكة أو الإنسان، وترمي إلى رقيِّ الغرض أكثر مما تهدف إلى رقيِّ الإنسان، فمركَّب النقص هذا ونتاجه القومي المتطرِّف سيفعلان حتمًا في ذهنية شعوبنا. لقد قصدنا هاهنا من المدنية الحديثة جانبًا معينًا هو مناقضتها للمدنيَّات القديمة البائدة – مصر واليونان مثلاً – ومدنيَّات آسيا المتقهقرة التي كانت تستهدف الإنسان أكثر مما تستهدف الغرض، الذي كثيرًا ما أعرضتْ هذه الحضاراتُ عنه، فأثارت بذلك حفيظةَ المؤرخين ورسُل العطف الإنسانيين، فعابوا عليها هذا الأمر! وهذا التبدل في الاستقطاب يشكِّل خطرًا أكبر على الشعوب التي تشعر بحرمانها من الآلة – ألعوبة الإنسان المتألِّه على وجه الأرض! إلاَّ أن مثل هذا التبدل ليس بأقل خطرًا على الغرب، نظرًا لما ينطوي عليه من انجذاب موضوعي ينأى بصاحبه على الدوام إلى خارج نقطة الدائرة التي ليست إلاَّه. فنظرًا لهذا الشوق الوهمي المتزايد إلى أمور العالم الخارجي، ونظرًا لهذا الخروج المستديم عن الكيان العميق، لهذا التقلص الشخصي للحقيقيِّ فينا، أو لهذا الهرب الأحمق من أمام الضيف المقيم الداخلي السعيد، يعيش الإنسان في سراب ما يجني من سعادة أو عظمة أو حقيقة خارجة عنه، ينشدها دومًا، فيما تبقى ضالَّتُه مفقودة. ومردُّ ذلك إلى أن كلَّ هذه الأمور الهامة والخيِّرة لا توجد منفصلة عن ينبوع الكيان العميق الحقيقي الذي يجسدها ويعكسها على شاشة الوعي، مثلما لا يمكن لهذا المشهد أن يوجد منفصلاً عن مُشاهِده، ولا للعبة الخلق الإلهي أن توجد من دون الروح التي بها تلعب. وجوه أخرى من المعضلة بالعودة إلى العالم العربي، نرى أنه لا بدَّ من إبداء بعض الملاحظات فيما يتعلق بالازدواجية التي تكلمنا عليها أعلاه: 1. إن الموقف الذي لا يتَّسم بالمودة، بل يضمر العداءَ ويُظهِرُه، – ويتخذه العالمُ الخارجي (الغرب خصوصًا) من عدة معضلات تهم هذه المنطقة من المعمورة، – لهو ذو شأن خطير في إثارة الشواعر الجماعية، وإلهاء الأدمغة، وتحريض الظاهرات الانفعالية المَرَضية، التي تتراوح بين التخوف الساذج والتعصب الوطني والحقد، مثلما كانت حال ألمانيا، بنوع ما، بعد الحرب العالمية الأولى، ومثلما كانت الحال في روسيا السوفييتية نفسها عندما عزَّز التهديدُ الخارجي الانحرافَ الپسيكولوجي النفسي والمؤسَّسة الداخلية، وكما هو اليوم شأن آسيا – حتى آسيا الشيوعية – وشأن القارة السوداء التي بدأت تهزها الأمواجُ الأولى للثورات التحررية. وليس ثمَّ مجال للقول إلى أيِّ حدٍّ أساءت السياسةُ الغربية، المرتكزة على عدم التفهم تارة، وطورًا على احتقار الشرق العربي وآسيا وإضمار العداء لهما. فالعمل الداخلي وردَّة الفعل الداخلية عليه في السياسة، كما في الطبيعيات، يتجاذبان ويتوالدان ويتدافعان أيضًا، فيقوِّي كلٌّ منهما الآخر. حسبنا أن نعلن أن الحركات العربية السياسية–الاجتماعية الفتية – الاشتراكية أو التقدمية منها حصرًا، أيًّا كان نوعها – لم تنجُ من هذا الخطر ومن الرفض الذي جابهها الغربُ به. وهذا لم يمنع الحركات المذكورة – التي تضم النخب المثقفة في البلدان العربية والتي لا تمثِّل المستقبل فحسب، بل تعبِّر أيضًا تعبيرًا سليمًا عن التطور السياسي والاجتماعي – من تشكيل أفضل حصن ورأسمال ضد الشيوعية وخير صلة وَصْل بين الغرب، من جهة، وبين آسيا العربية والمسلمة، من جهة أخرى، وربما بين الغرب وآسيا بأسرها. 