العنف

في منظور اللاهوت المسيحي

 

المطران جورج خضر

 

تكليفي أن أحدِّثكم عما تقوله المسيحية عن العنف لاهوتيًّا، وعما فعلتْه في الدنيا تاريخيًّا. هنا، لست أتكلَّم عن الدول، ولكن عن البيئات الدينية. وقد نحتاج إلى بحث مقارن بين الأديان التوحيدية في هذا المجال لنعرف ما ألهم هذه وما ألهم تلك. ولكني ألازم تفويضي في بحث المشكلة في المسيحية وما تقدَّمها من العهد القديم: هل الله ناصرٌ لشعوبه أو قائد جيوشها الحقيقي؟

كنت أعرف، قديمًا، أنَّ مسيحيين فرنسيين كانوا يدعون الله لنُصرة فرنسا؛ ويزيَّن لي أنَّ مسيحيين ألمان كانوا، بالصدق نفسه، يصلُّون لنُصرة الجيش النازي. ما هذه المفارقات؟ هل إنَّ المصلين من الجانبين كانوا على ضلال مبين؟ وما هذا الإله المزاجي الذي ينصر بشرًا تارةً هنا وطورًا هناك؟

في البدء كان القتل. أول حادثة بعد الخلق في سفر التكوين كانت حادثة قتل أخ لأخيه. ولم تتغير الحال. ويدلُّ الإحصاء أنَّ أزمنة الحرب كانت أطول من أزمنة السِّلم. في إيلاف الحرب اليوم، التنظير هو «للحرب العصرية المطلقة في قدرتها الساحقة»، كما سمَّاها فيلسوف الحرب الأمثل، الجنرال كارل فون كلاوزيفيتس Karl von Clausewitz، المتوفَّى سنة 1838. وفكرته أنَّ التزامك القتال يجب أن يبلغ حدَّته لئلا يصيبك الآخر. «الاثنان – يقول – يجب أن يتآكلا بلا هوادة، كما أنَّ الماء والنار لا يتوازنان أبدًا»؛ ذلك أنَّ «الحرب هي استمرار للسياسة بطُرُقٍ أخرى». السِّلم، في هذه النظرة، فترة عدم اعتداء يهيِّئ للاعتداء.

في هذا المناخ، يعبِّر الإله عن إرادة القوة عندك، ويكون اسمه رمزًا لإرهابك. أنت تستعمل الله دعمًا لموقف موت اتَّخذتَه، ويصير، عندك، المؤمنُ بالله مَن يزرع الموت عند أعدائك؛ وإذا أنت انتصرت تبيِّنُ ألوهيته. ماوراء العنف، في بعض أوساط التوحيد، أنَّ الله استخلفك لتلعب دوره على الأرض، وإذا أحسَسْتَ أنك وكيله، فلك حقٌّ على الحياة والموت. ما من حربٍ إلا ولها صفة دينية أو ماورائية يسكنها الشِّعر. وإذا غاب عنك وجهُ الله تخترع إلهًا آخر هو الوطن. هناك دائمًا ما كان فوق العسكر، وله على الأرض رئاسة أركان! فالآخر غير موجود أصلاً في الفكر لأنَّ الحرب تنفي فكرة التعايش. إذًا، يجب أن يزول جسديًّا لتثبت أطروحتك في أنه معدوم أصلاً.

أنت لا تكفيك وحدانية الله. هذه غير فاعلة إن لم تدعم وحدانيتك أنت. يُنتِج هذا الحِرِم العبري، ويعني الإبسال عندنا. وإذا كنت مصروعًا بفكرة الشِّرك، فما من سبيل إلى محوه إلا بإبادة المشرك. الشِّرك لا شيء بلا مشرك. والشِّرك جاهلية في كلِّ شعوب الأرض. لذا لا ترتوي كليًّا إلا إذا قتلت. ينبغي أن تمحو تاريخ الخصم وفرادته؛ ونقطة البدء للتاريخ هي نقطة محو تاريخ الآخر.

