|
أفْصِحي، أنتِ أيَّتُها الجُمْجُمَة
تحية للموت الفلسطيني
1 الجحيمُ، – إلهٌ: جَسَدٌ من حَديدٍ وَعينانِ جرثومَتانْ. أبجديةُ هَوْلٍ والطريقُ إلى موتِنا تُرجَمانْ.
شَحْمُ هذي السَّماءِ كثيفٌ، وأزرارُها تتفكَّكُ في غابةٍ مِن شَظايا. أذرعٌ يتخاصمُ فُولاذُها وَإسمنتُها، والعناصِرُ مخبولةً تتخبَّطُ – ما هَذهِ اللغةُ المُبهمهْ؟ أفصحي أنتِ، يا هذهِ الجُمجمهْ!
شاشةٌ لقياسِ التوحُّش عندَ المَلائكِ، بَعدَ السقوطِ إلى عالَمٍ يدبُّ على بطنِهِ. لازوردُ السَّماءِ وطينُ البَشرْ مَسرَحٌ لِهَباءِ الصورْ، للغُبارِ الذي سنسمِّيهِ ضوءًا وللصورةِ الآدميَّهْ.
لَبستْ أنجمُ اللهِ في ليلِها البَدويِّ سَراويلَ أعراسِها: عَضَلُ الأرضِ مُستنفَرٌ والغرائزُ في نشوَةٍ كوكبيَّهْ.
2 - فَلكٌ مِن دَمٍ - الهبوطُ. يدُ الغيبِ مَمْدودةٌ. - لا أظنُّ يَدَ الغيبِ إلا دمًا.
3 نصفُ ثَورٍ ونصفُ حِصانٍ يَرضعانِ معًا ثَديَ تُفاحةٍ – (ربما ذكَّرتْ بعضَهم بغوايةِ حوَّاء) – حواءُ مُذْ ذاكَ في رِحْلةٍ لم تعدْ بعدُ منها. سياجٌ قَفَزَ العَصْرُ مِن فوقهِ. يتحدَّثُ مع نفسهِ، مع قبائِلَ – كُلٍّ تُسمِّي نفَسَها بَيضَةً، وكلٍّ تَنْتَمي، كلَّ يومٍ، إلى حُفرةٍ، – حُفْرَةٍ تَتَنَزَّلُ فيها جُثَثُ المارقينْ. حُفْرةُ السَّائلينْ – يُخْنَقون بِصمْتٍ. حُفْرةُ الفقراء يَسُوسُونَ أرضَ الطُّغاةِ بأشْلائِهمْ. حُفْرةُ العائِدينْ مِن لقاءٍ يُصالِحُ بين الجِّراح وسِكِّينها، ويقولُ لهذي القبائل: قَسَمْتُ جسميَ، كما شِئْتِ، – مِثْلَ الحقيقةِ، – في هذه الأرْضِ نِصفين: صَوْتًا وسَوْطًا – جَسدًا واحدًا.
- فَلَكٌ من دَمٍ. - الهبوطُ. يَدُ الغيبِ مَمْدودَةٌ. - لا أظنُّ يَدَ الغيبِ إلا دَمًا.
4 غَسَقُ الكَوْنِ، – أوَّلُ ما تقرأ الشَّمسُ منه، – انتشرْ حَوْلَ أهدابهِ مِثلَ كُحْلٍ، وكُنْ عِطْرَ أحزانِهِ. أوَّلُ اللَّيلِ جُرحٌ. ما تبقَّى بذارٌ، لَعِبٌ جامحٌ لطفولةِ هذا الفضاءْ.
هل تريدُ الحياةَ انسياقًا كمِثْلِ الحكايةِ؟ خُذْها بذرةً واحتضِنْها طِفلةً تكتبُ الشِّعرَ. خُذْها مِثْلَ فَجْرٍ – لِقاحًا لحقولِ الهواءْ.
الجحيمُ. الهبوطُ. يَدُ الغَيبِ مَمْدودَةٌ. إنها الحربُ تَخرجُ من غِمْدِها في كتابِ النبوَّاتِ. في غِمْدها تتناسَلُ، والأحْمرُ البَحرُ يَرْمي علينا شِباكَ أساطيره.
