الإنسان والمدينة 5

في المُواطِنية وتَبِعَاتها 1

 

أكرم أنطاكي

 

أنا عندي حلم...

مارتن لوثر كنغ

 

1

... وأتفكر في أسطورة قد تلخص الموضوع، فلا أجد أروع من تلك الأسطورة التي وَرَدَتْ ذات يوم على لسان المؤرخ الروماني القديم تيتوس ليفيوس الذي يحدثنا عن مزارع نبيل يُدعى سِنسِناتوس، يقال إنه كان يزرع أرضه عندما جاءه وفدٌ من مجلس الشيوخ ليطلب منه تولِّي قيادة المدينة التي كانت تتعرض لهجوم من أعدائها، وكيف لبَّى سِنسِناتوس نداء الواجب، فتولَّى حكم روما طوال الوقت اللازم لهزيمة أعدائها، ثم – وهذا الأهم – كيف تخلىَّ ، طواعيةً وفي صمت، عن حُكْم المدينة بمجرد أن أدى مهمته، وعاد في هدوء ليكمل حياته العادية والطبيعية في مزرعته.

إنها أسطورة جميلة ومعبِّرة حقًّا، لأنها تعني، أول ما تعنيه، أن المُواطِنية citizenship هي، أولاً وقبل كلِّ شيء، تعلق المُواطِن بمدينته دون أية شروط مسبقة قد ترتبط بمنفعة ذاتية أو بغرض شخصي. وأتفكر أن الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو استلهم هذه الأسطورة بعينها حين وضع فيما بعد أسُس عقده الاجتماعي؛ كما استند إليها أيضًا الفيلسوف والمفكر الفرنسي مونتِسكيو حين تحدث عن روح القوانين، فاستنتج أفضليات النظام الديموقراطي. وأتفكر، أيضًا وأيضًا، أن جورج واشنطن وبنجامين فرانكلين وجميع "السِنسِناتيين"[1]، الذين هم آباء الاستقلال الأمريكي وواضعو دستور الولايات المتحدة الأمريكية، استلهموا هذه الأسطورة بخاصة – ذلك الدستور الذي لم يُمَس منذ إقراره والذي مازال إلى اليوم (سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا) من أرقى الدساتير المدنية في عالمنا المعاصر.

2

لكن، هل المُواطِنية يا ترى هي مجرد ذلك التعلق غير المشروط بالمدينة؟ – "غير مشروط" بمعنى الثبات على هذا التعلق، أية كانت هذه المدينة وأية كانت قوانينها؟! وهل تراها مجرد ما يعنيه و/أو يفترضه ذلك التعلق وحسب، مِن تقيدٍ بالقوانين وبالأنظمة وممارسة للواجب العام، ما قد يجعلها تبدو، للوهلة الأولى، كفعل تقوى، إن لم نقل كمجرد سلوك محافظ، محدود وضيق الأفق، تجاه السلطات والقوانين، أية كانت هذه السلطات وتلك القوانين؟!

لأن المُواطِنية هي، أيضًا وفعلاً، تعلُّق بقوانين المدينة وممارسة لما يفترضه هذا التعلق من واجب عام، كما يحلو لبعضهم الآخر أن يحددها!

والجواب على هذا التساؤل ليس بهذه البساطة. لأن من أول شروط المُواطِنية، ضمن إطار المدينة، هو أن تكون القوانين والأنظمة والسلطات معبِّرة بحق عن المصالح العامة لهذه المدينة وعن إرادتها – وإلا كان هناك انتقاص من تلك المصالح أو من تلك الإرادة أو من كليهما معًا، إن لم نقل تطاولاً على تلك الحقوق من جانب السلطات الحاكمة، عن طريق القوانين التي تسنها والتي تصير، في هذه الحال، غير معبِّرة عن المصلحة العامة.

والأمثلة على أحوال كهذه – مع الأسف! – كثيرة جدًّا في عالمنا، وتحديدًا في مدننا: كأنْ ينصِّب هذا الحاكم أو ذاك، أو أفراد هذه الفئة أو تلك، أنفسهم حكامًا أو قادةً أو زعماءَ مطلقين لمدننا، فيسنون القوانين على هذا الأساس، ويحكمونها بالقوة من هذا المنطلق.

أو كأنْ يُلغى في الواقع حق الانتخاب أو الاقتراع من خلال الحدِّ من حرية الترشيح أو الانتخاب أو تقييدها، ليصير هذا الحق (والواجب المدني civic في الوقت نفسه) مجرد ممارسة كاريكاتورية معروفة النتائج سلفًا!

أو كأنْ تشرَّع قوانين ذات طابع قومي أو عنصري معيَّن، أو تُسَن من منطلق ديني أو عقائدي محدَّد، – حتى لو كان معظم سكان هذه المدينة من قومية بعينها أو عنصر بعينه أو دين بعينه أو مؤيدين لعقيدة بعينها، – لأن هذا الأمر يعني، على أرض الواقع، حرمان الآخرين، على قلَّتهم، من حقوقهم المدنية الأساسية، ما يُعتبَر إخلالاً بتعريف المُواطِنية.

في أحوال كهذه – مع الأسف! – يصير العصيان المدني civil disobedience، على صعوبته، هو الواجب والممارسة الحقيقية للمُواطِنية، وليس القبول بالقوانين المفروضة على المدينة واحترام سلطاتها.