ضدَّ هذه الفكرة يقول يسوع الناصري: «لا تقاوموا الشَّر. من ضربك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الأيسر.» لبُّ الموقف ليس ما سُمِّي "التسامح"، الذي قد يكون حيادًا عن الحكم في الأشياء، أو سعيًا إلى راحة المحارب والتماس الهدأة. المبتغى هو دائمًا معالجة العدوِّ وإيثاره على نفسك، لكونه يحمل صورة الله فيه، وإليها تعيده إذا أحببته. ولكون العنف يثير العنف، ينبغي أن تعفَّ عنه ليبطل – بغفرانك – البغض الذي حلَّ في خصمك. هذا هو معنى قول الناصري: لا تقاوموا الشَّر. ذلك إنَّ المحبة هي ذروة السعي لمحو الشَّر عند الآخر.

يسبق هذه الآية في موعظة الجبل قوله: «سمعتم أنَّه قيل عينٌ بعين وسنٌّ بسن.» هو لم يقل إنَّ قولاً وَرَدَ في الشريعة كان خطأ، وإنما قال: إنَّ الحاجة فيكم إلى الشريعة تبطل إن استطعتم أن تردُّوا الشَّر بالوداعة. عندما يذكر الفيلسوف برغسون هذه الآية في كتابه ينبوعا الأخلاق والدين، يقول: «هل تساوي كلُّ عينٍ كلَّ عينٍ وكلُّ سنٍّ كلَّ سن؟» فالآية القديمة تثبت إن أقمت مع الآخر علاقة حقوقية، أي إذا جعلته خارجًا عن نفسك، قائمًا بالعدوان الذي اعتدى به عليك. أما إذا رأيت خصمك في داخلك، فسنُّه سنُّك وعينه عينك، ولا تقلع أنت لنفسك لا سنًّا ولا عينًا.

بعد هذا يقول: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم.» هم جعلوا أنفسهم أعداءً لأنهم حسبوك مؤذيًا. أما أنت فمقتنع أنَّ أحدًا لا يؤذي نفسك، ولو أضرَّ بمصالحك أو جسدك. أنت ترى أنه آذى نفسه فقط، لذلك عيَّنكَ الله طبيبًا له... بالحب. بهذا الإلهام كلَّم السيدُ بطرس في بستان الزيتون لمَّا قطع التلميذُ أذن عبد رئيس الكهنة، فقال المخلِّص لتابعه: «رُدَّ سيفك إلى غمده ، فمَن أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ.»

أيُّ ذكر للسيف في موضع آخر ينبغي اتخاذه بالتحريم الكلِّي لاستعمال السلاح. ففي قوله، عند اقتراب موته: «من ليس له [سيف] فليبعْ ثوبه ويشترِ سيفًا»، يجب أن يؤخذ بالمعنى الرمزي. فالتلاميذ لم يفهموا هذا الكلام لما قالوا له: «هو ذا هنا سيفان»، فقال لهم: «كفى، أيُّ هراءٍ هذا؟ ما نفع سيفين أمام مجيء كتيبة من العسكر الروماني لإلقاء القبض عليَّ؟»

كلُّ السَّرد الإنجيلي يدلُّ على أنَّ الإنجيل هو البشارة؛ أي أنه فاعل بقوة الكلمة، بإيقاظك إلى اقتبال الله إذا ارتضى قلبُك حنانَ ربِّك ونعمته. طبيعة هذه الدعوة أنها قائمة على حريتك في اقتبالها؛ ولذلك ما كان البالغون يتقبلون المعمودية إلا بعد ترويضهم على فهم الكلمة والشهادة لها. فكما أتت الشهادة من الله لمسيحه بموت هذا الأخير طوعًا، تُبرِز أنت شهادتك لصَلْبه وقيامته. فليس للمسيحي قوة يؤتاها من بدنه أو من ماله أو من علمه أو من نفوذه أو من سحر بيانه. لا يؤتى قوة مخلوقة، ولا يُمِدُّ أحدًا بقوة مخلوقة، على ما قاله السيد: «ملكوت الله في داخلكم.» وأنتم تعيشون من هذا الداخل الذي ينشئه الله فيكم وتشعون به؛ وهذا الإشعاع يجعل الناس خلائق جديدة ومترابطة في كنيسة البهاء الإلهي. لا شيء يُضاف على ذلك – ولو كان لا بدَّ من عبادات لترويض القلوب وإدخال أهل البيت ومن عُدَّ غريبًا إلى هذه اللحمة.

من أجل إنشاء هذا الكون الجديد قَبِلَ يسوع أن يُسحَق، أي أن يُستعمَل ضدَّه كلُّ عنف العالم. ولعلمه بأنه ذاهبٌ إلى الموت، قال في خطبة الوداع: «مَن منكم يبكِّتني على خطيئة؟» والذي لم يرتكب خطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا، أي حاملاً أوجاع هذا العالم، ليسطع حبُّ الآب للبشر. وبرفضه العنف الذي يجعل العنيف عبدًا للخطيئة، قَدِرَ أن يقول: «لا أعود أسمِّيكم عبيدًا، لأنَّ العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سمَّيتكم أحبَّاء.»

هذا ما كان يسوع الناصري قادرًا على أن يقدِّمه حتى نُقْدِم على الشهادة، ويتوب العنفاء إذا أحببناهم بشهادة الدم أو شهادة البر. حظُّ الذابح الوحيد بالاهتداء أن تُقبَل المذبوحية طوعًا وحبًّا له، وتكشف أنك تأتي من عالمٍ جديد. مقتوليَّتك هي القيامة فيك، ورجاء القيامة عند الذين كانوا عبيدًا لأحقادهم.

إلى هذا، العهد القديم، المليء بالعنف؛ ولكن يجب أن نفهم هذا العنف في إطار دعوة إسرائيل. في هذا تتحدث تثنية الاشتراع وتقول: «إذا أدخلك الربُّ إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لترثها وطَرَدَ من أمامك أممًا كثيرة [ويسميهم]، وأسْلَمَهم الرب إلهك بين يديك وضربتهم، فحرِّمهم تحريمًا، ولا تقطع معهم عهدًا ولا ترأف بهم، ولا تصاهرهم، ولا تعطِ ابنتك لابنه، ولا تأخذ ابنتَه لابنك، لأنه يبعد ابنُك من السير ورائي، فيعبد آلهة أخرى، لأنك شعب مقدَّس للربِّ إلهك.» هنا عندنا حرب ليس لها سبب قومي؛ سببها الوحيد تأمين نقاوة الإيمان العبري، الذي كان حافظه شعب مختار من الرَّب.

هذا اللاهوت لا يُفهَم إلا من خلال سفر يشوع، الذي لا تهمنا وقائعه كثيرًا، بل يهمنا الفكر. ففي قراءة متصلة بالسياق نجد أنَّ الشعب العابر، بقيادة يشوع بن نون، هو نموذج الشعب البار الأمين لله. وفي هذا يقول: «وعَبَدَ إسرائيل الرَّب كلَّ أيام يشوع وكلَّ أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع، والذين عرفوا عمل الربِّ الذي عمله.»

الشعب المقابل الساكن في الأرض هو نموذج الشعب الخاطئ، الواقع تحت دينونة الله: «لا تقلْ في قلبك حين ينفيهم الرب إلهك من أمامك قائلاً: لأجل بِرِّي أدخلني الرب لأمتلك هذه الأرض، ولأجل إثْم هؤلاء الشعوب يطردهم الرب من أمامك. ليس لأجل بِرِّك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم، بل لأجل إثْم أولئك الشعوب يطردهم الربُّ إلهك من أمامك.»

كذلك إذا ذهب إسرائيل وراء آلهة أخرى يبيدهم الربُّ كالشعوب. إسرائيل طُلِبَ منه تنفيذ دينونة الله إذا اكتمل إثْمُ الشعوب. الشعب البار وسيط هذه الدينونة. مع ذلك تعدَّى إسرائيل عهد الرب، فطلب إليهم أن يبيدوا الحرام من وسطهم، وقال لهم: «في وسطك حرام يا إسرائيل فلا تتمكَّن للثبوت أمام أعدائك. المأخوذ بالحرام يُحرَق بالنار هو وكلُّ ما له لأنه تعدَّى عهد الرب.»

في العهد الجديد، يقوم الله وحده بالدينونة، ولا يكلِّف أحدًا بها، ولا يُميت أحدًا بسبب من خطيئته؛ فخطيئته هي تحاكمه. أجل، تجري الدينونة فينا منذ الآن، لأننا نواجه المحبة الإلهية. ولكن، حتى يُرفَع العقاب عن الإنسان، تقبَّل الإله المتجسِّد نفسه – يسوع المسيح – الموت. الأبرار يدينون العالم في اليوم الآخر، ولكنهم يحبون الآن أهل هذا العالم، ليرتفع عنهم الغضب ويرتفع القصاص.

