|
كرة القدم والديموقراطية في
يوم صيفيٍّ حار من العام 1998، فازت فرنسا بكأس
العالم لكرة القدم، وخرج الفرنسيون فرحين
بجنون إلى شوارع مدنهم. يومذاك، كنت مقيمًا في
الجنوب الفرنسي. ووجدت نفسي في خضمِّ تلك
الجموع صارخًا، راقصًا، راميًا بنفسي في حوض
النافورة الرئيسية في المدينة الوادعة
الجميلة التي أقطنها، إلى جانب الكبار
والصغار، النساء والرجال. وخرجنا بعدئذٍ، في
طوفان بشري هائل، نغنِّي ما خطر لنا من
أغنيات، تعبيرًا عن الفرح بهذا الانتصار. إلى
جانبي وجدت مدير جامعتي، حاجب الكلِّية، رئيس
البلدية، أعضاء الأحزاب والنقابات، مراهقي
الأحياء الهامشية، عرب الضواحي، غجر
البراري، وجميع أطياف المشهد الاجتماعي
والسياسي والثقافي الفرنسي. غنَّى
الجميع. ولم يكن من الممكن التمييز بين اللغات
التي استخدمتْها الجموع لتركيب الأغنيات.
فالمجتمع الفرنسي مزيج حيٌّ من برتغاليين، من
إيطاليين، من بولونيين، من شمال أفريقيين، من
كورسيكيين، ومن غاليين – تحلو للبعض
تسميتُهم بالفرنسيين "الأصليين" –، ومن
غيرهم. إنهم يكوِّنون، تكوينًا شبه نموذجي،
مزيجًا ثقافيًّا يُغني أمَّةً منفتحةً على
مكوِّناتها الثقافية والإثنية، ولا تجد
ضيرًا في الاعتراف بهذه المكوِّنات التي
تراكمتْ في تاريخها الحديث من خلال الهجرات
والتقلبات الجيوسياسية التي عصفت بالقارة
الأوربية وما يحيط بها جنوبًا. بعد
أن هدأت الأمور، وتحلَّقنا حول مائدة شهية
جمعت التبولة اللبنانية إلى المِرغيز
المغربي إلى الكسكسي الجزائري إلى النقانق
التولوزية إلى الجبن النورماندي، وبدأت
الأحاديث والتحليلات حول معنى الفوز وأهميته
بالنسبة لهذه الجموع المختلفة الانتماء،
التي من الممكن لها أن تضمَّ الكثيرين من غير
المهتمين بهذه الرياضة، بل وحتى من كارهيها.
وبدأنا نحن، الباحثين حتى في النوم، نحاول أن
نوجد المبرِّرات والتفسيرات التي، وإن أضافت
جانبًا سوسيولوجيًّا إلى مائدتنا العامرة،
فإنها لم تتجاوز بديهيات تأثير فوز، من أيِّ
نوع كان، في انتعاش شعور الانتماء الحضاري
والمُواطني للأمَّة الفرنسية، دون أية تفرقة
إثنية أو دينية. ولقد توَّجتْ نقاشنا صورةٌ
هائلة للاعب الفرنسي من أصل جزائري زين الدين
زيدان، عرضتْها شاشات التلفزة العملاقة
الموزعة في الساحات، وتحتها العبارة التالية:
"زيدان رئيسًا للجمهورية!" وعاد الهرج
والمرج والصراخ المؤيد لهذه العبارة، حتى من
أكثر الحضور رزانة وانتماءً سياسيًّا. لقد
عرف الجميع بأن هذه العبارة الرمزية هي قمة
إنجاز فرنسا في الحصول على كأس العالم،
وخصوصًا أن متطرِّفي اليمين حليقي الرؤوس skinheads (الذين
لا يخلو منهم أيُّ مجتمع أوروبي، كما لا يخلو
أيُّ مجتمع إسلامي من متطرِّفيه قاطعي الرؤوس)
كانوا قد أعلنوا احتجاجهم على المنتخب
الفرنسي الذي يضمُّ باقة متجانسة من الأعراق
المختلفة. وبالطبع، فقد اختصرت العبارة
الرمزية الإنجاز الفرنسي، وتوَّجتْه، وختمت
أحاديثنا السفسطائية. بعد
انقضاء الليل ونحن نحتفل، سألني أستاذي الذي
كان يحتفل إلى جانبي عن سبب فرحتي الهائلة
بهذا الفوز – وأنا غير الفرنسي، البعيد
نسبيًّا عن الكرة وتعصُّباتها، أنا طالب
العلم في بلد لا أنتمي إليه قانونًا، أنا
العائد إلى بلدي حاملاً "زوادتي"
العلمية والحضارية. لقد فاجأني السؤال
بجدِّيته، وبعدم تفكيري به مسبقًا، ولا للحظة.