2. تتعلق الملاحظة التالية بمعضلة إسرائيل ووضعه التأسيسي في الشرق الأوسط. فهاهنا أيضًا، ضَرَبَ الغربُ والصهاينةُ – مع الأسف! – ضربتَهم، ولعبوا أكثر من اللزوم على وتر التناقض والتضاد، فأساؤوا وتطرفوا في تطبيق "قاعدة المندلة" mandala الأصيلة، كما يدعوها الهنود، التي تصرِّح بتعاكس الأقارب وتناقُض الجوار والمناوأة العفوية والاحتكاك الذي يتضمَّنه كلُّ اقتراب أو التمييز المتعاكس الكامن في كلِّ تنوع. لقد شُدَّ حبلُ الاختلاف والتنوع والخصام إلى مداه الأقصى، فبلغت الجسارةُ الوصولَ إلى الصعيد التأسيسي والدولي، فأوجِدتْ دولةٌ سياسية على أساس ديني–عرقي، وحوفظ عليها بين مجموعة معادية من الشعوب لم تتحرر عقليةُ جماهيرها إلاَّ لمامًا من طور التجمع على أساس العشائرية البدائية والصوفية الدينية؛ بينما كان من الواجب حلُّ المعضلة على أساس قومية منفتحة إنسانيًّا، هي وحدها الدواء الناجع الذي يمكن لنا أن نشير إلى استعماله في هذه المنطقة الحسَّاسة من العالم، على أن يتم هذا على أساس اتحاد فدرالي عربي–يهودي فلسطيني يفسح المجال لانضمام فلسطين ودمجها معنويًّا – إن لم يكن سياسيًّا – في مجموعة بلدان الشرق الأدنى. وهذا لا يعني أن العرب اليوم، بدورهم، لا يعتمدون "قاعدة المندلة" التعاكسية ولا يفرِّطون في تطبيقها؛ لكن العلَّة الأولى تكمن في الخطأ السياسي الجسيم الذي ألمحت إليه. 3. الملاحظة الثالثة تختص بالحكام والزعماء العرب الذين رأوا، بعد أن عجز معظمُهم عن إنشاء ديموقراطيات سياسية حقيقية في الشرق العربي وعن تنميتها، ضرورةَ اللجوء إلى القومية كسلاح ذي حدين، بغية البقاء في مراكز القيادة الشعبية والحكم، والحؤول دون الأجيال الجديدة الطالعة والانطلاق السياسي، وتأخير التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي قد يضر بمصالحهم الخاصة. إن مثل هؤلاء الزعماء والحكام العاجزين الانتهازيين واللامسؤولين أساؤوا، في الواقع، إلى الغرب الذين يدَّعون خدمته. 4. والملاحظة الرابعة تتعلق بحركة أعمق مما يُظَن، لأنها تنطوي على ارتسام الخطوط الأولى لتكتل وتجمع على نطاق عالمي – ذلك التكتل الذي تجرأ تلار دُه شاردان Teilhard de Chardin، مثلاً، أن يدعوه بلغته الرمزية "الكوكبية الإنسانية" la Planétisation humaine أو "روح الأرض" l’Esprit de la Terre. وهذه الحركة تنحو، على مدى طويل من الزمن، إلى انفتاح القوميات الراهنة على الشعور الإنساني الشامل. أما مظهرها الأول الذي بدأ يظهر اليوم فيقوم على التكتل الإقليمي على أساس ثقافي أو حضاري أو قارِّي: فالتكتل الإقليمي الأوروبي يحل معضلة القومية في أوروبا؛ وفي البلدان العربية لعبت جامعةُ الدول العربية الدورَ المقرِّب بين الشعوب العربية نفسه، فحدَّتْ من زخم التناقضات الألوفية التي قامت منذ القديم بين مصر الفرعونية، والفاطمية فيما بعد، وبين العراق الآشوري–الكلداني والعباسي – هذه التناقضات التي لم تظهر مؤقتًا من جديد إلا تحت تأثير التدخل الغربي القوي الذي انصاعت