صَيدُ أولئكَ الذين يجيئونَ في مَوْجَةٍ والذين يجيئون في صخرةٍ واحِدٌ.
خاتَمُ الموتِ يَمْهرُ أجسادَنا – فَاقتَلِعْنا مِن أروماتِنا، وَمُرِ الريحَ أن تتعهَّدَ أشلاءَنا. وهذي أرضُنا تتعفَّنُ، يا سيِّدَ الحَرْبِ: هَا لَحْمُ أجدادِنا، وآبائِنا، وأبنائِنا يتَفَسَّخُ في مَطبخ الكونِ، والنَّاسُ في شُغلٍ فاكهونْ.
قُلْ لهم: هكذا يرفعُ القاتلونْ رايةَ القَتْلِ تَيَّاهةً عاليهْ. قُلْ لهم: هكذا تأخذُ الغَيْبَ في دارهِ نشوةُ الهَاويَهْ.
- فَلَكٌ من دَمٍ. - الهبوطُ. يَدُ الغيبِ مَمْدودَةٌ. - لا أظنُّ يَدَ الغَيبِ إلا دمًا.
5 مُدُنٌ، أمْ مَسارحُ للهَوْلِ والموتِ؟! ماذا؟! رأسُ جرَّافَةٍ؟ صبغَتْ وَجْهَها صَبغتْ كتفيْها صَبغتْ صدرَها بِدَمٍ أحمر–أسْود. أهذي مُدنٌ أمْ مَسارِحُ للهَوْلِ والموتِ؟! ما أشرسَ المائِدهْ: جسَدُ الأرضِ، قَلْبُ المَدينةِ، ماءُ الألوهَةِ، في قَصعَةٍ واحِدَهْ.
زَهَرٌ يابِسٌ يقاسِمُ غاباتِنا حُزْنَها، والطرائدُ مِن كلِّ نَوْعٍ تتزاحَمُ فيها، تُرتِّل أوجاعَها. هَلْ تقولُ لِفَجرِ أغانيكَ، يا شِعْرُ، أن يَنْشُرَ الآنَ مِنْديلَهُ؟
أتُراهُ يُغطِّي مَا تآكَلَ مِن جَسَدِ الأرضِ، أو ما يُمزَّقُ مِنهُ؟ وبِماذا؟ وكيف سَيَرتقُ أعضاءَ هذا الزَّمانِ، وأيُّ المياهِ ستغسلُ أدرانَهْ؟ مَا أمَرَّ الحقيقةَ: تَأتي النبوَّاتُ في زَهرةٍ، وَتُبلَّغُ في حَرْبةٍ. الحضارةُ عَجفَاءُ، والأرْضُ جَبَّانَهْ.
- فَلَكٌ مِن دَمٍ. - الهبوطُ. يَدُ الغَيْبِ مَمدودَةٌ. - لا أظنُّ يَدَ الغَيبِ إلاَّ دَمًا.
6 يَسْألُ الضَّوءُ عن بيتِهِ: مَغربٌ أمْ شمالٌ؟ مَشرِق أمْ جنوبْ؟ غَيهَبٌ بارِدٌ، غَيهبٌ جامِدٌ–سائِلٌ في جميع الدُّروبْ.
ما لِهذي السَّماءْ تتناسَخُ في خوذَةٍ؟! مَنْ نُسائِلُ، يا بَحرَنا المتوسِّطَ؟ سيناءَ في تيهها؟! أمْ خَواتِمَ أمْرٍ ونَهْي؟! أمْ دمًا يتدفَّقُ من كتُبِ الأنبياءْ؟! طِينُ آدمَ في حَيرَةٍ يَتَشنَّج بين يَدَي رَبِّهِ.
آهٍ، ما أفجعَ الخِتامْ! – إنه الطَّمْيُ – طوفانُنا مِن جديدٍ، والحُطامُ يَقودُ الحُطامْ.
تلك أيَّامُنا تقولُ، وأعمالُنا تقولْ: الحقيقةُ فينا مَا تَشاءُ الخُرافَةُ، لا مَا تَشاءُ العقولْ.
لا تُصَدِّقُ فينا البيوتُ شَبابيكَها، لا تُصدِّقُ حَتى قَناديلَها. يَحملُ الفَجْرُ أثقالَهُ ويطوفُ غريبًا في تجاعيدِنا.
