|
النقد وإشكالية التعريف
من الأمور التي كثيرًا ما تُحدِثُ إرباكًا في قراءة تأريخ شخصية الكاتب الأدبية إشكاليةُ تعريف ملامحها المعقولة. وهذه الإشكالية تنسحب على اتجاهين هما على غاية من الأهمية وتمسهما مساسًا مباشرًا، ألا وهما: النقد والقراءة. كذلك تثير هذه الإشكالية، ربما، أسئلةً ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفهم الجازم لشخصية الكاتب الأدبية. وإذا حاولنا أن نجسِّم هذه المصطلحات ونفرزها إلى محورين رئيسيين، يمكن لنا أن نتلمس الكثير من الخيوط المضيئة التي تؤدي بنا إلى صوغ مقاربة واضحة من شأنها أن تعزز تصورَنا المبدئي للعلاقة ما بين النقد وبين شخصية الكاتب الأدبية. الكثير من النقاد – وحتى القراء المحتكمين على وعي جيد – يحاولون أن يخوضوا في تسمية الملامح التعريفية لشخصية الكاتب الأدبية من خلال تناوُل بواكير النتاجات الأدبية، أي الخوض في تعريف الشخصية من خلال العمل الأدبي الأول للكاتب، فيقصِّرون بفعلهم هذا قصورًا قد لا يكون مقصودًا في المساهمة في تحليل مجموعة من المفاهيم والرؤى تنتمي إلى كلٍّ من الكاتب والنص، من أجل تأسيس رؤية عملية واضحة تؤدي إلى تلمس الوشائج الحقيقية لتعريف تلك الشخصية. فالنتاج الأول للكاتب يعكس، في صورة أو في أخرى، مجموعة من الحدوس والتنويرات التي جعلت الكاتب يغامر ويُقدِمْ على تجربته، حتى يتمكن، في خطوة تالية، من الخوض في تدعيم وتأثيث منظومة مفاهيمه ورؤاه التي شكلت الدعائم الأساسية لفعل التحفيز الكتابي الذي انجرَّ من خلاله الكاتبُ إلى تأدية فعل الكتابة، وبالتالي استطاع أن يؤسِّس لبداية مقنعة لقنواته الفكرية والتأويلية للتجاسُر على تطوير الفعل الكتابي البكر وتبريره لاحقًا. فالكاتب، في حقيقة الأمر، لا يكشف عن شخصيته الأدبية من خلال نتاجه الأول، بل يحاول أن يطرح هاجسًا أدبيًّا ينتمي إليه، أو يعمل – من حيث يدري أو لا يدري – على تأسيس دلالة إشارية تساهم لاحقًا في تدوين شخصيته الأدبية. والكثير من الكتَّاب لا يملكون تصورًا واضحًا عن ملامح شخصياتهم الأدبية وهم يخوضون غمار تجاربهم الأولى؛ ويُعزى ذلك لأسباب كثيرة: منها ما يرتبط بمنظومة الكاتب التحليلية التي تشترك في تأسيس رؤية الكاتب لمفهوم الكتابة، ومنها ما يرتبط بدرجة نضوج الأدوات الفنية للكاتب، إضافة إلى عوامل أخرى، نفسية واجتماعية وإرثية. من هنا نجد أن كلَّ ما يستطيع الكاتب أن يطرحه في نتاجه البكر هو محاولات تأسيس دلالة إشارية واضحة لتكويناته الإبداعية؛ وكلما كانت هذه الدلالة غنية بإحداثياتها التنويرية كانت قادرة على عَكْس جانب مهمٍّ من تداعيات تجربة الكاتب الإبداعية. والمقصود هنا بـ"الغنى" في مفهوم الدلالة الإشارية هو: - تعددية الإشارة إلى مناطق التأسيس والتأويل عند الكاتب. - كيفية تعامُل الكاتب مع البعد المكاني في بيئة إنتاج النص والبيئة الأخرى التي تعمل على تأويل النص. - كيفية تعامُل الكاتب مع زمنية الكتابة في مرجعية النص وكتابته، وكذلك مع مستقبلية تحرك النص في الذاكرة الأخرى. - كيفية التعامل مع المخيلة ومع مفردة الواقع. - كيفية تحريك الفعل الكتابي ضمن أنساق لغوية تساهم في نسج الشكل المقنع للنص. إذن، فالمحاولة الكتابية الأولى تساهم في تحليل رؤية الكاتب لمفهوم الكتابة، ولا تعمل على تقديم ملامح جازمة عن أبعاد شخصيته الأدبية – ناهيكم عن عَكْس مجموعة تصورات تتصل بتشكيل المنظومة الفكرية للكاتب نفسه. وبالطبع، فجميع هذه العوامل يساهم إسهامًا مباشرًا وجدليًّا في رسم ملامح الشخصية الأدبية للكاتب، حينما يتأكد هاجسُه الإبداعي في نتاج آخر وآخر. من هذا المنطلق، نستطيع أن نحدد