فانبريت أشرح له بلغتنا العلمية الثقيلة
الأسباب السوسيوسياسية لهذا الشعور،
مُعرِّفًا بمدرستي الكروية منذ الصغر، التي
اختصرتها بقولي: "إن تشجيعي لفريق ما مرتبط
بالانتماء القاري: فأنا أبدأ من الجنوب
متجهًا شمالاً. وحين لا يتوفر هذا المقياس،
أعتمد مقياس الموقف السياسي للدولة المنافسة
من القضايا التي أعتبرها عادلة. فإنكلترا،
مثلاً، لا أشجِّعها، على الرغم من عراقة
كرتها، بل أشجع الأرجنتين؛ وهولندا القوية لا
أشجعها، بل أشجع الإيطاليين، على الرغم من
برلسكونيَّتهم، لأنهم متوسطيون؛ وألمانيا
الكروية لا أشجعها، بل أشجع إسبانيا؛ وفرنسا
أشجعها، حتى ولو لعبتْ أمام أحد الأقطار
العربية، مقدِّمًا الموقف السياسي، إن كان
صائبًا وفق تحليلي، على العصبية القومية." رمقني
أستاذي بنظرة ماكرة، وقال لي: "لم أقتنع!"
وحينئذٍ شعرت بأنني مُحرَج، ومحتاج إلى جملة
أو جملتين تُخرِجانني من هذا الامتحان القاسي.
فكَّرت مليًّا، وأضاء مصباح الوعي في خاطري،
وقلت له: "أستاذي العزيز، لقد تعودت، منذ
نعومة أظفاري، على أن أفرح وأحزن بالتحكُّم
عن بُعد... خصوصًا فيما يخص الفرح الجماعي أو
الحزن الجماعي. لقد كنَّا نفرح بعد ورود الأمر
بذلك، وكذلك نحزن... لم أشعر في حياتي بأنني
حرٌّ في التعبير عن فرحي كما اليوم. لم أمر
بهذه التجربة من قبل. فهل قبلت شرحي هذه
المرة؟" انفرجت أسارير أستاذي، وطلب منِّي
أن أتكلَّم في هذا الموضوع أمام طلاب السنوات
الأولى وأن أحضِّره كحلقة بحث علمي. وبالأمس،
فازت اليونان بكأس أوروبا، وأظهرت الشاشات
رئيس وزرائها يرقص، يصرخ، يصفق، يبكي فرحًا.
وهنا، استعادت ذاكرتي ما حصل منذ سنوات مع
أستاذي، وحاولت أن أجد تفسيرًا لهذه
التلقائية في التعبير عن المشاعر عند رجل
الدولة هذا، وحاولت أن أضع مكانه رجل دولة من
صنفه المراتبي في إحدى الدول غير
الديموقراطية، فوجدته مصفِّقًا بتصنُّع،
متبسمًا بتثاقُل، مستغرقًا في التفكير
بالصفقات التي ستدعم موقفه أمام مَن هُمْ
فوقه ومَن هو فوقهم. رأيته ناظرًا إلى الجموع
– وهو الذي لم تأتِ به صناديق الاقتراع،
وإنما صناديق الويسكي! – على أنها الخطر
الداهم الذي من الممكن له أن يودي به في أية
لحظة من سدة المنصة ومن سدة السلطة. فهو
سيغادر بالتالي فورًا، محاطًا بما يليق به من
حماية. قالت
لي حبيبتي يومًا: "أنت تُسيِّس ما لا
يُسيَّس!" فقلت لحبيبتي يومذاك: "أوتفضِّلين
أن أساير ما لا يُسايَر؟!" *** *** ***
|
|
|