كلُّ شيءٍ يقولُ: ودَاعًا لِمدائنِ أيَّامِنا، لدفاترِ أطفالِها، لمحابرِ أقلامِهمْ، لأقلامهمْ، لِلأسرَّةِ مَفروشةً بأحلامهمْ.
مَا لوَجْهِ الحَجرْ بين زيتونِنا وشُطآنِهِ، يَتَغضَّنُ؟ ماذا؟! كَبدُ الأبْجديةِ مَقروحَة؟ أمْ أزاميلُها تَتَكسَّرُ مَنبوذَة؟
صَوْتُ نايٍ بَعيدٍ يَتَصاعَدُ مِن جُرحِنا عَبَقًا ضائِعًا في ثيابِ الشَّجَرْ.
- فَلَكٌ مِنْ دَمٍ. - الهبوطُ. يَدُ الغَيب مَمدودَةٌ. - لا أظنُّ يدَ الغيبِ إلاَّ دمًا.
7 عالَمٌ يُصلَبُ اليومَ. آخَرُ يُنكِرُ: مَنْ منهما الآنَ يخرجُ من جرحِهِ ويدخلُ في جرحنا؟ أتُراه السؤالُ انتهاكٌ؟ أتُرى سَكْرةُ البحثِ كفرٌ؟ وماذا لَوْ تَنوَّرْتُ حبِّيَ، وأحطتُ بصحرائهِ؟ وماذا لو أسَرْتُ المَلائكَ في شَهقاتي، وساءلتُها، وانحنيتُ على ظلماتي، وتشرَّدْتُ فيها، وَساءلتُها؟!
شَهَواتي تُجَنُّ، وَمِن أين يأتي لِروحيَ هذا الشَّقاءْ؟ وأنا مِنكُما، أيَّها العالَمانِ، وألبُسُ ما تَلبسانِ – الرِّداءَ الذي نَسجتْهُ النبوَّاتُ واستخلصتْهُ السَّماءْ؟
الرَّقيمُ. وفي الكَهفِ ماءٌ تَحجَّر. عُرْيٌ يَتلألأ في لَيْلِ يُوضاسَ. هذا ذَهَبُ الأقدمينَ، وهذا ذَهَبُ المحدثينَ – الكواكبُ مِن فِضَّةٍ، والتعاليمُ مِن فِضَّةٍ، والسياسَةُ مِن فِضَّةٍ.
مَا الذي يُولِمُ العقْلَ للقتْلِ في شَرْقِهِ المتوسِّطِ، في القُدسِ، بين جنائن بغدادَ، أو في دِمشق وبيروتَ والقاهِرهْ؟ ما الذي يَتبقَّى، مَا الذي يتلاشى، ما الذي يتقطَّر من هذه الذَّاكرهْ؟
مَنْ سَيَجرُؤ في هذه اللحظةِ الغَسَقيةِ، في هذه اللحظةِ–المُفترَقْ، أنْ يُجاهِرَ: كلا، لم يكن ضَوْؤنا غيرَ وَهْمٍ، ولسنا سِوى بَشَرٍ مِنْ وَرَقْ.
- فَلَكٌ مِن دَمٍ. - الهبوطُ. يدُ الغَيبِ مَمْدودةٌ. - لا أظنُّ يَدَ الغَيْبِ إلا دمًا.
8 رايَةُ الوقتِ حَمراءُ سَوداءُ. ماذا؟ مَنْ يَخيطُ الكَفَنْ للفراغِ، لهذا الفَراغ–الوطنْ؟
أتُرانا تعِبْنا مِن رِياحِ البقَاءْ، مِن وجودٍ خَفيفٍ على أرضِنا، وَمِن ثِقَلٍ في السَّماءْ؟
9 - فلَكٌ مِن دَمٍ. - الهبوطُ. يَدُ الغَيْبِ مَمْدودةٌ. - لا أظنُّ يَدَ الغَيْبِ إلا دَمًا.
أتُرى أرضُنا تتخبَّأ، مِن أوَّل، في سريرةِ غَيْبٍ؟ قُلْ لشِعركَ: أغمَضتُ عَيْنيَّ، حَتَّى أرَى. برلين، نيسان 2002 *** *** ***
|
|
|