|
"شارب الآفاق" يرفع نخبه الأخير رحيل الروائي والشَّاعر والنَّاقد والمؤرِّخ الفرنسي جاك لاكاريير
يوم السبت المصادف 17 أيلول 2005، توفي، عن تسعة وسبعين عامًا، المبدع الفرنسي جاك لاكاريير Jacques Lacarrière. برحيل هذا الرجل الإخائيِّ الطبعِ، ذي المواهب اللاَّتُحصى، يخسر العالم واحدًا من أهمِّ شعرائه، وروائييه، ومترجميه عن اليونانية، ونقَّاده، ومؤرخيه للأديان والأساطير، ومبدعيه للقصص الخيالية، ومشَّائيه. وكما توفي ريلكه، شاعر الورد بامتياز، من لسعة أشواك وردة بدا أنها كانت سامة، فارق لاكاريير الحياةَ من جراء مضاعفات عملية جراحية للركبتين – هو الذي كان يعرِّف بنفسه بأنه "شارب الآفاق"، ملمِّحًا بذلك إلى وَلَعِه بالتجوال وإلى المشي الذي صار يمثِّل لديه هاجسًا أساسيًّا لا تضاهيه حدةً إلا الكتابة.
جاك لاكاريير، سان مالو، 1995 كان السفر بنظره انتقالاً في العالَم عِبْر الجسد، وكذلك عِبْر الفكر: فالترحال قد يكون خياليًّا، من دون أن يفارق المعيش الفعلي، أو فعليًّا من دون أن يتنازل عن حصَّته من التخييل. وهكذا فإن لاكاريير الذي وصف جولاتِه في اليونان وتركيا وصحراء مصر وداخل بلده نفسه، فرنسا، التي وضع فيها بعضَ أجمل كتب "رحلات الداخل"، هو نفسه الذي وصف في بلاد تحت اللحاء رحلةَ النسغ في عروق شجرة، ووضع أسفارًا خيالية أخرى لا تحول غرائبيتُها أبدًا دون أن تكون بالغةَ الإنسانية.
غلاف على الطريق وفي كتابه سُوَر، اعتبر أن السوَر والآيات يمكن أن تكون ممارسة "نبوية"، يمكن لكاتب أو إنسان عادي أن يضطلع بها، مادامت المعجزاتُ بناتِ الواقع، فراح يكتب "سورة المنزل" و"سورة القرية" و"سورة الكثيب" و"سورة الفراغ" و"سورة الصحراء" و"سورة الابتسامة" و"سورة الجسد" و"سورة الطفولة" إلخ.
غلاف سُوَر تمجيد الهراطقة والزهَّاد في رجال سكارى بالله والغنوصيون، اهتم لاكاريير بحياة النساك والزهَّاد والهراطقة، وذهب في تمجيدهم إلى حدِّ إغضاب الكنيسة الكاثوليكية، واجدًا في رياضاتهم ومناسكهم تظاهرات شعرية وكيانية متطرفة. رصد كتاباتِهم وما سطَّره عنهم التاريخ، ووجد بعضًا منهم يعيش في أعلى عواميد ومسلاَّت منعزلة، شأنهم شأن أشهرهم: سمعان العمودي، وبعضهم ينزوي في المغارات والكهوف، والبعض الآخر في تجاويف الأشجار الضخمة. عن هؤلاء "العموديين" و"الكهوفيين" و"الشجريين" كتب صفحات جميلة تقف على مفارق تحليل الجنون الواعي وتاريخ المروق الديني والتصوف الهامشي والشعر. أوَما كان هو نفسه، في سنِّ السادسة، يستعذب الاحتماء بشجرة زيزفون كان يحاورها ويعتبرها "أستاذه الأول"؟! للنبات والجماد – ما يُدعى بالأشياء – لغةٌ وكلام، بل حتى شعر صميمي دائم الانثيال، يكفي أن نحسن الإصغاء إليه لتكون أرواحُنا مضمخة بالإيقاعات والأحاسيس والصور – ذلك كان واحد من حدوس لاكاريير الأساسية.
