|
الغرام المسلَّح فانتازيا التاريخ... شعرًا
الديوان الرابع عشر للشاعر المصري حلمي سالم، الصادر عن "المجلس الأعلى للثقافة بمصر"، ينتمي لما يمكن أن نسمِّيه تيار "الفانتازيا التاريخية". إذ يتكئ على معطيات التاريخ بعد صَهْرِها في بوتقة الخيال، فيشتبك الواقعُ مع الجنون في جدلية فانتازية. شخوصُ الواقع تنسحب خارج دائرتَي الزمان والمكان، لتتحول إلى عقول تتحاور، تختلط مع صوت الراوية حينًا، ومع الحدث التاريخي حينًا آخر، لتستخلصَ الشِّعرَ من صرامة التاريخ وعبثيَّته. وهو لون من الشعر يردُّ على السؤال الخالد حول إمكانية أن يكونَ الشِّعرُ ممسوسًا بالإيديولوجيا من دون أن يستلبَ ذلك من طاقة الشعر وجمالياته.
وبرأيي الخاص، لا فنَّ يخلو من فكرٍ ووجهة نظر؛ إذ لا حيادَ صافيًا في الوجود. قال حلمي سالم في مقال نُشِرَ في جريدة الحياة اللندنية إن تبنِّي العمود الخليلي ينطوي على إيديولوجيا سلفية، حتى ولو "عُبِّئ" بفكر حداثيٍّ. وأزيدُ فأقول إن طريقةَ التشكيليِّ في الإمساك بفرشاته واختيار لونه تنطوي على فلسفة وإيديولوجيا ووجهة نظر في حدِّ ذاتها. ثَمَّ تسريبٌ لرؤية ذاتية، حتى عِبْر السؤال المحض. فالشاعر حين يسأل، حتى مع إيمانه بأن زمنَ اليقين قد ولَّى وأنه لم يعد ذلك المبشِّرَ الناصحَ، بل محض كائنٍ معترفٍ بالخطيئة والحيرة، يظل يطرح رؤاه الخاصة، ولو عِبْر سؤال. غيرنيكا پيكاسو، ألم تكن، بمعنى ما، لوحةً "مؤدلَجةً" تحمل رسالةً واضحة ضد الحرب، وفي الوقت ذاته، قطعةً من الفنِّ الرفيع المخلص لجمالياته؟ قصائد الديوان كَتَبَها الشاعرُ في فترة سياحته بين ربوع فرنسا لعامين. ولعلَّ تلك الحرية الجغرافية أتاحت له شيئًا من الحرية التاريخية كذلك: إذ حاول أن يرفع عنه، للحظةٍ، أثقال الانتماء القوميِّ العربي، وكذا أثقال التبعية الغربية، أو حتى كراهيتها، في محاولة للتسامي فوق العِرْق والهوية يمكِّنه من الولوج في مساحة كشفٍ يفحص من خلالها ما لنا وما علينا. عنوان الديوان – "الغرام المسلَّح" – يُحيل إلى التباس علاقة الشرق بالغرب. هو غرامٌ منطوٍ على تحفُّز، أو حربٌ يشوبها غرام: إعجابُ الشرق بعِلم الغرب وفيزيائه المادية، وإعجابُ الغربِ بروحانية الشرق وميتافيزيقاه المُحلِّقة. في قصيدة "الشريان" يرصد الشاعرُ ذاك الشريان الملتبس الواصل بين الغرب/المستعمِر والشرق/المُستعمَر: لكن الشريانَ الواصلَ بين الغاليين وهم يغدون أمامك ويروحون/ وبين القحطانيين وهم خلفك يندثرون/ ستفضحه عينا طفلٍ/ عُلِّقتا بلسان كُريِّم إذ يتدلَّى من مشنقةٍ. يتأمل الشاعرُ حملةَ ناپليون على مصر ويستقطر الشِّعرَ من أحداثِها التي بدأت بغزو الإسكندرية وشَنْقِ حاكمها محمد كُريِّم: ... لم يؤمن أن عناقَ الجُبَّة والقبَّعة عناقٌ صعبٌ/ .../ وكان"إخاءٌ" مدموغًا في الماسورة/ و"مساواةٌ" في منشورات الطاعة/ و"الحريةُ" خُلخالاً في سُنبكِ كلِّ حِصان/ .../ جاء المملوكيون وجاء اليوم السادس والكوليرا/ .../ وجاء الكورسيكيُّ الحالم/ كي يتركَ في الروحِ الولعَ وفي الحكم البوناپرتيين الأحرارَ/ ووعيًا ينقسمُ على الذات.../ تساءل نفرٌ: هل كان رجالُ المطبعة غزاةً؟ (من قصيدة "ناپليون") نسأل هنا: مَنْ وضع كلمة "استعمار" بدلاً من كلمة "احتلال" ترجمةً عربية لكلمتي colonialism أو imperialism؟ فأصل الكلمة الأولى colony يعني جاليةً تهاجر من أجل أن تقطن أرضًا غريبة، وجذر الثانية imperial يعني جنديًّا تابعًا للإمبراطورية الرومانية، والفعل منها imperialize يعني ضمَّ أرضٍ جديدة لتلك الإمبراطورية العظمى. لكن الاحتلال عادة ما يدخل البلاد بزعم "إعمارها"؛ فهو الذريعةُ التي يطرحُها الغازي ليسوِّغ دخولَه. بحسب منشورات ناپليون، "الإخاء–المساواة–الحرية" ومساندة القيادة العثمانية هي رسالته في مصر، وليست عملَ قواعدَ عسكريةٍ يطلُّ منها على مستعمرات بريطانيا في الهند! والمفارقة هي وجود مفهوم "إعمار" الإيجابيِّ في المفردة العربية "استعمار"، بينما المفردة الغربية (لغة الغازي) لا تحمل إلا المعنى الأصدق: الاحتلال والاستيطان المؤقت – وكأننا مَن نخدع أنفسَنا بأنفسنا! لكن الشاهد تاريخيًّا أن كلَّ احتلال لم يخلُ من إيجابيات: فالمطبعة دخلت مصر على يد الحملة الفرنسية (1798-1801)، وفكرة شقِّ قناة السويس كانت فرنسية، و"حجر رشيد" فكَّ رموزَه عالِمٌ فرنسي: شامپُليون، وخطُّ السِّكة الحديدية بمصر مدَّه الإنكليز إبان الاحتلال، إلخ. و"الكورسيكي الحالم"، ناپليون، ينتمي إلى كورسيكا، إحدى جزر المتوسط التابعة لفرنسا، التي تُعَد إحدى أكثر البؤر اشتعالاً بالعنصرية والتوترات العِرقية الموجَّهة من قِبل الانفصاليين ضد العرب الذين يمثلون أكثر من عُشر سكانها. فالإشارة هنا غير مجانية، ولها دلالتها التي تخدم مجمل الديوان. هذا الشاب الغازي سبَّب انقسامًا في وعي الأمَّة بين مفهومَي "التعمير" و"الاحتلال". ويلمِّح الشاعرُ إلى التشابه بين الثورة الفرنسية ضد الملَكية في العام 1792 وبين ثورة الضباط "الأحرار" بمصر في العام 1952. الشعر هنا يقوم على استخلاص المقارنة بين ما هو شرقي وما هو غربي، حدَّ المقارنة بين حبة القمح الفرنسية المروية بدم "أُذُن" فان غوخ وبين حبة القمح المصرية المرويَّة بدم فلاحيها! كل قصيدة تتناول قضيةً موضوعية خارج إطار الذات. ولكن، هل هي بالفعل خارج إطار الذات؟ وكيف يُرصَد الموضوعُ بغير إعمال عين الذات وفكرها؟ هل ثمة إمكانيةٌ عمليةٌ لفصل حاسم بين الذات والموضوع؟! في قصيدة "الطهطاوي"، نجد الأخير يحاور ناپليون، يباكيه هزيمةً بهزيمة: فما عدتَ الفاتحَ ذا الغُرَّة والتاجِ/ وما عدتُ الناهضَ/ طُمِسَ الحُلُمانِ: الهيمنةُ بسيفٍ والهيمنةُ بمعراجٍ/ لا أسَّستَ المُلكَ/ ولا أنقذتُ حفيداتي من فقهاءِ الأسمنتِ ونوَّابِ الكعبةِ. فَشِلَ الطهطاوي في إشاعة التنوير في خَلَفه اللاحق، مثلما فَشِلَ الغازي في استلاب فاتنته مصر. أما المتنبي فيباكي غاليليو: فكلاهما خسرَ حياته من أجل فكرةٍ آمن بها. وتذكِّرنا تلك الجدليات الانهزامية بين شخوص تاريخية لم يرَ أيُّها أيًّا بجدال بورخيس مع ابن رشد في قصة "بحث ابن رشد": مضاهاة فشل بورخيس في بناء روايته بلا شخوص تُناسِبُها بفشل ابن رشد في إيجاد ترجمة مناسبة لمصطلحي "تراجيديا" و"كوميديا" عند أرسطو. في قصيدتَي "مرثية للعمر الجميل" و"السهروردي"، يكشف لنا الشِّعرُ تناقضاتِ الذات وانقساماتِها على نفسها. فعبد المعطي حجازي، الثائر على طاغوت الجمود والأسمنت والسلفية، سوف يتحول إلى محاربٍ للثوار الجدد، راميًا إياهم بـ"الحرافيش": واصلَ تعليمَ الأغرابِ/ طوَّرَ ديوان العربِ من التقليد إلى التحديث/ .../ كانت ثورته العربية في باريسَ سرابًا/ .../ فلم يظفر منها إلا بالأسمنت/ ثمَّ حرافيشُ القاهرة خفيفون/ فطاروا مصحوبين بلعنات الروَّاد التاريخيين. وقاهرُ الصليبيين، الناصر صلاح الدين الأيوبي، ستقهره أحاديةُ منطقِه، فيقتل السهروردي الذي يقول قبل إغفاءة الإعدام: لماذا لمْ يغدُ محرِّرُ بيتِ المقدس ليبراليًّا؟