أهم المحاور التي تتصل بعملية التعريف تلك. فالنقد والقراءة يمثلان البعدين الأساسيين في عملية الكشف: النقد يميل إلى العمل في منطقة التحليل المنطقي لفعل الكتابة، متضمنًا كلاً من الكاتب والنص؛ والقراءة تعمل في منطقة التأويل واستقراء الرؤية الفلسفية للنص، وكذلك استشفاف الآفاق المستقبلية لمدى قابلية إعادة تأويل النص في بيئات وأزمنة أخرى. وفي كلا البعدين – النقد والقراءة – تكمن أهمية تناوُل النتاج الأول للكاتب من خلال رؤية استقرائية كشفية: رؤية مبنية على أسُس فيها الكثير من التحاوُر مع مفردات النص، أي محاولة أولى في تدوين علاقة معرفية بأهم الدوافع والمبررات التي ساهمت في حَفْزِ الكاتب على تأدية فعل الكتابة. ومن خلال هذه المحاولة يتم تشخيص منظومة العوامل الحدسية والحسية والاجتماعية التي انعكست في تجربة الكتابة البكر وفي مدى ارتباطها بمفردات النص المنتَج. فالنقد الجاد الذي يقصد المنتَج الأدبي لتبني موقف موضوعي من عملية الكتابة لا يحاول بالضرورة الخوضَ في تعريف ملامح شخصية الكاتب الأدبية وتسميتها على أساس ما تطرحه المنظومة الإشارية التي ترسم علامات استفهام كثيرة تخص كلاً من النص والكاتب، بل يثير تساؤلاتٍ حول الدوافع العقلانية التي عكستْها دلالةُ الكاتب الإشارية، ويميل إلى تبني رؤية تحليلية غير جازمة: رؤية تحاول الاقتراب قدر الإمكان من حدس الكاتب والنص بذريعة الكشف، لا التعريف. ومن هنا يستطيع النقد أن يضع الكاتب على أعتاب مجموعة من الاستفهامات، قد تكون تحريضية أكثر على حَفْزِ الكاتب لكي يحاول أن يغادر هواجسه وحدوسه الأولية عن تصورات ربما يتم نفيها لاحقًا. فالنقد، بهذا التجاسُر، يعمل على تهيئة بيئة حوارية ممكنة يلتقي من خلالها الكاتبُ والناقدُ والقارئ في مناقشةٍ للأبعاد الحقيقية الكامنة وراء تجربة الكتابة وفي التداول حول كيفية إسهام هذه الأبعاد في تشكيل شخصية الكاتب أو هويته الإبداعية. أما القراءة فهي – كالنقد – تحاول أن تؤدي الفعل التأويلي في الطرف الآخر من التجربة الإبداعية. فإذا علمنا أن النقد يحلِّل قبل أن يفنِّد ويعلِّل، فالقراءة تحاول أن تؤسِّس قبل الشروع في التأويل. وهنا نستطيع أن نعتبر أن قراءة الكاتب من خلال نتاجه الأول ربما تنحصر في بيئة التأسيس التي تمهِّد لتجاسُر التأويل. وإذا سلَّمنا بهذه النتيجة المفترَضة، نكون وصلنا إلى مقاربة مقنعة حول تسمية الملامح الجازمة لشخصية الكاتب الإبداعية، أي محاولة تأسيس بيئة ممكنة نقرأ من خلالها الدلالات والرموز التي حَشَدَها الكاتبُ في النص والتي تنتمي قطعًا، في شكل أو في آخر، إلى الكاتب وتتصل بمجموعة الرؤى والمفاهيم والثقافات التي شكَّلتْ وعيَ الكاتب ووجهةَ نظره الأولية في مفهوم الكتابة، وذلك لكي نتمكن في محاولة لاحقة، من خلال قراءة النتاج الثاني أو الثالث للكاتب، من الانطلاق من تلك البيئة لتدعيم الملامح الأولية التي بشَّرتْ بها الدلالةُ الإشارية التي بعث بها الكاتب من خلال منتَجه الأول أو لتقويضها – لكي نخلص إلى القول بأن تعريف شخصية الكاتب الأدبية تبقى مرهونة بما يقدِّمه الكاتب نفسه من خلال نتاجه التالي. فالكثير من الكتَّاب، حتى بعد إنتاج العديد من النصوص، يعانون من إشكالية توضيح الغايات الحقيقية التي أوردوها في دلالاتهم الإشارية وهو يخوضون في تجربتهم الإبداعية الأولى. وفي شكل موازٍ، هناك الكثير من النقاد مازالوا يعانون من تلك الإشكالية في تعريف الملامح المعرفية المعقولة لشخصية الكاتب، إما لقصور في رؤاهم النقدية أو لغموض في شخصية الكاتب نفسه بسبب ما يطرحه من تداخُل وعدم استقرار في وضوح رؤيته. *** *** *** |
|
|