كما أُعجِبَ لاكاريير أشد الإعجاب بالمتصوف التركي يونس إمرِه، فأعاد ابتكار سيرته في رواية سمَّاها غبار العالَم، انطلق فيها من مراس بسيط (ولع يونس إمرِه بمكنسته، بها يزيل النهار كله ما يتجمع أمام بيته أو "زاويته" المتواضعة من غبار)، حمَّله هو شحنةً أمثولية عالية ورَبَطَ الكلام الذي يرتجله المتصوف شعرًا فيما هو يكنس – رَبَطَه بحركة الرياح والمجرات والعناصر، وجعله يسافر في البعيد ويخصب بلدانًا عديدة.
غلاف غبار العالَم نادرًا ما يتضافر عند كاتب هذان الهوَسان المتضادان للوهلة الأولى: هوَس الدقة التاريخية في أثناء ممارسة البحث، وهوَس التخييل البارع، المتحرر من جاذبية المنطق والمكان والزمان، عندما يتعلق الأمر بإطلاق العنان للمخيلة الشعرية والسردية.
التذكيرُ بثراء العالََم ولاتناهي مصادر خصوبة الحياة – حتى تلك الحياة التي تبدو جامدة، وتُعرِب مع ذلك عن حركات خفية وانتحاءات غير منقطعة – قد يكون هذا هو الدرس المحوري لهذا الرجل الروحاني الذي عرف أيضًا أن يقف، باسم ثراء الحياة هذا نفسه، في وجه الديكتاتوريات، فساند نضالَ اليونانيين ضد حكومة الكولونيلات المستبدة، ودَعَمَ الفلسطينيين في معتركهم الوجودي، وقدَّم إلى القراء الفرنسيين غير واحد من الكتَّاب ضحايا الاضطهاد وساكني المعتقلات. انثروا رمادي في اليونان! في حوارات عديدة جمعتْنا، وفي الحوار الطويل الذي أجريتُه معه[*]، كان يطيب للاكاريير أن يستحضر أثَرَ ما يمكن دعوته بالـ"معجزة اليونانية" في حياته وفكره. وصل إليها للمرة الأولى في العام 1947، ثم أقام فيها لاحقًا طوال خمسة عشر عامًا، ولم يبرحها إلاَّ في 1967، احتجاجًا على قيام حكومة الكولونيلات. واليونان هي التي قادتْه إلى اكتشاف تركيا ومصر وسائر بلاد الشرق. ولقد أحبَّها، حتى لقد أوصى بأن يُنثَر رمادُه في أماكن عديدة منها، تعبيرًا عن وفاء لها مبرمٍ ونهائي. وهذا ما حصل فعلاً بعد أن تمَّ تشييعه في باريس يوم الاثنين 26 أيلول.
غلاف الصيف اليوناني يتحدث لاكاريير عن "يونانات" عديدة في قلب "يونان" واحدة، أزلية ودائمة التحول: هي بالنسبة إليه يونان أليفة، شبه عائلية، عرَفَها، كما يقول، بالتدريج ولم تتشخَّص صورتُها في ذهنه إلا مع الزمن. وهو يعدُّ كتابَه الشهير الصيف اليوناني، الذي هو مزيج من التاريخ والمعاينة المباشرة ويوميات المسافر وتأملات الشاعر – يعدُّه رسالة موجهة إلى جميع اليونانات التي التقيتُها وأحببتُها، اليونان القديمة، فالهيلِّينية، فالبيزنطية، فالعثمانية، فالحديثة، ولجميع النساء اليونانيات اللائي أحببتُ، أنا الذي، خلافًا لرهبان جبل آثوس، لم أنذر العفة قط. ولقد توَّج قبل أربعة أعوام أعمالَه الضخمة عن اليونان، كتابةً وترجمةً، بسِفْر ضخم بعنوان قاموس اليونان العاشق، نُشِرَ في سلسلة شيقة وواسعة الرواج عن بلدان العالَم يضعها فيها كتَّابٌ هم إليها منجذبون ولها عاشقون.
وعن مزاوجته بين السفر الخيالي وبين الرحلات الفعلية، قال لنا في الحوار المذكور: السفر كلمة خطيرة: فهي تتضمن معاني عديدة. إنها تعني عمومًا الانتقال بالجسد والذهاب من محلٍّ إلى آخر. لكن أين يبدأ السفر في هذه الحال؟ كم من الأمتار ينبغي أن يقطع المرءُ كي يبدأ السفر حقًّا؟ أيمكن الكلام على سفر إذا انتقل المرءُ من شارع إلى آخر أو من حارة إلى أخرى؟ إنه لمفهوم غامض، ولاسيما أن في مقدورنا أن نسافر من دون انتقال. فعندما يصف هنري ميشو مغامراتِه في غرابانيا العظمى، هذه البلاد التي هي من صنع خياله، أفلا يشكل هذا سَفَرًا يتخطَّى أشجع أسفار الرحَّالة والمستكشفين؟ [...] هذا لا يعني الإقلال من أهمية السفر الفعلي؛ فهو يجبرك على ملاقاة الآخرين واقتسام حياتهم والتحول إليهم، بقدر أو بآخر. نعم، إنه يجبرك على التكاثر وعلى مضاعفة هويتك الأصلية. الوصية
غلاف في قلب الأساطير لاكاريير، الذي لم يتورع عن رفع الكلفة بينه وبين آلهة اليونان حين كان يخاطبها، وعلى الرغم من تعدُّد مشاربه وممارساته الإبداعية والفكرية، كان شاعرًا في كلِّ ما يقول أو يفعل. كان يطيب له باستمرار أن يقيم قراءات شعرية، بالاشتراك مع زوجته الفنانة سيلفيا لاكاريير. ومن فرط ما كان يمقت صورة الشاعر المزهوِّ الماشي في الأرض مرحًا، فهو فاجأنا، مرارًا عديدة، بالعزوف عن إنشاد شعره، ليتلو على الجمهور قصائد لسواه من الشعراء، الموتى والأحياء.[†] وشعره يُعرِب هو الآخر عن انحيازه إلى الواقع في تجلِّياته السحرية، طبيعيًّا كان هذا الواقع أم إنسانيًّا. في قصيدته "النوارس" كتب لاكاريير: بالسماء ترتطم النوارس/ مثلما ترتطم بمرآة/ لا تعرف فيها نفسها أبدًا./ في الخرافة تسافر صورتها الحق/ بين الرمل النديِّ والبحر القادم./ النوارس يستعمرن السماء كمثْل تبكيت/ من قطنٍ مندوفٍ ومن رماد./ أفكارٌ بلا استراحةٍ هي النوارسُ، رغبةٌ دونما مستقرٍّ./ منذورةٌ هي لتستنطقَ بلا هوادة/ قلبَها اللاَّمفهوم: الزبَد. وكما لاحظ كُثُر ممَّن رثَوه غداة رحيله، لعلَّ السورة الأخيرة في الطبعة الأولى من كتابه سُوَر (أي قبل أن يضيف إليه، في طبعته الجديدة الصادرة هذه السنة، عشر سُوَر أخرى) – هذه السورة الحاملة عنوان "سورة الصمت"، تشكِّل ما يشبه وصية لاكاريير أو صورته الشخصية: الضباب هذا الصباح يلفُّ القرية. ضباب على التلال. الزمن ساقط في فخاخ الغيوم. لقد استلقى على المنزل وها هو ذا يكتنف الساعات./ ضوضاء. كلام الشارع. في البعيد كلب ينبح./ ثلاثون عامًا من الكتابة. الحياة والكتابة. الحب والكتابة. الهناك والكتابة./ لا طموح. لا تنازلات. لا مال. حب كثير. أصدقاء كُثُر. لا حسابات./ رفْض المجد الذي يجلب الحسد. والمناهج المطروقة. والطرق العمومية. والتسويات. والمؤسَّسات./ الكتابة فقط لأكون. لألتزمَ. حيال الآخرين. مع الآخرين./ الكتابة لأنجرفَ بعيدًا عن الإنسان القديم./ الكتابة لأنجرفَ صوب الإنسان القادم./ ولا شيء آخَر./ الضباب هذا الصباح يلفُّ القرية. ضباب على التلال. الزمن ساقط في فخاخ الغيوم. لقد استلقى على المنزل وها هو ذا يكتنف ساعاتي./ صمت. باريس *** *** *** عن النهار، الخميس 22 أيلول 2005 |
|
|