/ وأجاب: العِلَّةُ في القلب. أما طه حسين، فوضع يده على محنة العرب الحقيقية: الارتكان إلى امتلاك اليقين، ما يدفع إلى عدم إعمال العقل، حتى فسدتْ فكرتُه التي نادت بالتعليم كحقٍّ مثل الماء والهواء: يدعكُ عينيه لينزلَ من قاعهما الزيتُ الوسخُ/ .../ هنا مرَّ صبيُّ مغاغةَ يتأبطُ شرًّا/ .../ الراحلُ يومَ الهولِ/ يرفُّ على شرفة ديكارت كطيرٍ/ أما صبيان مغاغة فاصطفوا خلف النعش يصيحون: اعتكرَ هواءُ الصَّدرِ/ تلوَّثَ ماءُ الأفئدة. فشكُّ ديكارت هو السبيل إلى تحرير العقل من عقاله، لينطلق في رحلته صوب المعرفة. وهنا فقط يسقط "وسخُ" الجهل عن الأعين، فتبصرُ، ولو كان بها عماء. مُحترفُ حصاراتٍ/ لو مرَّت سنةٌ من غير حصارٍ أرتابُ/ وأسألُ: هل صرتُ دجينًا لا يُقلِقُ أحدًا؟/ .../ جسدي جُهِّزَ لملائمة الأقفاصِ/ .../ لو مرَّت سنةٌ من غير حصارٍ أرتابُ/ وأسأل: هل صرتُ الراضي بالحسناتِ القانعَ بالسقفْ؟/ رِعشةُ شفتي العطشى رمزُ أمامٍ/ وثباتُ شفاهِكم الغضَّةِ رمزُ الخَلْفْ. (من قصيدة "المتصوف") وفي قصيدة "العرب": منهم فرجُ الحلو الذائبُ في الكبريتيك/ ومنهم بوحريد المكويَّةُ بسجائر جيتان/ ومنهم عمرُ المختار.../ الأعرابُ المندرجون المطواعون ذوو العنَّة/ ليسوا دومًا مندرجين ومطواعين وعنينين/ ففيهمُ بعضُ خوارج. هكذا ساوى الشاعرُ بين جفافِ الشفاه عطشًا وبين التقدمية، وساوى بين الارتواءِ وبين الرجعية: إذ للحرية والتنوير فاتورةٌ لا بدَّ أن يسدِّدها العربُ على يدِ الأنظمة الفاسدة. فأنتَ حرٌّ بقدر ما أنتَ سجينُ زنزانة! المرجعياتُ الثقافية في القصائد سوف تكون "كعبَ أخيل النقدي" ضد هذه الديوان. سيقول قائلٌ إن مثل هذا الشعر موجَّه إلى قارئ نخبويٍّ يعرفُ الحلاج ولورد كرومر والشبلي وبروكلمان والسيداج، فضلاً عن الكثير الغامض من الأحداث التاريخية، إلخ. لكن منذ متى لم يكن الشِّعرُ نخبويًّا؟ ولماذا تُفتَحُ المراجعُ للكيمياء والفلسفة، وليس للشعر أيضًا، على الرغم من كونه أرقى المعارف وأرفعها؟! ثم، ونحن أمَّةٌ تعيش الآن – من أسف! – مرحلةَ غروبِ شمسها الثقافية، ألا يحق لنا أن نتشبَّث ما استطعنا بأهداب الثقافة وإعمال العقل في ألوان معارفنا وفنوننا كلِّها؟ أليس من حقِّنا الرهانُ على متلقٍّ نَشِطٍ غير سلبيٍّ، يُكمل القصيدةَ واللوحةَ التشكيليةَ والقطعةَ الموسيقية ببعض المطالعة والبحث وبشيء من التفكير وإعمال الخيال؟! وينتهي الديوان بنشيد حزين تبكي فيه الموسيقى حالَ العروبة: الطبَّالون حزينون لأن النايَ حزينٌ/ والنايُ حزينٌ من شدة ما باحَ وبُحَّ ومن طَعْنِ الحُبْلى/ ومن الشهداءِ المتراصين كأسنانِ المُشْط بلا جبَّانات/ والجبَّانات غدَتْ تمشي فوق القدمين/ .../ لأن الطبَّالين حزينونَ/ وحزنُ الطبَّالين ثقيلْ. *** *** *** |
|
|