3

وأتفكر أن مفاهيم المدنية وقيمَها قد تطورت على مرِّ العصور، مقرونةً بتطور المجتمعات الإنسانية وتطور البشر. فمفاهيمها أيام سِنسِناتوس، في روما الجمهورية، لم تكن كما هي اليوم في عالمنا المعاصر. ففي أيام سِنسِناتوس، مثلاً، كانت التعددية الفكرية والعقائدية تتجلى – ولنقُلها صراحةً! – بتعدد الآلهة. من هذا المنطلق، كان مواطنو روما، وقبلها مواطنو أثينا، مواطنين متساوين، أيًّا كان الإله الذي يعبدون. ثم زال هذا المفهوم – مع الأسف! – في روما وتوابعها مع انتصار المؤسَّسة المسيحية ورفع لواء الإله الواحد، فانتكست المدنية civism والمُواطِنية، وتحول المُواطِنون في تلك البلاد وفي ذلك الزمان إلى "رعايا" subjects، وبقوا على هذه الحال، كما يحدِّثنا التاريخ، قرونًا عديدة، فلم يتحرروا إلا مع انتصار مفاهيم عصر النهضة، التي كان أهمها ذاك المفهوم الذي أزال وحدانية الفكر والنظرة إلى الألوهة بفهم تعددي مدني جديد، بات اسمه العَلمانية.

فما هي هذه "العَلمانية" يا ترى؟ إنها، كما عرَّف بها في مقالة رائعة المطران غريغوار حداد[2]:

[...] قيمة إنسانية [...] نظرة شاملة إلى العالم، تؤكد استقلالية العالَم ومكوِّناته وأبعاده وقيمه بالنسبة إلى الدين ومكوِّناته وأبعاده وقيمه. وهي علاقة حياد إيجابي تجاه جميع الأديان والإيديولوجيات. [...]

والعَلمانية "شاملة" لأنها تشتمل على:

العَلمانية الشخصية، التي تؤكد قيمة كلِّ إنسان من دون الرجوع إلى معتقده الديني.

والعَلمانية السياسية، التي تؤكد استقلالية الممارسة السياسية عن الانتماء الديني.

والعَلمانية الوظيفية، التي تؤكد استقلالية الوظيفة الحكومية عن الانتماء الطائفي.

والعَلمانية المجتمعية، وهي في المعنى الحصري استقلالية المجتمع المدني، بأفراده وتجمعاته، عن الطوائف، فلا تقبل بفيدرالية طائفية.

العَلمانية المؤسَّسية، وهي استقلالية المؤسَّسات التربوية والصحية والاجتماعية الأخرى عن الطوائف ومجالسها وسلطاتها.

العَلمانية القانونية، أي استقلالية قوانين البلاد عن الشرائع الدينية، من دون التناقض مع ما تعتبره الأديان جوهريًّا.

العَلمانية القيمية، أي استقلالية القيم الإنسانية، كالعدالة والمساواة والديموقراطية والحرية إلخ، عن المصادر الدينية أو اللادينية. [...]

بذلك تصبح العَلمانية، إلى جانب الديموقراطية[3]، العامود الثاني للمُواطِنية والشرط الأساسي لتحقيقها.

4

وأجدني، وأنا أتفكر أخيرًا في واقع مدينتي، أجنح مرة أخرى نحو الحلم ونحو الأسطورة. والأسطورة التي أتفكر بها هذه المرة، والتي تعيدني إلى ما قبل 2300 سنة، تتحدث عن الإسكندر المقدوني (الذي كان تلميذًا لأرسطو) وعن هيئة أركانه. فهي تتحدث عن حوار يقال إنه دار بينه وبينهم عشية اجتياحه وجيشه الصغير الإمبراطوريةَ الفارسية المترامية الأطراف وهزيمة جيشها الجرار، حيث تحدث الإسكندر مع قادته عما لفت نظره من واقع تبجيل الفرس لقادتهم وملوكهم الذين كانوا في نظرهم في مصاف الآلهة:

-       "انظروا كيف يتعاملون مع ملوكهم ويبجلونهم. فلِمَ نحن لسنا كذلك؟!" فيجيبه أحدهم:

-       "لا تخطئ، أيها الإسكندر، ولا تغرنَّك المظاهر. [نحن لسنا كذلك] لأنك بيننا مجرد الأول بين متساوين، ولست – ولن تكون – إلهًا... لأنك، لو كنت إلهًا مثل مليكهم الذي هزمناه، لما كنت منَّا ولا كنَّا منك."

فيُطرِق الإسكندر ويجيبه:

-       أنت على حق...

وأتفكر أنه، منذ ذلك التاريخ، كان ينمو ويتطور في العالم عمومًا، وفي الغرب خصوصًا، مفهوم المُواطِنية – هذا المفهوم الذي نعود اليوم في مدينتنا، وقد واجهْنا ما واجهْنا من تجارب، إلى التفكر فيه بعمق وحنين...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] لأنه في ذلك الحين تشكلت فعلاً في الولايات المتحدة جمعية سرية عُرِفَتْ بـ"السِنسِِناتيون"، وكانت تضم أولئك المثقفين الذين كانوا يناضلون من أجل استقلال بلادهم عن التاج البريطاني.

[2] انظر "مرصد" معابر، تشرين الأول 2005: المطران غريغوار حداد، "العَلمانية تحتضن، لا تهدِّد"، عن النهار، 25 أيلول 2005.

[3] راجع لنا: "الإنسان والمدينة 4: الديموقراطية وتبِعاتها"، افتتاحية معابر لشهر تموز 2005.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود