|
فراس السواح يرسم صورة الوجه الآخر للمسيح!
هل ثمة "وجه آخر" للمسيح؟! وإذا كان ثمة مثل هذا "الوجه"، فبِمَ يختلف عن الوجه الذي عرفناه به عِبْر ما جاء في الكتب المقدسة؟
فراس السواح، في كتابه الأخير الوجه الآخر للمسيح[*]، يجيب عن هذه الأسئلة، متحديًا صورة يسوع التقليدية – هذه الصورة التي رسمتْها التفسيراتُ الضيقة والأحادية الجانب، التي مفادها أنه شخصية يهودية أحدثت انقلابًا داخل المؤسَّسة الدينية اليهودية من خلال تعاليم ومواقف وأفعال عبَّرت عن تجاوز الموروث وقادت إلى تشكيل كنيسة مستقلة، على الرغم من بقائها، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، على ارتباط روحي بالتَّرِكة التوراتية من خلال اعتبار كتاب التوراة "عهدًا قديمًا" للمسيحية وجذرًا لها. وفراس السواح، في تحدِّيه هذا، يرسم صورة "وجه آخر للمسيح"، وهو المسيح الجليلي الكنعاني، الذي نادى برسالة إنسانية شمولية، جاءت منذ بدايتها في استقلال تام عن اليهودية والوثنية التقليدية للمنطقة. فيسوع لم يتجاوز اليهودية من داخلها، كما يقول السواح، وإنما سعى إلى تقويضها من موقع مفارق؛ وقد تأسستْ رسالتُه على قاعدة نقدية شاملة لليهود ولليهودية ولإله اليهود – "سيد هذا العالم" – الذي ليست له سلطة لا على يسوع ولا على المؤمنين برسالته، على ما وَرَدَ في إنجيل يوحنا 14: 30. السواح، منذ البداية، يوضح لنا أنه اعتمد في منهجه مقاربةً نقد–نصية، قرأ من خلالها نصوص الإنجيل بعيدًا عن التفسيرات الرسمية؛ كما اعتمد مقاربةً تاريخية، بحث من خلالها تاريخ الجليل، موطن يسوع، وتركيبته الثقافية والإثنية، في محاولة للكشف عن أصول يسوع وعن تكوينه الثقافي والديني؛ ثم أعطى بعد ذلك حيزًا للبحث في المسيحية الغنوصية التي أسَّستْ لكنيسة واسعة الانتشار، طرحتْ نفسها بديلاً عن كنيسة روما، وأحدثت قطيعةً تامةً مع التاريخ الديني اليهودي، كما طابقت بين إله اليهود والشيطان! قسَّم السواح كتابه إلى ثمانية فصول، استهلَّها بفاتحة عن السبب التي دفعه في البداية إلى وضع هذا الكتاب، ألا وهو ولعُه المبكر بيسوع وافتتانُه به، حيث رأى فيه نموذجًا للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم وتأسيس عالم جديد، يتحقق المثالُ فيه باعتباره واقعًا واليوتوپيا بوصفها حالةً يمكن لنا أن نحياها هاهنا على الأرض! في الفصل الأول، يركز السواح على الأناجيل الأربعة القانونية، لأنها عِماد المسيحية التي نعرفها اليوم، ويبحث في مؤلِّفيها وبنيتها ومضمونها، مع التركيز على وجهتَي النظر التي تطرحها بخصوص حياة يسوع وشخصيته وتعاليمه: تتبدى وجهة النظر الأولى في الأناجيل الثلاثة المدعوة بـ"الإزائية" synoptic، وهي أناجيل متَّى ومرقس ولوقا؛ أما وجهة النظر الثانية فتتبدى في إنجيل يوحنا، الذي يُعتبَر نسيجًا وحده بين الأربعة. وقد دُعِيَت هذه الأناجيل الثلاثة بـ"الإزائية"، كما يقول السواح، لأنها تعكس وجهة نظر واحدة في حياة يسوع ورسالته، ولأن القصة فيها تسير عِبْر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث نستطيع المقارنة فيما بينها عن طريق وضعها بإزاء بعضها بعضًا في أعمدة ثلاثة. ويطرح السواح كمثال حادثةَ شفاء يسوع لحماة بطرس في الأناجيل الإزائية، ويرينا كيف تتقابل الرواياتُ عندما نضعها في ثلاثة أعمدة متوازية. إلا أن السواح يشير، في نهاية قيامه بعملية التقابُل هذه واستنتاجه ما تطرحه من اختلاف، أنه ليس في مكنتنا أن نقوم بهذه العملية بالدقة نفسها دائمًا، وذلك لأن إنجيل مرقس هو الأقصر بينها والأشد اختصارًا. ويؤكد السواح أن أكثر ما يلفت النظر في مسألة الفروق بين الأناجيل الإزائية هو الإطار الزمني الذي تجري فيه أحداث الرواية. الغنوصية ونشأة المسيحية في الفصل الثاني الذي حمل هذا العنوان، يتحدث السواح عن كون المسيحية السائدة اليوم، على اختلاف طوائفها، ترجع في أصولها إلى صيغة من صيغ المسيحية اتخذت ملامحَها العامة في نهاية القرن الثاني الميلادي، عندما تبنَّت كنيسةُ روما الأناجيل الأربعة المعروفة، إضافة إلى رسائل بولس التي كانت متداوَلة تداولاً خطيًّا قبل تدوين الأناجيل الأربعة بوقت طويل. ففي نهاية القرن الرابع الميلادي، تم اعتماد الكاتالوغ الأخير لأسفار "العهد الجديد" الذي نعرفه الآن والذي يتضمن الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورسائل بولس إلخ – وعددها، كما يقول السواح، سبعة وعشرون سِفرًا، انتقتْها الكنيسة الرسمية من بين عشرات الأسفار المقدسة التي كانت متداوَلة بين المسيحيين، وأسبغت عليها صفة القداسة، بينما وَصَمَتْ بقية الأسفار بالزيف، فدَعَتْها بالأسفار "المنحولة" apocrypha وَدَعَت أولئك الذين يتداولونها بـ"الهراطقة" heretics. ويشير السواح إلى أنه خلال القرن الأول إلى الثاني الميلادي، بدأت بالظهور، في سورية ومصر، حركةٌ مسيحية راديكالية عارضت كلا الكنيستين المسيحية واليهودية–المسيحية، هي الحركة "الغنوصية" Gnosticism، التي اتخذت حوالى أواسط القرن الثاني الميلادي شكلَ كنيسة غير منظمة عقائديًّا وغير منتظمة مراتبيًّا، ولم تكتفِ بالإعلان عن استقلالها عن اليهودية، بعكس الكنيسة الرسمية القوية التي لم تنفصل عن هذه الأخيرة جذريًّا، بل أظهرت العداء لكلِّ الميراث التوراتي وتصوراته عن الألوهية والإنسان والعالم. وقد أنتج الغنوصيون أناجيلهم الخاصة بهم، التي كتبوها بالاعتماد على فهمهم الأصيل لتعاليم يسوع المبثوثة في أناجيل القويمين، وعلى تعاليم أخرى سرية له ولرسل آخرين وصلت إليهم عن طريق التداول الشفهي. فكما يقول المعلِّم الغنوصي پتوليماوس (رئيس المدرسة الغنوصية في إيطاليا) في العام 1960: "إننا تلقينا أيضًا تعاليم رسولية عبر سلسلة من المعلمين تحتوي على ملاحق سرية لمجموعة أقوال يسوع المعروفة." وبخصوص أصول الغنوصية، يقول السواح إن لدينا مسألةً لم تُحَل بعدُ على صعيد البحث الأكاديمي الحديث، تتعلق بوجود غنوصية سابقة على المسيحية ذات ملامح واضحة وتنظيم ديني ناضج، هي غنوصية يهودية ظهرت ضمن الغنوصية المسيحية، بحسب بعض وجهات النظر التي تستشهد بوجود العديد من نصوصها في مكتبة نجع حمادي. ولكن السواح، من جانبه، يقول إن هذا القول مردود، لأن هذه النصوص وُجِدَت في سياق مسيحي، لا في سياق يهودي، وضمن مجموعة أكبر من النصوص الغنوصية ذات التوجه المسيحي الصارخ. ومن ناحية أخرى، يقول السواح إنه لا يوجد لدينا دليل تاريخي على قيام نظام ديني غنوصي واضح المعالم وراسخ التنظيم قبل ظهور المسيحية الغنوصية. لذا فمن الأفضل لنا، برأيه، أن نتحدث عن "إرهاصات غنوصية" و"مفكرين ذوي طابع غنوصي" وجماعات غنوصية صغيرة مبعثرة التنظيم، مثل تلك الجماعات التي وُجِدَت في منطقة الجليل بتأثير التعاليم الباطنية السرَّانية لعبادة جبل الكرمل. ظلال شك على "يهودية" المسيح خصص السواح الفصلين الثالث والرابع للحديث عن المصداقية التاريخية للرواية التوراتية وعن المداخلات اليهودية في العهد الجديد وموقف يسوع الحقيقي منها. ففي الفصل الثالث، حاول السواح الإجابة عن أسئلة متعددة تتعلق بمدى اكتساب الرواية التوراتية لمصداقية تاريخية، وإلى أيِّ حدٍّ نستطيع الوثوق بالمخطط التاريخي البديل لنشوء اليهودية. فما هو المدى الزمني والجغرافي الحقيقي لانتشار اليهودية؟ وهل دانت فلسطين يومًا باليهودية؟ وهل كان لليهود كيانٌ سياسي في فلسطين في يوم من الأيام؟ ومتى وأين؟ ويبغي السواح من جراء إجابته على هذه الأسئلة، على حدِّ قوله، استقصاءَ البيئة الثقافية لمنطقة الجليل (مسرح الإنجيل) وإلقاءَ ظلال من الشك على "يهودية" يسوع، معتمدًا في نهجه على مقاربة نقد–نصية يستنطق من خلالها الأناجيل الرسمية الأربعة، ليتبين منها موقفَ يسوع الحقيقي من اليهودية واليهود. أما الفصل الرابع الذي خصَّصه للمداخلات والإقحامات اليهودية في العهد الجديد ولموقف يسوع من اليهود واليهودية، فيتحدث فيه السواح عن أهم المداخلات في العهد الجديد، مُظهِرًا مدى غرابتها وشذوذها عن السياق العام للنص، معتمِدًا على أسفار العهد الجديد نفسه وعلى أقوال يسوع ومواقفه العملية، التي أظهر من خلالها تجاوُزه لليهودية وللموروث الوثني على حدٍّ سواء، كما عبَّر عن نقد حادٍّ لليهود واليهودية وشريعة إله التوراة. ففي فقرة مكان الميلاد، مثلاً، يبين السواح أن قصة الميلاد في إنجيل متى تطرح أخطر المداخلات اليهودية في العهد الجديد، وهي التي رَسَخَتْ. ومن نصوص العهد الجديد أيضًا يتخذ السواح مستنَدًا، لكي يردَّ بها على المداخلات اليهودية المقحَمة عليه والغريبة عن سياقه العام، لأن رسالة يسوع، كما يوضح لنا السواح، ليست رسالة إصلاحية يهودية، بأية حال من الأحوال، بل هي رسالة جديدة مستقلة، جاءت لتنقض العهد القديم، لا لتكمِّله، كما يُشاع. يقول يسوع: "جئت لألقي على الأرض نارًا، وما أشد رغبتي أن تكون قد اشتعلت! [...] أتظنون أني جئت لأُحِلَّ السلامَ في الأرض؟ أقول لكم: لا، بل الانقسام." (لوقا 12: 49-51) لقد تخللتْ رسالةُ يسوع منذ البدء المجتمعَ كعاصفة تقتلع القديم لتزرع الجديد. ومنذ البدء، ميَّز أتباعُه أنفسهم عن محيطهم الثقافي، مشكِّلين النواةَ الأولى لواحدة من أهم الحركات الروحية في تاريخ الإنسانية، استطاعت بعد بضعة قرون أن تكتسح نصف أرجاء المعمورة. ومع ذلك، فقد أفلحت اليهوديةُ في زرع "شوكة" في خاصرة المسيحية مع انطلاقتها الكبيرة، عندما تمَّ، في أواخر القرن الرابع، الجمعُ بين كتاب العهد القديم وأسفار العهد الجديد في كتاب المسيحيين المقدس. ولئن كانت الأرض التي "ألقى عليها يسوع نارًا" لم تحترق تمامًا إلا مع الغنوصية المسيحية التي أكملت نصوصُها صورةَ "الوجه الآخر للمسيح"، فإن السواح عمد إلى تخصيص الفصل الخامس بكامله لها، مقدمًا استطراداتِه حول الغنوصية وكيفية اكتشاف الثلاثة عشر مجلدًا من ورق البردي في نجع حمادي بمصر. والغنوصية، كما يقول السواح، هي ديانة خلاص: فمفاهيمها وتصوراتها الكونية كلها تتلخص في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. والصراع الرئيسي الذي يخوضه الإنسان هو صراع بين العرفان، الذي يقود إلى الخلاص، وبين الجهل، الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت. من هنا فإن الحكمة الشهيرة المنقوشة على واجهة معبد دلفي الإغريقي، والمؤلَّفة من كلمتين فقط هما: "اعرف نفسك"، تتخذ أهمية مركزية في النظُم القائمة على العرفان كافة. فلقد استخدمتْها المدرسة الأفلاطونية، وفسَّرتْها بمعرفة النفس الإلهية في الداخل؛ وكذلك الهرمسية، التي نقرأ في إحدى رسائلها الثلاث عشرة، وهي رسالة پويماندريس، ما يلي: "إن الله الآب الذي جاء منه الإنسان هو نور وحياة. فإذا عرفتَ أنه نور وحياة وأنك صَدَرْتَ عنه، فسوف تُستعاد إلى الحياة مرة أخرى." وعلى عكس الزرادشتية وغيرها من النظُم الدينية التي تبشِّر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن الخلاص الذي تبشِّر به الغنوصية ليس خلاص الأجساد، بل خلاص الأرواح: إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معًا، لا من الخطيئة والذنوب. البوغوميل: كتاب العهد القديم من صنع الشيطان! في الفصلين السادس والسابع، تحدث السواح عن الانتفاضة الأخيرة للغنوصية (البوغوميل والكاثاريين). والبوغوميل، كما يقول السواح، يعتبرون كتاب العهد القديم من صنع الشيطان. وهم لم يتبنوا من أناجيل العهد الجديد سوى إنجيل يوحنا، الذي رؤوا فيه إبانة عن الله الحق. وهم يقولون بـ"ثنوية معتدلة"، لا تجعل من الشيطان إلهًا مستقلاً، بل تجعله ابنًا لله، خَرَجَ عن طاعته وعَصاه.[†] ومن الناحية التنظيمية، يشير السواح إلى انقسام البوغوميل إلى ثلاث شرائح على الطريقة المانوية، هي: شريحة الكاملين، المهيئين للانعتاق من دورة تقمص الأرواح في هذا العالم؛ تليها شريحة السمَّاعين، المؤهَّلة للتحول إلى شريحة الكاملين في التقمص المقبل؛ فشريحة عامة المؤمنين. وأما الكاثاريون، الذين ولدوا على أنقاض البوغوميل بعد أن تم القضاء عليهم، فقد أنشأوا ثقافة في الجنوب الفرنسي هي الأمْيَز في الغرب المسيحي بعد بيزنطة في تلك الفترة.[‡] ويشير السواح إلى أن للفكر الغنوصي، في شكل عام، تأثيرًا على الفكر الحديث، من خلال عدد من المفكرين والفلاسفة والشعراء الغربيين، أمثال ياكوب بوهمه (1600)، الذي أسَّس للتيار الغنوصي في الثقافة الأوروبية الحديثة، ووليم بليك وأشعاره، وعدد كبير من شعراء الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر الذين أخذوا في كتاباتهم بإعادة ابتكار أساطير غنوصية للتعبير عن موقفهم من العالم الذي قارب هاوية العدمية أحيانًا، أمثال شيلي، بايرون، لامارتين، إلخ. أخيرًا، وإنْ كان الكثيرون قد لا يتفقون مع ما أورده السواح في كتابه بخصوص "الوجه الآخر للمسيح"، إلا أن ما أظهره في كتابه هذا سيحتفظ بقوته – حتى يأتي يومٌ تظهر فيه مكتشفاتٌ جديدة، كتلك التي ظهرت في نجع حمادي وكانت بمثابة النور الذي أضاء مساريب قديمة، شكَّلت الأرضية التي اعتمد عليها السواح في كتابه. فهل سيأتي فعلاً يومٌ نعود فيه فنشهد عملاً جديدًا يكون "وجهًا آخر" أيضًا غير "الوجه الآخر للمسيح"؟! يقول بريدوود: "إننا كعلماء آثار غير مهددين بالبطالة. فكلما صُغْنا نظريةً كان علينا تعديلُها. وهكذا نحن في شغل دائم"! *** *** *** [*] فراس السواح، الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، طب 1، دار علاء الدين، دمشق، 2004، 258 ص من القطع الكبير. [†] يمكن للراغب في التوسع أن يطَّلع على كتاب فراس السواح الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، طب 1، دار علاء الدين، دمشق، 2000. (المحرِّر) [‡] راجع: أكرم أنطاكي، "الكاثاريون: محاولة تأريخية فلسفية"، معابر، إصدار تشرين الأول 2003، باب "منقولات روحية". (المحرِّر) |
|
|