إليه إحدى دول الجامعة، فتراختْ من جراء ذلك روابطُ المؤسَّسة الإقليمية وأضحى وجودُها نفسه مهدَّدًا. وتدخل في نطاق فكرة التجمع الإقليمي السليم والمفيد بعض المحاولات الأخرى، كمؤتمر الأحزاب الاشتراكية الآسيوية (الذي كان الحزب التقدمي الاشتراكي أحد الدافعين إليه وإلى انعقاده)، ومؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز، وشتى المؤتمرات الاقتصادية الآسيوية، إلخ. وفي رأينا أنه يجب أن تنبثق رابطةٌ حقيقية للتعاون الآسيوي للحدِّ من أخطار التوسع اللاعقلاني الذي يهدِّدنا في الشرق الأقصى، ولوقف زحف العقيدة التوتاليتارية الشيوعية، ولدعم استقرار العالم العربي، وللتعجيل في حركة تحرر الشعوب التي مازالت تنوء تحت نير الاستعمار، وخصوصًا، كما صرَّح أحد كبار الدبلوماسيين الأمريكيين، لإعادة الثقة بالنفس إلى شعوب آسيا – تلك الثقة التي لا مفرَّ منها لتحقيق الاستقرار وضمانه. بين الأسباب التي تحمل العرب على التفتيش عن عون لهم في التجمعات الإقليمية الآسيوية، ينبغي علينا أن نذكر خصوصًا – كي نحافظ على تجرُّد هذا البحث – الهربَ والنفور من الغرب – الخصم السياسي – والاستفادة من العون المعنوي – أكثر من المادي – الذي يمكن للشرق الأقصى أن يوفِّره ضد الاستعمار، وكذلك هذا النوع من الإثارة النفسية التي توقظها حضاراتُ الشرق الأقصى في عاطفة الإنسان العربي وفكره، – وهو نصف شرقي في ثقافته، كما يشير الواقع، – وإن كان يبقى منجذبًا إلى سرَّانية آسيا الوسطى وعرفانها. القومية والوحدة نلخص كلامنا بما يلي: أ. لا يمكن فصل القومية عن البحث والتفتيش عن المطلق – هذا الاستقصاء الذي يشكل النزوع والتعبير الطبيعي العفوي الأقصى والعميق للكائن – كلِّ كائن. فالقومية، في شكلها الحديث الذي ظهر في أوروبا حوالى منتصف القرن التاسع عشر، ليست إلا شكلاً هزيلاً – بل هي ظاهرة منفعلة – لتنظيم المجتمع وسيطرة الآلة عليه. ولهذه العوامل علاقة وثيقة بالأزمة الكبرى التي يعاني منها الإنسان الذي لا تزال بقايا عقلية العصور الوسطى مترسبة فيه والذي عدمت بصيرتُه أن يرى ويدرك مركز انطلاقه ومحور اندماجه وتماهيه. وعن هذه الأزمة النفسية نتجت النظريات التوتاليتارية، في مختلف أشكالها، ومعها الأزمات التي تعاني منها بعض البلدان الديموقراطية في مؤسَّساتها البرلمانية وتقاليدها السياسية. ب. لا يمكن فصل القومية عن البحث عن الوحدة. وقد لاحظ دوغوي Duguit مُحِقًّا أن أهل القرى والدساكر باشروا هدْم مؤسَّسات العصور الوسطى، وبدأوا عهد الدمقرطة démocratisation السياسية على صيحة: "تحيا الوحدة... الوحدة... الوحدة!" وعلى مثل هذا النداء الذي لا يدرك محورَ انطلاقه ويخطئ هدفَه، ويبدو وكأنه مفعم بإرادة خلق شيطانية، يتجمع الشيوعيون ويتكتلون في سائر بلدان العالم: "يا عمال العالم اتحدوا!" ولا غرو في ذلك. فالوحدة والاتحاد يشكِّلان النداء العفوي للكائن – كلِّ كائن. هي "صلصلة الجرس" الهائلة، على حدِّ تعبير الصوفيين، التي تنشدها لذاتها ذاتُ الكون وذاتُ كلِّ أنا ظاهرة، والتي، على نغمة ندائها الأصم، تتذبذب الطبيعةُ بأسرها وتتحرك، تتألف وتتحلِّل في حركة توسُّعها وتقلُّصها، ابتعادها عن المحور وعودتها إليه، تربطها وتفصمها تلك القدرةُ التي تتخلَّل الكون – هذه الوحدة التي يمكن تمثُّلها، على المستوى الإنساني السامي المتعالي، بالمعرفة والمحبَّة، كما كان يشير أحد كبار رجال آسيا البصيرين. فبمقدار ما يدفع التعامي بالإنسان إلى البحث عن المطلق والوحدة في الخارج، تكون القوميةُ أكثر تطرفًا وانغلاقًا في أنانيتها، فتقضي على الحرية في الإنسان وتطوِّح بالمؤسَّسات الحرة في كنف المجتمعات الحديثة. وبقدر ما يستطيع الإنسان أن ينصهر في جوهره، في محوره غير المتحرك وغير المتبدل، والحر بالتالي، ينعم هذا الإنسان بالحرية ويشيع من حوله الاهتمامَ بالمؤسسات الحرَّة والحرصَ عليها. ذلك لأنه لا يمكن للحرية أن تتجلَّى من دون الشعور العميق بالانسجام ووعي ذلك الانسجام، ولا يمكن للحرية أن تنبثق إلا من زوال الفوارق وانصهارها في بوتقة الوعي الفاهم. وهذا يقودنا إلى نقطة ثالثة تنجم بصورة طبيعية عن النقطتين الأولى والثانية: ج. إن معضلة الحرية هي معضلة داخلية صرف: فإن لم تكن الحرية فيك أصلاً، فكيف يمكن لها أن تكون من حولك؟! عندئذٍ تكون أفضل المؤسَّسات الديموقراطية أدواتِ استبداد في أيدي الحكام اللامسؤولين عمليًّا. ويجب أن ندرك أن في ذلك مصدرَ النقائص التي تشكو منها الديموقراطيات البرلمانية في الشرق العربي، التي ليس لأكثرها من الديموقراطية إلا الشكل الخارجي وحسب. لعل هاهنا أيضًا يكمن سبب من أسباب الإفلاس المؤقت الذي أصاب النظام البرلماني في غالبية بلدان أوروبا وأمريكا اللاتينية. وهاهنا، أيضًا وأيضًا، يكمن أحد الأسباب العميقة التي تجعل الشعوب تخضع للدول التوتاليتارية الشيوعية. وفي نموِّ حسِّ المسؤولية وإرادة الحرية – المتزايدين بنسبة ارتفاع مستوى المعيشة وتحقيق تربية أفضل وديموقراطية اقتصادية حقيقية، وإنْ محدودة – يجب علينا ألا نكتشف الدافع إلى التبدل في المجتمعات الماركسية ومفتاح الاضطرابات السياسية التي تهزها وحسب، بل الوسيلة الوحيدة – ماعدا الحرب – لتحويل المجتمعات المستعبَدة إلى مجتمعات حرة، لأن الحرية، من حيث كونُها نزعةً أساسية للكائن وتعبيرًا عن شهامته ذاتها، تنتصر دومًا في النهاية. ذلكم هو ناموس النموِّ البيولوجي، وذلكم هو ناموس التاريخ. وهنالك ناموس آخر ذو شأن أيضًا؛ وقوامه أن الإنسان المحروم من الحرية والخاضع لنظام توتاليتاري يتعلم أكثر من سواه استخدامَ الحرية والعيش في ظلِّ الحرية السياسية عندما تتاح له الفرصة؛ بينما مَن ينعم بهذه الحرية السياسية عينها ينزع، على كرِّ الأيام، إلى التفريط فيها وإلى إساءة استعمالها، حتى يجد، في آخر الأمر، أنه مهَّد، بتصرُّفه اللامبالي هذا، الطريقَ لنشوء الأوتوقراطية والاستبداد. فالأضداد في حياة الإنسان، كما في حياة كلِّ شيء، تتجاوب وتتجاذب. إن القومية الواعية إنسانيَّتها الأصيلة والمندمجة فيها، والقومية العقلانية الخاضعة للناموس الأخلاقي وللقانون الدولي، تستطيع أن تلعب دورًا يؤثر تأثيرًا صالحًا في الحفاظ على المؤسَّسات الحرة، كما يُتَبيَّن من خبرة بعض البلدان الأنغلوسكسونية. فبقدر ما تثير القومية الشعورَ بالواجب وبالمسؤولية المعنوية، فإنها تعزِّز المؤسَّساتِ الحرةَ وتضمن سيرَها الطبيعي السليم، وتحمي الحرية السياسية من الانحطاط، موفِّقة بذلك بين الرأي الشعبي وبين قوة السلطة، وذلك لأن انعدام الرقيب المعنوي والسلطة هو ما تشكو منه على الغالب الدولُ البرلمانية. أما الوجه الغريب والمستهجن في مثل هذه القومية النامية في جوٍّ أنغلوسكسوني، فهو اصطباغه، غالبًا، بصبغة محدودة أنانية. وهكذا لا تستطيع القومية أن تتخلَّص في سهولة من الأنانية الجمعية التي تمثل "الأنا" الفردية، لا بل تكون انعكاسًا وامتدادًا لها؛ وهذا ما يجعلنا أمام وضع متناقض ذي وجهين: يعتمد الديموقراطية في الداخل، فيما يؤيِّد الاستعمار أو انتهاج سياسة القوة في الخارج! لا بدَّ هنا من بيان بعض التوجيهات التي تساعد على دمج القومية في المرحلة العالمية التي تضم الإنسانية بأسرها – على ألاَّ ننسى أن المعضلة، في جوهرها، تتعلق بالفرد، ولا يمكن إيجاد حلٍّ لها على الصعيد الجماعي: 1. تأميم وسائل الإنتاج الكبرى – وهو لا بدَّ أن يتم آخر الأمر، وإن كان التعجيل بذلك ممكنًا؛ تأميم التبادل؛ تنسيق مختلف الاقتصادات القومية على الصعيد الإقليمي، فالدولي، وتوجيهها في هذا الاتجاه؛ إنشاء تكتلات اقتصادية إقليمية متنوعة. 2. تشجيع إيجاد كتل إقليمية سياسية على غرار الجامعة العربية والسوق الأوروبية المشتركة والكومنولث البريطاني (الذي هو، من غير شك، أنجح المشروعات المنجَزة طوال التاريخ) واتحاد الولايات الأمريكية – وإني لأجرؤ حتى على اقتراح وحدة على غرار الاتحاد السوفييتي، لو كانت الحرية متوفِّرة فيه؛ وكذلك إنشاء كتل اقتصادية إقليمية. 3. تأميم وسائل الدفاع، وإيجاد مؤسَّسات اتحادية فدرالية ملائمة، بشكل لا يُبقي في الأمم من أجهزة مستقلة غير فرق أمنها الداخلي؛ أو على الأقل، إيجاد أجهزة إقليمية للدفاع من أجل لجم الشريك الذي قد تبدو منه نزعةٌ عدوانية. 4. إيجاد برلمان دولي يشترك فيه ممثلون مباشرون من مختلف الشعوب والبرلمانات القومية؛ ويعمل هذا البرلمان العالمي بالتنسيق مع الأمم المتحدة القائمة حاليًّا، وبمعونتها، ويتَّخذ له حقوقًا في المبادرة في شؤون التوجيه والتقرير الهامة. 5. تشجيع تبادُل القضاة الدوليين بين مختلف البلدان: لن ينتج عن ذلك إلا عدالة أفضل وتفاهُم أكمل بين الشعوب. (وإنني أذكِّر بأن ملاحظة من هذا النوع قد أُبدِيَتْ في مصر، حيث أعرب عدةُ محامين عن أسَفَهم على زوال "المحاكم المختلطة"؛ ومن جهتي، أشاطرهم أسفَهم فيما يخص بلادي!) 6. تطهير الكتب المدرسية (عن طريق مؤسَّسة دولية كاليونسكو) من التعصب والانحراف الوطني الذي تُحشى بهما. ولربما تجدر كتابة التاريخ من جديد – إذ إنه لا يوجد حتى تاريخ للعلوم يتفق عليه الناسُ جميعًا! 7. تبادل أوسع وأكثر حرية بين الثقافات والمعلومات والأنباء والزيارات. وليس ما ذكرت إلاَّ أمثلة أكملها فيما يلي، مفكرًا في بلدان الشرق: 8. تعزيز نشوء الحضارات الآسيوية واستمرارها – وهي حضارات حقيقية، بحسب المفهوم الألماني للحضارة Kultur – لأن الحكمة الإنسانية التي تنطوي عليها هذه الحضارات تشكل الوسيلة الفضلى لـ"أنسنة" humanisation الإنسان والضمانة الحقيقية ضد كلِّ تعصب قومي. ويجب اتخاذ مثل هذا الموقف حيال الفلسفات والأديان الشرقية، بدلاً من الحميَّة الرسولية التي يساند بها الغربُ دينًا معينًا أو حضارة بعينها. 9. تخفيف – بل حتى إلغاء – الأسباب الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تجعل من القومية أداةً هدامة للحريات الفردية، وإنشاء هيئة خامسة تُعنى خصوصًا بالضمانات الاجتماعية للأمم المتخلفة اقتصاديًّا، وتكون برعاية الدول الكبرى "المثرية". 10.تعديل الموقف السياسي العدائي أو التجاهُلي الذي يقفه الغرب من الشعوب الأخرى. القومية والتناغم في الإنسان – أو على خطى الإمبراطور آشوكا من المسائل الرئيسة التي تشغل الأجيال الحاضرة مسألة دمج القومية وصهرها في الصيغة والمظهر الإنسانيين، بشكل تزول معه التناقضاتُ الداخلية والخارجية في "غيريَّة" altruisme خلاقة. ولئن كان لي في نهاية هذا العرض أن أكشف عن منزلق العثرة – حبرًا على ورق – في وضعها الوجودي العميق، لعدت إلى ذلك الحكيم الذي قال لنا يومًا: يعتقد بعضهم أو يتصور أن الأنانية يمكن لها أن تضمحل في نفسه فيما لو انتقل مركزُها أو محورُها من الـ"الأنا" الفردية إلى جماعة محدودة أو غير محدودة، كالوطن أو البشرية، فيعمل الإنسان مدفوعًا بالشعور الوطني، ويخدم بلاده ويضحِّي في سبيل وطنه، وهو في الحقيقة لا يعمل ولا يضحِّي إلا لنفسه. فبدلاً من أن تكون الـ"أنا" الظاهرة الفردية هي التي يخدم ويضحِّي من أجلها، فإنه يخدم الـ"أنا" الكبرى – ونعني الأنا الاجتماعية – ويعطيها من عنده ومن نفسه. فأنانيته الخاصة تحيط بالمجتمع بكامله بشكل يتماهى فيه مع الاجتماعي تماهيًا تامًّا. ومن الطبيعي أن مثل هذا الموقف في التصرف ومثل هذه الأنانية الجماعية أفضل وأسمى من الأنانية الفردية الصغيرة، لكن الأنانية الظاهرة تبقى ماثلة؛ تلك الأنانية لا مفرَّ لنا من التخلص منها لبلوغ الحرية الداخلية الحقيقية الكاملة. وفي مناسبة أخرى توجَّه إلينا قائلاً: لكي نكون بشرًا حقًّا يجب علينا التخلِّي عن كلِّ وطنية [...] لأن ما نصبو إليه من توحُّد لا يتحقق إلاَّ على صعيد حقيقة أعلى. قلنا إن ثمة حركتين في الكائن لا يمكن تجاهلُهما في الإنسان – كلِّ إنسان. أ. نزعة الفكر إلى الوحدة، ونزعة الشعور إلى الوحدة، ونزعة العمل إلى الوحدة. ب. الحركة نحو المطلق، بوصفها تعبيرًا رفيعًا عن الوحدة وانجذابًا وسواسيًّا إليها. عندما يتمزق حجاب القومية، نتبين أن الحرية كانت دائمًا حيث هي: الرفيقة الخفية للكيان الداخلي وسعادة "المنعتق حيًّا" jīvan-mukta – وذلك لأن السعادة والحرية شيء واحد، والمعضلة هي داخلية صرف. فلندع السياسيين والمصلحين يطالبون ويجاهدون، مستهدين بالمبدأ التالي: "مَن يعتبر نفسه حرًّا يصبح حرًّا، ومَن يعتبر نفسه مقيَّدًا يبقى مقيَّدًا". فـ"كما يفكِّر الإنسان كذلك يكون"، على حدِّ قول هذا المثل الدارج الذي هو حقيقي فعلاً. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [*] مداخلة أُلقِيَتْ في حلقة دراسات حول مفهوم الحرية انعقدتْ يومَي 23 و24 أيار 1956 برعاية المركز الإقليمي في الشرق الأوسط للمنظمة العالمية لحرية الثقافة؛ وقد كُتِبَتْ في الأصل بالفرنسية لمؤتمر ميلانو حول "مستقبل الحرية". |
|
|