|
التزامُن والغائيَّة 1 خبرات التزامُن في الحياة اليومية
تتبوأ الخبراتُ "التزامُنية" في حياتنا منزلةً خاصة، وإنِ اكتنفها الغموضُ والسر وحال بيننا وبينها خندقُ الزمن. ومع أن جسر الذاكرة الخؤونة هو صلة وعينا الوحيدة بها، فإنها لا تني تساهم بقسط وافر في صنع حياتنا وتشكيلها، حتى بعد أن تحدث بفترات طويلة. قبل أن نحاول المساهمة في التعريف بمصطلح "التزامُن" synchronicity، فلنبدأ بإيراد رواية شخصية بصيغة المتكلم لخبرة من هذه الخبرات، كما وَرَدَتْ بقلم صاحبتها (استقينا هذه المادة من كتاب فكتور مانسفيلد التزامن والعلم وصناعة النفس[1]). عن الأثمان والدُّرر رويت هذه القصة لأحد أصدقائي. كان يؤمن بأن العفاريت هي المسؤولة عن الأحداث التزامُنية؛ وهو نفسه في الواقع كان يشبه العفريت بعض الشيء! كنت في السادسة أو السابعة من عمري عندما لُقِّنتُ أول درس في الأثمان بمقدوري أن أتذكره: قايضت خاتمي بخاتم بنت أخرى في صف مدرسة الأحد. ومع أن خاتمي كان عبارة عن درَّة حقيقية مركَّبة على حلقة من الذهب، لم أُعِرْه كثير اهتمام وفضلت عليه خاتم صديقتي الأحمر البراق الجميل [...]. عندما عادت كلتانا إلى البيت صُدِم أهلونا. أتذكر قدوم والدَي البنت ووقوفهما بالباب وإمعانهما في الاعتذار، ثم حصول المبادلة الدرامية للخاتمين. كنت، على ما بدا، قد اقترفت إثمًا؛ ولكنْ لم تكن عندي أدنى فكرة عن ماهية إثمي، بما أنني كنت أعدم آنذاك أيَّ تصور عن إجماع الناس على أثمان أشياء معينة. كل ما كنت أعرفه هو أن خاتمها كان أحمر براقًا، وبرأيي أجمل بكثير من خاتمي الأبيض الممل ذي الحلقة الذهبية السميكة. كان للحدث وَقْعٌ هائل علي. لم ألبس الخاتم بعده وأنا بنت صغيرة إلا بضع مرات، محتفظةً به أغلب الوقت في صندوق حِليي، ولم أعد أعبأ به كثيرًا. ارتبطتُ كفتاة راشد في العشرينات من عمري بعلاقة حبٍّ جِدية. ولقد بلغتْ هذه العلاقة نقطة ركود عرفتُ عندها أنه إذا لم تتغير الأمور فلن يُقيَّض لها أن تستمر. يومئذٍ دخل الحلبة رجل آخر. كان أجنبيًّا، غريب الأطوار، جذابًا للغاية. وقد ابتهجت كثيرًا بمتعة التقرب منه، وبدأت أفكر في إمكان التخلِّي عن علاقتي الطويلة الأمد من أجل مغامرة مثيرة. كنت بعد ظهر أحد الأيام أفكر بالمساء الآتي وبموعد محتمَل مع هذا الشخص الجديد؛ وقد تفرغت للمساء، لعل شيئًا يحصل. بدأت أتدبر هذه الإمكانية في نشاط. ترجلت من سيارتي وتناولت محفظتي لأدفع نقود عدَّاد الپاركنغ، فوقع بيدي خاتم اللؤلؤ من طفولتي. حتى الساعة لا أتذكر كيف وصل إلى محفظتي. وأنا أسترد الخاتم، اتضح لي، آنيًّا، أنني إذا تورطت في تلك المغامرة فسوف أقايض درَّتي مرة أخرى بذاك المقلَّد البراق؛ غير أن علاقة ذات معنى كبير سوف تضيع مني هذه المرة إذا فعلت. كنت أعرف في دخيلة نفسي أن الفوائد التي سأجنيها من الإصرار على علاقتي ذات المعنى (مع أنها لم تكن ظاهرة لي تمامًا آنذاك) كانت أثمن بكثير في المآل من فقدانها من أجل هوى لن يدوم. كيف وصل الخاتم إلى هناك؟ لست أدري. لا بدَّ أني ذهبت إلى شقة والديَّ قبل هذا الحدث بوقت ما، فجلبت معي عدة أغراض من ماضيَّ – أو لعلها العفاريت هذه المرة أيضًا! أصبحتْ هذه العِبرة في رؤية ثمن أعمق في الحياة ثيمة متواصلة عندي. فأنا أجد نفسي، على الدوام، في مواقف ينبغي عليَّ أن أتميَّز فيها بريق المظاهر ولمعانها. ويبدو أن تمييز المعاني العميقة للأشياء يتطلب تفكرًا ذاتيًّا باطنيًّا. لقد اعتبرت مرارًا في حياتي بالمعاني العميقة لاختيار الخواتم الحمراء البراقة الزهيدة، فخاب أملي خيبة رهيبة. كان اختبار إخراج خاتم اللؤلؤ بعد خمسة عشر عامًا رسالةً عميقةً لي. أدركت في لحظة الإمساك بالخاتم تلك أنني كنت واقفة عند منعطف في حياتي وأنني لم أعد أستطيع بعدُ أن أكون ساذجة بخصوص الخيار الذي أتخذ. وبالمناسبة، اخترت العلاقة الطويلة الأمد. مادة تزامُنية إضافية: بنى فِكْ مانسفيلد برنامج كمپيوتر يستعمل مولِّد أعداد عشوائية لاختيار مقطع في جملة آلاف من المقاطع من كتاب پول برَنتون الإلهام والذات المستعلية اختيارًا "عشوائيًّا"؛ والبرنامج موضوع بحيث إن كمپيوتري، كلما أقلع، يظهر على الشاشة مقطعٌ مختار عشوائيًّا. وأنا أشعل الكمپيوتر لإتمام تحرير قصتي التزامُنية هذه، ظهر على الشاشة المقطعُ التالي: يـا دُرَّةً بيضـاءَ لاهـوتـيَّـةً قد ضُمِّنَتْ صَدَفًا من النَّاسُـوتِ جَهِلَ الخلائِقُ قَدْرَها لِشَقَـائهِمُ وتَنَـافَسوا في الدرِّ والياقُـوتِ[2] محيي الدين بن عربي * * * في خبرة التزامن التي عاشتها هذه المرأة والتي أحدثتْ فيها التحولَ المذكور، ترتبط الحالةُ النفسانية الداخلية (المأزق العشقي) ارتباطًا ذا مغزى بالواقعة الموضوعية الخارجية (العثور على الخاتم)، من دون أن تتسبب الحالةُ الداخلية في الواقعة الخارجية – والعكس بالعكس. وهنا، على غرار يونغ[3]، نستعمل هنا كلمة "سبب" بالمعنى الاصطلاحي لشيء معيَّن يُحدِثُ تغييرًا في شيء آخر معيَّن، أو يحرِّض مثل هذا التغيير، عبر تبادُل للطاقة أو للمعلومات: [...] لذا يعني التزامن حصولَ حالة نفسية معينة في آنٍ واحد مع حَدَثٍ أو عدة حوادث خارجية تبدو كمتوازياتٍ ذات مغزى للحالة الذاتية اللحظية – والعكس بالعكس في بعض الحالات.[4] يتضح من مثالنا أن الحالة النفسانية والعثور على الخاتم مترابطان ترابُطًا ذا مغزى؛ لكن الحالة النفسانية لم تتسبب في ظهور الخاتم، ولا العكس قد حصل. لقد أطلق يونغ على مثل هذه التلازُمات المترابطة "اللاسببية" acausal بين الوقائع الداخلية والخارجية صفة التزامن، وميِّز بينها وبين "التواقُت" synchronism الذي يعني مجرَّد وقوع أمرين في وقت واحد. ومع أن "نظرية العفريت" في التزامن تُذكَر غالبًا على سبيل الهزل، فهي تعليل سببي نموذجي نلجأ إليه عندما نيأس من إيجاد تعليل "منطقي" مقبول لهذه الخبرات الخارجة عن المألوف: نتصور كيانات "شبحية" تنقل الأشياء، كالخواتم، بحيث تكون لها علاقة ذات مغزى بحالتنا النفسانية الداخلية. العفاريت في الواقع عوامل سببية خفية؛ لكن هذه النظرة السببية، التي يؤثر فيها شيءٌ ما على شيء آخر تأثيرًا مباشرًا، عِبْر صلة مادية أو طاقية ما، لا تتوافق مع اللاسببية التي اعتقد يونغ أنها علامة فارقة للتزامن. ولما كنا مقيَّدين بالسببية من حيث لا نعي، فإننا نتمرد على قول يونغ بعلاقة معنوية لاسببية في التزامن تصل ما بين الأحداث الداخلية والخارجية. وبما أنه لا توجد علاقة طاقية أو مادية بين هذه الأحداث، أي لا يوجد ارتباط سببي، يبدو كأنما لا توجد علاقة أصلاً. وهنا يطرح التزامن تحدِّيه الأول لنظرتنا العادية المألوفة إلى العالم.[5] أما إذا كنَّا، مع يونغ، نأخذ بفرضية أن المعنى (المتعالي) الواحد نفسه يتجلَّى في النفس البشرية وفي ترتيب حَدَثٍ خارجيٍّ ومستقلٍّ في آنٍ معًا، ندخل فورًا في نزاع مع الآراء العلمية والإپستمولوجية التقليدية[6]، فحتى إذا حلَّلنا الحوادث الجارية اعتمادًا على هذه الآراء التقليدية، قد نذعن في سهولة لأن نعزو – خطأً – قوةً سببية لفكرة أن مبدأ أو "فطنة" غير مادية هي التي تتسبب في خبرتنا التزامُنية: قد يتبادر إلى أذهاننا، مثلاً، أن اللاوعي هو وحده الذي يتسبب في الخبرات التزامُنية – فالمعتقدات القديمة الراسخة لا تتزعزع في سهولة.[7] من جانب آخر، يجب أن يكون هناك قطعًا حدثٌ خارجي أو موضوعي يتلازم تلازُمًا ذا مغزى مع حالة نفسانية داخلية حتى نصف هذا الحدث بالتزامن؛ فمهما كان مبلغ هَوْل الخبرة الداخلية، إذا لم تكن مرتبطة لاسببيًّا بحدث خارجي فهي ليست من قبيل التزامن. في مثال الخاتم، عبَّر الارتباط ذو المغزى بين الحالة النفسانية الداخلية والواقعة الخارجية عن قصد واضح، عن حضٍّ من اللاوعي يمكن استشفافه. لقد اعتبرت المرأة، عن طريق التزامن، بعِبرة عميقة عن "الأثمان" على مستويين اثنين: عِبرة على المستوى بين الأشخاص البيِّن، – بين الشخصين المتحابَّين في هذه الحالة، – وعلى مستوى أعمق، عِبرة عن تثمين علاقتنا بالمبدأ الأسمى فينا تثمينًا سليمًا. والعِبرتان كلتاهما تمثِّل للنموذج البدئي archetype للثمن، وكلتاهما تستعمل رمزية الدرَّة. إن بيتَي ابن عربي اللذين ظهرا نتيجة عملية الاختيار "العشوائي" لدى إقلاع الكمپيوتر يطرحان مسألة "الثمن" على أعلى المستويات: فقد وَرَدَ في البيتين مصطلحُ "الدرة البيضاء" الذي يرمز إلى الروح أو "العقل الأول" الذي يحل "شعاع" منه في الكيان البشري: "قد ضُمِّنَتْ صَدَفًا من الناسوت"؛ وإن جهلنا لـ"قَدْر الدرَّة اللاهوتية" أو ثمنها يجعلنا، في أغلب الأحيان، نستغلي الخساسة و"نتنافس في الدرِّ والياقوت"، فنكون "كالتاجر الذي باع ياقوتةً ثمينة بخرزة لا تساوي شيئًا"[8]! حتى نفهم الدور النقدي للمعنى في التزامن، ينبغي لنا أن ندرك كيف استعمل يونغ المصطلح ورَبَطَه بمفهوم "التفردُن" individuation، أو التحقق الفردي، الذي يشكل من المذهب اليونغي محورَه، علَّنا عندئذٍ نستطيع أن نقدِّر لماذا تتمتع هذه الخبرات بهذه السطوة علينا، حتى بعد وقوعها بفترة طويلة، ولماذا تتحدى عددًا من معتقداتنا العزيزة عن علاقتنا بالعالم. التفردُن والمعنى إن العالم المرئي، عالم الأشكال والصور والمضامين المعلومة والمشاعر والأفكار والرغبات، – ما يسمِّيه يونغ "نطاق الواعية" the sphere of consciousness، – لا يشكل إلا جزءًا صغيرًا من النفس التامة. فالوعي مغلَّف بمكوِّن غير مرئي، أوسع منه بما لا يقاس، هو اللاوعي أو "الخافية" unconscious. والقسم الواعي من النفس أشبه ما يكون بجزيرة بركانية ضئيلة ناتئة من قعر المحيط ومحاطة بامتداد شاسع من الماء، يهدد في بعض الأحيان، شأنه شأن الخافية، بإغراق مخلوقه. إن تطورنا النفساني، بنظر يونغ، يتعين إلى حدٍّ كبير بالمكوِّن غير المرئي للنفس (الخافية). ومع ذلك، فإن القسم الواعي منها يلعب دورًا نقديًّا حاسمًا في حياتنا، لأن الخافية كثيرًا ما تستجيب له. وعلى الرغم من أننا نُستهلَك كثيرًا باهتمامنا بالوعي الأنوي (وعي الأنا)، فقد بيَّن علم نفس الأعماق في وضوح أن المظهر المظلم، غير المرئي، للنفس – أي الخافية – يتفتق عن حكمة عميقة في توجيه تطورنا وجهتَه الصحيحة. فمع أن الخافية، بطبيعتها نفسها، لا يمكن لها أن تُعرَف معرفةً مباشرة، بمقدورنا أن نتعرف إليها تعرفًا غير مباشر عن طريق تقفي آثارها القابلة للرصد على شاشة الوعي. والتفاعل بين الخافية والواعية تفاعُل قائم في المقام الأول على التعويض اللاواعي – أي على ما عبَّر عنه يونغ بالتنظيم الذاتي self-regulation للنفس. مثال على التعويض اللاواعي سنحاول إيضاح فكرة التعويض اللاواعي باستعمال مثال استقيناه من كتاب فكتور مانسفيلد في التزامن أيضًا. والقصة تدور حول الأحذية[9]. بما أن الأحلام الهامة جدًّا تعويضات عن الوضع الواعي الآني واستجابات له، فمن الضروري دومًا معرفةُ الخلفية الواعية لحلم معطى. وعلاوة على ذلك، إذا شئنا فهم الصور الأحلامية فهمًا رمزيًّا، علينا أن نحيط كذلك بتداعيات الحالِم وبعلاقته الشخصية بالصور الأحلامية التي يراها. إن الرموز، على كونها قلما تظهر بالوضوح الذي ظهرت به في حلم فكتور مانسفيلد الذي سوف نورِده، هي أفضل التعبيرات الممكنة عن محتوى مجهول، يلتمس التعبير أو الكشف عن نفسه للواعية. إن معنى هذه الرموز لا يقبل التجميد أبدًا، بل يتوقف على تداعيات الحالِم وتاريخه معها. والتداعيات الشخصية في حالة الأحلام النموذجية البدئية archetypal dreams بحق (أي التي تتجلَّى من خلالها "الخافية الجامعة" collective unconscious) غالبًا ما تكون ناقصة أو غير مناسبة؛ وعندئذٍ لا بدَّ من القيام بـ"التوسيع" amplification الميثولوجي والثقافي الضروري.[10] بيد أننا مضطرون في هذا المثال إلى إيراد شيء عن الخلفية التاريخية للشخص المعني، لنبين كيفية قيام الخافية بتعويضه وسعيها إلى موازنة الموقف الواعي من أجل ضبط النمو. أقلعتْ دراستي العليا في الفيزياء والفلك إقلاعًا قويًّا في كورنيل، لكن نفسي كانت تواقة إلى ضروب أخرى من النمو. وبعد عدة انتفاضات، غادرتُ مدرسة الدراسات العليا وأنا في غمرة التحضير لرسالة دكتوراه. ثم جعلني انغماسٌ محموم في مدارس متنوعة من علم النفس والعملُ في قسم تجريبي في مصحة عقلية شديدة التأثر بعلم النفس اليونغي أغوص عميقًا في الخافية. لقد كان الأمر تنقيبًا مبهجًا كاد أن يحوِّلني من عنصر من عناصر الطاقم العلاجي إلى مريض في المصحة؛ فكانت حيازتي لمفاتيح أبواب القسم، في أغلب الأحيان، هي كل ما يميِّزني عن المرضى! عدت في مآل الأمر لإنهاء الدكتوراه، لكن الدرب لم تكن سلسة. لقد انتُزِعتُ بطرق عدة في آنٍ معًا، فصعُب عليَّ أن أباشر الدراسة العليا من جديد. إذ كثيرًا ما شعرت بأني في غير محلِّي وغير أهل لمنحتي السخية. ولقد بلغت الأمور من السوء حدًّا جعلني ذات يوم، عندما كان الأستاذ المشرف عليَّ مقبلاً نحوي في الردهة، أزيغ في كنيف الرجال لأتحاشاه. ما كنت أريد أن أعترف بأني لم أتقدم إلا تقدمًا ضئيلاً منذ آخر مرة رأيتُه فيها. وأنا قابع في الكنيف، منتظرًا مرور المشرف عليَّ، حاولت أن أقرِّر فيما إذا كانت نفسي أم دراستي العليا على أسوأ حال. غير أن الأمور سرعان ما انقلبتْ، وأنجزتُ الدكتوراه أخيرًا على أحسن ما يرام. في أثناء ضعف حالي، ابتعتُ زوجَي حذاء إيطالي دارج الطراز. كانا بعلوِّ الكاحل، مدبَّبي الطرفين، عاليَي الكعب قليلاً، وشديدَي اللمعان. لقد جعلني لبسُ هذا الحذاء الأنيق أحس كما لو كنت دكتورًا فحلاً، ولست معصوبًا مقصِّرًا، يزوغ في كنيف الرجال ليتحاشى الناس! وقبل أن يبلى سطح الحذاء كثيرًا، وُلِّيتُ وظيفةَ أستاذ دائم في جامعة كولغيت. كان بحثي يمضي قُدُمًا في سلاسة، وكان تدريسي ناجحًا، وبدا أن الجميع كانوا مسرورين منِّي؛ وحتى تأملي لاح وكأنه يتعمق. فكرت وبي الكثير من الرضا: "بهذا المعدَّل سأصير رئيسًا للجامعة خلال بضع سنوات!" إبان تلك الفترة، هتف إليَّ شخصٌ عدواني جدًّا ليقارعني، لكنِّي كنت أستحم. كنت أعلم أن المقارعة ستكون صعبة، فقفزت خارج الحمَّام واستعددت مازحًا بلبس "حذاء قوتي"! وقفت هناك عاريًا، إلا من حذائي، وحاججت بقوة على الهاتف، بينما زوجتي ماسكة جنبيها تضحك. ثم طرأ عليَّ الحلم التالي: كنت في زيارة لمصحة عقلية، فلحظت عدة أشخاص عميقي الاختلال حول محيط الغرفة. ثم شرعت في مناقشة حادة مع خنزير وقف منتصبًا على قائمتيه الخلفيتين، مرتديًا بذلة أنيقة من ثلاث قطع. كنت مذهولاً، إنما بدا لي مهمًّا أن أصانعه وأواصل المناقشة. لقد تبجَّح بكونه من جبابرة الروح، بنسبة ذكاء 110 وشعبية بين النساء لا نظير لها. أصغيت إليه متأدبًا وفحصتُه فحصًا دقيقًا: لحظت ربطة عنقه المعقودة بدقة وقَصَّة بذلته المُعتنى بها. تبع بصري ساقيه نزولاً، فلحظت مندهشًا أن حافريه المشقوقين كانا واقفين في زوجي حذائي الأثير! استيقظت ضاحكًا من هذا الحلم السارِّ، فاهمًا المقصود منه على الفور. لقد كان الوخزة الضرورية لتفجير انتفاخي النفساني وتقديري العديم الواقعية تمامًا لكفاءاتي. قبل هذه التجربة بوقت طويل، كنت تعلَّمت التأويل الذاتي للأحلام، حيث يُرى كلُّ عنصر من عناصر الحلم كإسقاط أو تشخيص لبنياناتنا النفسانية في حينه.[11] كل مظهر من مظاهر الحلم هو رمز إلى مظهر من مظاهر شخصيتي وأحسن تعبير ممكن عنه. كان أمرًا لا مفرَّ منه؛ إذ كان ذلك الحلم البسيط، لكنْ القوي، يقدم تصحيحًا أنا في أمس الحاجة إليه لوضعي النفساني غير المتوازن. بوسعك أن تتخيل ما سوف يكون عليه جوابي لو أن زوجتي قالت: "أنت في حاجة إلى تقدير أكثر واقعية لنفسك. فأنت منتفخ وخنزير دَعِيٌّ!" في أحسن الأحوال، سأستاء وأتخذ موقع الدفاع. غير أن الخافية حاصرتْني بهذا الخنزير غير المعقول للتعبير عن حقيقة نفسانية غير مداهِنة عن نفسي. يقول يونغ في هذا الصدد: كلما أمعن موقفُ المرء الواعي في أحادية الجانب، ازداد انحرافًا عن الأمثل وعَظُمتْ إمكانيةُ ظهور أحلام ناطقة ذات مضمون مغاير بقوة، لكنه مقصود، كتعبير عن الانتظام الذاتي للنفس.[12] جدير بالذكر أن مانسفيلد، بعد رؤيته لذلك الحلم، انصرف اهتمامُه عما بات يسميه "حذاء الخنزير" ولم يعد بمقدوره أن يلبسه من جديد! التعويض اللاواعي كأساس للتفردُن استعمل يونغ مرارًا استعارةً بيولوجية في وصف التعويض اللاواعي unconscious compensation، قائلاً عنه إنه المكافئ النفساني لنزوع الجسم إلى تصحيح ذاته، شأنه شأن الحمَّى أو تقيح جرح ملوث. غير أن التعويض ينطوي على أكثر بكثير من مجرد السعي إلى التوازن النفساني: فالسعي إلى التوازن وحده يمكن له أن يكون وصفة ناجعة لعلاج السأم والركود، لكنه ليس بالضرورة مناسَبةً للنضج والنمو. عوضًا عن ذلك، وجد يونغ، عندما تفحَّص سلاسل طويلة من الأحلام، أن بالوسع تمييز نموذج إجمالي، مسيرة قصدية، غائية[13]، تفصح عن نفسها تدريجيًّا في حياة الحالِم. فالخافية، عبر سلسلة من التعويضات المحددة، تقود الشخص على طول مسارٍ يتفرد فيه، أي يصبح "فردًا" غير منقسم. إننا، عِبْر فهمنا الرمزي لأحلامنا وهواماتنا fantasies واستجاباتنا الانفعالية للعالم الداخلي والخارجي، نكتشف هذه السيرورة الدينامية، فنجتهد في التعاون معها وفي مُسايرتها. فبهذه الطريقة يرشد ذلك القسم الشاسع من النفس، غير القابل للعلم مباشرة (الخافية)، كلَّ شخص إلى التحقق بتعبيره الخاص عن الكلِّية Totality، عن هويته الفريدة، التي هي تعبير عن "الشعاع الإلهي" فيه: "الذات" (بالألمانية: das Selbst). بالطبع، ليس كل تعويض "تنفيسًا"، كما هي الحال في مثال مانسفيلد. فالتعويض اللاواعي يتخذ أشكالاً متنوعة للغاية: إذ يمكن أن يتراوح بين إسعاف أنا معذَّبة وبين إلقاء ضوء جديد على موقف نفساني قديم مستعصٍ. وشكل التعويض يتعين، في آنٍ معًا، بالحاجات الآنية وبالقصد البعيد الأمد للخافية: سيرورة التفردُن individuation process. النموذج البدئي للذات هو الفطنة معبِّرةً عن نفسها في سيرورة التفردُن. إنه، شأنه شأن كلِّ نموذج بدئي كلِّي، يزود النفس بمفاصل المعنى وينابيع الفعل. وبالإضافة إلى هَيْكَلَة معنانا الأعمق وسلوكنا، تعلِّل النماذجُ البدئية التشابهاتِ البنيويةَ التفصيلية الواردة في الأساطير وقصص الجن في العالم أجمع. والذات، بنظر يونغ، هي أصلاً النموذج البدئي للمعنى؛ ومعناها تتخلَّله عادةً مشاعر قدسية مروِّعة. إن التفعيل الواعي لغاية الذات من الحياة، والتعبير عنها، هو ما دعاه يونغ بـ"سيرورة التفردُن" – خيرنا الأسمى. التحقق بالخبرة من وجود فطنة أسمى من الأنية ego ومن إرادتنا الشخصية، من شأنها أن ترشد نموَّنا، هو من أعظم أفراح التفتح الداخلي. إنه، كما يقول مانسفيلد، "المكافئ النفساني للثورة الكوپرنيكية"[14]: تحل الذاتُ محلَّ الأنا كمركز للحياة النفسية مثلما حلَّتِ الشمسُ في النموذج الكوپرنيكي محلَّ الأرض كمركز للعالم. وفي هذه "الثورة النفسانية" لا ننظر عِبْر تلسكوپ غاليليو لنشاهد أطوار الزهرة أو أقمار المشتري؛ إننا، بدلاً من ذلك، نتعلم المنهج الرمزي و"ننقب في أغوار نفسنا"[15]، لنكتشف هناك آثار الذات: بواعثَها، إشاراتِها، وأحيانًا أوامرَها القاهرة. أي ارتياح وإلهام لنا أن نعلم بأننا مقودون بحكمة أعظم من دافع أنيَّتنا إلى تضخيم ذاتها! ففي كلِّ مرة نتواصل فيها مع تلك القيادة، مع تلك "الذات"، بوصفها النموذج البدئي للمعنى، نتجدد ونستمد إلهامًا وقوة، فنمضي قُدُمًا نحو كلِّيتنا الفريدة. ومع أن العديد من التعويضات اللاواعية يُحبِط رغباتِنا الشخصية، فإننا كلما اختبرنا تلك السيرورة تَشدَّد إيمانُنا بمعنى الحياة وغايتها. بهذه الطريقة يتحرك النضج الداخلي ويخطو نحو التحول الروحي. إن اعتبار النموذج البدئي للذات فطنةً أو معنى غائيًّا، يعبِّر عن نفسه في تفتح "رؤيا" ما هو مقدَّر لنا أن نكونه، لهو فكرة ثورية بحق. وفقط عندما نسعى إلى استيعاء هذه السيرورة وننخرط جِديًّا في تحقيق رؤيا كلِّيتنا الممكنة وفي جعلها واقعًا ملموسًا في حياتنا، تصير هذه السيرورة "سيرورة تفردُن" بحق. إن تفعيل سيرورة التفردُن وإعمالَها في حياتنا هو، بنظر يونغ، الغاية الأسمى للحياة الإنسانية. فعلى الأنا أن تقيم حوارًا مع هذه الحكمة أو هذا المعنى القديم، مع "شعاع الإله" فينا (الذات)، وتحقق واعيةً رؤيا كلِّيتها في نشاطاتنا اليومية. ذلكم هو "تدبير الإكسير الأعظم"[16] الكيميائي الذي يصيِّر معدن نفسنا المشوب الخسيس إلى ذهب روحي – "التدبير" الذي أعْلَتْ من شأنه منقولاتُ العالم الروحية وأساطيره قاطبة. إن الحالة التي سوف نورِدها فيما يلي تمثل تمثيلاً دراميًّا لفصل من فصول من هذه السيرورة. كلمة "معنى"، بالطبع، كلمة مطاطة، وهي غالبًا ما تنطوي على مكوِّن ذاتي أو شخصي. ولعله من المقدر لنا أن نكابد معظم ألوان العذاب والمشقة إذا استطعنا أن ندرك معناها، أي إذا استطعنا، بكيفية ما، أن نربط بين الألم وبين مغزى أعمق؛ بينما، من جانب آخر، يمكن لحياة مريحة من الخارج أن تكون بؤسًا لا يطاق إذا أعوزها المعنى المناسب. لذا ترتبط مفاهيم المعنى والتفردُن والتزامن عند يونغ ارتباطًا وثيقًا للغاية. من المهم هنا أن نشدِّد على أن "المعنى" الذي يفصح عن نفسه في سيرورة التفردُن ليس مِن بناء أنانا – شخصيتنا التجريبية الخارجية – أو من ابتكارها. أجل، إن لهذا المعنى مظهرًا شخصيًّا لأنه وثيق الصلة بأنانا ومحمَّل بمعنى شخصي إلى أقصى حد؛ لكن المعنى المعبِّر عن الذات، عن الفطنة العبرشخصية transpersonal المتجلِّية من خلال التعويض اللاواعي، ليست من صنع الأنا. ليس في مقدور الأنا أن تعوِّض نفسَها لأن الأنا في حاجة إلى المعنى المعاوِض، وليس إلى مصدره، من حيث إنها هي التي تتكبد اقتحام معنى الذات ومتطلباتها لنطاقها المحدود. صحيح أن المعنى الخاص في تعويض غير واعٍ يُجيَّر تجييرًا حاذقًا لصالح نموِّنا ونضجنا الشخصيين، وأن علينا نحن، بوصفنا أفرادًا كادحين غير معصومين، أن نرسِّخ المعنى في حياتنا اليومية ترسيخًا ملموسًا؛ صحيح كذلك أن أنانا، شأنها شأن أيِّ إفصاح آخر عن الخافية، قد تحرِّف معنى التعويض اللاواعي أو تشوِّهه – لكن المعنى نفسه ليس مِن صنعنا نحن، ولا هو بتلبية لرغبة من رغباتنا الدفينة (فرويد). إن استمرارنا في اعتبار المعنى وظيفةً من وظائف رغبات الأنا أو متطلباتها أشبه ما يكون باستمرارنا في اعتبار الأرض مركز الكون! فكما يقول يونغ: إذ إنك لا تشعر بنفسك على الطريق الصحيح إلا يوم يبدو لك أن النزاعات الدائرة فيك حول الولاء قد انحلت، وأصبحتَ ضحية قرار اتخذتَه غصبًا عن رأسك أو عصيانًا لقلبك. من هذا في مقدورنا أن نرى السلطان القاهر للذات، الذي يكاد اختبارُه يتعذر بأية وسيلة أخرى. ولهذا السبب فإن اختبار الذات هو دومًا هزيمة للأنا.[17] نترك الكلام الآن لفكتور مانسفيلد: لأم الجراح القديمة حدث هذا قبل 25 عامًا [من صدور كتابه]، بعد ولادة أول أبنائي بأربعة أسابيع. كنت طالب دراسات عليا في التاسعة والعشرين من عمري، أحيا في بيت ريفي جميل على ضفاف بحيرة كايوغا. كنت وزوجتي نتنعم بكوننا والدين، وابننا المولود الجديد المعافى يرضع بنهم، وأوراق الأشجار المتساقطة تتأرجح من حولنا بألوان نابضة. في ليلتين متتاليتين حلمت حلمين متماثلين عن والدي. لم أكن قد حلمت من قبل بأبي السكير، ولم أحلم به مذ ذاك. كان قد تركنا وأنا بعدُ طفل، ولم يكن على اتصال يُذكَر بي. ربَّتْني أمي بمحبة بمفردها، ثم تزوجتْ من جديد وأنا في الواحدة والعشرين. كان أبي بنظر أمي هو الشر مجسَّدًا. كانت تقول لي أحيانًا عندما يبلغ غضبُها مني أوْجَه بسبب تصرف سيء: "أنت سر أبيك!" كانت هذه العبارة هي السلاح النووي في ترسانة لعناتها! كلا الحلمين الناطقين عن أبي صوَّرَه طيبًا. في كلا الحلمين أخبرني أنه شخص حساس وشاعري، تعذَّر عليه أن يعيش مع أمي المتصلِّبةِ الرأي العدوانية. زَعَمَ أن الذنب لم يكن ذنبه عندما غادر. استغربت للحلمين، ولاسيما أنهما كانا على هذا القَدْر من التشابه. عزوتُهما إلى كوني صرت لتوي أبًا، لكنهما ظلا غامضين. في اليوم التالي للحلم الثاني، هتف إلي عمي. كانت هذه صدمة حقيقية، إذ كانت صلتي مقطوعة بأسرة والدي منذ خمسة عشر عامًا. أخبرني عمي أن أبي يحتضر في [أحد مستشفيات] واشنطن دي.سي. وأن عليَّ أن أذهب وأعوده. انقذفتِ الكلماتُ من فمي فورًا: "أكان سيأتي لرؤيتي لو كنت أحتضر؟" قلت لعمي بأني لم أكن مهتمًا لزيارة أبي بعد هذه السنين كلِّها، وقطعت المكالمة. غلَّفني الحنق والمرارة والإشفاق على نفسي كبخار حي. أين كان عندما كنت في حاجة إليه؟ كيف جرى أني اضطررت إلى اصطحاب خالي إلى مأدبة الأب والابن عندما نلت ثناءً على بلائي في كرة القدم في المدرسة الثانوية؟ كيف جرى أن أقوى ذكرياتي عن والدي كانت عن تعثره في شقة والدتي وإقيائه الانفجاري على جدران الحمام كلِّها؟ اشتباكات شرسة بين أبي وأمي، وجهان مخموشان، وأنا واقف هناك يشلني الرعب صائحًا: "ماما، سآتيك بشاكوشي لتضربيه!" هذا كله انهال علي. ذلك النغل النتن! لا، فقد جعلني نغلاً! لقد سلبني طفولة سوية. حتى إنه امتنع عن دفع نفقة الدولارات الأسبوعية الخمسة التي حكمتْ بها محكمةُ الطلاق. حسبه أن يزوره في المستشفى أخي نصف الشقيق الذي لم ألتقِ به قط والذي أنجبه وأمِّي في عصمته. كم كان محرجًا أن يحقق معنا موظفو الرخاء ليتأكدوا من أن أمي وأنا كنَّا مستحقَّين للمعونة. بعد تلك السنوات كلِّها التي قلت فيها للناس إن أبي مات في الحرب العالمية الثانية، كتب ذلك المتسكع الغبي إلى المدرسة الحربية يسأل عما إذا كنت أؤدي فروضي العسكرية على الوجه الأكمل. لم يكلِّف نفسه قط مشقة كتابة بطاقة معايدة للميلاد! كيف خذلني إلى هذا الحد؟ ليمت ابن الكلبة وحده كما يستحق! سرحتُ طوال ذلك اليوم الخريفي الجميل ودموع ساخنة تترقرق على وجهي، متقلبًا بين المرارة والحزن. ثم، بالتدريج، تساءلتُ عما إذا كان ينبغي أن أراه على الرغم من كلِّ شيء. بدأت أفكر كم سيكون من الخير أن أخبره بأنه صار جَدًّا. كنت حائرًا فيما سأفعل. استعرتِ المعركة فيَّ. كنت أقرأ شيئًا من يونغ وأختبر استعمال الـيي تشنغ[18]. استشرتُ الكتاب يائسًا، فظهر مسدس الخطوط "تجمُّع". وقد جاء في التأويل: "الأسرة تتجمَّع حول الأب كرأس لها." بُهِتُّ! مسدس الخطوط، بالإضافة إلى الحلمين، قررا الأمرَ عني. أدركت أن ثمة شيئًا ما يفعل أكبر من مجرد غضبي وإشفاقي على نفسي. اندسسنا جميعًا في سيارتي الصغيرة وتوجهنا في حزن إلى واشنطن دي.سي. سألتْني ممرضة العناية الفائقة إن كان هذا الرجل أبي. اعترفت محرَجًا: "لا أدري." ذلك الرجل الرمادي الذي تجري الأنابيب في رأسه كان في الواقع أبي. أخبرتُه مَن أنا وأنه صار جَدًّا. قال: "عندما أتحسن، سأعوِّضك عما فات." لقد كان دومًا يبيع وعود سكير لم يستطع أن يفي بها قط – حتى النهاية. بكيت من أجله، من أجلي، من أجل أمي، من أجل الأسرة التي لم تكن أسرة أبدًا. مسحت الدم النازَّ من فمه. شعرت به يتوجع وراقبت مرارتي وإشفاقي على نفسي ينحلان في الحزن علينا جميعًا. ودَّعتُه دامع العينين، ولم أرَه بعد ذلك قط. مات بعد زيارتي ببضعة أيام. لكني لم أشعر بعدئذٍ البتة بتلك المرارة والغضب نحوه – مع أن تلك الجراح ما تزال تنزف قليلاً. في الليلة التي تَلَتْ زيارةَ المستشفى تلك، حلمتُ بسيارة سوداء جميلة قديمة من الثلاثينيات تحملني صعودًا على طول مجرى نهر خلف بيت جدِّي لأمي. ومع أني لم أستخلص من هذا الحلم القصير معنى، شعرت بارتياح حياله. كنت أتذكر الشعور دائمًا وأتساءل عما يعنيه. بعد ذلك بعشرين سنة، بين نصف دزينة الصور التي يظهر فيها أبي، رأيت تلك السيارة السوداء الجميلة. كنت رأيت تلك الصورة بضع مرات وأنا طفل. كان أبي واقفًا أمامها ورجلُه اليسرى على الرفرف وأنا على ذراعه. شاب وسيم، بدا محيَّاه باشًّا بالفخر والحنوِّ عليَّ – وربما ساوَرَه شيء من القلق حيال مسؤولياته المقبلة. هذه هي الصورة الوحيدة التي بحوزتي لي ولأبي. ماذا يعني هذا كله؟ بالتأكيد كان يجب التغلب على مرارتي بخصوص أبي، من أجلي ومن أجل أسرتي. فمع أن حياتي كانت طيبة، كانت عقدةٌ قاسية من السخط والكره والخجل تسمِّمني؛ فكان ينبغي لها أن تنحل. هناك بُعد آخر أيضًا: عِبْر الحاجة الماسة إلى الاتكال على النفس، ودرءًا لألمي وهشاشتي، ابتنيتُ درعًا حقيقية من حولي. مع الوقت، كانت جراح طفولتي قد تماثلتْ للشفاء، إنما على حساب احتشادٍ كثيفٍ لنسيج ندبيٍّ متصلب، نوع من القوقعة الواقية. وقد نُكِئَتِ الجراحُ من جديد وتصدعتِ الدرعُ باختبار مباشر لفقداني وعذاب أبي. وبفضل تحضير الحلمين وحضِّ الـيي تشنغ، أمكن للجراح أن تلتئم تمامًا بنسيج ندبي أقل صلابة. إن أعجب ما في الدرع أنها تقيك أذى العالم الخارجي، لكنها تحول أيضًا بينك وبين التعبير عن الكثير من الحنان أو السماح للعالم بالدخول. إنها إجمالاً عبء باهظ على صاحبها. جعلتْني التجربة بالطبع أتساءل عن علاقتي بالعالم. ماذا فيَّ كان "يعلم" أن والدي يحتضر؟ ماذا كان يعلم أن مرارتي المتدرِّعة في حاجة إلى تلطيف عِبْر هذين الحلمين الخارقين عن أبي؟ كيف أمكن لقطع نقدية مرمية "عشوائيًّا" أن ترتبط بهذا المقدار من المغزى بحالتي النفسانية آنذاك؟ ليست لديَّ إلا إجابات جزئية عن هذه الأسئلة – والأسئلة لن تبرحني. عندما كلَّمتُ معلِّمي [...] عن هذه الخبرة، اكتفى بالقول: "ما لم نتعلَّم أن نغفر للآخرين لن نغفر لأنفسنا أبدًا." ولعل هذه هي أفضل العِبَر. * * * يبيِّن هذان المثالان أن خبرات التزامن تتمحور دائمًا حول معنى حاسم، وثيق الارتباط بتفردُن الشخص المعنيِّ في تلك اللحظة؛ وغالبًا ما تسبقها فترةُ انفعال شديد، تبلغ ذروتَها في انكشافٍ للمعنى مذهلٍ فيما يخص تفردُن ذلك الشخص. قصتا "الأثمان والدرر" و"لأم الجراح القديمة" كلتاهما نقطة علام واضحة، بؤرتان في سيرورة التفردُن. ومن دون رَبْط هذه الأحداث بـ"سيرورة صناعة النفس"، كما يسمِّيها فكتور مانسفيلد، تبقى مقتصرةً على كونها تجارب شاذة عن العادة، ليس إلا؛ في حين أنها تكشفات للذات في كلا العالمين الداخلي والخارجي – تكشفات من شأنها، إذا استوعيناها، أن تحوِّلنا إلى الأبد. *** [1] Victor Mansfield, Synchronicity, Science, and Soulmaking, Open Court Publishing, Peru, Ill., 1995. [2] د. سعاد الحكيم، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، دندرة، بيروت، 1981، مادة "الدرَّة البيضاء"، ص 459، هامش 1. جدير بالذكر أن "الدرة البيضاء"، على حدِّ اصطلاح مذهب ابن عربي، هي "العقل الأول"؛ والمقصود منها في هذين البيتين شعاعُ العقل الإلهي المقذوف في الكائن البشري والمرموز إليه بالصَّدَفة. [3] من أجل تتبع معاني المصطلحات اليونغية الواردة في هذا البحث، نحيل القارئ على دراستنا "نداء الأعماق: مدخل إلى علم النفس المركب" في جزئيها المنشورين في الإصدارين الثاني والثالث من معابر، باب "علم نفس الأعماق"، كما ندعوه إلى مراجعة مقال فِكْ مانسفيلد "العبور إلى الأمان: التزامن وصناعة النفس"، معابر، باب "علم نفس الأعماق"، إصدار كانون الثاني 2005. [4] C.G. Jung, Synchronicity: an Acausal Connecting Principle, Princeton University Press, p. 25. [5] راجع "النتائج" في آخر الجزء الثاني من البحث. [6] C.G. Jung, The Structure and Dynamics of the Psyche, Collected Works, vol. 8, Princeton University Press, 1978, p. 482. [7] لنلحظ أن المثال على التزامن الذي أوردناه لا يتضمن أية أحلام. يمكن لدراسة متعجلة للتزامن أن تكون مضلِّلة، إذ تجعلنا نظن أن التزامن يجب أن يتضمن بالضرورة علاقة بين حلم وواقعة خارجية. [8] عبد الله بن المقفَّع، كليلة ودمنة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1979، ص 78. [9] يرى المؤلِّف، الذي يعوِّل على الأبراج أهمية لا يستهان بها، أن القدم وما تنتعل أمر يوليه مواليدُ برج الحوت عناية خاصة! [10] "التوسيع"، في التحليل الأحلامي اليونغي، هو عملية شَمْل للمتوازيات الميثولوجية المتعلقة بالثيمات البائدة التي تبرز في الحلم وأخذها بالحسبان في تفسيره، بما ييسِّر للحالِم تخطِّي تداعياته الشخصية والفحصَ عن المدى الممكن للصورة الأحلامية المطروحة على شاشة وعيه، مستفيدًا من المواد الثقافية والتاريخية المرتبطة بها. [11] راجع: كارل يونغ، الإنسان يبحث عن نفسه، بترجمة سامي علام وديمتري أفييرينوس، دار الغربال، دمشق، 1993، "صعيد الموضوع وصعيد الذات"، ص 186-192. [12] The Structure and Dynamics of the Psyche, p. 253. [13] ستكون لنا عودة إلى "الغائية" في الجزء الثاني من البحث. [14] Victor Mansfield, “The Challenge of Synchronicity,” the Quest, Summer 1996, p. 29. [15] عبارة اقتبسناها عن الأستاذ نهاد خياطة الذي استعملها عنوانًا لترجمته لعدد من مقالات يونغ. [16] ثمة مقالة لجابر بن حيان بهذا العنوان. [17] C.G. Jung, Mysterium Coniunctionis, Collected Works, vol. 14, Princeton University Press, 1989, p. 546. [18] كتاب عِرافة صيني عمره 5000 سنة على الأقل، قوامه عبارات موحى بها تشتمل على خلاصة للخبرة الإنسانية. كان وما يزال يُستعمَل في الرجم بالغيب (باستخدام عصيٍّ خاصة أو قطع نقدية)؛ وقد تبين ليونغ أنه، نظرًا لأن استعماله مثال ممتاز على التزامن، طريقة فعالة لاستكشاف الخافية أو اللاوعي: فعِبْر فكِّ رموز المسدسات فيه، يمكن لمستخيره أن يتوصل إلى حلول لمشكلات مستعصية في حياته. ومن الممكن كذلك قراءته ككتاب من كتب الحكمة يكشف عن قوانين الحياة التي لا بدَّ لنا من مسايرتها إذا شئنا أن نحيا حياة تناغم ووئام. |
|
|