الحدث المِفْصَل في الفكر المسيحي هو موت المسيح؛ ومن خلاله تأتي المصالحة بين الله والناس، ثم بين الناس، ويرتفع الغضب. يسوع يضرب العنف في أصوله النفسية. لذلك جاء في عظة الجبل: «سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل، فإن من يقتل يستوجب حكم القضاء. أما أنا فأقول لكم: مَن غضب على أخيه استوجب حكم القضاء.»

أستند على تثنية الاشتراع ويشوع بن نون لأقول: إنَّ العهد القديم ليس كتابًا قوميًّا، ولا يمكن استغلاله لمصلحة الصهيونية لأنها حركة قومية. العهد القديم فيه استيطان من أجل الله؛ ولكن فيه، أيضًا، جلاء عن الأرض بسبب آثام الأمة. بلا أمانة، لا شيء في العهد القديم يبرِّر بقاء العبرانيين على أرض كنعان.

لا أريد أن أتبسَّط في علاقة العهدين. وفي يقيني أنَّ كلَّ العرب الذين وضعوا كتبًا ضد التوراة قرأوها صهيونيًّا، أي استيطانيًّا، ولم يفقهوا شيئًا من لاهوت التوراة. غير أنه يهمني أن أقول إن الغاية من كلِّ ما كُتِبَ قبل ميلاد المخلص إنما غايته المسيح. فالكتاب العتيق تمخَّض بسبب من ثقافة ألف سنة وُضِعَ خلالها ليلد المسيح. ومعنى هذا، فيما يخصنا اليوم، أن حقيقة المسيحية هي أنها ترفض تعنيف العنيف وتعالجه، لأن المسيح طبيب نفوسنا وأجسادنا، ودعانا إلى ألا نقاوم الشر، ولكن أنْ نستأصله بالحبِّ من قلب الإنسان الخاطئ. الحضارة العبرية تخفي المسيح وتُظهِره. نحن نتلمَّس المسيح الخفيَّ تحت طبقات هذه الحضارة، ونطلب المسيح الظاهر على سطحها.

على طريق الوداعة سارت الكنيسة الأولى. فقبل أوغسطينوس، الذي شرَّع الحرب في الغرب، لا نجد ذكرًا لجندي مسيحي قبل السنة الـ170. فعندما هدَّد الرومان أورشليم، في منتصف القرن الثاني، قال ترتليانوس في أفريقيا: إنَّ السيد لما نزع عن بطرس سلاحه، نزع السلاح عن كلِّ جندي. وألحَّ أوريجانيس الإسكندري، وكذلك أكَّد يوحنا الذهبي الفم، أنَّ من قال بقتل أهل البِدَع فليكن مبسلاً. كلُّ الخط المسيحي القديم كان كارهًا للعنف.

لم يتغير هذا الخط في الكنيسة الأرثوذكسية التي ترفض أن تسمِّي الجنود المسيحيين الذين يسقطون في المعركة شهداءً – مع أنَّ الإمبراطورية البيزنطية كانت مسيحية. الفلسفة السياسية في الإمبراطورية كانت تقول بالحرب الدفاعية، لا بالحرب الهجومية. غير أنَّ للدولة منطقها؛ وصلَّت الكنيسة الأرثوذكسية لنصرة الإمبراطور. وفي احتسابي أنَّ في هذا تخديشًا لموقف الآباء القدامى. وما من شكٍّ أن الجيوش الروسية حملت الأيقونات في هذه الحرب أو تلك؛ ولكن ذلك العسكر لم ينشئ لاهوتًا نظريًّا يزكِّي الحرب.

ما لي وللغرب الذي خاض الحروب الصليبية، ولا علاقة لنا نحن بها؟! ويُحزِنني أنَّ القديس برنار من Clairvaux دعا إليها. غير أنَّ الحروب الصليبية تبنَّتْ شريعة الجهاد في الإسلام، واستعملت عباراته ومنطقه. ويُفرِحُني أنَّ البابا الحالي استغفر الله على خطيئة الحرب الصليبية.

مأساة المسيحية أنَّ لاهوتها شيء، وأفعال أفرادها وشعوبها شيء آخر. لذلك فإنَّ الذين عانقوا الإنجيل ينأون عما يُرتَكَب من عنف في دولهم والدول الأخرى. ليس هناك ما يسمى بـ"دار المسيحية"؛ هناك دار المسيح فقط، التي يكوِّنها بعضٌ من جماعته وبعضٌ من غير جماعته. من أجل ذلك يكون العراق وتكون فلسطين دارًا للمسيح، وإن كانت الضحايا فيها مسلمة بالدرجة الأولى. كلُّ دم مُراق بسبب من ظلم واحدٌ مع دم المسيح.

غير أنَّ العنف يجب أن يُستأصَل من جذوره، كما قال يسوع في موعظة الجبل – هذا إذا قبلنا أنَّ حرية كلِّ إنسان من ديانة أو ثقافة أخرى عزيزة علينا مثل حرية إنسان من ديننا أو لغتنا أو عرقنا. هذا ممكن إن آمنَّا عميقًا بحقوق كلِّ إنسان في العيش الكريم والنمو. كذلك إذا تحررنا أيضًا من ذاكرة تاريخية ثقيلة. يذهلني أن يعيش شعبنا في ماضيه، وأنه لا ينسى الفواجع التي حلَّتْ بهذه الطائفة أو تلك. ولكنك لا تستطيع أن ترفع ثقل الذاكرة التاريخية ما لم تتجنَّد لحاضرٍ خلاَّق تحفظ فيه كرامة الفقراء وتنمية الجميع في الثقافة والحرية والديموقراطية المنشأة في أعماق النفس عن طريق التربية. قد لا يعني هذا كلَّ المحبة التي كشفها للإنسانية يسوع الناصري؛ ولا يعني السِّلمُ الأهلي أو السِّلمُ بين دول مجاورة دائمًا سلامَ القلوب. لا يكفي ألا تقتل الآخر؛ ينبغي أن تحبه.

أتصوَّر يومًا تتوزَّع فيه ثروات الأرض. ولكني أخشى أن ينخرط الكبار في هذا المسعى حرصًا على مصالحهم. من هنا فإنك لا تقدر في العمق أن تصير لاعنفيًّا إذا بقيتَ أسير الفلسفة المادية الغليظة المتوحشة. ألا تقاوم الشرَّ بالشرِّ يتطلب جهادًا روحيًّا كبيرًا يفترض العدالة مقرونة بالسلام. أن ترفض لي عدالتي وحريتي هو أن ترفضني من جذوري. حسنٌ أن يجتمع القائلون بالسلام، وأن ينتظموا؛ ولكن هذا ليس قرار إرادة وحسب. إنه توقٌ إلى تحرير القلب من كلِّ شهواته المؤذية. فإذا لم يصدر اللاعنف عن الحبِّ يكون تركيبًا اجتماعيًّا، ولا يدوم.

التاريخ طبعًا هشٌّ، والانتكاسات كثيرة. الإيمان بأنَّ الله إله سلام، أو أنه هو السلام، يجعلنا ننظر إلى المستقبل على ضوء رجاء كبير، حتى لا يموت الإنسان يائسًا من أنه مدعو إلى الحب. إذا اقتبلتَ كلَّ الآخرين فيك، وجعلتهم محجَّة داخلية لك، وتراءتْ لك أنوار الله على وجوههم، تصبح ذلك الإنسان الملكوتي المذبوح حبًّا، حتى يزول الموت الروحي عن كلِّ نفس، لتنشد أنشودة السلام الذي يجعلك دائمًا تضحِّي بأناك المنقبضة، لتتلألأ أنا الآخر فيما هي تعطي.

يبقى عندي سؤال أخير، وهو: هل نستطيع، في حوارٍ محبٍّ بين المسلمين والمسيحيين، أن نتفق على أنَّ كلَّ بحث في العنف خاضع لمقولة المُواطنية، بحيث نقول إننا نريد أنْ نعيش في سلام، ومهما كانت النصوص التأسيسية؟ هذا، طبعًا، يقود إلى سؤال حول التفسير التاريخي للنصوص. هل نأخذها في سياقها التاريخي – وقد نرى، عند ذاك، أنها معطِّلة للحياة اليومية التي تجمعنا – لئلا نبقى في تراكم تفسيري ومجرد لاهوت مقارن، نتدارس أمورنا إلى الأبد. هل يمكن أن نقول معًا في هذا المجال بالذات "نحن"، ولا نقول فقط: أنا وأنت؟ هل محبتنا المتبادلة ينبوع لقراءة ما بين أيدينا من موروثنا الديني؟

الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية

ضهور الشوير، 27 حزيران 2004

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود