التنسيب والولادات الصوفية

 

نبيل سلامة

 

جاء في معجم علم الأخلاق[1]:

[...] فمن خلال طقس "القبول" initiation، كان يتم إدخال الشبان في عِداد الرجال. وكان هذا الطقس يتضمن صومًا طويل الأمد، وانعزالاً عن الناس، وتسوية للأسنان، وغيرها من الشعائر التي عليها أن تغرس في نفوس الشبيبة فكرةَ ضرورة تحمُّل النكبات والحرمان. [...]

والواقع أن كلمة initiation الفرنسية (والإنكليزية) تُترجَم هنا بـ"القبول"؛ وهي في البرتغالية iniciaçaõ، وتتضمن كذلك معنى "الابتداء". ويترجمها فراس السواح بـ"طقوس العبور" أو "الطقوس الإدخالية"[2]؛ إذ إنها تعني أن العبور بين عالمين ممكن، ولكن من خلال الطقوس التي يدعوها الأنثروپولوجيون بـ"طقوس التَعْدِيَة"، كما سنبيِّن في هذه المراجعة المتواضعة.[3]

وفي الترجمة العربية لكتاب ميرسيا إلياد (يُلفَظ بالرومانية "مِرتشا إلياده") التنسيب والولادات الصوفية[4]، يؤديها المترجم بمصطلح "تنسيب"؛ وهذه الكلمة سوف نعتمدها في تناوُل هذا الموضوع الدقيق في ثقافات وتراثات الشعوب، القديمة منها بشكل خاص والحديثة بشكل عام – وإن كانت هذه الأخيرة تفتقر نوعًا ما إلى هذا الطقس أو التنسيب، ولكن يجري تعويضه بشكل أو بآخر.

فعلى سبيل المثال، ينعدم التنسيب ويكاد لا يُسمَع عنه شيئًا في كثير من المجتمعات الحديثة، في حين مازال يسري في مجتمعات أخرى سريانًا غير مباشر ينساق إليه السواد الأعظم من الناس انسياقًا يثير الدهشة. ومع ذلك، فإن "موضوعات التنسيب [ما تزال] حية على وجه الخصوص في لاوعي الإنسان الحديث"، كما يقول إلياد.

ميرسيا إلياد (1907-1986)

ولنأخذ كمثال شابًّا في مجتمعنا العربي الشرقي، أنهى دراسته الجامعية في السنة الرابعة والعشرين من عمره وقرَّر على حين فجأة السفر إلى مجتمع من مجتمعات العالم المتقدم في الغرب لكي يعمل. كذا فإن هذا المراهق يبدأ بسماع أصوات مجلجلة آتية من الغرب: "إنه القَدَر!" وذلك – ولا شك – يبعث في نفسه للوهلة الأولى شعورًا بـ"الخوف": يرى في حلمه "هوة" يزمع أن يرمي نفسه فيها، فيحدِّث نفسه قائلاً: "إنها رياح القَدَر تسوقني!" نعم، ثمة أيدٍ غير مرئية تسوق هذا الشاب: إنها أيدي القَدَر تريد انتزاعه من حضن أهله الوادع، لتضعه في مجتمع ينتظم وفق قوانين غير قوانينه وتقاليد غير تقاليده. فلكي يلج هذا المجتمع، تسوقه أيدي القَدَر غير المرئية إلى "التنسيب".

هنا يقول ميرسيا إلياد: "التنسيب يوازي الوحي بالمقدس." لكنه يعود فيقول: "الجنس بالنسبة لأبناء العالم ما قبل الحديث يشارك في دائرة المقدس." ويتابع فيقول عن التنسيب:

[...] والتعريف بالموت وبشؤون الجنس وبالكفاح من أجل البقاء. بوسعنا القول إن الفتى لا يصير رجلاً حقًّا إلا بعد أن يؤدي أفعال الراشدين ويواكب أبعاد الوجود الإنساني.

وهكذا فإن

[...] التنسيب المخصَّص للمراهق يتسم بقطيعة، إذ ينفصل المراهق عن أمه؛ وهذا الانفصال يتم أحيانًا بعنف وبقسوة بالغة.

ففي التنسيب عند سكان أستراليا الأصليين، "يخضع المريدون لبعض العمليات. ومن الأمور الشائعة: الختان، قلع ضرس، إحداث شقٍّ عميق في الجسم [...]". ففي أستراليا، يعقب الختانَ بعد مدة من الزمن إحداثُ شقٍّ في الجسم. يشير إلياد في هذا الصدد:

نقتصر على دلالتين دينيتين للشق: الأولى تتمثل في الفكرة القائلة بازدواجية الجنس، أي امتلاك الشخص جنسَي الذكر والأنثى في آنٍ واحد. والدلالة الثانية تتبدى في القيمة الدينية المعطاة للدم ولسيلان الدم الناجم عن عملية الشق. ولعل الهدف من إحداث شقٍّ عميق في الجسم يكمن في تزويد المولود الجديد رمزيًّا بالعضو الأنثوي للمرأة [...].

ويلاحظ روث أن أبناء قبيلتَي پيتا–پيتا وبوبيا القاطنين في شمال غرب أستراليا يُجرون مماثلةً بين الجرح الحاصل من عملية الشق وبين فرج المرأة، ويسمون المولود الجديد الذي يخضع للعملية "الذي صار له فرج".

أما عن الفتيات اللاتي يخضعن للتنسيب، ففي اليونان القديمة أمكن إماطة اللثام عن سيناريو تنسيبي للإناث: إن ظاهرة تجمُّع الفتيات حول المعلِّمة ساپفو إنما تدل على طقوس قديمة تتعلق بالإناث المراهقات: كانت المريدات يمكثن تحت إشراف المعلِّمة الشيخة، – أو تحت إشراف مرشدة منافسة لها، – إلى أن يحين موعد زواجهن؛ فكن يتدربن على الأشغال النسوية الخاصة بالمرأة، مثل الغزْل والحياكة، ويتعلمن "العادات الحميدة".

ولهذا التعليم والتدريب نموذج أسطوري يعود إلى الأزمنة القديمة؛ إذ كان الاتصال الجنسي بين المرأة والمرأة يشكِّل صورةً عن الحبِّ عند الفتيات من منطقة دورا. ولهذه الظاهرة مثال في الزمن القديم؛ وقد تأكد وجود علاقات جنسية في العديد من المجتمعات البدائية بين المعلِّمات المدرِّبات والفتيات المريدات.

ولكن لنعد إلى المريد الذي أخافه هولُ التنسيب ونال منه الهلع. فما الذي يجري معه؟! تروي لنا إحدى الحكايات ما يلي:

[...] في تلك السياقات كلِّها، تأخذ الأم العظمى، المقيمة في جوف الأرض على وجه الخصوص، شكل إلهة الموت، وسيدة الموتى؛ أي أنها تظهر بمظهر عدواني ينذر بالوعيد والتهديد.

جاء في الميثولوجيا الجنائزية لقبيلة ماليكولا أن شخصية نسائية ذات شأن تدعى تِمِس أو لِف هِف هِف تنتظر روح الميت عند مدخل كهف أو قرب صخرة، وأمامها على التراب رسمٌ لمتاهة. وعندما تدنو روح الميت، تشرع تِمِس بمحو نصف الرسم. فإذا ما تعرف الميت إلى رسم المتاهة، أي إذا سبق له أن خضع للتنسيب، فإنه يعثر بسهولة على طريقه ويتابع المسير؛ وأما إذا لم يهتدِ إلى معرفة الرسم فإن المرأة تلتهمه.

وهذا يعني الفشل والضياع والدمار إن لم يخضع المرء للتنسيب وهرب منه بشكل أو بآخر. ولكن سيناريو التنسيب لا ينتهي هنا بهذه السهولة. فماذا ينتظر المتهربَ من التنسيب؟!

[...] نذكر في هذا المجال أن بعض الأمراض الخطيرة، وخصوصًا الأمراض النفسية العقلية، هي علامة تدل على أن كائنات فائقة للطبيعة اختارت المريض لكي يخضع للتنسيب، أي ليخضع للتعذيب ويُقطَّع إربًا و"يُقتَل" (رمزيًّا)، بهدف أن ينبعث إلى وجود أرقى وأسمى. وتؤلِّف الأمراض التنسيبية [...] عَرَضًا من الأعراض الدالة في وضوح على وجود نداء باطني يدعو الفرد إلى الشامانية.

إذن، حين يمسك القَدَرُ بيديه الجبارتين المراهقَ وينتزعه من حضن أمِّه ليبدأ تنسيبُه، فلا خوف ولا هلع ولا هرب يستطيع أن يبعده عن قَدَره التنسيبي!

ففي إحدى السيناريوهات التنسيبية، يُحتجَز المريدون بهدف التنسيب في أكواخ لها شكل تنين بحري، ومن المفترض أن يكون التنين ابتلعهم وصاروا في بطنه ثم هضمتْهم معدتُه؛ وبهذا الاعتبار يتحوَّلون إلى "موتى". ولدى خروجهم من الأكواخ، أي من كروش التنانين، يُنظَر إليهم وكأنهم وُلِدوا من جديد. إذن لا بدَّ للتنانين أن تطرحهم من جوفها ذات يوم، فيكون لهم ذلك بمثابة "ولادة ثانية". هذا هو، إذن، مصير المريد النهائي، مهما عاين من ألوان العذاب والخوف والهلع.

هنا ندخل مجال الولادة الثانية، الولادة بالروح، اللقاء بالمقدس المتعالي، اللازمني. وهذا هو الهدف الأقصى من التنسيب الذي يمارسه الأقدمون تجاه المريدين المراهقين. ونذكر في هذا السياق ما يلي:

تعترف بأهمية الارتداد إلى الرحم مجموعةُ الأساطير والرموز المتعلقة بـ "المرور اللامعقول المنطوي على مفارقة"، مثل المرور بين حجرَي طاحونة في حركة دائمة وبين صخرتين تتلامسان في كلِّ لحظة في أثناء دورانهما المستمر أو السير على جسر ضيق جدًّا، كأنه سلك حاد للغاية أشبه بنصل سكين، إلخ. تلك الأشكال من المسالك اللامعقولة تحمل مفارقة، لأن من المستحيل تحقيقها على صعيد التجربة اليومية. وسيجري استخدام تلك الصور في مذاهب التصوف، وفي الأنظار الميتافيزيائية العائدة إلى العهود اللاحقة، من أجل الدلالة على الانتقال إلى حالة من الوجود متعالية ومتسامية.

"أن يموت المرء يعني أن ينتسب"، على حدِّ تعبير أفلاطون.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] دار التقدم، موسكو.

[2] راجع مثلاً: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، دار علاء الدين، دمشق.

[3] مرارًا ما يَرِدُ المصطلح في معابر، باب "منقولات روحية"، ويؤدِّيه بعض الكتَّاب بـ"المُسارَرة". (المحرِّر)

[4] ميرسيا إلياد، التنسيب والولادات الصوفية، بترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود