|
سـاپفـو
ساپفو... ساپفو... هل ناديتِني؟! – لأختزلَ القرونَ في لحظةٍ وآتيكِ. هل دعوتِني؟! – لتستنفرَ حواسي قطيعَ أيِّلٍ تقطعُ المسافاتِ وتحجُّ إلى مقامِ العشقِ في ثوبِ الإحرامِ الأبيض غيرِ المخيطِ كالكفنِ لأتلوَ خلودَكِ: "إذا مررتم بقبري لا تقولوا: شاعرةٌ ميتة ولكن قولوا: كلمةٌ خالدة"
ساپفو (جدارية من مدينة پومپي، 60 م) * ساپفو... ساپفو... كيف أطلَّ وجهُك عليَّ كشمسٍ مضيئةٍ، جليًّا، بهيًّا، عبر ستمائةِ عامٍ ونيِّف قبلَ الميلاد، وكيف رحتُ أنفضُ الغبارَ وركامَ السنين عن ورقِ البردي لأقرأ روحَكِ الطاهرةَ وأنصبَ محكمةً إلهيَّةً أبرِّئكِ بها من جزيرتكِ الإغريقيةِ الصغيرةِ لِسبوس إلى العالمِ كلِّه.
مقاطع وصلتنا من قصيدة لساپفو على ورقة بردي (بردية كوبنهاغن) * قلتِ لي: "أنا الصوت النقي" "لكلِّ امرئٍ من اسمِه نصيبٌ – وليَ النصيبُ كلُّه – فمَن أنتِ؟!" قلتُ: "حمدًا وشكرًا – ولا أثني عليه إلا بما أثنى على نفسه من أسماء عالياتٍ، جميلات. لكنني، أمَّاه، أميَّةٌ، لا أعرفُ عن العشقِ إلا اسمَه، وأقتاتُ – كغيري – من فتاتِ موائدِه... فهلاَّ علَّمتِني أبجديتَه؟! ولستُ، كتلميذاتكِ، من طبقةٍ عليا، بيدَ أني أتركُ لِلَهفتي أن تجدَ لي عذرًا." * وكإلهة للشِّعر، تأخذين بيدي، تقرِّبينني إليكِ – فأحسبُ أني ابنتُكِ الوحيدةُ كلِيِس التي قلتِ عنها: "نامي، يا عزيزتي لي ابنةٌ صغيرة تدعى كلِيِس – تلك التي تشبهُ زهرةً ذهبيةً ما كنت لأبدلها مقابلَ مملكةِ كريسوس بكلِّ ما انتثرَ بها من عشق"، وأوصيتِها يومًا: "لا تبكي! فالبيت الذي تُعبَد فيه ربَّاتُ الجمالِ لا يليقُ البكاءُ في جوانبه – هكذا تقررُ شريعةُ الحُسْن"، أو تلميذةٌ محببةٌ تتغزلين بذاتها العالية بصيغةٍ مؤنثة، فيحسبون شِعرَكِ شذوذًا!
"ساپفو" (بريشة غوستاف مورو، 1871) * وكانت النهايةُ موتًا – اخترتِه، أم دُفعتِ إليه؟ – حين نُفِيتِ وحاربتْكِ السلطةُ، فتنتهين فيما يشبهُ الأسطورةَ، ترمين نفسكِ من أعلى صخرة لِفكادا.
"ساپفو على الصخرة" (بريشة غوستاف مورو، 1872) ولستِ من سقراط بعيدةً قبل أن تسقيه اليدُ الجانيةُ ذاتُها السمَّ.
"موت ساپفو" (بريشة غوستاف مورو، 1876) يقول عنك: "الشاعرة الجميلة!" أما تلميذه أفلاطون فيهاجمُ مَن يقولون إن ربَّاتِ الشِّعر تسع: "ألا ما أعظم غباءهم! فليعلموا أن ساپفو، ابنةَ لِسبوس، هي العاشرة!" وسترابون، المؤرِّخ اليوناني الكبير، يرى أن ساپفو "امرأة فذَّة عجيبة!"، بينما صولون الحكيم يقول: "أريد أن أحفظَ أشعارَ ساپفو... ثم أموت!" أما المؤرِّخ المعاصر وِلْ ديورانت، فيرى أن "الشاعر" قديمًا كانت صفةً لهوميروس، أما "الشاعرة" فهي الصفةُ اللصيقةُ بساپفو – فهل أكذِّب هؤلاء الحكماء الإلهيين كلَّهم الذين ألَّفوا الكتبَ عن الفضيلةِ والأخلاق، مهما اختلفت المعاييرُ من عصرٍ لآخر، وأصدِّق الطاغيةَ أرسطوكلِس؟! نفاكِ، وشوَّه قدسيةَ عشقكِ باتهامكِ بحبِّ بناتِ جنسكِ، حارقًا أشعارَكِ التي ضمَّتْها تسعُ مجلداتٍ ومائةٌ وعشرون ألف قصيدة – وذنبُكِ كلُّه أنك رحتِ تغنين حبَّكِ على قيثارةٍ اخترعتِها بأوتارها الواحد والعشرين – ولو لم يكن لديكِ علمٌ بالموسيقى الإلهية وعلمُ العدد، ما اهتديتِ إلى ذلك، ليأتي شِعرُكِ بسيطًا، في غنائيةٍ قلَّ نظيرُها: سيطرةٌ حذرةٌ على العَروض، واستعمالٌ مكثَّف للصفات.
"ساپفو تكتب الشعر": تفصيل من رسم على إناء خزفي (مجموعة غرينجر) * ساپفو... ساپفو... ما أرقَّ قلبكِ ينشد: "على الرغم من أنهن محضُ أنفاسٍ وحسب، لكن الكلماتِ التي أمتلكها خالداتٌ." و: "أعترف أنني عشقت، – ما قد أرهقَ حالي، – وآمنتُ بما للعشقِ من نصيبٍ في تألقِ الشمس وعفَّتِها." *** *** *** |
|
|